شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (045)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم، وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: توقفنا عند قوله -رحمه الله-:

"وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل: أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور»."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حديث أبي هريرة وسؤاله عن أفضل الأعمال، راوي الحديث أبو هريرة تقدم التعريف به، والاختلاف في اسمه، وأن أهل العلم اختلفوا فيه اختلافًا كبيرًا، في اسمه واسم أبيه على نحو من ثلاثين قولاً، وتقدم أن أولى ما يقال في اسمه بعد إسلامه: عبد الرحمن بن صخر الدوسي.

والحديث المذكور ترجم عليه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بقوله: "بابُ من قال: إن الإيمان هو العمل" لقول الله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة الزخرف 72] وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الحجر 92-93] عن قول: لا إله إلا الله، فسروا العمل بقول: لا إله إلا الله، وقال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [سورة الصافات 61] يقول العيني: مطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهرة، وهي إطلاق العمل على الإيمان "أيُّ العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله»" والترجمة: "بابُ من قال: إن الإيمان هو العمل" فالترجمة ظاهرة، وهي إطلاق العمل على الإيمان، وقال ابن بطال: الآية حجة في أن العمل يُنال به درجات الآخرة، وأن الإيمان قول وعمل، ويشهد له الحديث، يعني حديث أبي هريرة حديث الباب، ثم قال: وهو مذهب جماعة أهل السنة، قال أبو عبيدة: وهو قول مالك والثوري والأوزاعي ومن بعدهم، ثم قال: وهو مراد البخاري بالتبويب، وقال أيضًا: في هذا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- جعل الإيمان من العمل، وفرَّق في أحاديث أُخَر بين الإيمان والأعمال، وأطلق اسم الإيمان مجردًا على التوحيد وعمل القلب، والإسلام على النطق وعمل الجوارح، يقول الكرماني: فإن قلتَ: العمل إما أن يراد به عمل القلب، أي التصديق فلا يطابقه الاستشهاد بقوله العِدَّة، وقال عِدَّة من أهل العلم في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الحجر 92-93] عن قول: لا إله إلا الله، العمل إما أن يراد به عمل القلب أي التصديق فلا يطابقه الاستشهاد بقول العِدَّة؛ لأنه قول أو عمل للسان، لكن لا يُتصوَّر أن العِدَّة يقصدون بتفسير قوله تعالى: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الحجر 93] عن قول: لا إله إلا الله هو مجرد النطق؛ لأن مجرد النطق لا يفيد، بل لا بد من الاعتقاد وهو عمل القلب، يقول: فإن قلتَ: العمل إما أن يراد به عمل القلب أي التصديق فلا يطابقه الاستشهاد بقول العِدَّة؛ لأنه قول أو عمل اللسان، وعرفنا أنه لا بد من اعتقاد القلب وهو عمله، أو يراد به عمل الجوارح، أو عمل اللسان، أو مجموع الأعمال فلا يناسب الحديث إذ الإيمان بالله تعالى هو عمل القلب فقط، هو يريد في الحديث؛ لماذا؟ لأنه عُطِف عليه الجهاد والحج، فلو أريد الإيمان بالله في الحديث ما يشمل الأعمال، على كلامه، سئل أي العمل أفضل؟ فقال: «إيمان بالله ورسوله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور» هنا يقول: إذ الإيمان بالله تعالى هو عمل القلب فقط، يعني في هذا الحديث، يقول: بقرينة ذكر الجهاد والحج بعده، قلتُ: المراد به المجموع، والاستدلال عليه بمجموع الآيات والحديث إذ يدل كل واحد من القرآن والسنة على بعض الدعوى، بحيث يدل الكل على الكل، يعني عطف الخاص على العام إذا قلنا: أن الإيمان بالله ورسوله يقتضي جميع الأعمال؛ لأن الأعمال من مسمى الإيمان، وداخلة في حدِّه، فلا يَمنع أن يعطف عليه بعض الأعمال لأهميتها؛ لأن ذكر الخاص بعد العام للعناية بشأن الخاص والاهتمام به، وهذا كثير {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ} [سورة النساء 163] ونوح من النبيين، فعطْف العام على الخاص أو عكْسه لا يعني خروج الخاص من العموم، لكنه يدل على الاهتمام بشأن الخاص والعناية به.

يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: مقصود البخاري بهذا الباب أن الإيمان كله عمل مناقضة لقول من قال: إن الإيمان ليس فيه عمل بالكلية، وهذا قول مَن؟ المرجئة، فإن الإيمان أصله تصديق بالقلب، وقد سبق ما قرره البخاري أن تصديق القلب كسب له وعمل، ويتبع هذا التصديق قول اللسان، لا بد من قول اللسان مع تصديق القلب واعترافه وإقراره؛ لماذا؟ لأنه كيف نستدل على أن هذا مصدق بقلبه معترف؟ إلا إذا نطق، كما أن النطق وحْده لا يكفي، ثم قال: وأما حديث أبي هريرة فهو يدل على أن الإيمان بالله ورسوله عمل؛ لأنه جعله أفضل الأعمال، والإيمان بالله ورسوله الظاهر أنه إنما يراد به الشهادتان مع التصديق بهما، ننتبه لكلام ابن رجب -رحمه الله- لأنه يفرِّق بين الإيمان بالله ورسوله والإيمان المطلق، يقول: فهو يدل على أن الإيمان بالله ورسوله عمل؛ لأنه جعله أفضل الأعمال، والإيمان بالله ورسوله، يعني في هذا الحديث، الظاهر أنه إنما يراد به الشهادتان مع التصديق بهما؛ ولهذا ورد في الحديث: «بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله» وفي رواية ذُكِر: «الإيمان بالله ورسوله» بدل الشهادتين، فجعل الإيمان بالله ورسوله بإزاء الشهادتين، فدل على أن المراد بهما واحد، وأن المراد بالإيمان بالله ورسوله هو الشهادتان، يقول: ولهذا عُطِف في حديث أبي هريرة على هذا الإيمان الجهاد، ثم الحج، وهما مما يَدخُل في اسم الإيمان المطلق، كأن ابن رجب -رحمه الله تعالى- يريد أن يقرر أن الإيمان بالله ورسوله يراد به الشهادتان، النطق مع الاعتراف والاعتقاد، والإيمان المطلق يدخل فيه جميع الأعمال كما هو مذهب أهل الحق أهل السنة، يقول: لكن الإيمان بالله أخص من الإيمان المطلق، يقول: ولهذا عَطَف في حديث أبي هريرة على هذا الإيمان الجهاد ثم الحج، وهما مما يدخل في اسم الإيمان المطلق، لكن الإيمان بالله أخص من الإيمان المطلق، فالظاهر أنه إنما يراد بهما الشهادتان مع التصديق بهما، فإذا سمَّى الشهادتين عملاً دل على أن قول اللسان عمل.

