شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (012)

وتفسير التحنث مُدرَج من تفسير الزهري، أدرجه في الخبر، كما جزم به الطيبي، وإن لم يذكر دليله، نعم في رواية البخاري في كتاب التفسير من صحيحه ما يدل على الإدراج، حيث قال: قال والتحنُّث التعبُّد، يعني قال، والخبر من كلام.. الخبر مروي عن عائشة، يعني لو كان سياقه سياق الخبر، لقال قالت، ما دام غيَّر وقال: قال، ونسبه إلى مذكر فالإدراج يكون من غيرها.

المقدم: وهو ممن يا شيخ؟

من الزهري، الإدراج من الزهري.

"الليالي ذوات العَدَد" أي مع أيامهن واقتصر عليهن للتغليب، يعني اقتصر على الليالي دون الأيام للتغليب؛ لأنهن أنسب للخلوة، ووصف الليالي بذوات العَدَد لإرادة التقليل كما في قوله تعالى: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [سورة يوسف 20] أو للكثرة لاحتياجها للعدد وهو المناسب للمقام، وجاء تحديد المدة بشهر، روى الشيخان: «جاورت بحراء شهرًا» وعند ابن إسحاق أنه شهر رمضان، و(ذواتِ) بالكسر صفةً لليالي، أما ما يزعمه بعضهم من استحباب الخَلْوة...

المقدم: عفوًا فضيلة الدكتور في بعض النسخ جاءت: ذوات العُدَد.

العُدد؟!

المقدم: نعم.

لا لا، أبدًا غير صحيح؛ لأن الطبعة التي معك يا شيخ ناصر، الطبعة العامرة الطبعة التركية، وقد زعم طابعها أنه أخذها بحروفها من إرشاد الساري للقسطلاني، ونعلم جميعًا أن إرشاد الساري اهتم بألفاظ الصحيح، واعتنى به عنايةً فائقة، لكن هذه الطبعة مع كونها لا بأس بها في الجملة لكن فيها أخطاء، وفيها سقط بعض الأحاديث، فليست بأجود الطبعات للصحيح، وإن زعم طابعها أنه أخذها من إرشاد الساري بحروفها، فيها سقط أحاديث، وقفنا فيها على سقط أحاديث.

ولم يأتِ التصريح بكيفية تعبُّده -صلى الله عليه وسلم-، فيحتمل أن عائشة -رضي الله عنها- أطلقت على الخلوة بمجردها تعبدًا؛ لأن الانعزال عن الناس لا سيما من كان على باطل من جملة العبادة، فلا شك أن مفارقة العصاة عبادة، إذا قُصد بهذه المفارقة مفارقة مشاهدة العصاة والمعاصي، بهذه النية تنقلب إلى عبادة، كما أن النوم للتخلص من بعض الأعمال المحرمة والمكروهة يكون عبادة، كما أنه يكون عبادة أيضًا إذا استعين به على طاعة الله -سبحانه وتعالى-، وقيل: يتعبد بالتفكر.

"قبل أن يَنْزِع إلى أهله" يَنْزِع بفتح أوله وكسر الزاي، أي يحن ويشتاق ويرجع "ويتزوَّدُ لذلك" برفع الدال، أي يتخذ الزاد للخلوة، "يتزودُ لذلك" برفع الدال، لماذا لم نعطفها على ينزع؟ يفسد المعنى، لو قلنا: قبل أن يتزود ما نفع؛ لأن العطف على نية تكرار العامل. "ثم يرجع إلى خديجة" زوجه وهو تفسيرٌ للأهل السابق الذكر، "فيتزود لمثلها"، أي لمثل الليالي، وفي رجوعه -عليه الصلاة والسلام- دليلٌ على أن الانقطاع الدائم عن الأهل ليس من السنة، "حتى جاء الحق" وهو الوحي، وفي التفسير "حتى فَجَأه الحق" أي بَغَته، "وهو في غار حراء فجاءه الملك" جبريل -عليه السلام- في يوم الإثنين لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وهو ابن أربعين سنة. "فقال: اقرأ" هذا الأمر لمجرد التنبيه والتيقظ لما سيلقى إليه؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- أمي لا يقرأ ولا يكتب، فكيف يُؤمَر بالقراءة وهو أمي؟ "اقرأ" إنما أُمر ليتنبه ويتيقظ لما سيلقى عليه، ويحتمل أن يكون على بابه من الطلب كما قال بعض الشراح، وأنه أُمر بالقراءة فعلاً، فيُستدَل به على تكليف ما لا يطاق في الحال، وإن قُدِر عليه بعد. "قال" -صلى الله عليه وسلم- وفي رواية: «قلت» «ما أنا بقارئ» وهذه الرواية: «قلت» تؤيد أن عائشة سمعت الخبر من النبي -عليه الصلاة والسلام-.

