شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (037)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم: قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمرهم؛ أمرهم من الأعمال بما يطيقون، قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب حتى يُعرَف الغضب في وجهه، ثم يقول: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا»."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمرهم؛ أمرهم من الأعمال بما يطيقون" عائشة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق تقدم ذكرها في الحديث الثاني من بدء الوحي -رضي الله عنها وعن أبيها-.

والحديث ترجم عليه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بقوله: باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنا أعلمكم بالله» وأن المعرفة فعل القلب؛ لقول الله تعالى: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [سورة البقرة 225] يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: مراده بهذا التبويب أن المعرفة في القلب التي هي أصل الإيمان فعلٌ للعبد وكسب له، استدل بقوله تعالى: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [سورة البقرة 225] فجعل للقلوب كَسْبًا، كما جعل للجوارح الظاهرة كَسْبًا، والمعرفة مركبة من تصوُّر وتصديق، فهي تتضمن عِلْمًا وعملاً، وهو تصديق القلب، فإن التصوُّر قد يشترك فيه المؤمن والكافر، والتصديق يختص به المؤمن، فهو عمل قلبه وكسبه، وأصل هذا أن المعرفة مكتسبة تدرَك بالأدلة، وهذا قول أكثر أهل السنة من أصحابنا وغيرهم، ورجَّحه ابن جرير الطبري.

المقدم: أحسن الله إليك كأن الإخوة يريدون أن يتبينوا فقط المراد من الترجمة -كما تفضلتم-، نعيدها للإيضاح إذا تكرمتم يا شيخ.

الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- ترجم على الحديث بقوله: بابُ قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أنا أعلمكم بالله» في الحديث صراحة، قال: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا» باب قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أنا أعلمكم بالله» مطابقة ظاهرة، وأن المعرفة فعل القلب؛ لقوله تعالى: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [سورة البقرة 225] يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: مراده بهذا التبويب أن المعرفة بالقلب التي هي أصل الإيمان فعل للعبد وكسب له، واستدل بقوله تعالى: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [سورة البقرة 225] فجعل للقلوب كَسْبًا كما جعل للجوارح الظاهرة كَسْبًا {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [سورة الشورى 30].

المقدم: هذا كلام ابن حجر؟

هذا كلام ابن رجب -رحمه الله تعالى-.

يقول: المعرفة مركَّبة من تصوُّر وتصديق، المعرفة مركَّبة من تصوُّر وتصديق فهي تتضمن علمًا وعملاً، وهو تصديق القلب، فإن التصوُّر قد يشترك فيه المؤمن والكافر، والتصديق يختص به المؤمن، فهو عَمَل قلبه وكسْبه. وأصل هذا أن المعرفة مكتسبة تدرك بالأدلة، يقول: وهذا قول أكثر أهل السنة من أصحابنا وغيرهم، ورجَّحه ابن جرير الطبري، وروى بإسناده عن الفضيل بن عياض أنه قال: أهل السنة يقولون: الإيمان المعرفة والقول والعمل، فجعل المعرفة في مقابل القول والعمل، إذًا المراد بالمعرفة -على تعريف الإيمان السابق- الاعتقاد.

وقالت طائفة: إنها اضطرارية لا كَسْب فيها، وهو قول بعض أصحابنا، وطوائف من المتكلمين والصوفية وغيرهم. المعرفة يقول: اضطرارية، هناك مكتسبة، قول الجمهور أنها مكتسبة، يعني من الأدلة، وهنا الطائفة الأخرى قالت: إنها اضطرارية، يعني يجد الإنسان نفسه مضطرًّا إليها دون نظر ولا استدلال؛ لأنه فرق بين الاضطرار والعلم النظري، أن الاضطرار ما لا يحتاج إلى نظر ولا استدلال، بل يكون مغروسًا في النفس، لا يحتاج إلى استدلال.

المقدم: يكون فعلاً للعبد أيضًا؟ يكون فعلاً للعبد تحصيله؟

إذا كان اضطراريًّا؟

المقدم: نعم.

هو حاصل، لا يد للعبد فيه، ولذا قال: هو قول جمهور أهل السنة القول الأول أنها مكتسبة، أن المعرفة مكتسَبة تُدرَك بالأدلة.

المقدم: هذا الذي جعلني أسأل هل هو لابن حجر أو لابن رجب؟ أنت قلت: إنه لابن رجب، لأن ابن حجر لا أظن أنه سيقول بأنها فعل العبد ومكتسَبة في نفس الوقت، الآن ابن رجب ذكر أنها فعل للعبد ومكتسبة، أنها من أعمال العبد ومكتسبة.

