التعليق على الموافقات (1430) - 14
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا يقول: ورد في الحديث لعن المحلل، وهو فيما إذا اتفق الزوج الأول مع الزوج الثاني، وسؤالي: هل الحكم يجري كذلك إذا اتفقت الزوجة مع الزوج الثاني في أن يتزوجها، ثم يطلقها؟
الحكم واحد، المقصود أنه يعقد بهذه النية: أن يحللها لزوجها الثاني.
السؤال الثاني: أريد شحذ همتي في طلب العلم والهمة فيه، فبماذا تنصحوني أن أقرأ في كتب التراجم التي تحدث...؟
نعم، من أهم ما يُقرأ في هذا النصوص الواردة في الحث على العلم وبيان منزلة أهله في الدنيا والآخرة، ثم سير العلماء وصبرهم على شدائد التحصيل وتلذذهم بذلك، وهناك محاضرات مسجلة وموجودة في هذا الباب.
يقول: قال ابن القيم في مدارج السالكين في قوله: "إن من شرط الرضا ترك الإلحاح في المسألة"؟
هذا معروف أنه ما هو من كلام ابن القيم هذا، هذا كلام الهروي صاحب منازل السائرين.
لكن ابن القيم يقول: (وَهُوَ أَلْيَقُ الْمَعْنَيَيْنِ وَأَوْلَاهُمَا؛ لِأَنَّ قَرَنَهُ بِتَرْكِ الْخُصُومَةِ مَعَ الْخَلْقِ، فَلَا يُخَاصِمُهُمْ فِي حَقِّهِ، وَلَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ حُقُوقَهُ.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُلِحُّ فِي الدُّعَاءِ وَلَا يُبَالِغُ فِيهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي رِضَاهُ. وَهَذَا يَصِحُّ فِي وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَيَصِحُّ إِذَا كَانَ الدَّاعِي يُلِحُّ فِي الدُّعَاءِ بِأَغْرَاضِهِ وَحُظُوظِهِ الْعَاجِلَةِ. وَأَمَّا إِذَا أَلَحَّ عَلَى اللهِ فِي سُؤَالِهِ بِمَا فِيهِ رِضَاهُ وَالْقُرْبُ مِنْهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي مَقَامِ الرِّضَا أَصْلاً، وَفِي الْأَثَرِ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ»، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَوْمَ بَدْرٍ لِلنَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، كَفَاكَ بَعْض مُنَاشَدَتِكَ لِرَبِّكَ»، فَهَذَا الْإِلْحَاحُ عَيْنُ الْعُبُودِيَّةِ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ». فَإِذَا كَانَ سُؤَالُهُ يُرْضِيهِ لَمْ يَكُنِ الْإِلْحَاحُ فِيهِ مُنَافِيًا لِرِضَاهُ.
وَحَقِيقَةُ الرِّضَا: مُوَافَقَتُهُ -سُبْحَانَهُ- فِي رِضَاهُ، بَلِ الَّذِي يُنَافِي الرِّضَا: أَنْ يُلِحَّ عَلَيْهِ مُتَحَكِّمًا عَلَيْهِ مُتَخَيِّرًا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ، كَمَنْ يُلِحُّ عَلَى رَبِّهِ فِي وِلَايَةِ شَخْصٍ، أَوْ إِغْنَائِهِ، أَوْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ؛ فَهَذَا يُنَافِي الرِّضَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى يَقِينٍ أَنَّ مَرْضَاةَ الرَّبِّ فِي ذَلِكَ).
يقول: والسؤال: أشكل عليَّ آخر كلام ابن القيم، ووجه الإشكال: كيف يكون الدعاء الذي هو العبادة منافيًا للرضا في الأمور الدنيوية التي يحتاجها العبد مع عدم التمكن من تحقق كونها موافقة لرضا الله، كالذي يطلب الولد والمال مثلاً؟
أمور الدنيا هذه التي يُسعى لتحصيلها، والذي أُمر بتحصيلها: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]، ويُطلب من الله -جل وعلا- تيسيرها. هذه الأمور إن كان القصد من الحصول عليها الاستعانة بها على ما يُرضي الله؛ فالإلحاح فيها مطلوب تبعًا لها، وإذا كان الإلحاح فيها هو مجرد التمتع بها ومباهاة الناس بها وليقول الناس: عنده كذا ونحن ما عندنا كذا، أو يتميز بكذا دون كذا؛ هذا هو المذموم.
أما أن يطلب أمور الدنيا ليستعين بها على تحقيق الهدف الذي خُلق من أجله وهو تحقيق العبودية؛ فهذا عبادة ولا إشكال في هذا، والإلحاح فيه مطلوب لا سيما إذا كان بعض العبادات متوقفة عليه. وإلا فالإلحاح بما هو الأصل الذي يقربه إلى الله -جل وعلا- ويرضيه عن الشخص؛ هذا هو الأصل، وطلب الدنيا إنما هو لأنها وسيلة إلى ما يرضي الله -جل وعلا-. فلا يليق بالمسلم أن تُجعل الوسيلة أكثر من الغاية؛ لأن بعض الناس أكثر دعائه في أمور الدنيا، أكثر طلبه من الله -جل وعلا- في أمور الدنيا، وقد يغفل عن أمور الآخرة؛ هذا محل الذم. أما إذا طلب من أمور الدنيا ما يعينه، أو سعى لتحصيله بنفسه وجهده، وزاول التجارة من أجل تحقيق الهدف الذي، هذا ما به شيء، هذا عبادة.
يقول: قد كثرت نعم الله على العباد، فصاروا يتفننون وينوعون في المآكل والمشروبات، حتى صاروا يُصورونه ويجسمون في الأكل على أشكال حيوانات وحشرات، ومن ذلك ما انتشر بين النساء من حلويات تُشكَّل على قطع صغيرة على أشكال أغنام لها رءوس، وعلى أشكال نحل لها أجنحة وأعين، ما حكم هذا؟
أولاً: التصوير سواء كان في النعم أو في غيرها محرم، ولا يقال أيضًا هذا التصوير من المختلف فيه، هذا ما هو بتصوير آلة، هذا التصوير المجمع على تحريمه، والمجسم الذي لا يختلف فيه أهل العلم؛ هذا من جهة.
الأمر الثاني: أنه إذا اقترن بالنعم التي أسداها الله -جل وعلا- لخلقه، ومن لازم ذلك أن يتواضعوا لله ويشكروه على نعمه، وحصل من بعض الوجهاء أن وضع على المائدة خروفًا كاملاً على قوائمه، ما أخذ منه شيء! مطبوخ وموقف على المائدة. هو مذبوح مُذكى، لكن ما قطع رأسه، يعني ما يقال إنه حرام، يعني ميتة أم ما ذُكي. هو مُذكى، ذكاه مسلم، لكنه ما قطع رأسه بحيث من يراه يقول: هذا ما بقي إلا أن يمشي، وهو على المائدة. وكان على المائدة رجل من الصالحين من عوام المسلمين، شيخ كبير في السن، لما رأى ذلك بكى، قال: كنا نتمنى جلد هذا الخروف ليأكلوه، كنا نتمنى جلد هذا الخروف لنأكله، وإلية هذا الخروف التي صنيع الناس اليوم فيها ما يأخذونها مع اللحم، لا الجلد ولا الكرش ولا المصران ولا الإلية يتركونها في المجزرة. يقول: كنا نتمنى الجلد لنأكله، وكانوا يطبخون العظم مرة ومرتين وثلاثًا ليترك لهم أثر في الطعام، يعني فيه طعم. وكان المسكين -فيما يحدثنا كبار السن- إذا طرق الباب وهو سائل أعطي عظمًا ليس عليه شيء من اللحم، ويُحلف أنه ما طُبخ إلا مرة أو مرتين، يعني باقٍ فيه طعم. ويصل بنا الأمر إلى هذا الحد؟! هذا شكر النعم؟!
