شرح نخبة الفكر (02)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المبادئ العشرة:
مبادئ هذا العلم: في بداية كل علم يبحث العلماء المبادئ التي يجمعها قول الناظم:
إن مبادئ كل علم عشرة |
|
الحد والموضوع ثم الثمرة |
التعريف:
فهذا العلم من حيث الحد الذي هو التعريف يحد ويعرف باعتبارين: أولاً: باعتبار جزئي المركب، الثاني: باعتباره علم على هذا الفن، نعرف أن هذا العلم هو علم مصطلح الحديث فجزءا المركب: مصطلح وحديث، فالمصطلح: اسم مفعول من الاصطلاح، والمصطلح والاصطلاح هو العرف الخاص وهو التوافق على استعمال ألفاظ مخصوصة يتداولها أهل كل فن على وجه التعارف فيما بينهم كما اصطلحوا عليها، ومصطلح أهل الحديث أو أهل الأثر، تسمى أيضاً أصول الحديث، ويسمى أيضاً علوم الحديث وقواعد الحديث، إذا عرفنا أن المصطلح والاصطلاح هو العرف الخاص وهو اتفاق طائفة على شيء مخصوص، وعرفنا فيما تقدم في الدرس الماضي أنه لا مشاحة في الاصطلاح في الجملة إلا أنه إذا خالف الاصطلاح ما تقرر في علم من العلوم فإنه يشاحح فيه على ما مثلنا في الدرس الماضي، والحديث يقولون: ضد القديم، فالحديث ضد القديم، أو نقيض القديم؟ هم يقولون: ضد القديم، أيهما أدق أن نقول: ضد القديم أو نقيض القديم؟ نعم.
طالب:......
قد يرتفعان لكنهما لا يجتمعان، إذاً إذا ارتفعت الحداثة والقدم ماذا يحل محلهما؟ نعم؟
طالب:......
لا، هو أي عين، أي عين يمكن أن توصف بأنها قديمة أو حديثة، ولا يمكن أن توصف بأنها قديمة حديثة في آن واحد، صح وإلا لا؟ هل يمكن أن توصف بأنها ليست قديمة ولا حديثة؟ إذاً هما إيش؟ نقيضان.
الحديث في اصطلاح أهل العلم: ما أضيف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- من قول أو فعل أو تقرير أو وصف.
التعريف بالاعتبار الثاني -باعتباره علم على هذا الفن-: علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن، علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن، أو هو: القواعد المعرفة بحال الراوي والمروي، هما متقاربان؛ لأن السند الراوي والمتن هو المروي.
موضوع هذا العلم:
الراوي والمروي من حيث القبول والرد.
وثمرته:
معرفة المقبول من المردود، تمييز الصحيح من السقيم من سنة الرسول -عليه الصلاة والسلام-.
وفضله:
من أشرف العلوم وأجلها، إذ بواسطته يتمكن العالم من الذب عن سنة المصطفى -عليه الصلاة والسلام-.
نسبته إلى غيره من العلوم:
نسبة هذا العلم إلى غيره من العلوم الشرعية التي ينبغي لطالب العلم العناية بها، التباين من وجه والتداخل من وجه آخر، إيش معنى هذا الكلام؟ إذا قلنا: بالتباين يعني أنه لا يمكن أن يدخل في فن من الفنون، ولا يمكن أن يستغنى بغيره عنه، وإذا قلنا: بالتداخل معناه أن بعض هذه المسائل من هذا العلم يمكن أن تؤخذ من علوم أخرى، وأمثلة هذا العلم ومسائله تؤخذ أيضاً من علم آخر.
واضع هذا العلم:
ذكرناه سابقاً وأن أهل العلم اختلفوا في أول من صنف في هذا الفن على سبيل الاستقلال، وهذا تقدم هل هو الشافعي أو أحمد أو علي بن المديني، أو الإمام الترمذي؟ أقوال، قلنا: إن الحافظ خرج وخلص من هذا الاختلاف بقوله: "فمن أول من صنف فيه الرامهرمزي" خرج من الأولية المطلقة للاختلاف فيها.
واسم هذا العلم:
مصطلح الحديث، وأصول الحديث، وعلوم الحديث، وقواعد الحديث إلى غير ذلك.
استمداده:
يستمد هذا العلم من كلام أئمة الحديث، وأمثلتهم من دواوين السنة، ورواته من كتب الجرح والتعديل.
وحكم تعلم هذا العلم:
فرض من فروض الكفايات كغيره من العلوم الشرعية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وصار في حكم الباقين سنة، وقد يتعين على من توفر فيه الأهلية ولم يسد غيره مسده.
مسائل هذا العلم:
قضاياه التي تذكر فيه كالصحيح والضعيف والمرسل والمدلس والمعنعن وغيرها من الأنواع.
قوله: "والبعض بالبعض اكتفى"، يعني أن بعض الناس اكتفى ببعض مسائل هذا العلم أو غيره تكاسلاً، لكن من درى الجميع، من عرف جميع مسائل هذا العلم، وجميع مسائل غيره من العلوم الشرعية فقد حاز الشرف بأكمله، والله المستعان.
اسم الكتاب:
نأتي إلى اسم الكتاب: (نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر) النخبة كما في القاموس بالضم وكهُمَزَة نُخَبَة، المختار، النخبة: المختار، وانتخبه اختاره، والفكر: جمع فكرة مثل نحل ونحلة، وهي –أعني الفكرة- كالفِكر والفَكر إعمال الخاطر في الشيء كما في اللسان، وقال الجوهري: التفكر: التأمل، والاسم الفكر والفكرة والمصدر الفَكر بالفتح.
في مصطلح أهل الأثر: المصطلح عرفناه، وعرفنا معناه لغة واصطلاحاً، وأهل الأثر هم أهل الحديث، انتسب إلى الأثر جماعة كما يقول الحافظ العراقي -رحمة الله عليه-:
يقول راجي ربه المقتدرِ |
|
عبد الرحيم بن الحسين الأثري
|
انتسب إلى علم الأثر وهو علم الحديث، سيأتي -إن شاء الله تعالى- تعريف الحديث وتعريف الأثر والفرق بينهما.
سم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-:
"الحمد لله الذي لم يزل عليماً قديراً، وصلى الله على سيدنا محمد الذي أرسله إلى الناس كافةً بشيراً ونذيراً، وعلى آل مُحمّد وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فإن التصانيف في اصطلاح أهل الحديث قد كثرت، وبسطت واختصرت، فسألني بعض الإخوان أن ألخص له المهم من ذلك، فأجبته إلى سؤاله رجاء الاندراج في تلك المسالك".
يكفي، بركة.
شرح مقدمة الكتاب:
يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: "الحمد لله الذي لم يزل عليماً قديرا"ً
ابتدأ المصنف -رحمه الله تعالى- بالحمد ابتداءً بالقرآن الكريم الذي افتتح بالحمد، وعملاً بحديث: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر)) الحديث مخرج في المسند وعند أبي داود وابن ماجه وابن حبان، وحسنه جمع من أهل العلم كالنووي، وحكم آخرون عليه بالضعف، والقابل للتحسين هو هذا اللفظ: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله)) أما الألفاظ الأخرى من البسملة والصلاة على النبي وغير ذلك فهي ضعيفة على أن الألباني -رحمة الله عليه- حكم على الحديث بجميع طرقه وألفاظه بالضعف، وأهل العلم حينما يستدلون بمثل هذا في هذا الموضع؛ لأن من مذهبهم العمل بالضعيف في الفضائل وهذا منها، ولو لم يكن في الباب إلا الاقتداء بالقرآن لكفى.
والحمد: كما في الوابل الصيب لابن القيم -رحمه الله تعالى-: هو الإخبار عن الله بصفات كماله مع محبته والرضا به؛ لأن جل من كتب في تعريف الحمد قالوا: هو الثناء على المحمود بصفات كماله ونعوت جلاله، الثناء على المحمود، فجعلوا الحمد هو الثناء، لكن هذا قول ضعيف؛ لأنه جاء في الحديث الصحيح في صحيح مسلم: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي)) فغاير النبي -عليه الصلاة والسلام- فيما يرويه عن الله -عز وجل- بين الحمد والثناء والتمجيد.
فأولى ما يقال في تعريف الحمد ما ذكره الإمام ابن القيم -رحمة الله عليه- في الوابل الصيب: قال: "هو الإخبار عن الله بصفات كماله مع محبته والرضا به".
والثناء: هو تكرير المحامد شيئاً بعد شيء، و(أل) في الحمد للجنس، يعني للاستغراق، جنس المحامد لله -سبحانه وتعالى-، واللام في (لله) للاختصاص.
والله: علم على الذات الإلهية، علم على الرب -جل وعلا-، وهذا اللفظ –أعني لفظ الجلالة- هو أعرف المعارف على الإطلاق كما قرره سيبويه، وإن كان أهل النحو يقولون: أعرف المعارف هو الضمير، أعرف المعارف الضمير، لكن سيبويه قرر أن أعرف المعارف هو لفظ الجلالة هو الله -سبحانه وتعالى-، ويذكر في الكتب أن سيبويه رؤيا في المنام فقيل له: ماذا صنع الله بك؟ فقال: غفر لي، قيل له: فبم؟ قال: بقولي: الله أعرف المعارف.
هناك فروق بين الحمد والشكر من وجه والحمد والثناء من وجه، والحمد والمدح من وجه آخر، ليس هذا محل بسطها.