«ما أنا بقارئ» وفي رواية: «ما أحسن أن أقرأ» وفي رواية: «ماذا أقرأ؟»، قال -صلى الله عليه وسلم-: «فأخذني» يعني جبريل -عليه السلام-، «فغطَّني» أي ضمني وعصَرَني، وعند الطبري: «فغتَّني» بالتاء، والغتُّ حبس النفَس، «حتى بلغ مني الجهد» بفتح الجيم ونصب الدال، أي بلغ الغط مني غاية وُسْعي، وروي بالضم والرفع أي: بلغ مني الجُهدُ مبلغه، «ثم أرسلني» أي أطلقني، «فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطَّني» وهكذا مرتين، ثم الثالثة (فغطَّني) الثالثة، وفائدة هذا الغط ليفرغه عن النظر إلى أمور الدنيا، ويقبل بكليته إلى ما يلقى إليه، وكرره للمبالغة، واستدَل به بعضهم على أن المؤدِّب لا يضرب المؤدَّب أكثر من ثلاث ضربات، لكن هل هذا الغط للتأديب ليتم الاستدلال، أو هو لمجرد التنبيه والتيقظ؟ للتنبيه وليس للتأديب، «ثم أرسلني، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [سورة العلق 1]» في هذا دليلٌ على أن أول ما نزل من القرآن هذه السورة سورة اقرأ، أو الخمس الآيات الأولى منها إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [سورة العلق 5] في الصحيحين في البخاري ومسلم عن يحيى بن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة أي القرآن أُنزِل قبل؟ قال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [سورة المدثر 1] فقلت: أو (اقرأ)؟ فقال: سألتُ جابر بن عبد الله أي القرآن أُنزِل قبل؟ قال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فقلت: أو (اقرأ)؟ قال جابر: أُحدِّثكم ما حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «جاورت بحراء شهرًا، فلما قضيتُ جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أرَ شيئًا، ونظرت عن شمالي فلم أرَ شيئًا، ونظرت أمامي فلم أرَ شيئًا، ونظرت خلفي فلم أرَ شيئًا، فرفعت رأسي فرأيت شيئًا، فأتيت خديجة فقلت: دثِّروني، وصُبُّوا عليَّ ماءً باردًا، قال: فدثروني فصَبوا علي ماءً باردًا، قال: فنزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [سورة المدثر 1-3] استدَل به يحيى بن أبي كثير وجابر على أن {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} أول ما نزل من القرآن، وحديث الباب صريحٌ في أن أول ما نزل (اقرأ).

يقول النووي في شرح مسلم: قوله: إن أول ما أنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [سورة المدثر 1] ضعيف، بل باطل. أقول: هذه العبارة وإن صدرت من النووي إلا أنه لكون القائل صحابي لا تليق، لأن هذا فهم الصحابي، هو ثابت إلى الصحابي وهو في الصحيحين، لكن هذا فهمه، تقول: باطل وهو قول صحابي؟! نعم قولٌ مرجوح، والراجح غيره، هذا فهمه. ثم استدل النووي على ما ذهب إليه حيث قال: والصواب أن أول ما نزل على الإطلاق {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [سورة العلق 1] كما صُرِّح به في حديث عائشة -رضي الله عنها-، وأما {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [سورة المدثر 1] فكان نزولها بعد فترة الوحي، كما صُرِّح به في رواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر، والدلالة صريحة فيه في مواضع منها قوله: وهو يحدِّث عن فترة الوحي إلى أن قال: فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [سورة المدثر 1] عن فترة الوحي، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [سورة المدثر 1] دليلٌ على أن هناك وحي قبل {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [سورة المدثر 1] ومنها: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء، ثم قال: فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [سورة المدثر 1]» فدل على أن الملَك جاءه قبل ذلك بحراء، ومنها قوله: ثم تتابع الوحي يعني بعد فترته، كل هذه أدلة على أن أول ما نزل من القرآن {اقْرَأْ} وإن فهم الصحابي أن أول ما نزل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [سورة المدثر 1]  يقول الطيبي: في قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [سورة العلق 1] يقول: هذا أمرٌ بإيجاد القراءة مطلقًا، وهو لا يختص بمقروءٍ دون مقروء، فقوله: {بِاسْمِ رَبِّكَ} أي قل: بسم الله الرحمن الرحيم، فهذا يدل على أن البسملة مأمورٌ بها في ابتداء كل قراءة.