والحافظ -رحمه الله تعالى­-، أعني ابن رجب، يريد من أجل التوفيق بين النصوص أن يجعل الإيمان المطلق من غير ذِكْر المتعلَّق، يدخل فيه عمل الجوارح إذا أُطلِق الإيمان، يدخل فيه عمل الجوارح، والإيمان المقيد الذي ذكر فيه المتعلَّق الجار والمجرور يراد به التصديق بالقلب، والنطق بالشهادتين مع أن النطق عمل اللسان، والاعتقاد عمل القلب، وهما داخلان في عموم لفظ العمل، أقول: توضيحًا لكلام الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- الذي دعاه إلى أن يفرق بين الإيمان المطلق والإيمان المقيد بذكر المتعلِّق بالله ورسوله، يريد أن يفرق، فيقول: الإيمان المطلق يدخل فيه الأعمال، والإيمان بالله ورسوله هو بإزاء شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فيدخل في الإيمان المطلق عمل الجوارح، والإيمان بالله الذي ذكر فيه الجار والمجرور يراد به التصديق بالقلب، والنطق بالشهادتين، مع أن النطق عمل اللسان، والاعتقاد عمل القلب، وهما داخلان في عموم لفظ العمل، ثم قال: وقد كان طائفة من المرجئة يقولون: الإيمان قول وعمل موافقة لأهل الحديث، وهذا فيه تدليس وتمويه، موافقة لأهل الحديث في الظاهر، هم يقولون، بعضهم، بعض المرجئة يقول: الإيمان قول وعمل من أجل أن لا ينكر عليهم، يعني أهل السنة يقولون: إن الإيمان قول وعمل، إذًا ما الفرق بينهم؟ هم موافقون لأهل الحديث في الظاهر في العبارة فقط، ثم يفسِّرون العمل بالقول، ويقولون: هو عمل اللسان الذي لا يُدخِل أعمال الجوارح في الإيمان ألا يُدخِل عمل اللسان في الإيمان؟ المرجئة لا يقولون إنه اعتقاد وقول، اعتقاد ونطق من غير عمل الجوارح؟ إذًا هو قول وعمل، لكنهم يقصُرون العمل على عمل اللسان فقط، قد ذَكَر الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- هذا القول عن شَبَابَة بن سَوَّار، وأنكره عليه، وقال: هو أخبث قول، ما سمعت أن أحدًا قال به، ولا بلَغني، يعني أنه بدعة لم يقله أحد من السلف، ولعل مراد الإمام -رحمه الله تعالى- إنكار تفسير قول أهل السنة الإيمان قول وعمل بهذا التفسير، يعني بعضهم قد يفسِّر قول أهل السنة فيما يذهب إليه المرجئة في تفسير قولهم الإيمان قول وعمل، لا شك أن هذا بدعة، وفيه عِيٌّ وتكرير، إذ العمل على هذا هو القول بعينه، العمل على هذا هو القول بعينه، ولا يكون مراده إنكار أن القول يُسمَّى عملاً، وأقول: مراد الإمام -رحمة الله تعالى عليه- إنكار قصر العمل على اللسان، فلا يشمل عمل الجوارح، وهذه حيلة لقبول الإرجاء، هذه حيلة وتمويه وتدليس لقبول الإرجاء، وهي من الحِيَل المذمومة في إلباس الباطل لباس الحق، وإظهاره للناس على هيئة مقبولة، لا شك أن بعض الناس يعبِّر بعض التعبيرات الموهمة لكي يُلبِس الباطل لباس الحق، وليس مراد الإمام -رحمة الله عليه- أن قول اللسان وعمله لا يدخل في مسمى الإيمان، بل هو مصرَّح به في الحد عند أهل السنة، مصرَّح بدخول قول اللسان في تعريف الإيمان عند أهل السنة؛ لأن الإيمان عندهم قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، ذكر الحافظ ابن رجب في موضع آخر في كتاب الطهارة أن أول من تكلم بالإرجاء الحسن بن محمد بن الحنفية، وقيل أنه كان يميل إلى بعض مذاهب الإباضية في كثرة استعمال الماء في الطهارة، وجاء استدراكه على بعض الأحاديث في صحيح مسلم وسنن أبي داود وغيرها، في تهذيب التهذيب ترجمة الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، قال سلاَّم بن أبي مطيع عن أيوب: أنا أتبرأ من الإرجاء، إن أول من تكلم فيه رجل من أهل المدينة يقال له الحسن بن محمد، وقال عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة أنهما دخلا على الحسن بن محمد فلاماه على الكتاب الذي وضع في الإرجاء، قال ابن حجر: قلت: المراد بالإرجاء الذي تكلم فيه الحسن بن محمد غير الإرجاء الذي يعيبه أهل السنة المتعلِّق بالإيمان، يقول: وذلك أني وقفت على كتاب الحسن بن محمد المذكور، أخرجه ابن أبي عمر العدَني في كتاب الإيمان له في آخره، قال: حدثنا إبراهيم بن عيينة عن عبد الواحد بن أيمن قال: كان الحسن بن محمد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على الناس، وذكر فيه إرجاء أمر علي ومعاوية، وقال: نَكِلُ أمرهم إلى الله تعالى... إلى آخر كلامه رحمه الله.

والسائل يحتمل أن يكون أبا ذر، كما جزم به ابن حجر، وجاء في كتاب العتق عنه -رضي الله عنه- قال: "سألت النبي -عليه الصلاة والسلام-: أي العمل أفضل؟" فأجاب -كما سيأتي في أطراف الحديث-: "قال: «إيمان بالله وجهاد في سبيله»" والحديث طويل، يخالف ما معَنا في بعض..، لم يذكر الحج، وفيه العتق بدل الحج، على كل حال احتمال، يحتمل أن يكون أبا ذر؛ لأنه سأل هذا السؤال، ولا يمنع أن يكون غيره سأل أيضًا هذا السؤال.

"قيل: ثم ماذا؟" أيْ أيُّ شيء أفضل بعد الإيمان بالله ورسوله؟ قال العيني: كلمة (ثم) للعطف مع الترتيب الذِّكْري، و(ما) مبتدأ، و(ذا) خبره، وكلمة (ما) استفهامية، و(ذا) اسم إشارة، قال -عليه الصلاة والسلام- مجيبًا: «الجهاد في سبيل الله» والجهاد مصدر جاهد جهادًا ومجاهدة، وهو من الجَهْد بالفتح وهو المشقة، والسبيل الطريق يُذكَّر ويؤنث، وإنما جُعِل الجهاد أفضل من غيره لأنه بذل للنفس في سبيل الله تعالى.

...................................

