شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (051)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.
مع مطلع حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كلية أصول الدين، قسم السنة وعلومها، فأهلاً بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"بابُ: كفران العشير وكفر دون كفر.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أُريت النار فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن» قيل: أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيت منك خيرًا قط»."
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فالترجمة كما نبهنا مرارًا لا توجد في المختصَر، وهي موجودة في الأصل، لكن الشرح للمختصَر، فالأصل ألا تُذكَر.
حديث "ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أُريت النار»" ابن عباس راوي الحديث هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب حبر الأمة، وترجمان القرآن، سبقت ترجمته في الحديث الخامس من بَدْء الوحي.
والحديث ترجم عليه الإمام -رحمه الله تعالى- بقوله: "باب كفران العشير وكفر دون كفر" يقول ابن العربي في شرحه على البخاري، والنقل بواسطة ابن حجر: مراد المصنف أن يبيِّن أن الطاعات كما تُسمَّى إيمانًا كذلك المعاصي تسمى كفرًا، لكن حيث أطلق عليها الكفر، لا يراد الكفر المخرج من الملة؛ ولذا قال الإمام: "باب كفران العشير وكفر دون كفر" قال: وخص كفران العشير من بين أنواع الذنوب لدقيقة بديعة، وهي قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لو أَمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» فقرن حق الزوج على الزوجة بحق الله، فإذا كفرت المرأة حق زوجها، وقد بلغ من حقه عليها هذه الغاية، كان ذلك دليلاً على تهاونها بحق الله؛ فلذلك أَطلق عليها الكفر، لكنه كفر لا يخرج من الملة، يقول ابن حجر: ويؤخذ من كلامه مناسبة هذه الترجمة لأمور الإيمان من جهة كون الكفر ضد الإيمان، يعني من باب قولهم: "وبضدها تتبين الأشياءُ" يقول العيني: وجه المناسبة بين هذا الباب وبين الأبواب التي قبله هو أن المذكور في الأبواب الماضية أمور الإيمان، والكفر ضده، والمناسبة بينهما من جهة التضاد؛ لأن الجامع بين الشيئين على أنواع عقلي ووهمي وخيالي، ثم فسر القول في هذه الأنواع، ولا أَرى داعيًا لتفصيلها، ثم قال: ولم أرَ شارحًا ذكر وجه المناسبة هاهنا كما ينبغي، يريد أن يذكر العيني أنه تفرد بذكر المناسبة بهذه الدقة التي فصلها بالأوجه الجامعة بين الأشياء، وهي على أنواع: عقلية ووهمية وخيالية، وذكر لكل نوع أمثلة، وهو يريد أن يجعل الرابط بين هذا الحديث وبين الترجمة وبين الترجمة وبين الأبواب السابقة من هذه الأنواع.
هذه التفاصيل التي ذكرها لا أرى داعيًا لتفصيلها وبيانها، إذا قلنا: إن الكفر ضد الإيمان، والأبواب الماضية كلها في أمور الإيمان، فإذا عرفنا الإيمان لا بد أن نعرف ضده؛ لأن بضدها تتبين الأشياءُ، كما قالوا قديمًا، فإذا عرفنا الضد عرفنا ضده، وهل الكفر ضد كما يقولون؟ كما قال ابن حجر من جهة كون الكفر ضد الإيمان، والعيني يقول: والكفر ضده، أو هو نقيض الإيمان؟ في كلام ابن حجر وفي كلام العيني التواطؤ على أن الكفر ضد الإيمان، وهل الكفر ضد للإيمان أو نقيض؟ النقيضان...
المقدم: لا يجتمعان.
لا يجتمعان، والضدان؟ النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان.
المقدم: ولا يرتفعان.
نعم، والضدان لا يجتمعان، لكن قد يرتفعان.
المقدم: قد يرتفعان.
نعم، البياض ضد السواد لا يجتمعان، لا يمكن أن يجتمعان.
المقدم: لكن قد يرتفعان...
لكن قد يرتفعان، فيكون اللون أخضر، أصفر، أحمر، لكن الوجود والعدم نقيضان ولا ودان؟
المقدم: نقيضان.