القرطبي في تفسيره يقول: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات: 37، 38]، قال: من وضع على مائدته ثلاثة ألوان من الطعام، يعني ثلاثة أنواع؛ فقد طغى. والآن يؤتى ببعض الموائد من ست قارات، هل هذا شكر النعم؟! المسألة تحتاج إلى إعادة نظر بجِد؛ لأن النعم إذا شُكرت قرَّت: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ} [إبراهيم: 7]، ليس المراد به الكفر المخرج عن الملة؛ إنما هو عدم شكر النعم، مقابل الشكر. والله المستعان.
طالب:.........
يرسم ثم يطمس؟
طالب: لا.
هذا مثل الذي يقول: يصور بالجوال ويمسح.
طالب:.........
لا لا ما يصح، لكن إذا كانت بدون رأس فالصورة الرأس.
طالب:.........
يعني ما فيه فم، من يراه ما يقول: هذا وجه إنسان؟ ما فيه عينان ولا أنف ولا فم ولا؟
طالب:.........
يعني كأنه إنسان بعيد ما يُرى؟
طالب: نعم.
الآن العيون بارزة والفم والأنف.
طالب:.........
يعني وسيلة إيضاح؟
طالب: نعم.
يسمونها وسيلة إيضاح، والأمة في قرونها السابقة ما تعلموا؛ لأنه ما عندهم وسائل إيضاح؟! لا واللهِ تعلموا أفضل منا، يعني مشكلتنا الآن أننا نعتني بالأمور الوافدة، وسائل الإيضاح لها شأن وكذا وصارت هي الأصل، تجد الكتاب مع الطالب في أولى ابتدائي المسكين ثلاثمائة صفحة، كله لأنه صور، صفحة كاملة فيها قط، صفحة كاملة فيها خيل، صفحة كاملة فيها كلب، وتحتها كلمتان: قاف طاء، يجد المدرس نصف الفصل يريهم هذه الصور ويهجيهم الحروف، وفي النهاية لا شيء، وماذا جنينا من خلال هذه الوسائل؟ الله المستعان.
* * *
اقرأ.
طالب: أحسن الله إليك.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فيقول الشاطبي -رحمه الله تعالى- في كتابه الموافقات: "المسألة الرابعة: فاعل الفعل أو تاركه، إما أن يكون فعله أو تركه موافقًا أو مخالفًا، وعلى كلا التقديرين إما أن يكون قصده موافقة الشارع أو مخالفته؛ فالجميع أربعة أقسام".
نعم. القسمة رباعية؛ لأنه عندنا قصد، وعندنا موافقة. قد يقصد الخير، لكن لا يوافقه، قد يقصد الخير ويوافقه، قد لا يقصد الخير، بل قد يقصد ضده ثم يوافق الخير، وقد يقصد المخالفة ويقع في المخالفة. القاضي الكفء العالم القاصد لإصابة الخير؛ هذا إما أن يوافق أو يخالف، إما أن يصيب وإما أن يخطئ. يندرج في هذا القسم نوعان، الذي هو الكفء: القاصد للخير المتعلم لوسائل الحكم إما أن يصيب وإما أن يخطئ، يأتي المتعلم للشر هذا متعلم قانون وضعي من وضع الكفار، هذا إذا حكم؛ لأنه قاصد المخالفة للشرع، إذا حكم قد يكون حكمه موافقًا للشرع، قد، والأصل المخالفة، فهل الأجر على مجرد القصد دون موافقة، أو على الموافقة ولو لم يقصد أو قصد الضد؟ هذا كلام المؤلف في هذه المسألة، يعني كم مريد للخير لا يصيبه، قد يكون مريدًا للخير، ونيته صالحة، ويبحث عما يقربه إلى الله -جل وعلا-، لكنه أخطأ الطريق كحال كثير من المبتدعة: يتعبدون بعبادات لم يشرعها الله -جل وعلا-، وهم يتعبدون بها لله -جل وعلا-، هؤلاء بعضهم قصده حسن، لكنه لم يصب. ومنهم من قصده سيئ ولا يصيب، ومنهم من قصده سيئ ويصيب، ومنهم من قصده حسن ويصيب. فالقسمة رباعية.
طالب: "أحدها: أن يكون موافقًا وقصده الموافقة؛ كالصلاة والصيام والصدقة والحج وغيرها، يقصد بها امتثال أمر الله تعالى وأداء ما وجب عليه أو نُدب إليه، وكذلك ترك الزنا والخمر وسائر المنكرات؛ يقصد بذلك الامتثال، فلا إشكال في صحة هذا العمل".
يعني إذا اتحد القصد مع الموافقة؛ فهذا لا إشكال في صحة العمل سواء كان فعلاً أو تركًا.
طالب: "والثاني: أن يكون مخالفًا وقصده المخالفة، كترك الواجبات وفعل المحرمات قاصدًا لذلك؛ فهذا أيضًا ظاهر الحكم".
هذا يتحد فيه المخالفة والقصد، قصد المخالفة، يعني يفعل المخالفة مع قصده لها، كمن يترك الواجبات ويرتكب المحرمات؛ هذا قاصد. لكن قد يوجد من يرتكب المحرمات من غير قصد، وقد يوجد من يقصد المحرم ويقع في حلال. يعني فرق بين من يطأ امرأة على أنها زوجته، وبين من يطأ أجنبية على أنها زوجته. من يطأ زوجته على أنها زوجته، وبين من يطأ أجنبية على أنها زوجته، ومن يطأ زوجته على أنها أجنبية، ومن يطأ أجنبية على أنها أجنبية. فتندرج تحت الأقسام الأربعة.
طالب: "والثالث: أن يكون الفعل أو الترك موافقًا وقصده المخالفة".
نعم. قصده المخالفة، يطأ هذه المرأة بنية الزنا، ثم يتبين أنها زوجته.
طالب: "وهو ضربان؛ أحدهما: أن لا يعلم بكون الفعل أو الترك موافقًا، والآخر: أن يعلم بذلك. فالأول: كواطئ زوجته ظانًّا أنها أجنبية، وشارب الجلاب ظانًّا أنه خمر".