"الذي" اسم موصول يقال للمفرد المذكر، "لم يزل" لم: حرف نفي وجزم وقلب، يزل: مضارع زال مجزوم بلم، وما زال من أخوات كان ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، واسمها مستتر تقديره هو، وعليماً خبرها، وقديراً: إما أن نقول: خبر بعد خبر، أو بدل، أو بيان.
والعليم والقدير: من أسماء الله الحسنى، ومذهب أهل السنة والجماعة في إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الأسماء والصفات يثبتون ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله -عليه الصلاة والسلام- على ما يليق بجلال الله وعظمته من غير تحريف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تكييف، على حد قوله -جل وعلا-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [(11) سورة الشورى]، خلافاً للجهمية والمعتزلة الذين ينفون الأسماء والصفات، وبعض الفرق المنتسبة لهذه الملة.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: "وصلى الله على سيدنا محمد الذي أرسله إلى الناس بشيراً ونذيراً، وعلى آل محمد وصحبه وسلم تسليماً كثيراً".
صلى الله: روى البخاري في صحيحه تعليقاً مجزوماً به عن أبي العالية قال: "صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة" صلاة الله على رسوله ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء، وروي عن ابن عباس أنه قال: "يصلون: يبركون"، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [(56) سورة الأحزاب]، يعني يبركون، وفي جامع الترمذي روي عن سفيان وغير واحد من أهل العلم قالوا: صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار.
"على سيدنا" أي عظيمنا وشريفنا وأعلانا منزلة، وأسمانا قدراً "محمد الذي أرسله إلى الناس بشيراً ونذيراً"، أي مبشراً للمؤمنين بالجنة، ومنذراً ومخوفاً للكافرين بالنار، فقد جاء في وصفه -عليه الصلاة والسلام- من قوله -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح: ((أنا النذير العريان)) يعني المبالغ في الإنذار والتحذير والتخويف، إيش معنى النذير العريان؟ النذير العريان: الذي إذا خشي على قومه من العدو خلع ثوبه فلوح به إليهم، يحذرهم من هذا العدو، والأمة بالنسبة لهذه النذارة على قسمين -كما اقتسم القوم الذين أنذرهم هذا العريان-: قسم خافوا من العدو فأدلجوا، استاروا مباشرة ونجو، وقسم دهمهم العدو واقتحمهم، وهؤلاء الذين لم يصدقوا هذا النذير، ومثلهم هذه الأمة الذين بعث فيهم النبي -عليه الصلاة والسلام- منهم من صدق وآمن واتبع واقتدى، وهؤلاء هم الناجون، ومنهم من كذب وأبى وأعرض، وهؤلاء هم الهالكون.
"وعلى آل محمد" الآل اختلف في أصله، فقيل: أهل ثم قلبت الهاء همزة فقيل: أأل ثم سهلت فقيل: آل، ولهذا يرجع إلى أصله في التصغير فيقال: أهيل، وضعف ابن القيم هذا القول في الوابل الصيب من ستة أوجه تراجع هناك.
وقيل: أصل (آل) أَوْل ذكره الجوهري في باب الهزة والواو واللام، قال: "وآل الرجل أهله وعياله وأتباعه" وهو عند هؤلاء مشتق من الأوْل الذي هو الرجوع، اختلف في المراد بآله -عليه الصلاة والسلام- على أربعة أقوال: أنهم الذين حرمت عليهم الصدقة، أو هم ذريته وأزواجه خاصة، أو أتباعه إلى يوم القيامة، أو هم الأتقياء من أمته، أقوال لأهل العلم من أراد بسطها فليرجع إلى الوابل الصيب لابن القيم -رحمه الله تعالى-.
"وصحبه" جمع صاحب، كركب جمع راكب، مأخوذ من الصحبة، والمختار في تعريف الصحابي ما سيأتي في هذا الكتاب أنه: من لقي النبي -عليه الصلاة والسلام- مؤمناً به ومات على الإسلام.
"سلم تسليماً كثيراً" التسليم: مصدر مؤكد، والمراد بإيراده إظهار الزيادة في التعظيم وإفادة التكثير، كما أشار إليه بقوله: "كثيراً".
وجمع المصنف بين الصلاة والسلام امتثالاً للأمر بهما في الآية، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [(56) سورة الأحزاب]، الذي يصلي ولا يسلم لا يتم امتثاله لهذا الأمر، والذي يسلم ولا يصلي لا يتم امتثاله لهذا الأمر، إنما يتم الامتثال بالجمع بين الصلاة والسلام عليه -عليه الصلاة والسلام-.
لم يفرد الصلاة عن السلام ولا السلام عن الصلاة؛ لأن الجمع جاء مأموراً به في هذه الآية، نعم؟
طالب:......
كل ينزل منزلته، في كل شيء ينزل منزلته، الأذكار الواردة في مواضع مخصصة لا يزاد عليها ولا ينقص منها، فلا تقول في الصلاة مثلاً: اللهم صلِ على سيدنا محمد، ولا تقول: اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد، فلا تزيد عما شرع لك؛ لأن هذه أذكار متعبد بها، ولذا في حديث ذكر النوم لما أراد البراء أن يعرض حفظه على النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "ورسولك الذي أرسلت" قال: ((لا، قل: ونبيك الذي أرسلت))، ففي هذه المواضع المخصصة لا بد أن يقتصر على الوارد ولا يزاد فيه، مع الإطلاق نمتثل ما جاءنا بالإطلاق في آية الأحزاب.
صرح النووي -رحمه الله تعالى- منتقداً الإمام مسلم حينما اقتصر على الصلاة، أطلق الكراهة، ومسلم اقتصر على الصلاة دون السلام، ولعله ذهل عن ذلك، ابن حجر -رحمه الله تعالى- خص الكراهة بمن كان ديدنه ذلك، يعني باستمرار طول عمره يصلي ولا يسلم أو يسلم ولا يصلي، هذا يكره في حقه، أما من كان يجمع بينهما تارة، ويفرد الصلاة تارة، ويفرد السلام تارة هذا لا تتناوله كراهة، ووقع إفراد الصلاة دون السلام في كلام كثير من أهل العلم منهم الشافعي منهم مسلم، وهو أبو إسحاق الشيرازي والنووي نفسه في بعض مصنفاته أفرد الصلاة دون السلام، وجمع -رحمه الله تعالى- بين الآل والصحب على آله وصحبه لما للجميع من فضل وحق على من أتى بعدهم، اعترافاً بفضل الآل، وامتثالاً لوصية النبي -عليه الصلاة والسلام- بهم، واعترافاً بفضل الأصحاب الذين بواسطتهم بلغنا هذا الدين، ولم يفرد الآل دون الصحب، ولا الصحب دون الآل مخالفة لأهل البدع؛ لأن الاقتصار على الآل صار شعاراً لبعض المبتدعة كالروافض، والاقتصار على الصحب دون الآل صار شعاراً لقوم آخرين كالنواصب، ولذا يحرص أهل العلم على الجمع بين الأهل والصحب، هذا إذا أرادوا أن يعطفوا على النبي -عليه الصلاة والسلام- غيره، أما إذا اقتصروا عليه كما هو الشأن في كتب السنة كلها دون استثناء فيقتصرون على قولهم: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إن أتوا بالآل جاءوا بالصحب لئلا نشبه المبتدعة.
بعض العلماء مثل الصنعاني وصديق حسن خان قالوا: إن أهل العلم إنما تركوا الصلاة على الآل واقتصروا على الصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- مداهنة ومجاراة للحكام الذين ينصبون العداء للآل، لكن هل يظن أن يتواطأ أهل العلم قاطبة على المدارة والمداهنة مع ارتفاع سببها؟ يعني إذا حصلت المدارة لبني أمية ودولتهم قد انتهت سنة مائة واثنين وثلاثين قبل تدوين أي كتاب من كتب السنة المعروفة، جاء بعدهم بنو العباس وهم من الآل كيف نقول: إن هذه مداهنة ومدارة للحكام؟ كيف نتهم الأئمة مالك والشافعي وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي وأهل العلم قاطبة بمدارة الحكام؟ وأنهم حذفوا الصلاة على الآل خشية منهم؟ هم اقتصروا في الصلاة والسلام على النبي -عليه الصلاة والسلام- امتثالاً للآية، أما إذا جاءوا بالآل فليأتوا بالأصحاب أيضاً لئلا يشبهوا بعض الطوائف المبتدعة الذين يقتصرون على الآل، ولا يقتصرون على الصحب لئلا يشبهوا قوماً آخرين.
"أما بعد" أما حرف شرط، وبعد قائم مقام الشرط مبني على الضم لقطعه عن الإضافة مع نية المضاف إليه؛ لأن هذه الظروف قبل وبعد والجهات الست إذا قطعت عن الإضافة مع نية المضاف إليه تبنى على الضم، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [(4) سورة الروم].
أما بعد: لكن إن أضيفت أعربت، {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ} [(137) سورة آل عمران]، وإن قطعت عن الإضافة مع عدم نية المضاف إليه أعربت مع التنوين.
فساغ لي الشراب وكنت قبلاً
|
|
أكاد أغص بالماء الفراتِ |
المقصود أن لها حالات ثلاث، والذي عندنا مبني على الضم للقطع عن الإضافة مع نية المضاف إليه، والإتيان بها سنة كما هو معروف حفلت بها النصوص، روي عن أكثر من ثلاثين صحابي عنه -عليه الصلاة والسلام- في أحاديث أنه قال: ((أما بعد)) في خطبه ورسائله، ولم يحفظ عنه في حديث واحد أنه قال: "وبعد"، كما جرى على ألسنة الناس اليوم، ولم يقل: "ثم أما بعد" كما يقوله كثير من الناس اليوم، بل السنة إنما تتأدى بهذا اللفظ: (أما بعد) فلا نحتاج إلى ثم، ولا نبدل أما بالواو.