نقيضان؛ لأنهما لا يمكن أن يجتمعان ولا يرتفعان، لا يمكن أن يقال لعين في آن واحد: أنها موجودة معدومة، ولا يمكن أن يقال: أنها لا موجودة ولا معدومة، وهنا الإيمان والكفر هل يمكن أن يوصف شخص بأنه ليس بمؤمن ولا كافر؟
المقدم: لا يمكن.
مع اتحاد الجهة.. والمراد بالكفر الذي هو نقيض الإيمان الكفر المخرج عن الملة، أما كفر النعم، أو كفر دون كفر، على ما في هذا الباب يجتمع مع الإيمان، فيكون مؤمن بإيمانه، فاسق بما ارتكبه من مكفِّر، بكفر لا يخرج من الملة وهو الفسق، جاء إطلاق الكفر على بعض الكبائر لكنه كفر لا يخرج من الملة، فهذا قد يوصف به من آمن وصدق بالله -عز وجل-.
إذًا نقول: الإيمان نقيض الكفر، لا يمكن أن نقول الإيمان نقيض الكفر إلا على مذهب من يجعل الفاسق بكبيرة في منزلة بين المنزلتين، إذا أثبتنا واسطة وقلنا: أن فلان ليس بمؤمن ولا كافر، في منزلة بين المنزلتين على مذهب المعتزلة، يمكن أن يثبتوا واسطة كما أثبتوا الواسطة بين الصدق والكذب، أعني المعتزلة فقالوا: هناك كلام لا يوصف بأنه صدق ولا كذب، والمعتمَد عند أهل السنة أنه لا واسطة بينهما، فالكلام إما صدق وإما كذب.
قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أُريت» بضم الهمزة مبنيًا للمفعول من الرؤية بمعنى الإبصار، والتاء نائب الفاعل، وهي في الأصل المفعول الأول، والنار مفعول ثانٍ، أي أراني الله النار.
«فإذا أكثر أهلها النساء» بالرفع، مبتدأ وخبر «أكثرُ أهلها النساءُ» و(إذا) هي الفجائية «يكفرن» بمثناة تحتية، مفتوحة، والجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدَّر، كأنه قيل: لِمَ يا رسول الله؟ وفي رواية: «بكفرهن» أي بسبب كفرهن، والسؤال المقدَّر: لِمَ يا رسول الله صار النساء أكثر أهل النار؟ فجاء الجواب «يكفرن» وفي رواية: «بكفرهن» وقد يكون السؤال في الأصل مذكور، لكن حذفه الراوي، وحذف السؤال في مثل هذا السياق شائع ذائع.
"قيل: يا رسول الله أيكفرن بالله؟ قال -عليه الصلاة والسلام-: «يكفرن العشير»" أي الزوج، وقيل له: عشير بمعنى معاشِر، مثل أكيل بمعنى مؤاكِل، وجليس بمعنى مجالِس، وأنيس..، فـ(أل) في العشير للعهد، إذا قلنا: إن المراد بالعشير الزوج، أو المعاشر مطلقًا فتكون للجنس «يكفرن العشير» الأكثر على أن المراد بالعشير الزوج، وعلى هذا تكون (أل) للعهد، وإذا قلنا: العشير المعاشِر أيًّا كان زوج أب أخ، قريب، جار من النساء، قلنا: (أل) هنا للجنس فيشمل الجميع، والمعاشَرة: المخالَطة.
يقول الكرماني: لم يُعدَّ كفران العشير بالباء كما عُدِّي الكفر بالله؛ لأنه قال: أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير» ما قال: يكفرن بالعشير، كما قال: «يكفرن بالله» لماذا؟ يقول: لأنه ليس متضمنًا معنى الاعتراف، كفر العشير ليس متضمنًا معنى الاعتراف بخلافه، الإيمان بالله الذي هو نقيض الكفر بالله، متضمن للاعتراف، بينما حق العشير الذي ينبغي أن يشكر بسببه لا يتضمن الاعتراف، بخلاف الإيمان بالله، كذا قال.