يقولون: "الجلاب" هو ماء الورد. "ظانًّا أنه خمر": يشرب العصير على أنه خمر، رآه وتوقع أنه خمر، ثم تبين أنه عصير، والثاني، هما زجاجتان: إحداهما خمر، والثانية عصير، سبق أحدهما إلى العصير فقال: أشربها لأنها خمر، والثاني سبق إلى الخمر على أنه عصير، أحدهما آثم، وإن شرب مباحًا، والثاني إن لم يفرط فإنه لا يأثم إن فعل محرمًا. هذا إذا لم يفرط؛ لأنه بإمكانه أن يتأكد.
طالب: "وشارب الجلاب ظانًّا أنه خمر، وتارك الصلاة يعتقد أنها باقية في ذمته، وكان قد أوقعها وبرئ منها في نفس الأمر؛ فهذا الضرب قد حصل فيه قصد العصيان بالمخالفة. ويحكي الأصوليون في هذا النحو الاتفاق على العصيان في مسألة (من أخر الصلاة مع ظن الموت قبل الفعل)، وحصل فيه أيضًا أن مفسدة النهي لم تحصل؛ لأنه إنما نُهي عن ذلك لأجل ما ينشأ عنها من المفاسد، فإذا لم يوجد هذا لم يكن مثل من فعله، فحصلت المفسدة".
يعني فرق بين من يطأ زوجته على أنها أجنبية، وبين من يطأ أجنبية على أنها أجنبية؛ لأن الزنا إنما حُرم لحكم كثيرة، نعم أولها مخالفة الآمر ومعصية الرب -جل وعلا-، هذه أولها، ويشترك فيها الاثنان، ومن المفاسد التي حُرم من أجلها الزنا اختلاط الأنساب مثلاً، والوقوع في عرض أسرة كاملة، خدش في عرض أسرة كاملة. فإذا وطأ زوجته يظنها أجنبية صار عنده بعض الحكم التي من أجلها حُرم الزنا، وهو مخالفة الرب -جل وعلا- هذا أعظمها، لكن هل يترتب عليه اختلاط الأنساب؟ هل يترتب عليه أنه خدش عرض أسرة كاملة؟ لا. فهو أخف ممن وقع على هذه المرأة على أنها أجنبية وبانت بالفعل أجنبية؛ لأن الآثار كلها اجتمعت فيه. يزيد على ذلك أنها إن حبلت منه، يزيد على ذلك إن كانت حليلة جار، يزيد على ذلك إن كانت من محارمه-نسأل الله السلامة والعافية-.
فالمحرمات متفاوتة، تشترك في الأصل الذي هو وقوع المخالفة ومعصية الرب -جل وعلا-، ثم يحتف بفروعها أشياء يزيدها سوءًا -نسأل الله السلامة والعافية-.
طالب: "فشارب الجلاب لم يذهب عقله، وواطئ زوجته لم يختلط نسب مَن خُلق من مائه، ولا لحق المرأةَ بسبب هذا الوطء معرة، وتارك الصلاة لم تفته مصلحة الصلاة، وكذلك سائر المسائل المندرجة تحت هذا الأصل؛ فالحاصل أن هذا الفعل أو الترك فيه موافقة ومخالفة".
ولا يعني هذا أنها إذا لم تحمل أن الأمر خف أو أخف؛ لئلا يقول زيد من الناس وهو يزاول الفاحشة، يقول: أنا آمن من هذه الحيثية، رجل عقيم، يقول: غاية ما هنالك أن المعصية وليس لها آثار تترتب عليها، والمرأة ليست بكرًا بعدُ، ويمكن أن تكون عقيمًا. هل هذا يخفف من شأن ال...؟ هذا إصرار -نسأل الله السلامة والعافية- على المعصية وعلى الفاحشة. لا يعني أنهم إذا قالوا: إنها إذا قلَّت الآثار فالمسألة أخف، لا، يعني أن هذا يسهل عليه الطريق أو، حتى قال بعضهم: إنه لا يجوز الإسقاط ولو قبل الأربعين إذا كان نتيجة الزنا، لماذا؟ لأنه يسهل الجريمة على من أرادها، كل من حبلت منه امرأة في الفاحشة ذهب وأسقطه وانتهت المسألة. ما انتهت، العقوبة عند الله -جل وعلا- عظيمة، والزنا من عظائم الأمور، ومقرون بالشرك، مقرون بالقتل: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الفرقان: 69]، نسأل الله العافية، والنبي -عليه الصلاة والسلام- رأى الزناة والزواني ليلة الإسراء في تنانير من نار -نسأل الله العافية-. لا يعني أنه إذا سمعنا هذا الكلام يقول: إن واطئ زوجته لم يختلط نسبه، وأننا قلنا: إذا لم يحصل اختلاط نسب من مثل عقيم أو ما أشبه ذلك أنه... لا، المسألة عظيمة، فالزنا من عظائم الأمور، وسبب لفتن وأمراض حادثة مستعصية تعجز الأطباء، وتقلق المجتمعات، ولا علاج لها إلا اجتناب ما حرم الله -جل وعلا-.
طالب:.........
هذه المسألة مختلف فيها بين أهل العلم، أنهم يرون أن حده كالزاني، وأن حكمه حكمه، والفاحشة أمرها عظيم، مسألة عمل قوم لوط شأنه عظيم جاء لعنه والتغليظ في قتله، وأنه يُقتل على كل حال، وبعضهم أحرقه، من الصحابة من أحرق اللوطي.
طالب: "فإن قيل: فهل وقع العمل على الموافقة أو المخالفة؟ فإن وقع على الموافقة فمأذون فيه، وإذا كان مأذونًا فيه فلا عصيان في حقه، لكنه عاصٍ باتفاق، هذا خلف".
"عاص باتفاق"؛ لأنه قصد، والأعمال بالنيات. هذا عاصٍ بالاتفاق؛ لأنه قصد المحرم.
طالب: "وإن وقع مخالفًا فهو غير مأذون فيه، ولا عبرة بكونه موافقًا في نفس الأمر، وإذا كان غير مأذون فيه وجب أن يتعلق به من الأحكام ما يتعلق بما لو كان مخالفًا في نفس الأمر؛ فكان يجب الحد على الواطئ، والزجر على الشارب، وشبه ذلك، لكنه غير واجب باتفاق أيضًا، هذا خلف".
"لكنه غير واجب"، من وطئ امرأته على أنها أجنبية، يُحد أم ما يُحد؟
طالب: ما يُحد.
ما يُحد. لو شرب العصير على أنه خمر يُحد أم ما يُحد؟ ما يُحد. والثاني: لو وطئ امرأته يظنها زوجته، نعم لو وجدها في فراشه ووُجدت الشبهة قائمة، يعني شبهة معتبرة من غير تفريط منه يُدرأ عنه الحد. وإلا لو كل إنسان اعتذر من مثل هذا واللهِ واطئ فلانة يظنها، هذا لا يُقبل من كل أحد حتى تدل الدلائل والقرائن القوية على صدقه.