الخلاف في أول من قال: (أما بعد) موجود بين أهل العلم، ذكر فيه ثمانية أقوال، يجمعها قول الناظم:
جرى الخلف (أما بعد) من كان بادئاً |
|
بها عد أقوالاً وداود أقربُ
|
ثمانية، أقرب هذه الأقوال أنه داود -عليه السلام-، حتى قال بعض أهل العلم: إنها فصل الخطاب الذي أتيه.
"فإن التصانيف" جواب الشرط، التصانيف: جمع تصنيف، وأصل التصنيف: تمييز بعض الأشياء عن بعض، ومنه أخذ تصنيف الكتب؛ لأن المؤلف يجمع بين الأنواع، أنواع الكلام ويجعلها صنفاً صنفاً.
"في اصطلاح أهل الحديث قد كثرت" من قبل علماء هذا الشأن قديماً وحديثاً، وذكرنا الخلاف في أول من صنف فيه فلا نحتاج إلى إعادته.
"كثرت وبسطت" بسطت يعني وسع القول فيها ليتوفر علمها، "واختصرت" أديت بألفاظ وجيزة، ومعانٍ كثيرة ليتيسر حفظها.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: "فسألني بعض الإخوان أن ألخص لهم المهم من ذلك، فأجبته إلى سؤاله رجاء الاندراج في تلك المسالك"، تأليف هذا الكتاب المبارك النافع الماتع المختصر إجابة لسؤال من سأل الحافظ -رحمة الله عليه-، فلخص ما نثر في كتب علوم الحديث فأجابهم إلى سؤالهم، يقول: "رجاء الاندراج في تلك المسالك" مسالك المؤلفين الذين نفع الله بتصانيفهم، ولا شك أن التأليف والتعليم من العلم الذي ينتفع به، ويبقى أجره لصاحبه بعده، ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) فالعلم الذي ينتفع به لا شك أنه إما بتأليف أو بتناقل الطلاب عنه، والتأليف أثبت، فكل من استفاد من هذا الكتاب ثبت له أجره إلى يوم القيامة، "رجاء الاندراج في تلك المسالك".
وهل ألفه الحافظ في حال السفر أو في حال الإقامة، الصنعاني ذكر في نظم النخبة قال:
ألفها الحافظ في حال السفر |
|
وهو الشهاب بن علي بن حجر |
وتبع في ذلك ابن الوزير اليماني الذي قرر أن الحافظ ألفها في سفره إلى مكة، وبعضهم ينتقد هذا الكلام، على كل حال سواءً ألفها في حال السفر أو في حال الإقامة المقصود أن الكتاب نافع، متن متين مختصر يتيسر حفظه لمبتدئي الطلبة، ويعتمدون عليه في أول الأمر، ثم بعد ذلكم يقرءون ما هو أوسع منه كاختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير، وهو كتاب نافع يصلح للمتوسطين من طلاب العلم، ثم بعد ذلكم يختم بألفية العراقي مع شروحها، من حفظ الألفية بعد أن نظر في النخبة وفهمها وحفظها، ثم اختصار علوم الحديث وحفظ الألفية يكون أدرك في هذا الشأن، ولم يبقَ عليه إلا التطبيق.
وقلنا في الدرس السابق: إنه بعد إتقان هذه القواعد النظرية عليه أن يبدأ بالعمل فيخرج الأحاديث، ويجمع الطرق والمتابعات الشواهد، ويدرس رجالها وأسانيدها ويتمرن عليها بالحكم على الأحاديث، وبهذه الطريقة يتأهل ليكون من أهل الحديث، والله المستعان، نعم.
تقسيم الأخبار:
"الخبر: إما أن يكون له طرق بلا عدد معين، أو مع حصر بما فوق الاثنين، أو بهما، أو بواحد.
فالأول: المتواتر المفيد للعلم اليقيني بشروطه، والثاني: المشهور، وهو المستفيض على رأي، والثالث: العزيز، وليس شرطاً للصحيح خلافاً لمن زعمه، والرابع: الغريب، وكلها -سوى الأول- آحاد".
نعم سلك الحافظ -رحمه الله تعالى- كما ذكرنا في ترتيب النخبة مسلك اللف والنشر المرتب، وعرفنا معنى اللف والنشر عرفه علماء البيان بأنه: عبارة عن ذكر شيئين على جهة الاجتماع ثم يوفى بما يليق بكل واحد منهما، يعني أولاً في الإجمال والثاني تفصيل، وهو في الحقيقة جمع ثم تفريق، واشتقاقهما من لف الثوب ونشره أي جمعه وفرقه، وعرفنا أنه ينقسم إلى مرتب ومشوش، وعرفنا أنه شبيه بما يسمى في علم الأصول بالسبر والتقسيم.
تعريف الخبر:
الخبر في اللغة: ما ينقل ويتحدث به، عند علماء البلاغة: ما يحتمل الصدق والكذب لذاته، وعند علماء الحديث الخبر: مرادف للحديث، وقيل الحديث: ما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، والخبر ما جاء عن غيره، ومن ثم قيل لمن يشتغل بالتواريخ وما شابهها وشاكلها من أخبار الناس: أخباري، ولمن يشتغل بالسنة النبوية: محدث.
قال الحافظ: "قيل بينهما عموم وخصوص مطلق"، إذا قلنا بالقول الأول بينهما تباين، المحدث شيء والأخباري شيء آخر، وإذا قلنا: بينهما عموم وخصوص مطلق كل حديث خبر وليس كل خبر حديثاً، هذا إذا قلنا: بأنه بينهما عموم وخصوص مطلق، كل حديث خبر، فيكون الخاص هو الحديث والخبر هو العام، فالخبر يشمل الحديث وغيره، والحديث خاص بما أضيف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإن كان الحديث في أصله يعم كل ما يتحدث به، سواءً أضيف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- أو إلى غيره.
لكن في الحقيقة العرفية لهذه الكلمة خصت الحديث بما أضيف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-.
"إما أن يكون له طرق" الطرق: جمع طريق والمراد بالطريق الإسناد، والإسناد كما عرفه الحافظ: بأنه حكاية طريق المتن، والإسناد والسند قال المناوي: لا يشك أحد أنهما مترادفان، إسناد الحديث وسند الحديث واحد؛ لأنه يطلق الإسناد والمصدر على السند وهو الرجال الرواة، وإن كان الإسناد في الأصل المصدر الإسناد رفع الحديث إلى قائله.
الحافظ عرف الإسناد بأنه: حكاية طريق المتن كما عرف السند بقوله: الطريق الموصلة إلى المتن، الطريق الموصل إلى المتن، ولو قال قائل: إن الإسناد والسند، سند الحديث وإسناده بمعنى واحد وهو عبارة عن الرجال الذين يذكرهم المحدث مبتدئاً بشيخه منتهياً بالنبي -عليه الصلاة والسلام- لكان أوضح ولا إشكال فيه -إن شاء الله تعالى-.
"بلا عدد معين" "على الصحيح، بل تكون العادة قد أحالت تواطئهم على الكذب، وكذا وقوعه منهم اتفاقاً من غير قصد"، هذا الخبر إذا نقله عدد –جمع- من غير حصر، عدد غير محصور، وهذا العدد تحيل العادة توطئهم على الكذب لئلا يتفقوا عليه؛ لأنه لا يمتنع أن يجتمع مائة فيتواطئون على نقل خبر ليس بصحيح، نعم، لا يمتنع أن يجتمع مائة شخص أو أكثر فينقلون خبر أصله مكذوب؛ لأنهم اجتمعوا في مكان واحد وبلغهم أو سمعوا هذا الخبر من معلم أو من خطيب أو ما أشبه ذلك، ثم هؤلاء لا يحصل بهم التواتر؛ لأنه يحتمل أنهم تواطئوا على نقل هذا الخبر المكذوب، أو يجتمع فئام من الناس، أهل بلد يكون في أنفسهم شيء على أميرهم أو على قاضيهم ثم يذهبون لرفع أمره إلى الإمام الأعظم، فلا يمتنع أن هؤلاء وإن كثر عددهم أن يختلقوا شيئاً وتهماً يتهمونه بها ليكون مبرراً لعزله، كما اجتمع بنو أسد على سعد بن أبي وقاص وقالوا لعمر: إنه لا يحسن أن يصلي، لا يمتنع أن يتواطئوا على مثل هذا الخبر تحقيقاً لما يريدون، لكن لو جاء شخص من المشرق وآخر من المغرب وثالث من الجنوب، ورابع من الشمال، وآخر من بلد كذا وكذا، جاء من عشرين بلد عشرين شخص أو ثلاثين شخص أو مائة شخص وأخبروا بأن هذا الخبر كذا نعم هؤلاء لا يمكن أن يتواطئوا على الكذب، ما اتفقوا ولا زوروا في أنفسهم كلاماً يتفقون عليه، مع أنه لا يمتنع أن يتلبس الشيطان لجمع وإن كانوا في بلدان متباينة، ويلبس عليهم ويلقي في روعهم كذلك، يأتي إليه في المنام ويقول: إن كذا كذا، ولذا لا بد أن يكون مستند الخبر إلى شيء محسوس على ما سيأتي شرحه.