وكسب له، نعم، ما المانع؟

المقدم: وكسب له نعم، وهذا رأي أهل السنة.

هذا معروف، نعم، هذا كلام ابن رجب -رحمه الله-.

يقول ابن حجر -نأتي الآن إلى كلام ابن حجر-: استدل بالآية على أن الإيمان بالقول وحده لا يتم إلا بانضمام الاعتقاد إليه، والاعتقاد فعل القلب، وقوله: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [سورة البقرة 225] أي بما استقر فيها، والآية وإن وردت في الأيمان بالفتح، فالاستدلال بها في الإيمان بالكسر واضح؛ للاشتراك في المعنى، إذ مدار الحقيقة فيهما على عمل القلب، وكأن المصنِّف لمَّح بتفسير زيد بن أسلم، فإنه قال في قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ} [سورة البقرة 225] قال: هو كقول الرجل: إن فعلتُ كذا فأنا كافر. زيد بن أسلم وهو ممن يعتمد عليه في هذا الباب، في التفسير، من التابعين، تدور أقواله كثيرًا في كتب التفسير بالأثر، ويعتنون بها، زيد بن أسلم قال في قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ} [سورة البقرة 225] قال: هو كقول الرجل: إن فعلت كذا فأنا كافر، إذًا علاقة الآية بكتاب الإيمان ظاهرة أو ليست ظاهرة؟

المقدم: نعم الآن ظاهرة.

هي أصلها في الأيمان، لكن دخولها في الإيمان ظاهر أو ليس بظاهر؟ يعني إذا قرنا الآية بتفسير زيد بن أسلم، وأنه قال: كقول الرجل: إن فعلت كذا فأنا كافر، قال: لا يؤاخذه الله بذلك حتى يعقد به قلبه، فظهرت المناسبة بين الآية والحديث، وظهر وجه دخولهما في مباحث الإيمان، فإن فيه دليلاً على بطلان قول الكرامية: إن الإيمان قول فقط، ودليلاً على زيادة الإيمان ونقصانه؛ لأن قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أنا أعلمكم بالله» ظاهر في أن العلم بالله درجات، لأن أعلم أفعل تفضيل، باب أفعل التفضيل يكون فيه فاضل ومفضول مع الاشتراك في الصفة التي هي العلم بالله، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- أعلم بالله، فدل على أن العلم بالله متفاوت، يقول: دليلاً على زيادة الإيمان ونقصانه؛ لأن قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أنا أعلمكم بالله» ظاهر في أن العلم بالله درجات، وأن بعض الناس فيه أفضل من بعض، وأن النبي -عليه الصلاة والسلام- في أعلى الدرجات، والعلم بالله يتناول العلم بصفاته وبأحكامه، وما يتعلق بذلك، فهذا هو الإيمان حقًّا، وقوله في الترجمة: «أنا أعلَمكم» كذا في رواية أبي ذر، وهو لفظ الحديث الذي أورده في جميع طرقه، وفي رواية الأصيلي: «أعرَفُكم» وكأنه مذكور بالمعنى، حمْلاً على ترادفهما هنا، وهو ظاهر، هنا ظاهر في ترادف العلم مع المعرفة، وعليه عمل المصنف -كذا قاله الحافظ-، وإلا فالأصل عدم الترادف، انتهى كلام الحافظ.

أقول: الأصل عدم الترادف؛ لأنه لا يوجد في لغة العرب كلمتان مختلفتان في اللفظ متطابقتان تمامًا من حيث المعنى، لا بد من الفروق الدقيقة بين هذه الكلمات، وهذه من خصائص لغة العرب، الأصل عدم الترادف؛ لماذا؟ لأن العلم كما قرر أهل العلم لا يستلزم سبْق الجهل، بخلاف المعرفة فإنها تستلزم سبْق الجهل؛ ولهذا يوصَف الله -سبحانه وتعالى- بالعلم دون المعرفة، جاء في الحديث: «تعرَّف على الله في الرخاء» جوابه «يعرفْك في الشدة» قد يقول قائل: يعرفك الله في الشدة، هذا من باب المقابلة، ليس المقصود به وصف الله -سبحانه وتعالى- بالمعرفة، إذ لا يسمى بالعارف، يسمى بالعالم والعلام والعليم، لكن لا يسمى العارف.