طالب: "فالجواب: أن العمل هنا آخذ بطرف من القسمين الأولين، فإنه وإن كان مخالفًا في القصد قد وافق في نفس العمل، فإذا نظرنا إلى فعله أو تركه وجدناه لم تقع به مفسدة، ولا فاتت به مصلحة، وإذا نظرنا إلى قصده وجدناه منتهكًا حرمة الأمر والنهي، فهو عاصٍ في مجرد القصد غير عاص بمجرد العمل, وتحقيقه أنه آثم من جهة حق الله، غير آثم من جهة حق الآدمي، كالغاصب لما يظن أنه متاع المغصوب منه، فإذا هو متاع الغاصب نفسه، فلا طلب عليه لمن قصد الغصب منه، وعليه الطلب من جهة حرمة الأمر والنهي، والقاعدة: أن كل تكليف مشتمل على حق الله وحق العبد. ولا يقال: إذا كان فوت المفسدة أو عدم فوت المصلحة مسقطًا لمعنى الطلب؛ فليكن كذلك فيما إذا شرب الخمر فلم يذهب عقله، أو زنى فلم يتخلق ماؤه في الرحم بعزل أو غيره؛ لأن المتوقع من ذلك غير موجود، فكان ينبغي ألا يترتب عليه حد، ولا يكون آثمًا إلا من جهة قصده خاصةً؛ لأنا نقول: لا يصح ذلك، لأن هذا العامل قد تعاطى السبب الذي تنشأ عنه المفسدة أو تفوت به المصلحة، وهو الشرب والإيلاج المحرمان في نفس الأمر، وهما مظنتان للاختلاط وذهاب العقل، ولم يضع الشارع الحد بإزاء زوال العقل أو اختلاط الأنساب؛ بل بإزاء تعاطي أسبابه خاصةً، وإلا فالمسببات ليست من فعل المتسبب، وإنما هي من فعل الله تعالى، فالله هو خالق الولد من الماء، والسُّكْر عن الشرب كالشبع مع الأكل، والري مع الماء، والإحراق مع النار، كما تبين في موضعه.
وإذا كان كذلك، فالمولج والشارب قد تعاطيا السبب على كماله، فلا بد من إيقاع مسببه وهو الحد، وكذلك سائر ما جرى هذا المجرى مما عمل فيه بالسبب لكنه أعقم. وأما الإثم، فعلى وفق ذلك. وهل يكون في الإثم مساويًا لمن أنتج سببه أم لا؟ هذا نظر آخر، لا حاجة إلى ذكره هاهنا".
يعني فاعل الفاحشة لا يقصد ما وراء اللذة، يعني إذا كان التحريم من أجل ما ينشأ عن هذه اللذة، اللذة هي السبب الظاهر، وهي التي رُتب عليها الحد، وجميع الأحكام مرتبة على هذا الإيلاج. ما وراءه لا ينشده صاحب الفاحشة، بخلاف الذي يتزوج زواجًا شرعيًّا فإنه ينشد كل ما يرتب على النكاح. هل يُتصور أن صاحب فاحشة يبحث عن امرأة تُنجب؟ يقال: أنا ما...
طالب: بالعكس.
ليس له نظر في ولد ولا في غيره، هو همه هذا الإيلاج فرُتب عليه الحكم، ولا ينظر إلى ما وراءه من مسببات أخرى. يعني هل الزاني يبحث عن حكم طفل الأنابيب مثلاً؛ ليتمم العملية بعمليات طبية وما أشبه ذلك؟ لا ما يهمه إلا هذ اللذة هذه اللذة، فرُتب الحكم عليها.
طالب: لكن يا شيخ لو قيل لماذا البحث أصلاً في الحِكم وهي حِكم، يعني الشارع لما نهى عن الزنا ما علل فيها بهذه الآثار المترتبة عليها؟
لا شك أن هذا الأصل في التحريم مخالفة الآمر ومعصية الرب -جل وعلا-؛ هذا الأصل، لكن إذا وُجدت علل. يعني أيهما أشد؟ هو زنا، بأجنبية أو بذات محرم؟ فرق كبير. بعيدة أو امرأة جار، حليلة الجار -نسأل الله العافية-؟ هذا أشد. امرأة أنجبت وترتبت على ذلك آثار، يمكن أن يُقتل هذا الولد، أو من رآه استمرت المصيبة عليها وعلى أهلها. لا شك أن هذه آثار تزيد الفاحشة سوءًا.
طالب: "والثاني: أن يكون الفعل أو الترك موافقًا إلا أنه عالِم بالموافقة، ومع ذلك فقصده المخالفة، ومثاله: أن يصلي رياءً؛ لينال دنيا أو تعظيمًا عند الناس".
هو موافق، أُمر بصلاة الظهر أو صلاة العصر، فجاء وصف مع الناس، لعله أول من حضر. فعمله موافق، لكن قصده مخالف..
طالب: "أو ليدرأ عن نفسه القتل وما أشبه ذلك؛ فهذا القسم أشد من الذي قبله".
لأن المعول على النيات أكثر من التعويل على الأعمال، التعويل على النيات؛ لأن العمل لا يصح بدون نية، والنية تنفع من غير عمل.
طالب: "فهذا القسم أشد من الذي قبله، وحاصله: أن هذا العامل قد جعل الموضوعات الشرعية التي جُعلت مقاصد، وسائل لأمور أخرى لم يقصد الشارع جعلها لها؛ فيدخل تحته النفاق والرياء والحيل على أحكام الله تعالى، وذلك كله باطل؛ لأن القصد مخالف لقصد الشارع عينًا، فلا يصح جملةً، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، وقد تقدم بيان هذا المعنى.
والقسم الرابع: أن يكون الفعل أو الترك مخالفًا والقصد موافقًا، فهو أيضًا ضربان:
أحدهما: أن يكون مع العلم بالمخالفة.
والآخر: أن يكون مع الجهل بذلك. فإن كان مع العلم بالمخالفة فهذا هو الابتداع، كإنشاء العبادات المستأنَفة والزيادات على ما شُرع، ولكن الغالب أن لا يُتجرأ عليه إلا بنوع تأويل، ومع ذلك فهو مذموم حسبما جاء في القرآن والسنة".
يقول: ما عليه دليل، هذا العمل ليس عليه دليل، لكنه يفعل الخير، يتعبد به مع علمه أنه لم يسبق له شرعيًّا، لا من الكتاب والسنة؛ فهو داخل في حيز البدع. لكن هل يتعبد به مع معاندة، أو يظن أن فيه خيرًا؟ لا بد أن يكون عنده نوع تأويل.
طالب: "والموضع مستغن عن إيراده هاهنا، وسيأتي له مزيد تقرير بعد هذا إن شاء الله. والذي يتحصل هنا أن جميع البدع مذمومة لعموم الأدلة في ذلك، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، وقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، وفي الحديث: «كل بدعة ضلالة»، وهذا المعنى في الأحاديث كالمتواتر. فإن قيل: إن العلماء قد قسموا البدع بأقسام الشريعة".