"بل تكون العادة قد أحالت تواطئهم على الكذب، وكذا وقوعه منهم اتفاقاً من غير قصد، ومنهم من عين العدد المطلوب للتواتر في الأربعة، وقيل: في الخمسة، وقيل: في السبعة، وقيل: في العشرة، وقيل: في الأربعين، وقيل: في السبعين، وقيل: غير ذلك، ولا دليل على واحد منها.
تمسك كل قائل بدليل جاء فيه ذكر ذلك العدد فأفاد العلم وليس بلازم أن يطرد في غيره لاحتمال الاختصاص"، ثم يعود إلى الكلام عن الخبر المتوتر بعد أن يتمم اللف، فيقول: "أو مع حصر بما فوق الاثنين" وسيأتي الكلام على المراد به وهو المشهور، "أو بهما" وهو العزيز، وسيأتي الحديث عنه، "أو بواحد" وهو الغريب وسنتحدث عنه -إن شاء الله تعالى-.
المتواتر:
ثم أخذ ينشر ما لفه سابقاً: "فالأول: المتواتر" وتعريف المتواتر مشتق من التواتر وهو التتابع يقال: تواترت الإبل والقطا إذا جاءت في إثر بعض ولم تجئ دفعة واحد.
اصطلاحاً: عرفه ابن الصلاح وتبعه النووي في التقريب: بأنه الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه، ضرورة عن مثلهم من أوله إلى آخره، وعرفه النووي في شرح مسلم بأنه ما نقله عدد لا يمكن مواطأتهم على الكذب عن مثلهم ويستوي طرفاه والوسط، ويخبرون عن حسي لا مظنون، نقله عدد لا يمكن مواطأتهم على الكذب عن مثلهم ويستوي طرفاه والوسط ويخبرون عن حسي لا مظنون، وقريب منه تعريف الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها، شروط المتواتر تؤخذ من العريف: وهو أن يخبر به عدد كثير يحصل العلم الضروري بصدق خبرهم من غير حصر على الصحيح، أن يخبروا عن علم لا عن ظن، يخبروا عن علم لا عن ظن، فلو أخبر أهل بلد عظيم عن طائر مر ببلدهم وقالوا: نظنه حمامة، أو عن شخص مر ببلادهم وهو في طريقه إلى بلد آخر وقالوا: نظن أن هذا زيد، هذا لا يحصل العلم بكلامهم، بل لا بد أن يخبروا عن علم متيقن لا عن ظن.
أن يكون مستند الخبر الحس، فلو أخبروا عن شيء معقول فإنه لا يحصل العلم به، الفلاسفة عدد لا يمكن حصرهم، وتواطئوا على القول بقدم العالم لكن قولهم لا يحصل به التواتر لماذا؟ لأن مستند قولهم العقل، وليس مستنده الحس، الحس المقصود به: ما يدرك بالحواس، ما يدرك بالحواس، يعني لو اجتمع عدد كبير جاءك عشرين ثلاثين أربعين شخص وقالوا: إن ما في هذه البئر ماء مر ملح، أجاج، يحتاج أن تنزل وتشرب، هؤلاء عدد كبير تحيل العادة تواطئهم على الكذب، يعني ما جاءوك دفعة واحدة وأنت في مكان ثاني وأخبروك أن في الطريق ماء هذه صفتها، هؤلاء مستندهم الحس، ذاقوه، كذا لو سمعوا، كل واحد منهم سمع بأذنه أو رأى بعنيه.
أن يكون خبرهم مستنداً إلى الحس إذ لو أخبروا عن معقول لم يحصل لنا العلم فلا بد أن يستند ناقلوه إلى الحواس كالسمع والبصر لا لمجرد إدراك العقل، أن توجد هذه الشروط في جميع طبقات السند؛ لأن كل عصر يستقل بنفسه، وعرفنا أنه لا مانع من تقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد هذا في الدرس الماضي، وأنه لا محظور في ذلك، ولا نلتزم بلوازم المبتدعة الذين بنوا على هذا التقسيم أن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، والظن لا تثبت به العقائد، إذ تنفى جميع العقائد التي جاءت بأخبار الآحاد، نقول: لا، نقسم الأخبار إلى متواتر وآحاد، ومنها ما يفيد العلم ومنها ما يفيد الظن، وكلها موجبة للعمل إذا صحت أسانيدها، وإذا عملنا بحديث في الأحكام فلنعمل به في العقائد وفي الفضائل وفي غيره؛ لأن الكل شرع، والتفريق بين العقائد والأحكام كما قرر شيخ الإسلام ابن تيمية لا أصله له، على أن هذا التقسيم وهو تقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد اعتمده شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وهو من أشد الناس على المبتدعة، وهذه مسألة عرضناها في الدرس السابق، والله المستعان.
أقسام المتواتر:
المشهور والمعروف عند أهل العلم أن المتواتر ينقسم إلى قسمين: متواتر لفظي ومتواتر معنوي، أو تواتر لفظي وتواتر معنوي، ومثلوا للمتواتر اللفظي وما تواتر لفظه ومعناه بحديث: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) التواتر المعنوي ما تواتر معناه دون لفظه تأتي وقائع كثيرة تدل على شيء واحد لكنها بألفاظ وصيغ مختلفة.
هذا هو التواتر المعنوي وإن اختلفت الألفاظ، ومثلوا لذلك بأحاديث رفع اليدين بالدعاء والحوض والرؤية وغيرها، ومثل له شيخ الإسلام -كما ذكرنا سابقاً- بأحاديث فضائل أبي بكر وعمر هي متواتر تواتراً معنوياً، هذا المعروف من التقسيم عند أهل العلم للمتواتر، محمد أنور الكشميري له كتاب شرح للبخاري اسمه: (فيض الباري) مطبوع في أربعة مجلدات وهو كتاب فيه فوائد، فيه فوائد ولطائف ونكات، (فيض الباري) محمد أنور الكشميري، وفي طبعته الأولى وزع كمية كبيرة جداً منه على نفقة الملك عبد العزيز، لكن هذا الكتاب فيه مسألة خفيت على من أشار على الملك بتوزيعه، وهي أنه رمى الشيخ محمد بن عبد الوهاب بشيء من الغفلة، وعلى كل حال الكتاب مفيد، على ما فيه لكنه مفيد، هذا الكتاب أو هذا المؤلف الذي صنف هذا الكتاب قسم المتواتر إلى أربعة أقسام: فذكر التواتر اللفظي وسماه: تواتر الإسناد، ذكر التواتر المعنوي وسماه: تواتر القدر المشترك، ذكر قسماً ثالثاً من أقسام المتواتر، وقال عنه: إنه تواتر الطبقة، تواتر الطبقة، وقال: كتواتر القرآن الكريم، فقد تواتر على البسيطة شرقاً وغرباً درساً وتلاوة وحفظاً، قراءة وتلقاه الكافة عن الكافة، طبقة عن طبقة إلى حضرت صاحب الرسالة، تواتر الطبقة، وهناك قسم رابع ذكره صاحب فيض الباري وأسماه: تواتر العمل والتوارث، تواتر العمل والتوارث، وهو أن يعمل به في كل قرن من عهد صاحب الشريعة إلى يومنا هذا جم غفير من العاملين، بحيث تحيل العادة تواطئهم على الكذب كأعداد الصلوات الخمس.
يعني لو بحثت في كتب السنة من النصوص التي تدل على أن صلاة الظهر أربع، هل يمكن أن تروي مثل هذا عن جمع غفير؟ ألفاظ الأذان مثلاً، جمل الأذان، لكن العمل والتوارث على هذا من عصر صاحب الرسالة إلى يومنا هذا يعمل به الجمع الغفير، ولذا لو قال شخص: صلاة المغرب أربع أو صلاة العشاء خمس نعم، ويمكن أن يقول: إن الحديث صحيح بأعداد الصلوات، لكن هل هو قطعي؟ هل هو متواتر ينطبق عليه تعريف المتواتر من حيث الإسناد؟ نقول: هو متواتر من حيث العمل والتوارث، العمل والتوارث، الأمة تعمل بهذا من عصر صاحب الشريعة على يومنا هذا، ولا بد لهذا التواتر أن يكون له أصل، وأن يعمل به جمع من الطبقة الأولى من الصحابة فمن بعدهم، ولا يعني هذا أنه يأتينا عمل منقطع ما عمل به القرون المفضلة ثم يأتي في القرن الرابع وما بعده من يعمل به من ألوف المسلمين، يقول: هذا تواتر العمل والتوارث؟ نقول: لا، نقول: هذا مبتدع لو كان خيراً لسبقونا إليه، لعمل به الصحابة والتابعون في القرون المفضلة، وليس في مثل هذا الكلام حجة لمن يثبت تواتر عمل المولد أو ما أشبهه لا، أو غيره من البدع.
وجود المتواتر:
هل المتواتر بالفعل موجود أو غير موجود؟ زعم ابن حبان والحازمي أن الحديث المتواتر غير موجود أصلاً، غير موجود أصلاً، أولاً: المتواتر لا يبحثه أهل علوم الحديث لماذا؟ لأنه ليس من صناعتهم، صناعتهم الإثبات والنفي، القبول والرد البحث في الأسانيد والمتون، الخبر المتواتر لا يحتاج إلى بحث، هو ملزم من غير أن تبحث فيه، يعني لو جاءك شخص وقال: هناك بلد اسمها: بغداد، تقول: عن من؟ من الذي أخبرك بهذا؟ هل هو ثقة أو ليس بثقة؟ تحتاج أن تقول هذا؟ ما تحتاج، ما تحتاج، هل تحتاج إلى أن تبحث في معجم البلدان لتنظر هل كلامه صحيح أو ليس بصحيح؟ الخبر المتواتر يفيد العلم الضروري على ما سيأتي ويلزم صاحبه بقبوله، ما يحتاج إلى نظر ولا استدلال.