 

 

والجود بالنفس أقصى غاية الجودِ

 

والجهاد جاءت النصوص، نصوص الكتاب والسنة الدالة على فضله، والترغيب فيه، والشهادة في سبيل الله، وهو ذروة سنام الإسلام، كما جاء في حديث معاذ الطويل عند الترمذي وغيره، على كل حال النصوص من الكتاب والسنة الدالة على فضل الجهاد والترغيب فيه، والشهادة في سبيل الله أكثر من أن تُحصَر، وأشهر من أن تُذكَر.

"قيل: يا رسول الله ثم ماذا؟" أي ماذا بعد الجهاد في سبيل الله؟ "قال -عليه الصلاة والسلام-: «حج مبرور»" والحج في اللغة: القصد إلى معظَّم، وفي الاصطلاح قصْد مكة لأداء النسك المعروف، والمبرور هو: الذي لا يخالطه إثم، ومنه بَرَّت يمينه إذا سلمت من الحنث، وقيل: هو المقبول، ومن علامة القبول أنه إذا رجع عاد من حجه يكون حاله خيرًا من الحال الذي قبله، وقيل: هو الذي لا رياء فيه، القرطبي يقول: الأقوال التي ذُكِرَت في تفسير الحج المبرور متقاربة المعنى، وهي أنه الحج الذي وُفِّيَت أحكامه، ووقع موقعًا لما طلب من المكلَّف على الوجه الأكمل، والله أعلم.

فإن قيل: فلِمَ عُرِّف الجهاد، ونُكِّر الإيمان والحج؟ لأنه في السؤال: "أيُّ العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»".

المقدم: بالتعريف.

بالتعريف، ما قال: جهاد في سبيل الله "قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور»" ما قال: الحج المبرور، ولا قال في الأول الإيمان بالله ورسوله، الكرماني أجاب عن هذا السؤال بقوله: لا فرق بين مؤدَّى المعرفة بالتعريف الجنسي، ومؤدَّى النكرة، (أل) إذا كانت للجنس لا شك أنها تشمل جميع الأفراد، فإذا قيل: الناس، فيه فرق بين الناس وناس؟ ناس نكرة، والناس معرفة، لكن (أل) الجنسية التي هي دالة على العموم، وهذا إذا أُطلِق وأُريد العموم الباقي على عمومه، خلاف ما إذا أريد العموم الذي يراد به الخصوص، فالعموم الباقي على عمومه لا فرق بينه وبين النكرة من حيث المعنى، الناس لا فرق بينه وبين ناس، العام الذي أريد به الخصوص يختلف عن هذا في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [سورة آل عمران 173] هل هم المراد بهم جميع الناس؟ لا، بل جاء في التفسير أنه شخص واحد، نُعَيْم بن مسعود، {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [سورة آل عمران 173] هل المراد بهم جميع الناس؟

المقدم: ناس مخصوصين.

أناس أيضًا مخصوصين، يريد بهم الخصوص، وهذا من العام الذي أريد به الخصوص، وهو يختلف عن العام المخصوص، يقول: لا فرق بين مؤدَّى المعرفة بالتعريف الجنسي ومؤدَّى المنكرة، ولذا يُعامَل معاملة النكرة كما في قول الشاعر:

ولقد أَمُرُّ على اللئيم يسبُّني

 

فمضيت ثم قلت: لا يعنيني

 

اللئيم هنا فيه (أل) لكن هل (أل) هذه تفيد التعريف؟ هل المقصود لئيم بعينه؟

المقدم: يعامَل معاملة النكرة.

يعامَل معاملة النكرة، ولذا تُعرَب الجملة "يسبُّني" حال أو صفة؟ صفة؛ لأن مثل هذا العموم الذي قلنا: إنه مثل النكرة يحتاج إلى وصف أكثر من حاجته إلى بيان هيئته، والمعنى ولقد أَمُرُّ على لئيم؛ ولذا يُعرَب يسبُّني وصفًا لا حالاً، هذا من جهة النحو، وأما من جهة المعاني فهو أن الإيمان والحج لا يتكرر وجوبه بخلاف الجهاد، فإنه قد يتكرر فالتنوين للإفراد الشخصي، والتعريف للكمال، إذ الجهاد لو أتى به مرة مع الاحتياج إليه مرة أخرى لما كان أفضل، والله أعلم.