يعني جعلوها على الأحكام الخمسة، أجروا فيها الأحكام الخمسة، فجعلوا من البدع: ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، ومنها ما هو مباح، ومنها ما هو مكروه، ومنها ما هو محرم، وجعلوا بدعًا مستحسنة، بدعًا حسنة وبدعًا قبيحة. ومثلوا لهذه الأنواع ولهذه الأقسام، وهذا التقسيم ذكره العز بن عبد السلام والنووي وابن حجر وغيرهم من أهل العلم. لكن الشاطبي -رحمة الله عليه- في الاعتصام رد هذا التقسيم، وقود دعائمه، وفنده، وقال: إنه مبني على تناقض. الشرع يقول: «كل بدعة ضلالة»، وأنت تقول: كل بدعة، بعض البدع حسنة، وبعضها واجب؟! هذه مناهضة ومناقضة للشرع. «كل بدعة ضلالة»، وأنت تقول: بدعة حسنة؟ يعني على طريقتهم في المقدمات والنتائج، المقدمات المنطقية: «كل بدعة ضلالة»، بدعة حسنة. ارفع (بدعة) في الموضعين، وركِّب الجملة الثانية المقدمة الثانية؟ ضلالة حسنة، كأنك قلت: ضلالة حسنة! هذا تناقض بلا شك، وهذا القول مردود على من قال به، فالبدع كلها سيئة.
طالب: "فإن قيل: إن العلماء قد قسموا البدع بأقسام الشريعة، والمذموم منها بإطلاق هو المحرم، وأما المكروه فليس الذم فيه بإطلاق، وما عدا ذلك فغير قبيح شرعًا، فالواجب منها والمندوب حسن بإطلاق، وممدوح فاعله ومستنبطه، والمباح حسن باعتبار.
فعلى الجملة: من استحسن من البدع ما استحسنه الأولون، لا يقول: إنها مذمومة، ولا مخالفة لقصد الشارع؛ بل هي موافقة أي موافقة، كجمع الناس على المصحف العثماني، والتجميع في قيام رمضان في المسجد، وغير ذلك من المحدثات الحسنة التي اتفق الناس على حسنها".
يعني لا بد من موافقتهم على أن هذه بدعة لنسلم لهم ما قالوا، لكننا لا نسلم أنها بدعة، فما اتفق عليه الصحابة من الإجماع على المصحف العثماني، كيف يجتمع الصحابة الذين هم القرن الأول، الذين عاصروا النبي -عليه الصلاة والسلام-، «خير القرون»، شهد لهم النبي -عليه الصلاة والسلام-، ثم يكون اجتماعهم ضلالة وبدعة؟ وقل مثل هذا في التجميع في قيام رمضان في صلاة التراويح، النبي -عليه الصلاة والسلام- فعلها ليلتين أو ثلاثًا ثم تركها؛ خشية أن تُفرض، استمر الأمر على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وصدر سنتين من خلافة عمر، ثم جمعهم على إمام وقال -رضي الله عنه- لما خرج وهم يصلون: «نعمت البدعة». وهي في الحقيقة سنة، فعلها النبي -عليه الصلاة والسلام- ليلتين أو ثلاثًا جماعة، تركها خشية أن تُفرض، ما تركها نسخًا لها أو رغبة عنها. فقول عمر -رضي الله عنه-: «نعمت البدعة»، يعني مشاكلة، كأن شخصًا قال له: ابتدعت يا عمر، فقال: «نعمت البدعة»، وإلا فهي سنة.
طالب: "والتجميع في قيام رمضان في المسجد، وغير ذلك من المحدثات الحسنة التي اتفق الناس على حسنها، أعني السلف الصالح والمجتهدين من الأمة «وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن». فجميع هذه الأشياء داخلة تحت ترجمة المسألة؛ إذ هي أفعال مخالفة للشارع؛ لأنه لم يضعها مقترنة بقصد موافق؛ لأنهم لم يقصدوا إلا الصلاح. وإذا كان كذلك، وجب أن لا تكون البدع كلها مذمومة".
أولاً الحديث الذي ذكره ضعيف، وسيأتي.
طالب: "وجب أن لا تكون البدع كلها مذمومة خلاف المدعى. فالجواب: أن هذا كله ليس مما وقعت الترجمة عليه، فإن الفرض أن الفعل مخالف للفعل الذي وضعه الشارع، وما أحدثه السلف وأجمع عليه العلماء لم يقع فيه مخالفة لما وضعه الشارع بحال. بيان ذلك: أن جمع المصحف مثلاً لم يكن في زمان رسول الله ﷺ للاستغناء عنه بالحفظ في الصدور، ولأنه لم يقع في القرآن اختلاف يُخاف بسببه الاختلاف في الدين، وإنما وقعت فيه نازلتان أو ثلاثة، كحديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم -رضي الله عنهما-، وقصة أبي بن كعب مع عبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما-، وفيه قال -عليه الصلاة والسلام-: «لا تماروا في القرآن؛ فإن المراء فيه كفر»".
يعني هذه القصص التي حصلت بسبب اختلاف القراءات، والقرآن أُنزل على سبعة أحرف، فأقرأ النبي -عليه الصلاة والسلام- عمر غير ما أقرأ هشام بن حكيم، وأقرأ أُبيًّا غير ما أقرأ ابن مسعود، وهكذا، مما يحتمله اللفظ من معانٍ ومن حروف، فالقرآن أُنزل في أول الأمر سبعة أحرف. خشي الصحابة من الاختلاف، والعرضة الأخيرة التي عارض بها جبريل النبي -عليه الصلاة والسلام- في آخر سنة في آخر رمضان عرضه فيه، هذا هو الذي استقر عليه الأمر وهو الذي عليه الترتيب. ثم اتفق الصحابة في زمن عثمان، جمعه أبو بكر خشية أن يضيع، ثم اتفق الصحابة على كتابته في مصحف واحد في زمن عثمان -رضي الله عنه-.
طالب: شيخ، لكن لما يقول: "ما أحدثه السلف"، ما يُضعف الجواب؟ يعني كونه يُقر بأن هذا إحداث؟
متى تكون البدعة بدعة؟ إذا قام السبب في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- ولم يفعله مع إمكان فعله، صار العمل بدعة.
طالب: صحيح.
لكن ما دعت إليه الحاجة في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- ويوجد ما يؤيده من نصوص الشرع ولو بالعمومات، يعني مثل الخط في الصلاة في المساجد، هذه الخطوط، والخط الذي وُضع أمام الحجر الأسود. قالوا: هذه الأمور قام سببها في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- ولم يفعلها، إذًا هي بدع. لكن هل قام السبب بنفس المستوى الذي هو موجود الآن؟ يعني حاجة الناس في ذلك اليوم مثل حاجتهم اليوم؟ يعني كون الصحابة واهتمامهم بالصلاة وبالصف فيها والامتثال والخضوع بين يدي الله مثل عمل الناس اليوم؟ الناس بحاجة إلى ما يعدل صفوفهم. فمثل هذا يكون مفسدة مغمورة في جانب المصلحة، وقبل الفرش الموجود كانت مصليات العيد إذا قام الناس إلى الصلاة كأنهم في الكعبة، أقواس صفوف مائلة! ثم بعد ذلك اتخذوا هذه الفرشات وتعدلت الصفوف. على كل حال هذه مسألة راجحة، وإن قام السبب بعهده -عليه الصلاة والسلام-، لكن المستوى أضعف بكثير، ليست حاجتهم في ذلك الوقت كالحاجة في مثل وقتنا.