كون ابن حبان والحازمي زعما أن الحديث المتواتر غير موجود مع أن أهل العلم يمثلون له بحديث: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) هو موجود، زعم ابن الصلاح والنووي أنه قليل نادر، قليل نادر، لكن ابن حجر -رحمه الله تعالى- في شرح النخبة رد هذين القولين، وقال: "ما ادعاه -يعني ابن الصلاح- من العزة -يعني من القلة والندرة- ممنوع، وكذا ما ادعاه غيره من العدم؛ لأن ذلك نشأ عن قلة اطلاع على الطرق الكثيرة للأحاديث وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطئوا على كذب أو يحصل منهم اتفاقاً".
قال: "ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجوداً -وجود كثرة- في الأحاديث أن الكتب المشهورة المتداولة في أيدي أهل العلم شرقاً وغرباً المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها إذا اجتمعت على إخراج الحديث، وتعددت طرقه تعدداً تحيل العادة تواطئهم على الكذب إلى آخر الشروط أفاد العلم اليقيني إلى قائله، ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير".
يقول: كون البخاري يخرج حديث من طرق، ومسلم يخرجه من طرق أخرى، وأبو داود يخرجه من طرق غير هذه الطرق، والترمذي كذلك، وأحمد والطيالسي والطبراني، وأبو يعلى وغيرهم من أهل العلم يخرجون هذا الحديث بطرق متباينة، يقول: يدل على أن هذا الخبر متواتر.
على كل حال الخبر المتواتر موجود وإن زعم ابن حبان والحازمي أنه غير موجود أصلاً، اللهم إلا إن كانوا يريدون أنه لا يدخل في علوم الحديث؛ لأنه ليس من صناعة المحدثين، ليس من صناعة المحدثين لا يعتنون بمثله؛ لأنهم إنما يبحثون في الأخبار من أجل إثباتها أو نفيها، والمتواتر لا يحتاج إلى بحث هو فارض نفسه كما يقولون، ما يحتاج، هناك من الأخبار ما يلزمك بتصديقه على ما سيأتي فيما يفيده خبر المتواتر وخبر الواحد إذا احتفت به قرينة.
حكم الخبر المتواتر وماذا يفيد؟:
الخبر المتواتر يجب تصديقه ضرورة، لماذا؟ لأنه مفيد للعلم القطعي الضروري، فلا حاجة إلى البحث عن أحوال رواته، يقول الحافظ ابن حجر: "المعتمد أن الخبر المتواتر يفيد العلم الضروري وهو الذي يضطر إليه الإنسان بحيث لا يمكن دفعه، وقيل: لا يفيد العلم إلا نظرياً وليس بشيء؛ لأن العلم حاصل به لمن ليس لديه أهلية النظر كالعامي، والنظري يفيد العلم لكن بعد النظر والاستدلال".
في إفادة المتواتر العلم هذا أمر لا إشكال فيه، الخبر المتواتر يفيد العلم بمعنى أنه يكون مقطوعاً به، ويحلف عليه، يحلف عليه، وأنه لا يحتمل النقيض، بمعنى أنه صحيح مائة بالمائة، لكن هل يفيد العلم الضروري أو يفيد العلم النظري؟ العلم سواءً كان ضرورياً أو نظرياً لا يحتمل النقيض وهو مائة بالمائة، لكن العلم الضروري لا يحتاج إلى نظر واستدلال، إذا قيل لك: مكة، خلاص ما يحتاج أن تبحث من أخبرك عن وجود هذا البلد، ولا تبحث في معجم البلدان هل هناك بلد اسمه مكة أو لا؟ مثله البلدان الكبرى مثل: بغداد ودمشق وغيرهما، هذا لا يحتاج إلى نظر واستدلال، إذا قيل لك: كم نصف الاثنين؟ تقول: واحد، النتيجة صحيحة مائة بالمائة، لا تحتاج إلى نظر واستدلال.
علم ضروري، وهناك علم نظري نتيجة مائة بالمائة كالضروري، لكنه يحتاج إلى مقدمات ونظر واستدلال، إذا قيل لك: مررنا ببلد اسمها: قهب الطير، تصدق وإلا ما تصدق؟ نعم، الشخص الذي مر بهذه المدينة علمه مائة بالمائة نعم أنت تحتاج إلى مقدمات ونظر واستدلال حتى تثبت عندك هذه البلدة، فإذا ثبتت عندك صار علماً يفيد مائة بالمائة، تحتاج إلى أن تنظر في معجم البلدان أو تسأل أكثر من واحد أو تذهب بنفسك لكي ترى هذه البلدة، فإذا رأيتها وانتهيت إلى المحسوس، انتهيت إلى الحس يعني شاهدتها بنفسك خلاص، صار العلم ضروري بالنسبة لك، نظري بالنسبة لمن تخبره، هي موجودة خبرك صحيح مائة بالمائة، وهو علم لكنه يحتاج إلى مقدمات ونظر واستدلال.
إذا قيل لك: كم زكاة ثلاثة عشر ألف وسبعمائة وواحد وستين، إذا قيل لك: كم زكاة الأربعين؟ قلت: ريال، يحتاج إلى نظر واستدلال؟ ما يحتاج، ربع العشر، ما يحتاج نعم، زكاة الأربعين ريال واحد، ليس نصاب للزكاة لكن أربعين دينار زكاتها دينار، تحتاج إلى نظر واستدلال؟ الزكاة ربع العشر، لكن إذا قيل: كم زكاة اثني عشر أو سبعة عشر -خليها صعب شوية- سبعة عشر ألف وستمائة وواحد وسبعين، تحتاج إلى نظر واستدلال وآلة وقسمة، ثم بعد ذلك النتيجة واحدة هنا وهناك، مائة بالمائة تطلع صحيحة، لكن فرق بين علم وعلم، علم يضطرك بمجرد سماعه تصدقه، لا يحتاج إلى نظر واستدلال، هذا علم ضروري، علم يحتاج إلى مقدمات ونظر واستدلال هذا علم لكنه نظري، والنتيجة واحدة كلها مائة بالمائة، مائة بالمائة ولذا يقال: علم، إيش معنى علم؟ علم يعني لا يحتمل النقيض، إن قصر هذا العلم، ونزلت النسبة ولو واحد بالمائة حيث صار تسعة وتسعين صار إيش؟ إيش يصير؟ ظن، النظري علم مائة بالمائة، لكنه يحتاج إلى مقدمات ونظر واستدلال، إن نزلت النسبة ولو واحد تسعة وتسعين بالمائة ثمانية وتسعين تسعين بالمائة هذا ظن؛ لأنه الاحتمال الراجح يحتمل النقيض، جاءك شخص من أوثق الناس عندك وقال: جاء زيد ألا يحتمل أن يخطئ هذا الرجل وإن كان أوثق الناس؟ هذا الاحتمال وإن كان ضعيفاً ينزل النسبة، يعني مالك نجم السنن إذا روى حديث هل نجزم أن مالكاً معصوم من أن يخطئ؟
لكن نسبة الخطأ ضعيفة، هذا هو السبب الذي أنزل خبر مالك من كونه علم إلى كونه ظن، افترض أن نسبة ضبط مالك تسعة وتسعين بالمائة فليس بمعصوم لنقول: مائة بالمائة ما يخطئ أبداً، لا، إذا احتفت قرينة بخبر مالك قابلت نسبة احتمال الخطأ فصار أفاد العلم على ما سيأتي تقريره فيما يفيده خبر الواحد.
خالف في إفادة المتواتر العلم فرقة لا عبرة بها ولا يعتد بقولها من عبدة الأصنام يقال لهم: السمنية، السمنية طائفة في الهند، حصروا العلم في الحواس، لو يجي أهل الهند كلهم يحملون خبراً واحداً ما يصدقون حتى يشوفون، يقولون: لا بد نراه أو ندركه بأحد الحواس، لا يعتمدون على الأخبار البتة، لكن هؤلاء إنما يذكر قولهم للعلم به، وإذا ذكر الشيء للعلم به أو لرده لا يعني أن من كتب في علوم الحديث يعتمدون على أقوال الكفار، كما قيل: أنهم يعتمدون على أقوال المتكلمين، يعني هل يضيرنا أن نذكر مثل هذا الكلام؟ للعلم به وللرد عليه وتفنيده، والله المستعان، هذا مذهب باطل كما عرفنا.
وقد نبه الله -سبحانه وتعالى- في مواضع من كتابه على إفادة التواتر العلم اليقيني، القرآن فيه مواضع كثيرة تدل على أن المتواتر يفيد العلم اليقيني بمنزلة المشاهد بالعين، النبي -عليه الصلاة والسلام- أدرك قصة أصحاب الفيل؟ نعم، أدرك قصة عاد؟ لا، جاء قوله تعالى مما يجعل الخبر المتواتر يفيد العلم اليقيني بمنزلة الرؤية البصرية خاطب النبي..، خاطب الله -سبحانه وتعالى- رسوله -عليه الصلاة والسلام- والمؤمنين بأمثال قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [(1) سورة الفيل]، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [(1) سورة الفيل]، مثل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [(6) سورة الفجر]، {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} [(6) سورة الأنعام]، هذه الأخبار بلغت النبي -عليه الصلاة والسلام- بطريق قطعي، فصار كأنه مشاهد بالرؤية البصرية، ولذا جاء التعبير بمثل قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [(6) سورة الفجر]، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [(1) سورة الفيل]، {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} [(6) سورة الأنعام]، هذه الوقائع كانت معلومة عندهم بالتواتر، فعبر عن علمها برؤيتها، وفيه إشارة إلى أنه جعل العلم الحاصل من المتواتر بمنزلة المشاهد في القطعيات.