«ويكفرن الإحسان» هذه جملة مبيِّنة لما قبلها، أشار بها إلى أنه ليس كفران العشير لذاته، بل لكفران إحسانه، يقول النووي: أصل الكفر الستر والتغطية، ويطلق على الكفر بالله تعالى، ويطلق على الحقوق والنِّعَم.
ثم الكفر بالله -سبحانه وتعالى- أنواع، قال الإمام أبو منصور الأزهري -رحمه الله تعالى-: أصل الكَفر أو أصل الكُفر السَّتر والتغطية، وإذا قلنا: السَّتر فلا بد أن نقول: الكَفر لتكون بوزنها ومعناها، يقال لليل: كافر لأنه يستر الأشياء بظلمته، ويقال للذي لبس درعًا ولبس فوقها ثوبًا: كافر لأنه غطى الدرع، وفلان كفر النعمة إذا سترها فلما يشكرها، ويقال للزارع: الكافر لأنه يغطي البذر تحت التراب.
وقال بعض العلماء: الكفر أربعة أنواع: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر معاندة، وكفر نفاق، وهذه الأربعة من لقي الله تعالى بوحدة منها لم يغفر له، فكفر الإنكار أن يكفر بقلبه ولسانه، وألا يعرف ما يذكر له من التوحيد، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [سورة البقرة 6] أي كفروا بتوحيد الله -سبحانه وتعالى-، وأنكروا معرفته.
وأما كفر الجحود فأن يعرف بقلبه ولا يقر بلسانه، وهذا ككفر إبليس وأُمَيَّة بن أبي الصَّلْت.
وكفر المعاندة أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه، ويأبى أن يقبل الإيمان بالتوحيد، ككفر أبي طالب.
وأما كفر النفاق فأن يقر بلسانه ويكفر بقلبه ككفر المنافقين.
قال الأزهري: ويكون الكفر بمعنى البراءة، قال الله تعالى عن الشيطان: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ} [سورة إبراهيم 22] أي تبرأت، قال الأزهري: وأما الكفر الذي هو دون ما ذكرنا، فالرجل يقر بالوحدانية والنبوة بلسانه، ويعتقد ذلك بقلبه، لكنه يرتكب الكبائر من القتل والسعي في الأرض بالفساد، ومنازعة الأمر أهله، وشق عصا المسلمين ونحو ذلك، هذا كلام الأزهري.
يقول النووي في شرحه على أوائل صحيح البخاري: واعلم أن الشرع أطلق الكفر على ما سوى الأنواع الأربعة، وهو كفران الحقوق والنِّعَم، فمن ذلك حديث الباب: «يكفرن العشير» وحديث: «إذا أبَق العبد من مواليه فقد كفر» رواه مسلم، وحديث: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» وأشباه ذلك، وهذا مراد البخاري -رحمه الله تعالى- بقوله: "وكفر دون كفر".
يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: للعلماء في هذه الأحاديث وما أشبهها مسالك متعددة، يعني الذنوب التي لا تُخرِج من الملة وأطلق الكفر بإزائها للعلماء فيها مسالك، كيف يوجهها أهل العلم؟ عمل لا يُخرِج من الملة وأطلق عليه في النصوص كفر، يقول ابن رجب -رحمه الله تعالى-: وللعلماء في هذه الأحاديث وما أشبهها مسالك متعددة، منهم من حملها على من فعل ذلك مستحلاًّ لذلك، وقد حمل مالك حديث: «من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما» هذا الحديث في الصحيحين، حمله على الحرورية المعتقدين كفر المسلمين بالذنوب، نقله عنه أشهب، وكذلك حمل إسحاق بن راهويه «من أتى حائضًا أو امرأةً في دبرها فقد كفر» على المستحل لذلك، نقله حرب وإسحاق الكوسج، ومنهم من يحملها على التغليظ والكفر الذي لا ينقل عن الملة، كما تقدم عن ابن عباس وعطاء، يعني في كلام ابن رجب -رحمه الله-.
ونقل إسماعيل الشالنجي عن أحمد، وذُكر له قول ابن عباس المتقدم، ما هذا الكفر؟ قال أحمد: هو كفر لا ينقل عن الملة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، وعلى هذا الكفر بعضه دون بعض، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يُختلف فيه.