طالب:........
واللهِ لا صغيرة ولا كبيرة، الناس ما ينتظمون ولا يقدرون.
طالب: "فحاصل الأمر أن جمع المصحف كان مسكوتًا عنه في زمانه -عليه الصلاة والسلام-، ثم لما وقع الاختلاف في القرآن وكثر حتى صار أحدهم يقول لصاحبه: أنا كافر بما تقرأ به؛ صار جمع المصحف واجبًا ورأيًا رشيدًا في واقعة لم يتقدم بها عهد، فلم يكن فيها مخالفة، وإلا لزم أن يكون النظر في كل واقعة لم يتقدم بها عهد، فلم يكن فيها مخالفة، وإلا لزم أن يكون النظر في كل واقعة لم تحدث في الزمان المتقدم بدعةً".
زادت سطر؟
زاد، نعم، زاد.
زاد سطر.
طالب: "صار جمع المصحف واجبًا ورأيًا رشيدًا في واقعة لم يتقدم بها عهد، فلم يكن فيها مخالفة، وإلا لزم أن يكون النظر في كل واقعة لم تحدث في الزمان المتقدم بدعةً، وهو باطل باتفاق".
نعم؛ لأن النوازل التي تحتاج إلى حل مما لا نظير لها في الزمان الماضي، تكون محدثات على هذا.
طالب: "لكن مثل هذا النظر من باب الاجتهاد الملائم لقواعد الشريعة وإن لم يشهد له أصل معين، وهو الذي يسمى المصالح المرسلة، وكل ما أحدثه السلف الصالح من هذا القبيل لا يتخلف عنه بوجه، وليس من المخالف لمقصد الشارع أصلاً، كيف وهو يقول: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن»، و«لا تجتمع أمتي على ضلالة»، فثبت أن هذا المجمع عليه موافق لقصد الشارع، فقد خرج هذا الضرب عن أن يكون فيه الفعل أو الترك مخالفًا للشارع. وأما البدعة المذمومة؛ فهي التي خالفت ما وضع الشارع من الأفعال أو التروك، وسيأتي تقرير هذا المعنى بعدُ إن شاء الله. وإن كان العمل المخالف مع الجهل بالمخالفة، فله وجهان؛ أحدهما: كون القص موافقًا، فليس بمخالف من هذا الوجه، والعمل وإن كان مخالفًا فالأعمال بالنيات، ونية هذا العامل على الموافقة، لكن الجهل أوقعه في المخالفة، ومن لا يقصد مخالفة الشارع كفاحًا لا يجري مجرى المخالف بالقصد والعمل معًا؛ فعمله بهذا النظر منظور فيه على الجملة لا مطرح على الإطلاق".
وهذا ما يقول فيه أهل العلم إنه يعذر فيه بالجهل، الذي يعذر فيه بالجهل، وإن كان بعضهم يقول: لا يجوز لأحد أن يُقدم على التعبد بشيء إلا بعد أن يتحقق من مشروعيته، لا يقدم عليه وهو جاهل.
طالب: "والثاني: كون العمل مخالفًا، فإن قصد الشارع بالأمر والنهي الامتثال، فإذا لم يمتثل فقد خولف قصده، ولا يعارض المخالفة موافقة القصد الباعث على العمل؛ لأنه لم يحصل قصد الشارع في ذلك العمل على وجهه، ولا طابق القصد العمل، فصار المجموع مخالفًا كما لو خولف فيهما معًا؛ فلا يحصل الامتثال. وكلا الوجهين يعارض الآخر في نفسه، ويعارضه في الترجيح؛ لأنك إن رجَّحت أحدهما عارضك في الآخر وجهٌ مرجح، فيتعارضان أيضًا؛ ولذلك صار هذا المحل غامضًا في الشريعة، ويتبين ذلك بإيراد شيء من البحث فيه. وذلك أنك إذا رجحت جهة القصد الموافق بأن العامل ما قصد قط إلا الامتثال والموافقة، ولم ينتهك حرمةً للشارع بذلك القصد؛ عارضك أن قصد الموافقة مقيد بالامتثال المشروع لا بمخالفته، وإن كان مقيدًا فقصد المكلف لم يصادف محلًّا فهو كالعبث، وأيضًا إذا لم يصادف محلًّا صار غير موافق؛ لأن القصد في الأعمال ليس بمشروع على الانفراد.
فإن قلت: إن القصد قد ثبت اعتباره قبل الشرائع، كما ذُكر عمن آمن في الفترات وأدرك التوحيد، وتمسك بأعمال يعبد الله بها وهي غير معتبرة؛ إذ لم تثبت في شرع بعدُ. قيل لك: إن فرض".
هذا قبل ورود الشرائع، فكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يتحنث ويتعبد، وورقة يتعبد على دين عيسى، وزيد بن عمرو بن نفيل يتعبد على الحنيفية ويقول: إنه على دين إبراهيم -عليه السلام- وليس عندهم أشياء تفصيلية يمتثلون بها أمورًا معينة. هل يقال: مثل هؤلاء عليهم أن ينتظروا إلى أن ينزل شرع يتعبدون به؟ هذا أمرهم واجتهادهم مقبول على أي حال؛ لأنهم يقصدون الخير، ويتشبثون ببقايا من إرث الأنبياء، أفضل من الذي يعبد غير الله ويشرك بالله؛ هذا قدر طاقته، أكثر ما يمكنه.
طالب: بالفطرة.
نعم. لكن هناك أمور مشكلة، وهي مثل صنيع بلال في ركعتي الوضوء، دخل النبي -عليه الصلاة والسلام- الجنة فسمع خشخشة بلال، فسأله؟ فقال له: ما أتوضأ إلا أصلي ركعتين. هل عنده أصل مشروعية لهذا العمل؟
طالب: كان سبب المشروعية كونه في زمن التشريع.
نعم. الكلام على أنه ابتدأ العمل قبل أن يقف على دليل.
طالب:........
كيف؟
طالب: أنه ما يفعل هذا إلا......
ما يلزم ما يلزم، والنبي -عليه الصلاة والسلام- سأله: وما أرجى عمل عندك؟
طالب: وواظب عليه.
وواظب عليه.
طالب:.........
الذي يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، رأى النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ من غير أن يسبق له شرعية، في كل ركعة. اكتسب الشرعية من تقرير النبي -عليه الصلاة والسلام- لا أكثر ولا أقل، فالعمل مشروع بإقرار النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولو لم يكن عندنا إلا عمل بلال أو عمل الذي يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] إنما هو مشروع. لكن ما دام أقره النبي- عليه الصلاة والسلام-. كما أن الرؤيا ليس لها أي مدخل في التشريع، لا من قريب ولا من بعيد. لكن رؤيا عبد الله بن زيد الأذان ثبتت الشرعية من إقرار النبي -عليه الصلاة والسلام- له.
طالب:.........
لا، قد يقال إنه في زمن التشريع الذي يمكن أن يُقر الأمر فيه أوسع: «كانوا يعزلون والقرآن ينزل». نعم، ولو كان شيئًا... لكن لما انقطع الوحي لا يجوز لأحد ألبتة أن يتصرف، وماذا ينتظر الذي يعمل؟ ينتظر إقرارًا من أحد؟ ما يمكن أن يقره أحد.