الكتب المؤلفة في الحديث المتواتر:
المتواتر ألفت فيه الكتب كـ(الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة) للسيوطي، و(قطف الأزهار) له، وهو مختصر من الذي قبله، و(نظم المتناثر من الحديث المتواتر) للكتاني، بقي عندنا إشكال وهو إشكال إشكال يحتاج إلى انتباه شديد، يحتاج إلى انتباه شديد.
عرفنا أن خبر المتواتر لا بد أن يروى من طرق، أن يرويه عدد يحصل العلم بخبرهم من غير حصر، متى نعرف أن العدد اكتمل؟ عدد التواتر اكتمل؟ متى نعرف؟ إذا حصل لنا العلم إذا اقتنعنا واطمأننا إلى صحة هذا الخبر عرفنا أن العدد اكتمل، ومتى يحصل لنا العلم؟ متى؟ إذا اكتمل العدد، ما عرفنا أن المتواتر ما ينقله جمع من غير حصر تحيل العادة تواطئهم على الكذب إلى آخر الشروط، إذا قلنا: من غير حصر فمتى ينتهي العدد؟ إذا حصل لنا العلم، صح وإلا لا؟ إذا حصل لنا علم عرفنا أن العدد المطلوب للتواتر كمل، لكن متى يحصل لنا العلم؟ العلم لا يحصل لنا إلا باكتمال العدد، فهذا يلزم عليه -كما يقول أهل العلم- الدور، يلزم عليه الدور، يلزم عليه الدور، الدور ترتيب شيء على شيء مرتب عليه، الدور ترتيب شيء على شيء مرتب عليه، لو سمعنا قول الشاعر:
لو لا مشيبي ما جفا |
|
لولا جفاه لم أشب |
هذا دور، أيهما السبب؟ سبب المشيب الجفا أو سبب الجفا الشيب؟ هذا دور، كل واحد مرتب على الثاني وهو مرتب عليه، وهذا خلاف التسلسل، التسلسل مرتب على شيء والشيء مرتب على ثاني، والثاني مرتب على ثالث إلى ما لا نهاية هذا تسلسل وهو غير الدور، الدور ترتيب شيء مرتب عليه.
أقول: عرفنا في شروط المتواتر أنه لا بد أن يخبر به عدد يحصل به العلم من غير حصر، فهل معنى هذا أننا لا نعرف اكتمال العدد حتى يحصل العلم؟ ولا يحصل العلم إلا إذا اكتمل العدد فيلزم عليه الدور؟ يقول ابن الأثير في جامع الأصول والغزالي في المستصفى: عدد المخبرين ينقسم إلى ناقص فلا يفيد العلم، وإلى كامل فيفيد العلم، وإلى زائد يحصل العلم ببعضه، والكامل وهو أقل عدد يورث العلم ليس معلوماً لنا، لكننا بحصول العلم الضروري نتبين كمال العدد لا أننا بكمال العدد نستدل على حصول العلم، بحصول العلم الضروري نتبين كمال العدد لا أننا بكمال العدد نستدل على حصول العلم.
فجعل حصول العلم يكمل به العدد، يعني لو قلت: أنا عطشان، أعطاك واحد مثل هذه، نعم، ثم زادك ثانية، أنت بتشرب وتمشي ما أنت بجالس، نعم، أو جاء لك بإناء كبير قال: إلا تشرب هذا الإناء، تقول: لا يا أخي هات لي إناء صغير مثل هذا يكفي، يقول: أنت ويش يدريك أنه يكفيك، أنت ما بعد شربت على شان تدري أنه يكفيك وإلا لا؟ تنظير واضح وإلا ما هو بواضح؟ يعني أنت متى تعرف المقدار الذي يكفيك؟ إذا شربت، نعم، إذا شربت عرفت أن المقدار يكفيك، ومتى تعرف أن هذا الإناء يرويك؟ بالقاعدة المطردة يعني جرت عادتك أنك تشرب نصف لتر، هل نقول: إنه ويش يدريك أنه يرويك نصف اللتر؟ نعم، العادة، العادة مطردة،
هنا في (لوامع الأنوار البهية) للسفاريني يقول: "اعلم أن خبر التواتر لا يولد العلم"، اعلم أن خبر التواتر..، وهذا ينبغي الاهتمام له والعناية به، يقول: "اعلم أن خبر التواتر لا يولد العلم، بل يقع العلم عنده بفعل الله تعالى عند الفقهاء وغيرهم من أهل الحق"، هذا الكلام سليم وإلا لا؟ ها؟ خبر التواتر لا يولد العلم، بل يقع العلم عنده بفعل الله تعالى عند الفقهاء وغيرهم من أهل الحق، هذا كلام الأشاعرة، هذا كلام الأشاعرة، المبني على إلغاء الأسباب وعدم الالتفات إليها، هم يقولون: الري يحصل عند الشرب لا به، والشبع يحصل عند الأكل لا به، عنده لا به، الإبصار يحصل عند البصر لا به، ولذا يجوزون بل يصرحون بالحرف يقولون: إنه يجوز أن يرى أعمى الصين البقة في الأندلس، الأعمى وهو في الصين في أقصى المشرق يجوز أن يرى البقة -صغار البعوضة- وهي في الأندلس، أي عقل يقول مثل هذا الكلام؟ لكنهم أصحاب عقول، هذا طرد لمذهبهم أن الأسباب لا قيمة لها، الأسباب لا قيمة لها، الله -سبحانه وتعالى- يوجد الإبصار عند وجود البصر، وليس البصر سبباً للرؤية، الله -سبحانه وتعالى- يوجد الري عند الشرب لا به، هذا مذهب الأشاعرة، فهم يلغون الأسباب تماماً وجودها مثل عدمها عندهم.
وهذا يقابله رأي المعتزلة الذين يعتمدون على الأسباب، وأنها تستقل بالتأثير، ومذهب أهل السنة وسط، يقولون: إن الأسباب تنفع، لكنها لا بذاتها وإنما الذي ينفع هو المسبب وهو الله -سبحانه وتعالى- الذي جعل هذه الأسباب تنفع، على كل حال هذا الكلام جارٍ على قاعدة الأشاعرة في نفي تأثير الأسباب، "فعندهم أن الشبع يحصل عند الأكل لا به، والري يحصل عند الشرب لا به، ولذا يجوز عندهم أن يرى أعمى الصين بقة الأندلس"، فكلام السفاريني منتقد، ومعروف أنه محسوب على أهل السنة, وعقيدته تدرس عند أهل السنة، لكنه لم يتخلص من لوثة الأشعرية، ولذا يقرر في الشرح أن أهل السنة ثلاث طوائف: الأثرية وإمامهم أحمد بن حنبل، والأشعرية وإمامهم: أبو الحسن الأشعري، والماتريدية وإمامهم: أبو منصور، هذا القول مردود.
في مختصر التحرير وشرحه وهذا في أصول الفقه عند الحنابلة كتاب متن متين، ينبغي العناية به لطالب العلم مع شرحه، يقول: "ولا ينحصر التواتر في عدد عند أصحابنا والمحققين، ويعلم حصول العدد إذا حصل العلم ولا دور -ولا دور- إذ حصول العلم معلول الإخبار، ودليله كالشبع والري المشبع والمروي ودليلهما وإن لم يعلم ابتداء القدر الكافي منهما" وإن لم يعلم ابتداء القدر الكافي منهما.
يقول: نعم لو أمكن الوقوف على حقيقة اللحظة التي يحصل لنا العلم بالمخبر عنه فيها أمكن معرفة أقل عدد يحصل العلم بخبره، يعني جاء واحد وثاني وثالث وعاشر، نعم ثم جاء الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر إلى العشرين، قال: خلاص لا يجي أحد حصل لنا العلم، وعرفنا أن العلم حصل بعشرين، أنت ما تدري يمكن في خبر يحصل لك العلم بعشرة، وخبر لا يحصل لك العلم إلا بثلاثين، تبعاً لما يحتف به.
يقول: "نعم لو أمكن الوقوف على حقيقة اللحظة التي يحصل لنا العلم بالمخبر عنه لأمكن معرفة أقل عدد يحصل العلم بخبره، لكن ذلك متعثر إذ الظن يتزايد بتزايد المخبرين تزايداً خفياً تدريجياً كتزايد النبات"، كتزايد النبات، النخلة تزيد نعم، ما هي بتزيد تنمو وتكبر؟ تكبر، لكن من منا يبي يجلس يشوف نمو هذه النخلة ليراه بأم عينه وهي تنمو، هل أحد يصنع ذلك؟ تنمو شيئاً فشيئاً ببطء ثم بعد ذلك تتم.
يقول: "كتزايد النبات وعقل الصبي ونمو بدنه"، هل الإنسان يجلس ينتظر ولده يقول: لا با أجلس إلين يكبر أبا أشوفه ما شاء الله وهو..، ما هو بالونة أو نفاخ تبي تنفخه بيكبر، نعم يحصل شيئاً فشيئاً حتى يتم ويدرك، وحينئذ نقول: خلاص بلغ، هنا ميز وهنا كلف، وهنا..، من غير أن نتابعه.