ثم قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: وقد ذكر بعض الناس أن الإيمان قسمان: أحدهما: إيمان بالله، وهو الإقرار والتصديق به، والثاني: إيمان لله، فالأول إيمان بالله، والثاني إيمان لله، وهو الطاعة والانقياد لأوامره، فنقيض الإيمان الأول الكفر، ونقيض الثاني الفسق، فنقيض الإيمان الأول الكفر، الإيمان بالله الإقرار والاعتراف والتصديق نقيضه الكفر، ونقيض الثاني الإيمان لله والانقياد لأوامره وطاعته الفسق، وقد يسمى كفرًا، ولكن لا ينقل عن الملة، وجاءت كلمة النقيض في كلام ابن رجب -رحمه الله تعالى-.
المقدم: وليس الضد.
وليس الضد، لا يمكن أن يكون ضدًّا إلا على رأي المعتزلة الذين يثبتون واسطة؛ لأن الوصف بأحد الوصفين الإيمان أو الكفر لا يمكن أن يرتفع.
وقد وردت نصوص اختلف العلماء في حملها على الكفر الناقل عن الملة أو على غيره، مثل الأحاديث الواردة في كفر تارك الصلاة، وتردد إسحاق بن راهويه فيما ورد في إتيان المرأة في دبرها أنه كفر، هل هو مخرج عن الدين بالكلية أم لا؟ ومن العلماء من يتوقَّى الكلام في هذه النصوص تورعًا، يعني يمرها كما جاءت، فلا يدخل في التفاصيل، ولا يفسر، ولا يوضح المراد، يقول: من العلماء من يتوقى الكلام في هذه النصوص تورعًا، ويمرها كما جاءت من غير تفسير، مع اعتقادهم أن المعاصي لا تخرج عن الملة، قال الزهري لما سئل عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ليس منا من لطم الخدود» وما أشبهه من الحديث فقال الزهري: من الله العِلْم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، فبهذا نعلم خطأ من يبحث ويتكلف الحكمة لكل شيء من الأوامر أو النواهي، فإن وجد الحكمة ولاحت له وظهرت له انقاد وأذعن وإلا فلا، كما قال الزهري -رحمه الله-: من الله العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، يعني سواء فهمنا أو لم نفهم، ونقل عبدوس بن مالك العطار عن أحمد أنه ذكر هذه الأحاديث التي ورد فيها لفظ الكفر فقال: نسلمها وإن لم نعرف تفسيرها، ولا نتكلم فيه، ولا نفسرها إلا بما جاءت، يعني تفسيرها قراءتها.
ومنهم من فرق بين إطلاق لفظ الكفر فجوزه في جميع أنواع الكفر، سواء كان ناقلاً عن الملة أو لم يكن، وبين إطلاق اسم الكافر فمنعه إلا في الكفر الناقل عن الملة، منهم من فرق بين إطلاق لفظ الكفر فجوزه في جميع أنواع الكفر سواء كان ناقلاً عن الملة أو لم يكن، يعني ما يمنع أن تقول: فلان فيه كفر، يعني فيه وصف من أوصاف الكفار، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- لأبي ذر: «إنك امرؤ فيك جاهلية» لكن ما قال له: أنت جاهلي، كما أنه لا يجوز لك أن تقول لفلان: أنت كافر، لكنك ارتكبت وصفًا يفعله الكفار. وبين إطلاق اسم الكافر فمنعه إلا في الكفر الناقل عن الملة؛ لأن اسم الفاعل لا يشتق إلا من الفعل الكامل؛ ولذلك قال في اسم المؤمن لا يقال إلا للكامل الإيمان، فلا يستحقه من كان مرتكبًا للكبائر حال ارتكابه، وإن كان يقال: قد آمن ومعه إيمان، وهذا اختيار ابن قتيبة.