يقول: من جهة المعنى الإيمان والحج لا يتكرر وجوبهما، بخلاف الجهاد فإنه قد يتكرر، فالتنوين للإفراد الشخصي "إيمان وحج" يعني أنك تكتفي بإيمان واحد وحج واحد بخلاف الجهاد؛ لأن الجهاد قد يُحتَاج إليه مرارًا، فيتكرر وجوبه بخلاف الإيمان والحج، الحج لا يتكرر، بل هو في العمر مرة واحدة، والإيمان أيضًا هل نقول إنه يتكرر بمعنى أنه يترك، ثم يعاد إليه، ثم يترك، ثم يعاد إليه؟ لا، الأصل أنه باقٍ إيمان واحد لكنه يزيد، إذِ الجهاد لو أُتِيَ به مرة مع الاحتياج إليه مرة أخرى لما كان أفضل، والله أعلم.

تُعُقِّب بأن التنكير من جملة وجوهه التعظيم، وهو يعطي الكمال، يقول: تُعُقِّب بأن التنكير من جملة وجوهه التعظيم، وهو يعطي الكمال، وما به التعريف يعني المعرَّف من جملة وجوهه العهد، وهو يعطي الإفراد الشخصي فلا يَسْلَم الفَرْق، هذا تَعَقُّب من الحافظ للكرماني، لكن العيني لمن يترك الحافظ، بل تعقَّبه بقوله: هذا التعقيب فاسد. كلام الحافظ صحيح؛ لأن من جملة وجوه التنكير التعظيم دُوَيْهِيَة تَصْفَرُّ منها الأناملُ، والتعظيم يعطي الكمال، وما به التعريف، يعني ما اقترن بـ(أل) المعرفة من جملة وجوه (أل) العهد، وهو يعطي الإفراد الشخصي فلا يَسْلَم الفرْق، يعني إذا قلت: الرجل هل معنى الرجل المقصود به الجنس في الشائع في الرجال؟ أو قد يراد به المقصود الرجل المذكور بعينه المعهود؟ قد يَرِد هذا، فكلام الحافظ صحيح في الجملة، لكن هل هو المطابق للواقع في الحديث أو لا؟ تعقبه العيني بقوله: هذا التعقيب فاسد؛ لأنه لا يلزم من كون التعظيم من جملة وجوه التنكير أن يكون دائمًا للتعظيم، بل يكون تارة للإفراد، وتارة للنوعية، وتارة للتعظيم، وتارة للتحقير، وتارة للتكثير، وتارة للتقليل، ولا يُعرَف الفرق ولا يُميَّز إلا بقرينة دالة على واحد من هذه الأمور، وها هنا دلت القرينة على أن التنكير للإفراد الشخصي، وقوله: وبأن التعريف من وجوهه العهد فاسد عند المحققين؛ لأن عندهم أصل التعريف للعهد، وفرْق كبير بين كونه للعهد، وبين كون العهد من وجوهه، أقول: كلام الحافظ محتمل، نعم يحتمل وجوه متعددة، كون هذه الوجوه بعضها أولى من بعض لمناسبة المقام لا يقتضي أن يقول: هذا التعقيب فاسد.

المقدم: قول الكرماني؟

قول العيني.

المقدم: العيني.

متعقِّبًا ابن حجر، وقوله: وبأن التعريف من وجوهه العهد فاسد أيضًا عند المحققين؛ لأن عندهم أصل التعريف للعهد، وفرق كبير بين كونه للعهد، يعني الأصل فيه العهد، وبين كون العهد من وجوهه، لكن إذا كان أصله العهد، وله وجوه ألا يكون العهد من وجوهه؟ التعريف للعهد وللجنس ولِلَمْحِ الأصل، ولمعانٍ كثيرة، منها العهد والجنس، الفرق بينهم أن يقول: العهد هو الأصل، لكن مع كونه الأصل هو من وجوه التعريف، لا يمنع أن يكون من وجوهه؛ ولذا إذا عددوا في كتب النحو في باب المعرَّف بالألف واللام وجوه التعريف، ومعاني (أل) يذكرون منها العهد كما يذكرون غيره، فقوله بأن التعريف من وجوه العهد فاسد عند المحققين أيضًا فيه شدة في النقد والتعقُّب؛ لكن لما عرف بينهما مما هو مبسوط في محله، والله المستعان.

على أن الجهاد جاء بالتنكير أيضًا في مسند الحارث بن أبي أسامة عن إبراهيم بن سعد راوي الحديث في الباب، فعلى رواية الحارث بن أبي أسامة كل هذا الكلام لا حاجة إليه.

المقدم: أحسن الله إليكم وجزاكم الله عنا خيرًا.

 

إذًا أيها الإخوة والأخوات انتهت حلقة هذا الأسبوع من برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. نستكمل -بإذن الله تعالى- في حلقة الأسبوع القادم وأنتم على خير، حتى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.