"وعقل الصبي ونمو بدنه، ونور الصبح وحركة الفي كل هذا لا يدرك إنما هو بالتدريج" يعني لو تصور أن الساعة اثنا عشر من الليل طلعت الشمس في كبد السماء ما بالتدريج، إيش يصير وضع الناس؟ نعم، أو فجأة مع أذان الظهر صارت ظلام دامس، لكن الله -سبحانه وتعالى- لطيف بعباده، يأتي النور بالتدريج، وينتهي بالتدريج، ولا هي مثل اللمبة ظلام ثم اضغط تشتعل، لا، لكن كيف تتصورون فزع الناس لو كانت بهذه الطريقة اثنا عشر من الليل تطلع الشمس في كبد السماء، ما هو مثل طلوعها بعد الصبح، لا، يحصل الإسفار قبل طلوعها ثم تطلع ضعيفة وينتشر ضوؤها شيئاً فشيئاً إلى أن تكتمل، ومثله الظلام يأتي شيئاً فشيئاً كنمو الإنسان ونمو عقله وبدنه وبهذا تحصل هذه الأمور وتكمل من غير أن يشعر بها الإنسان، والله المستعان.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المحدث واحد من أهل الحديث، هو الواحد من أهل الحديث.
قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة لا تصح إلا بها في جميع الركعات، حديث عبادة: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) بأم القرآن، والمصلون منهم الإمام والمأموم والمنفرد والمسبوق، فأوجبها على هؤلاء كلهم الإمام والمنفرد والمأموم والمسبوق أوجبها جمع من أهل العلم منهم أبو هريرة -رضي الله عنه- والشوكاني من المتأخرين لعموم حديث: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) جمهور أهل العلم يخرجون المسبوق، وأنه لا تلزمه قراءة الفاتحة إذا جاء والإمام راكع يركع، لحديث أبي بكرة، وهذا مخصص لعموم حديث: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) ثم بعد ذلكم رأي الشافعية وأنها تجب على كل مصلٍ عدا المسبوق من إمام ومأموم ومنفرد، وهذا هو الذي يؤيده الحديث عموم الحديث، هناك من يقول: تجب على الإمام والمنفرد دون المأموم لحديث: ((قراءة الإمام قراءة لمن خلفه)) والحديث فيه كلام، ولحديث: ((إذا قرأ فأنصتوا)) {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ} [(204) سورة الأعراف] المقصود أن هناك أدلة لكن المتجه في هذه المسألة قول الشافعية وأنها تجب على كل مصلٍ عدا المسبوق، سواءً كانت الصلاة جهريةً أو سرية، شيخ الإسلام -رحمه الله- يفرق بين الجهرية والسرية كما هو معروف.
المسائل على اختلاف أنواعها يرجع فيها إلى أربابها وأصحابها، فمسائل الاعتقاد يرجع فيها إلى كتب العقيدة، مسائل الفقه يرجع فيها إلى كتب الفقه، المسائل الحديثية قواعد الحديث يرجع فيها إلى كتب أهل الفن، وكل فن..، المسائل الأصولية كذلك، المسائل النحوية يرجع فيها إلى كتب النحو، المفردات الغريبة، الكلمات اللغوية يرجع فيها إلى كتب اللغة وهكذا، هذا الأصل، فإذا أردت أن تبحث مسألة -حكم شرعي- ترجع إلى كتب الفقه، فإن أردت مذهب الحنابلة ترجع إلى كتب الحنابلة، ولا تكتفي بنقل غيرهم عنهم؛ لأن الشخص الذي ليس من أهل المذهب لا يدرك التفاضل بين الروايات داخل المذهب، كل مذهب فيه روايات، رواية من هذه الروايات معتمدة عند أهل هذا المذهب، يأتيك صاحب المذهب الثاني فيأخذ أي رواية في المذهب كما هو الشأن فيما ينسب مثلاً إلى الإمام أحمد في فتح الباري أو عمدة القاري أو غيرهما، لكن إذا كان الشارح -شارح الحديث- أو المفسر من أهل ذلك المذهب وله معرفة بفقه هذا المذهب فمثلاً فتح الباري شافعي، ووجدته نسب إلى الشافعي قولاً لا مانع من أن تأخذه من فتح الباري، ولا يلزمك أن ترجع إلى المجموع أو غيره من كتب الشافعية، لماذا؟ لأن الحافظ فقيه شافعي، تأخذ من عمدة القاري قول الحنفية؛ لأنه فقيه حنفي، لكن ما تأخذ من عمدة القاري ما ينسب إلى مذهب الإمام أحمد، أو من فتح الباري ما ينسب إلى أبي حنيفة، ترجع في كل مسألة إلى أهلها وهكذا، فبإمكانك أن تأخذ الفقه الحنفي من عمدة القاري لكن ما تأخذ من فتح الباري، لماذا؟ لأن العيني من فقهاء الحنفية، تأخذ الفقه المالكي من الاستذكار لابن عبد البر لماذا؟ لأنه فقه مالكي، لكن يبقى أن الأصل أن يؤخذ كل فن من كتبه، ما يتعلق بكل فن من كتبه هذا الأصل، كثيراً ما ينسب إلى الإمام أحمد في شروح الأحاديث وفي كتب التفسير وغيرها أقوال مرجوحة في المذهب لماذا؟ لأن الذي نسب إليه ليس على دراية تامة برواية المذهب والمرجح منها، والمذهب عند أصحابه ينتقى من هذه الروايات
لا مانع أن تأخذ روايات المذهب من شرح ابن رجب مثلاً؛ لأنه فقيه حنبلي، المقصود أننا علينا أن ننظر في من نعتمد عليه، تأخذ ما ينسب من الأقوال في الأحكام إلى مالك، من تفسير القرطبي مثلاً؛ لأنه فقيه مالكي، لكن ما تأخذ منه ما ينسب إلى أحمد، ما تعتمد عليه في هذا، بل لا بد من معارضة قوله بكتب المذهب وهكذا.
المقصود بأهل الحديث هم الذين يعنون به رواية ودراية.
نعم لا بد من أن تأتي بركعة؛ لأن الركعة فاتتك، رفع قبل أن تركع، لكن لو تابعته، انتصفت في قراءة الفاتحة ولم تتمكن من إكمالها وركع صرت في حكم المسبوق؛ لأن كثير من الأئمة -هداهم الله- يستعجلون بالقراءة لا سيما في الصلاة السرية؛ لأن الصلاة الجهرية التي يسمعها الناس يحبرون أصواتهم، لكن في الصلاة السرية يهذون هذ، الكثير من الأئمة بعض المأمومين لا يستطيع أن يكمل قراءة الفاتحة خلفهم، والمأموم في هذه الحالة يكون حكمه حكم المسبوق يتابع الإمام، لكن إذا عرف أن هذا الإمام قاعدته مطردة أنه لا يمكن المأموم من قراءة الفاتحة لا ينبغي للمأموم أن يصلي خلفه لئلا يكون في حكم المسبوق باستمرار؛ لأن المسبوق مفضول، المقصود أن مثل هذا إذا رفع إمامه قبل أن يركع عليه أن يأتي بهذه الركعة لأنها فاتته.
المحدث إذا عرف وعرف الشخص بأنه من أهل الحديث وسماه الناس بالأثري وتتابعوا على هذا الاسم، أما أن يسمي نفسه وهو لم يعرف به بعد، وليست لديه العناية الكافية لا شك أن فيه شيء من تزكية النفس.
أقول: الأئمة المتقدمون الذين يحفظون مئات الألوف من الأحاديث يبعد جداً أن يخفى عليهم مثل هذه الطرق، كما أننا لا نتصور أو نتوقع من كل واحد منهم بعينه أن يكون ميحطاً بجميع طرق جميع الأحاديث، فقد يوجد بعض الطرق مما لم يطلع عليه بعض المتقدمين، لا أقول: كل المتقدمين، قد يوجد لكن مع ذلكم إذا ضعّف الأئمة حديثاً فينبغي للمسلم أن يحتاط ويتهم نفسه، قد تكون فيه علة خفية أو معارضة لحديث لم يطلع عليه هذا المتأخر فضعف لأجل المعارضة للمخالفة في متنه، وأنت لم تطلع عليه، لكن لا مانع أن تقول: إنه بهذا الشاهد أو بهذه المتابعة يرتقي إلى درجة الحسن لغيره أو إلى درجة الصحيح لغيره عندي، بعد أن تبين أقوال الأئمة، فيكون في نقدك قولك قول واحد من أهل العلم، يأتي من بعدك هل يعارض به أقوال الأئمة المتقدمين؟ مسألة ثانية.
أقول: إذا اتفق المتقدمون على تصحيح حديث أو تضعيفه فليس لأحد مخالفة قولهم كائن من كان، هذا إذا اتفقوا على التصحيح فليس لأحد أن يضعف، ويزعم أنه اطلع على علة لم يطلع عليها المتقدمون، وكذلكم إذا اتفقوا على تضعيف حديث ليس له أن يصحح بناءً على أنه وقف على طرق وشواهد للحديث يترقى بها؛ لأن المتأخرين عالة على المتقدمين، أما إذا اختلفوا فللنظر مجال، للمتأخر أن ينظر في أقوالهم ويرجح بينها.