طالب: "قيل لك: إن فُرض أولئك في زمان فترة لم يتمسكوا بشريعة متقدمة، فالمقاصد الموجودة لهم مُنازع في اعتبارها بإطلاق؛ فإنها كأعمالهم المقصود بها التعبد. فإن قلت باعتبار القصد كيف كان؟ لزم ذلك في الأعمال، وإن قلت بعدم اعتبار الأعمال، لزم ذلك في القصد.
وأيضًا؛ فكلامنا فيما بعد الشرائع لا فيما قبلها، وإن فرضنا أن من نقل عنهم من أهل الفترات كانوا متمسكين ببعض الشرائع المتقدمة؛ فذلك واضح. فإن قيل: قوله -عليه الصلاة والسلام- «إنما الأعمال بالنيات»، يبين أن هذه الأعمال وإن خالفت قد تُعتبر؛ فإن المقاصد أرواح الأعمال، فقد صار العمل ذا روح على الجملة. وإذا كان كذلك اعتُبر، بخلاف ما إذا خالف القصد ووافق العمل، أو خالفَا معًا".
يعني لا بد من اعتبار الأمرين. نعم، لو كان شرط صحة العبادة صحة القصد والإخلاص لله -جل وعلا-، قلنا: يكفي ولو خالفه. لكن هناك شرط آخر وهو الموافقة، موافقة العمل لما جاء عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام-، موافقة يعني كون العمل موافقًا لما جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام-، فلا يكفي صحة القصد، ولا يكفي صحة العمل؛ بل لا بد من اجتماع الأمرين.
طالب: "وإذا كان كذلك اعتُبر، بخلاف ما إذا خالف القصد ووافق العمل، أو خالفَا معًا؛ فإنه جسد بلا روح، فلا يصدق عليه مقتضى قوله: «الأعمال بالنيات»؛ لعدم النية في العمل. قيل: إن سُلم، فمعارض بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد»".
نعم. وهذا دليل الشرط الثاني، فلا بد من اعتبار الأمرين معًا.
طالب: "وهذا العمل ليس بموافق لأمره -عليه الصلاة والسلام-، فلم يكن معتبرًا؛ بل كان مردودًا. وأيضًا، فإذا لم يُنتفع بجسد بلا روح، كذلك لا يُنتفع بروح في غير جسد؛ لأن الأعمال هنا قد فُرضت مخالفةً، فهي في حكم العدم، فبقيت النية منفردةً في حكم عملي، فلا اعتبار بها، وتكثر المعارضات في هذا من الجانبين، فكانت المسألة مشكلةً جدًّا. ومن هنا صار فريق من المجتهدين إلى تغليب جانب القصد، فتلافوا من العبادات ما يجب تلافيه، وصححوا المعاملات، ومال فريق إلى الفساد بإطلاق، وأبطلوا كل عبادة أو معاملة خالفت الشرع ميلاً إلى جانب العمل المخالف، وتوسط فريق فأعملوا الطرفين على الجملة، لكن على أن يُعمل مقتضى القصد في وجه، ويعمل مقتضى الفعل في وجه آخر. والذي يدل على إعمال الجانبين أمور؛ أحدها: أن متناول المحرَّم غير عالم بالتحريم، قد اجتمع فيه موافقة القصد إذا لم يتلبس".
"إذ".
طالب: "إذ لم يتلبس إلا بما اعتقد إباحته، ومخالفة الفعل؛ لأنه فاعل ما نُهي عنه، فأعمل مقتضى الموافقة في إسقاط الحد والعقوبة، وأعمل مقتضى المخالفة في عدم البناء على ذلك الفعل وعدم الاعتماد عليه، حتى صحح ما يجب أن يصحح مما فيه تلاف، ميلاً فيه إلى جهة القصد أيضًا، وأهمل ما يجب أن يُهمل مما لا تلافي فيه".
يقول: "فأعمل مقتضى الموافقة في إسقاط الحد والعقوبة، وأعمل مقتضى المخالفة في عدم البناء على ذلك الفعل"، يعني لو أن إنسانًا سمع النداء، وجاء إلى المسجد، وجلس في منتصف الصف الأول، وانتظر الصلاة، وصلاها برواتبها القبلية والبعدية، وجلس في مصلاه، ثم بعد أن دخل وقت الصلاة الثانية تبين له أن صلاته باطلة؛ إما لأنه لم يتوضأ، أو مسح على خف لم يؤذَن له بمسحه، المقصود أن الصلاة باطلة، وترتب على ذلك تأخير الصلاة عن وقتها. "فأعمل مقتضى الموافقة في إسقاط الحد والعقوبة"، ما يقال: إن هذا أخر الصلاة عن وقتها، لا يأثم بتأخيره الصلاة بصنيعه هذا.
"وأعمل مقتضى المخالفة في عدم البناء على ذلك الفعل"، ما يقول: أنا اجتهدت، وبذلت وسعي وصليت الصلاة في وقتها ومع الإمام، فنحن نعمل الجانبين: لا يأثم؛ لأنه بذل ما يستطيع، ولا تصح صلاته؛ لأنها باطلة، فيصليها بعد خروج وقتها. لكن يبقى: هل يلزمه أن يأتي بها بجميع متعلقاتها، إذا كانت صلاة الظهر، ثم ما علم أنها باطلة إلا بعد أن أذن العصر، نقول: صلِّ تسليمتين راتبة الظهر القبلية، ثم صل الظهر، ثم اذكر الله وسبح وهلل واقرأ آية الكرسي والمعوذتين، ثم تصلي راتبة. أو نقول: يكفيك من هذا كله الفريضة؛ لأنها هي التي تجب إعادتها، وما عدا ذلك أنت بذلت وسعك؛ لأنه قال: "فأعمل مقتضى الموافقة في إسقاط الحد والعقوبة"، هذا الذي أخر الصلاة عن وقتها لا يأثم، "وأعمل مقتضى المخالفة في عدم البناء على ذلك الفعل وعدم الاعتماد عليه".
طالب: يعيد.
نعرف أن الصلاة التي يجب قضاؤها هذا ما فيه إشكال يلزمه قضاؤها، لكن جميع متعلقاتها هل نقول: إنها فاتها وقتها؟ أو نقول: إنها مرتبطة بالصلاة قبلها وبعدها كأنه استيقظ من النوم، إذا استيقظ من النوم يأتي بجميع المتعلقات، لكن الذي أداها بجميع متعلقاتها، ثم تبين له أن فيها خللاً؟
طالب: كالعذر يا شيخ.
نعم؟
طالب: كالعذر، بجامع العذر، النسيان.....
يعني يأتي بالرواتب والأذكار؟ يعني كأنه استيقظ من النوم ما سوى شيئًا؟
طالب: كأنه له يا شيخ.
نعم؟
طالب: كأنه له ذلك.
أو نقول: ما يشترط له الطهارة يعاد، وما لا يشترط له الطهارة لا يعاد؟
طالب:.......
نعم؟
طالب:.......