وقوله: {رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [سورة العلق 1] وصفٌ مناسبٌ مشعر بعِلِّية الحكم بالقراءة، والإطلاق في قوله: {خَلَقَ} أولاً: على منوال يعطي ويمنع، وجعله توطئةً لقوله: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [سورة العلق 2] قال السهيلي: لما قال ثلاثًا: ما أنا بقارئ، قيل له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي لا تقرأ بقوِّتك، ولا بمعرفتك، لكن بحولِ ربك وإعانته، فهو يعلمك كما خلقك، ولما نزع عنك علق الدم ومغمز الشيطان في الصغر، وعلَّم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم، بعد أن كانت أُمِّية وفي قوله: {خَلَقَ الإِنسَانَ} إشارة إلى أن الإنسان أشرف المخلوقات، ثم الامتنان بقوله: {عَلَّمَ الإِنسَانَ} [سورة العلق 5] يدل على أن العلم أجل النعم، {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [سورة العلق 5] أي الزائد في الكرم على كل كريم.

المقدم: بالنسبة لما ذكرتم عن جابر -رضي الله عنه- في ترجيحه تقديم {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} يقول: وهو يرويه عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، يقول: أحدثكم بما سمعت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، بناءً على سماعه فقط نحن رددنا قوله بناءً على الفهم، وإلا لم يصرح النبي -عليه الصلاة والسلام- في أن أول ما بُدِئ به الوحي عليه بـ{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}؟

النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يصرِّح بذلك، وإنما فهم جابر -رضي الله عنه- أن أول ما نزل عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} يقول: أحدثكم ما حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «جاورت بحراء شهرًا، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت» الآن سورة اقرأ نزلت في الجوار نفسه أو بعد الجوار؟ في الجوار بالغار، فدل على أنه بعد الجوار نزلت سورة {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} بينما اقرأ في وقت الجوار «فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا...» إلى آخره، فقلت: «دثروني» إلى أن قال: «فنزلت يا أيها المدثر».

المقدم: هنا بقي شهرًا كما في النص قبل قليل، ونحن نقول: أنه ابتدأ -عليه الصلاة والسلام- بالتحنث في مدة تقرب من ستة أشهر، أو هذه فقط كانت بدايتها في الرؤيا الصالحة؟

الرؤيا مدة الرؤيا ستة أشهر.

المقدم: والتحنث كان شهرًا؟

كان شهرًا نعم.

المقدم: أحسن الله إليكم أخيرًا بالنسبة لسورة (اقرأ) بعضهم يقول: (اقرأ) وبعضهم: (العلق) هل فيها تسمية ثابتة؟

السورة قد تسمى بأبرز ما فيها، وقد تسمى بأوَّل لفظٍ منها، والأدلة على ذلك من سور القرآن كثيرة، كما يقال: الفاتحة والحمد، وهكذا.