الشواهد والأسانيد معتبرة وعليها اعتماد الأئمة في التصحيح والتضعيف لكن يبقى أن الإنسان لا بد أن يتهم نفسه، ولا يجزم بتصحيح حديث ضعفه الأئمة ولا العكس، فإذا وقف على شاهد يقول: إنه وقف على هذا الشاهد في كتاب كذا، ولعله يرتقي به إلى الصحيح لغيره إن كان حسناً، أو إلى الحسن لغيره إن كان ضعيفاً.
أقول: في المواطن التي نص عليها..، في مواطن العبادات مثل التشهد ونحوه مثل هذا لا تجوز الزيادة عليه، فلا يجوز في الصلاة أن يقول: اللهم صلِ على سيدنا محمد؛ لأن هذا لفظ متعبد به، أما خارج الصلاة في الأوقات المطلقة لا مانع أن يقول: سيدنا محمد؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- ثبت عنه أنه قال: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) وأثبت السيادة لبعض البشر: ((قوموا إلى سيدكم)) فهو سيد، سيد الخلق كلهم، ولا مانع حينئذ من أن تقال، على أنه لما قيل له -عليه الصلاة والسلام- أنت سيدنا قال: ((السيد الله)) وهذا إذا خشي من الغلو والإطراء فإنه تمنع مثل هذه الألفاظ، لا مانع أن تمنع مثل هذه الألفاظ التي فيها شيء من الغلو لا سيما إذا كانت على سيبل المفاضلة التي تتنقص تتضمن تنقص لبعض الناس، ولذا لما فضل -عليه الصلاة والسلام- على موسى ذكر ما يمتاز به موسى -عليه السلام-، وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تفضلوا بين الأنبياء)) وجاء في الحديث الصحيح: ((لا تفضلوني على يونس بن متى)) كل هذا إذا فهم من المتحدث أنه يتنقص الطرف الآخر، وإلا فالتفضيل جاء به القرآن، {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [(253) سورة البقرة].
الحضرة إيش معنى المقصود بها؟ إذا كان المقصود بها مثلما يقال: حضرة فلان يعني مقام فلان، نعم إلى حضرة فلان يعني إلى مقامه الرفيع لا بأس، فهو ذو مقام رفيع، لكن إذا كان المقصود به حضرة النبي كما يقول بعض المبتدعة في الموالد ويقصدون بذلك حضوره، حضور النبي -عليه الصلاة والسلام- في هذا المكان، فلا.
الضعيف منها ما ضعفه منجبر، خفيف الضعف، ومنها ما ضعفه لا ينجبر لكذب رواته أو نكارت متنه أو علة خفية فيه، مثل هذا لو كثرت طرقه لا يتقوى، لكن إن كان ضعفه منجبر، ضعفه خفيف فإنه يتقوى حينئذ من كثرة الطرق، يتقوى بكثرة الطرق، وهذه طريقة أهل العلم كثيراً ما نجد الترمذي يصحح حديث يقول: "هذا حديث حسن صحيح" وإذا نظرنا إليه بمفرده وجدنا في إسناده شيء من الضعف، لكنه -رحمه الله- يردف ذلك بقوله: "وفي الباب عن فلان وفلان وفلان" هذه شواهد يرقي بها الحديث، فهو عمل..، جادة مسلوكة عند أهل العلم.
بيان الخطأ لا بد منه، لا بد من بيان الخطأ لكن لا يعني هذا أن هذه الأخطاء تبرز بحيث يزهد الناس في هذا الكتاب الذي عم نفعه أو لا ينتفع الناس بعلم هذا الشخص الذي نفع الله به، لا مانع أن يطبع الكتاب ويعلق على أخطائه وتبين، لكن يقال: أخطاء فلان وتبرز بحيث يزهد في كتابه طالب العلم، لا مانع أن يقال ويحذر من بعض الجوانب التي في بعض الكتب، وأن يقال مثلاً: فتح الباري كتاب عظيم وجليل لكن على طالب العلم أن يكون حذراً في مسائل الاعتقاد، يعني على سبيل الإجمال، شرح النووي كتاب مبارك على مسلم وفيه علم وخير وفضل، لكن في مسائل الاعتقاد ينبغي أن يكون الطالب على حذر، لا يمنع مثل هذا، أما أن تذكر هذه الملاحظات بالتفصيل وتبرز على أنها مساوئ ومؤاخذات على الكتاب بعض الناس ما يستوعب، ما يستوعب يقول: كتاب فيه كل هذه الأخطاء لسنا بحاجة إليه، مثل من أبرز الأحاديث الضعيفة في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، لا أحد يمنع من أن تخرج أحاديث الكتاب كاملة وتلحق بالكتاب ويبين ما فيها من كلام لأهل العلم، أما أن يقال: ضعيف كتاب التوحيد، ويحكم على جملة كبيرة من الكتاب بالضعف، وتبرز ويقال: الشيخ محمد بن عبد الوهاب بنى كتابه على الأحاديث الضعيفة هذا الكلام ليس بصحيح، الشيخ محمد بن عبد الوهاب لا يخلو باب عنده من آية أو حديث صحيح، ثم بعد ذلك يردفه بما فيه كلام خفيف لأهل العلم ولا يمنع ذلك، هذه طريقة مسلوكة، أما أن نبرز في كتاب مستقل ضعيف كتاب التوحيد نقول: هذا مستند قوي للمناوئين لدعوة الشيخ، وهذا الكتاب نفع الله به نفع لا يتصور، لا نظير له في بابه.
الكلام على الغالب، والصحابة كلهم ثقات عدول بإجماع أهل السنة، كلهم ثقات عدول فلا يدخلون في مثل هذا الكلام.
التصرف في كتب أهل العلم طريقة سلكها بعض الناس وهي مفضولة، لا أقول: خاطئة، تقسيم الكتب إلى قسمين منها الصحيح ومنها الضعيف، الكتاب يجب أن يكون وأن يبقى على ما ألفه عليه مؤلفه، المؤلف له مقصد من إدخال هذه الأحاديث، ولا يخفى عليه أن فيه ضعيف، بل قد ينبه على الضعف، إنما ترجم بترجمة هي حكم شرعي، ويريد أن يستدل لهذا الحكم الشرعي بأقوى ما يجد في الباب، فالواجب أن يبقى الكتاب كما هو، ولا مانع من أن يعلق، تدرس الأحاديث، ويحكم على كل حديث منها مما يليق به، هذا حديث صحيح هذا ضعيف هذا حسن إلى آخره، تبقى كما هي بأسانيدها، نعم هناك من نسب إلى نفسه كتاباً هذب فيه كتاباً لغيره واختصره واقتصر على الصحيح منه نعم ما أحد يمنع، طريقة الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- في المسند حينما حذف أول الإسناد، حذف الراوي عن الإمام، حذف عبد الله، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني أبي حذف هذا كله، واقتصر على شيخ الإمام أحمد.
أقول: الشيخ عمله في الكتاب ليس بسديد، بل عليه أن يبقي الكتاب كما هو، ويبقى للمتقدمين طريقتهم في التصنيف، أما أن يأتي من لا يعجبه مثل هذا التصرف ويحذف نعم، هو أشار إلى الزوائد بالحرف (زاي) ولا يمكن أن يعرف الحديث الزائد في المسند إلا إذا ذكر الراوي عن الإمام، إذا ذكر الراوي عن الإمام عرف الزائد، وعرفنا أن هذه من زيادات عبدالله بن أحمد وهذه من زيادات القطيعي وهكذا، أما تصرف الشيخ ليس بجيد، بل كان الأولى أن يبقي الكتاب كما هو، ولو أن الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- أبقى السنن كما ألفها أصحابها وحكم على أحاديثها، هذا هو العمل الأصل، إيش اللي يمنع؟ لكن الشيخ حذف الأسانيد وميز الصحيح من الضعيف، لا شك أنه مجتهد وهذه وجهة نظره، لكن لو ترك الكتاب؛ لأن هذه الأسانيد طلاب العلم بحاجة إليها.
عمله هذا -رحمة الله عليه- وإن كان عمل يشكر عليه، لكنه يجعل طالب العلم لا يستغني عن الكتاب الأصلي، لكن لو كانت أحكام الشيخ مذيلة على الأحاديث بالكتب الأصلية استفاد الناس الكتاب الأصلي لأنه تكرر عندهم وأحكام الشيخ.
إيش معنى بتحقيق أحد العلماء على كل حال العلماء كلهم -إن شاء الله- جلهم يظن فيه الخير والتجويد والضبط والإتقان، لكن يبقى أنه ليس هناك أحد معصوم، إذا كان المقصود تحقيق الكتب وإخراجها على الوجه الصحيح فلا شك أنهم متفاوتون في هذا، وقد يجيد الأقل في بعض المواضع ويتقن ما لا يتقنه الأجود والأعلم، أما كوننا نكتفي بتحقيق أحد العلماء ونترك من عداه، يعني لو قلنا مثلاً: سنن أبي داود طبع طبعات كثيرة، وكل طبعة بتحقيق شخص، نكتفي بواحد منها؟ نقول: لا، نفاضل بينها ونأخذ الأصوب والأصح، ولا يمنع أن يأتي بعد ذلك ما هو أجود منها وهكذا، إن كان المقصود تحقيق أحد العلماء يعني تصحيح أو تضعيف لحديث نقلده في هذا التصحيح وذلك التضعيف فإن كان من أهل العلم المعروفين من المتقدمين الأئمة ولم يخالفه أحد نكتفي به، ما المانع؟ وإذا خولف نظرنا في طرق الحديث، شواهده ومتابعاته، ونظرنا في رجاله وفي متنه من حيث المخالفة و عدمها، ثم حكمنا عليه.