أين؟
طالب: الذكر بعد الصلاة.
الذكر بعد الصلاة؟
طالب: لا يشترط له الطهارة، ولكن........
يعني على هذا من صلى صلاة باطلة بمتعلقاتها القبلية والبعدية والأذكار وجلوس بعد الصلاة ينتظر الصلاة أو قبلها ينتظرها، كل هذا يعاد كأنه قام من النوم؛ ليحصل له الأجر الكامل؟ أو نقول: النوافل الله غفور رحيم، وبذلت السبب، والحمد لله ما عليك إلا الفريضة؟
طالب: يجب عليه إعادة الفريضة، ولكن.......
والأول ما له أجر أبدًا؟
طالب:........
قلنا: إن الفريضة ... أخرها عن الوقت لا يأثم، يرتفع عنه الإثم، لكن ماذا عن النوافل التي لا إثم في تركها؟
طالب: هو قد أخل بشرطها ولم......
نقول: أخل بشرطها، لكن نيته هذه مع أنها نفل في الأصل؟
طالب: نحن قلنا: لا بد أن النية توافق الإصابة.
طالب:.........
الآن لماذا قلنا: إنه ارتفع عنه الإثم حينما تأخر عنه الوقت؟ يعني لو صلاها في الوقت يصير عليه إثم أصلاً؟
طالب: لا.
ذكرها في الوقت.
طالب: لا.
نحن رفعنا عنه الإثم؛ لأنه خرج وقتها، صار فيها إثم لولا العذر.
طالب: صحيح.
لا شك أن نيته وأعماله السابقة معتبرة، لكن لا يعفيه من القيام بالواجب.
طالب: "فقد اجتمع في هذه المسألة اعتبار الطرفين بما يليق بكل واحد منهما، كالمرأة يتزوجها رجلان، ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلا بعد بنائه بها، فقد فاتت بمقتضى فتوى عمر ومعاوية والحسن، وروي مثله عن علي -رضي الله عنهم-. ونظيرها في مسألة المفقود إذا تزوجت امرأته ثم قدم".
كيف "فقد فاتت"؟ الآن عُقد عليها لفلان، عَقد عليها أخوها الكبير الموكل بالعقد عليها، ثم فُسخت وكالته. هي ما أعطت الإذن لأخيها أن يعقد عليها، هو معه وكالة، وتفسخ الوكالة ولا يلزم علمه ولا رضاه، ويوكل الثاني، ثم يعقد عليها الثاني، ثم يأتي الزوج قبل فسخ الوكالة ولَّا بعدها؟ لا، قبل. تحل للثاني أو ما تحل؟ لا، الأول نكاحه صحيح، والثاني عقده باطل. نعم. ومثله إذا حُكم على المفقود إذا كان غالبه الهلاك، ومكث أربع سنين، ثم تزوجت زوجته، ثم جاء المفقود، مثله. فهم يقولون: إن كان الثاني قد دخل بها فالأول يُخير بين إفساد العقد ورجوع زوجته وبين المهر، إلى مسائل تفصيلية عند الفقهاء.
طالب: "ونظيرها في مسألة المفقود إذا تزوجت امرأته ثم قدم؛ فالأول أولى بها قبل نكاحها، والثاني أولى بعد دخوله بها، وفيما بعد العقد وقبل البناء قولان، وفي الحديث: «أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل باطل باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما أصاب منها». وعلى هذا يجري باب السهو في الصلاة، وباب الأنكحة الفاسدة في تشعب مسائلها. والثاني: أن عمدة مذهب مالك، بل عمدة مذاهب الصحابة اعتبار الجهل في العبادات اعتبار النسيان على الجملة".
نعم. الجاهل حكمه حكم النسيان، فأي قاعدة ترد في النسيان فالجهل مثلها. يقول أهل العلم: إن النسيان يُنزل الموجود منزلة المعدوم، ولا ينزل المعدوم منزلة الموجود، ثم بعد ذلك ألحق به الجهل. شخص نسي وصلى بغير طهارة، وآخر نسي وصلى الظهر خمس ركعات. في الصورة الأولى نسي، لكن الصلاة ما زالت معدومة، فنسيانه لا يُنزل هذا المعدوم منزلة الموجود. أو قل: نسي فصلى ثلاث ركعات، والثاني نسي فصلى خمس ركعات، وطال الفصل. الأول صلاته باطلة؛ لأن النسيان لا ينزل المعدوم منزلة الموجود، فصلاته ثلاث ركعات، ولا ينفع نسيانه، ولا يعفيه نسيانه من الركعة الرابعة. بينما النسيان ينزل الموجود منزلة المعدوم، فالركعة الخامسة وجودها كعدمها. قل مثل هذا في الجهل: شخص صلى الظهر ثلاثًا، وآخر صلى خمسًا، انظر جهال، مثله.
طالب: "فعدوا من خالف في الأفعال أو الأقوال جهلاً على حكم الناسي، ولو كان المخالف في الأفعال دون القصد مخالفًا على الإطلاق لعاملوه معاملة العامد، كما يقوله ابن حبيب ومن وافقه، وليس الأمر كذلك، فهذا واضح في أن للقصد الموافق أثرًا، وهو بيِّن في الطهارات والصلاة والصيام والحج وغير ذلك من العبادات، وكذلك في كثير من العادات: كالنكاح، والطلاق، والأطعمة، والأشربة، وغيرها. ولا يقال: إن هذا ينكسر في الأمور المالية؛ فإنها تُضمن في الجهل والعمد، لأنا نقول".
لماذا يفرق بين هذه الأمور المالية التي هي من حقوق العباد، وبين ما هو من حق الله -جل وعلا-؟ ما هو من حق الله -جل وعلا- هذه أحكام تكليفية شرعية، وما يتعلق بحقوق العباد أحكام وضعية من باب ربط الأسباب بالمسببات. فالمخطئ في حق العباد يؤاخذ، لكن الإثم يرتفع بسبب الخطأ أو بسبب النسيان. لكن حقوق العباد لا تُهدر بسبب خطئه أو نسيانه، بخلاف ما يتعلق بحقوق الله -جل وعلا-.
طالب: "لأنا نقول: الحكم في التضمين في الأموال آخر؛ لأن الخطأ فيها مساو للعمد في ترتب الغرم في إتلافها. والثالث: الأدلة الدالة على رفع الخطأ عن هذه الأمة، ففي الكتاب: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]، وقال: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وفي الحديث: «قال: قد فعلت»، وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وفي الحديث: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». وهو معنًى متفق عليه في الجملة لا مخالف فيه، وإن اختلفوا فيما يتعلق به رفع المؤاخذة: هل ذلك مختص بالمؤاخذة الأخروية خاصةً أم لا؟ فلم يختلفوا أيضًا أن رفع المؤاخذة بإطلاق لا يصح، فإذا كان كذلك ظهر أن كل واحد من الطرفين معتبر على الجملة، ما لم يدل دليل من خارج على خلاف ذلك، والله أعلم".
يعني ما يتعلق بالعمل وما يتعلق بالقصد، كلها معتبرة شرعًا.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا آخر درس.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.