وقفنا على قولها: "فرجع بها" أي بالآيات أو بالقصة، والفاعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، "يَرجِف" أو "يَرجُف" يخفق ويضطرب، "فؤاده" الفؤاد: هو القلب، أو باطن القلب، أو غشاء القلب، على خلافٍ في ذلك بين الشراح، لما فجأه من الأمر المخالف للعادة والمألوف، فنفر طبعه البشري وهالَه ذلك، ولم يتمكن من التأمل في تلك الحالة؛ لأن النبوة لا تُزِيل طباع البشر كلَّها، "فدخل -صلى الله عليه وسلم- على خديجة بنت خويلد" أم المؤمنين -رضي الله عنها- التي أَلِفَ تأنيسها له فأعلَمها بما وقع له، وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن خمسٍ وعشرين سنة، وهي أم أولاده كلِّهم، خلا إبراهيم فمن ماريَة القبطية، ولم يتزوج قبلها ولا عليها حتى ماتت -رضي الله عنها-، توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين على الأصح، فأقامت أربعًا وعشرين سنة وأشهر، وهي أول من آمن من النساء اتفاقًا، بل أول من آمن مطلقًا على قول.

فقال: -صلى الله عليه وسلم-: «زمِّلوني زمِّلوني» بكسر الميم، مع التكرار مرتين، من التزميل وهو التلفيف، وقال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر، والعادة جارية بسكون الرِّعْدة بالتلفلف، "فزمَّلوه" أي لفُّوه "حتى ذهب عنه الرَّوع" أي الفزع، "فقال -صلى الله عليه وسلم- وأخبرها الخبر" جملة حاليَّة، «لقد» اللام واقعة في جواب قسم مقدَّر تقديره: والله لقد خشيت على نفسي واختلف في سبب الخشية، هل خشي من الموت من شدة الرعب؟ أو خشي من المرض؟ أو خشي أن يفقد عقله -عليه الصلاة والسلام-؟ أو خشي أن لا يطيق حمل أعباء الوحي أو غير ذلك؟ ذكر الحافظ ابن حجر في المراد بالخشية ذكر أن العلماء اختلفوا في المراد بالخشية على اثني عشر قولاً.

"فقالت خديجة: كلا" نفيٌ وإبعاد، أي لا خوفٌ عليك، وفي التهذيب للأزهري قال الأخفش: معنى كلا الرَّدْع والزجْر، وهو مذهب الخليل، وإليه ذهب الزجاج في جميع القرآن، وقال ابن الأنباري: قال المفسرون معنى كلا: حقًا. "والله ما يخزيك الله أبدًا" يخزيك من الخِزي، أي ما يفضحك الله، وفي رواية الكشميهني: "ما يحزنك" بفتح أوله والحاء المهملة "يَحْزُنك" أو بضم الياء وكسر الزاي من الحُزْن من الثلاثي أو الرباعي.

المقدم: عفوًا -فضيلة الدكتور- الكشميهني يتكرر كثيرًا، هو له علاقة بصحيح البخاري؟

نعم، أحد الرواة المشهورين، بل من أشهر الرواة على ما قال عنه الشراح، لا سيما ابن حجر ذكره في مواضع أنه ليس من الحفاظ بل هو مجرد راوية، لكنه راوية من أتقن الرواة، وإن كان ليس أتقنهم، بل في بعض رواياته شيءٌ من الاستدراك، لكنه من أتقن الرواة؛ لأن ابن حجر ثلاث مرات يذكره، ويذكر أن بعض الشراح يغمزه، لكن مع ذلك هو متقن في الجملة، وإن كان عليه بعض الملاحظات.

"والله ما يخزيك الله أبداً" ثم ذكرَت العِلَّة والسبب على ما أقسمت عليه "إنك لتصل الرحم" أي القرابة، "وتحمل الكل" الذي لا يستقل بأمره، كما قال تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} [سورة النحل 76].

"وتكسب المعدوم" أي تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، وكسب يتعدَّى بنفسه إلى واحد، نحو كسبْتُ المال، وإلى اثنين نحو كسبْتُ غيري المالَ، وهذا منه، وتَكسِب بفتح التاء، وللكشميهني تُكسِب بضم أوله من أَكْسَبَ أي تُكسِبُ غيرك المال المعدوم، أي تتبرع به، والرواية الأولى أصح كما قال القاضي عياض.