قال ابن رجب -وهذه مهمة جدًّا-: وقريب منه قول من قال: إن أهل الكتاب يقال: إنهم أشركوا، وفيهم شرك، كما قال الله تعالى: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة 31] ولا يدخلون في اسم المشركين، لكن يقال: هم أشركوا وفيهم شرك، ولا يدخلون في اسم المشركين عند الإطلاق، بل يفرق بينهم وبين المشركين، على كل حال هم كفار، هم كفار بلا شك، ولا تردد في كفر أهل الكتاب، لكن هل يدخلون في اسم المشركين؟ لنحتاج إلى مخصص في مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [سورة البقرة 221]؟ يقول: بل يفرق بينهم وبين المشركين، كما في قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [سورة البينة 1] فالكفر شامل للمشركين وأهل الكتاب، فلا تدخل الكتابية في قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [سورة البقرة 221] وقد نص على ذلك الإمام أحمد وغيره، يعني لا نحتاج إلى مخصص للآية؛ ولذا كره أكثر السلف أن يقول الإنسان: أنا مؤمن حتى يقول: إن شاء الله، وأباحوا أن يقول: آمنت بالله، وجاء الأمر بذلك «قل: آمنت بالله، ثم استقم» «قل: آمنت بالله» لا مانع أن تقول: آمنت بالله، لكن تقول: أنا مؤمن هذه تزكية لنفسك، فأكثر السلف يقولون: قل: إن شاء الله.
قوله: «لو» وفي رواية: «إن» «أحسنت إلى إحداهن الدهر» أي مدة عمرك، أو الدهر كله على سبيل الفرض مبالغة في كفرهن، وهو منصوب على الظرفية، والخطاب في «أحسنت» غير خاص؛ لأنه لم يواجه به شخص بعينه، بل هو عام لكل من يتأتى منه أن يكون مخاطبًا، كل من لديه امرأة يمكن أن يكون مخاطب بهذا الكلام، فإن قيل: (لو) لامتناع الشيء بامتناع غيره، (لو) حرف امتناع لامتناع، فهل امتنع إطلاق الكفر لامتناع الإحسان لو أحسنت؟ أو أثبت الكفر مع وجود (لو)؟ فإن قيل: (لو) لامتناع الشيء لامتناع غيره، فكيف صح هنا هذا المعنى؟ فالجواب: أن (لو) هنا بمعنى (إن) فهي لمجرد الشرطية، ويدل لذلك وقوع (إن) في الرواية الأخرى موقعها، ومثل ذلك كثير.
«ثم رأت منك شيئًا» تنوين شيء للتقليل أو التحقير، أي: شيئًا قليلاً لا يوافق مزاجها، أو شيئًا حقيرًا لا يعجبها «قالت: ما رأيت منك خيرًا قَطُّ» بفتح القاف وتشديد الطاء، مضمومة على الأشهر، ظرف زمان لاستغراق ما مضى؛ لأن ظاهر قولهم: فإن قيل: (لو) لامتناع الشيء لامتناع غيره، لو اجتهد زيد، نجح، امتنع النجاح لامتناع الاجتهاد، لو أتيتني أكرمتك، امتنع الإكرام لامتناع الإتيان، وهذا بخلاف (لولا) فهي حرف امتناع لوجود، هنا هل جاءت بمعنى الامتناع للامتناع؟ «لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئًا» «لو أحسنت إلى إحداهن الدهر» فالكفر ثابت، كفر العشير ثابت «لو أحسنت» ما امتنع الكفر لامتناع الإحسان، المَخرَج من ذلك أن يقال: إن (لو) هنا بمعنى (إن) كما جاءت في رواية أخرى، وعرفنا أن تنوين شيئًا للتقليل أو التحقير، أي: شيئًا قليلاً، أو شيئًا حقيرًا لا يعجِب «قالت: ما رأيت منك خيرًا قَطُّ» وعرفنا أنها بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة على الأشهر ظرف زمان لاستغراق ما مضى.
المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.
أيها الإخوة الأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من برنامج: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. بقي مجموعة من المسائل الخاصة بهذا الحديث، نستكملها -بإذن الله- في حلقة قادمة مع صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، شكر الله له، شكرًا لكم أنتم على حسن استماعكم.
لنا بكم لقاء -بإذنه تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.