قال الخطابي: الصواب المُعْدِم، بلا واو أي الفقير؛ لأن المعدوم لا يُكسَب، المعدوم معدوم يعني مفقود كيف يُكسَب؟ وأجيب بأنه لا يمتنع أن يُطلَق على المُعدِم المعدوم؛ لكونه كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له، وفي تهذيب اللغة للأزهري -وهو بالمناسبة كتابٌ من أنفس كتب اللغة وأهمها وأعلاها-: قال ابن الأعرابي: رجلٌ عديمٌ لا عقل له، ورجلٌ مُعدِم لا مال له وقال غيره: فلانٌ يكسب المعدوم إذا كان مجدودًا ينال ما يُحرمه غيره.

"وتقري الضيف" بفتح أوله بلا همز، وقال الأُبي: وسمع بضمها رباعيًّا أي تهيئ له طعامه ونزله.

"وتعين على نوائب الحق" أي: حوادثه، وفي هذا إشارة إلى فضل خديجة وجزالة رأيها، وإجابته بكلامٍ فيه قسم وتأكيد بإن واللام لتزيل حيرته ودهشته، واستدلت على ما أقسمت عليه بأمر استقرائي جامعٍ لأصول مكارم الأخلاق، وفيه: دليلٌ على أن من طُبِع على أفعال الخير لا يصيبه ضير، لا شك أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وهذا منها. خديجة -رضي الله عنها- استدلت بأمرٍ استقرائي وجزمت بذلك وأقسمت عليه، وهذا لا شك أنه من جزالة رأيها، وتمام عقلها.

"فانطلقت" أي مضت "به خديجة" مصاحبة له "حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابنَ عم خديجة" بنصب "ابن" الأخيرة بدلاً من ورقة أو صفة، ولا يجوز جره؛ لأنه يصير صفةً لعبد العزى وليس كذلك، ويكتب بالألف، ولا تحذف؛ لأنه لم يقع بين علمين متوالدين، كما يقال: عبد الله بن أبي ابن سلول، الثانية تكتب بالألف، عبد الله بن مالك ابن بحينة وهكذا، ويجتمع ورقة مع خديجة في أسد؛ لأنها بنت خويلد بنت أسد.

"وكان ورقة امرأً قد" ترك عبادة الأوثان "وتنصر في الجاهلية" أي اعتنق النصرانية قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذلك أنه خرج هو وزيد بن عمرو بن نفيل لما كره طريق الجاهلية إلى الشام وغيرها يسألان عن الدين، فأعجب ورقةَ النصرانيةُ للقيِّه من لم يبدِّل شريعة عيسى -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه لقي من النصارى من لم يبدِّل فأعجب بدينهم، وأما زيد بن عمرو بن نفيل فذكر البخاري في صحيحه في كتاب المناقب عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين، فلقي عالمًا من اليهود، فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلِّي أن أدين بدينكم، فأخبرني، فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال: زيد ما أفرُّ إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئًا أبدًا، وأنَّى أستطيعه؟ فهل تدلُّني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دينُ إبراهيم لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا يعبد إلا الله، فخرج زيدٌ فلقي عالمًا من النصارى فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: ما أفِرُّ إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئًا أبدًا، وأنَّى أستطيع ذلك؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفًا، قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم -عليه السلام- خرج فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم. وفيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: رأيتُ زيد بن عمرو بن نفيل قائمًا مسندًا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري.

"وكان" ورقة أيضًا "يكتب الكتاب العبراني" أي الكتابة العبرانية، وفي روايةٍ في الصحيحين: "الكتاب العربي" "فيكتب من الإنجيل" بالعبرانية "ما شاء الله أن يكتب" والعِبرانية بكسر العين فيهما نسبة إلى العِبر بكسر العين وإسكان الموحدة، وزيدت الألف والنون في النسبة على غير قياس، قيل: سميت بذلك لأن الخليل -عليه السلام- تكلم بها لما عَبَر الفرات فارًّا من نمرود، وقيل: إن التوراة عبرانية والإنجيل سرياني، وكتابته الإنجيل باللغة العبرانية لتمكنه في دين النصارى، ومعرفته بكتابهم، وصحح ابن حجر كونه يكتب بالعبرانية والعربية؛ لأن ورقة تعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية، فكان يكتب الكتاب العبراني كما كان يكتب الكتاب العربي.