قال العيني والقسطلاني: الفرق بينهما، يعني من وجه آخر، أن المعرفة هي: إدراك الجزئي، والعلم: إدراك الكلي، ما معنى هذا الكلام؟ الكلام قاله العيني والقسطلاني، يعني من يعرف الجزئيات لا نقول له: عالم، من يعرف الكليات ويدرك الكليات لا نقول له: عارف، والذي لا يدرك الجزئيات لا نقول له: عالم، المعرفة: إدراك الجزئي، والعلم: إدراك الكلي، هذا الكلام صحيح أو ليس بصحيح؟

الحاضر: ......

كيف؟

الحاضر: ......

إذًا ليس بصحيح، والمعرفة تأتي للكليات.

يقول النووي في شرحه، القطعة التي شرحها من الصحيح من أوائله: في الآية دليل للمذهب الصحيح المختار الذي عليه الجمهور أن أفعال القلوب إذا استقرت يؤاخذ بها، إذا استقرت، ليست هاجس ولا خاطر ولا حديث نفس، إذا استقرت في القلوب، يقول: في الآية دليل للمذهب الصحيح المختار الذي عليه الجمهور أن أفعال القلوب إذا استقرت يؤاخَذ بها، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدَّثَتْ به أنفسَها» أو «أنفسُها» على الضبطين «ما لم يتكلموا أو يعملوا به» محمول على ما إذا لم يستقر ذلك، يعني طرأ وزال، معفو عنه بلا شك؛ لأنه لا يمكن الانفكاك عنه بخلاف الاستقرار، يعني لو طرأ الرياء مثلاً في الصلاة ولم يستقر في النفس، بل جاهد نفسه وأزاله بسرعة فإنه لا يؤاخذ عليه، لكن لو تردد في نفسه واستقر فإنه يحبط العمل، نسأل الله العافية.

يقول ابن حجر: قلت: ويمكن أن يستدل لذلك من عموم قوله: «أو تعمل» لأن الاعتقاد هو عمل القلب، والاعتقاد غير الهاجس والخاطر، ثبات الشيء في النفس.

أقول: القصد وهو ما يدور ويتردد على القلب مراتب خمس: الهاجس، والخاطر، وحديث النفس، والهم، والعزم، هذه مراتب القصد: الهاجس، والخاطر، وحديث النفس، والهم، والعزم. والمراتب الأربع الأولى لا مؤاخذة فيها؛ ولذا من هَمَّ بسيئة ولم يعملها...

المقدم: كتبت له حسنة.

نعم، لا يؤاخذ عليها، بخلاف العزم، يقول الناظم:

مراتب القصد خمس هاجس ذكروا
يليه هم فعزم كلها رفعت

 

فخاطر فحديث النفس فاستمعا
إلا الأخير ففيه الإثم قد وقعا

الإرادة، مجرد الإرادة، إرادة العمل يؤاخذ عليها أو لا يؤاخذ؟ إذا أراد هل نقول: إن المراد بالإرادة هنا الهم أو نقول: الإرادة متفاوتة أيضًا؟

إذًا الإرادة هي القصد بمراتبه الخمس، إذًا تخصيص البيت الحرام {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الحـج 25] نقول: خاص هذا به، أو نقول: هذا لمن وصل مرتبة العزم فيشترك مع غيره؟ خاص، إذًا الإرادة هنا دون العزم التي يشترك فيها سائر البقاع، قوله -عليه الصلاة والسلام-، أو قوله في الحديث: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمرهم؛ أمرهم من الأعمال بما يطيقون" يقول ابن رجب -رحمه الله تعالى-: كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يأمر أصحابه بما يطيقون من الأعمال، وكانوا لشدة حرصهم على الطاعات يريدون الاجتهاد في العمل، فربما اعتذروا عن النبي -عليه الصلاة والسلام- بالرفق، واستعماله في نفسه أنه غير محتاج إلى العمل لضمان المغفرة له، وهم غير مضمون لهم المغفرة، فهم محتاجون إلى الاجتهاد ما لا يحتاجه هو إلى ذلك -عليه الصلاة والسلام-، فكان -صلى الله عليه وسلم- يغضب من ذلك، ويخبرهم أنه أتقاهم لله وأعلمهم بالله، فكونه أتقاهم لله يتضمن شدة اجتهاده في خصال التقوى وهو العمل، وكونه أعلمهم به يتضمن أنَّ عِلْمه بالله أفضل من علمهم بالله، وإنما زاد علمه بالله لمعنيين، أحدهما: زيادة معرفته لتفاصيل أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وعظمته وكبريائه، وما يستحقه من الجلال والإكرام والإجلال والإعظام. والثاني: أن علمه بالله مستند إلى عين اليقين، الأول: زيادة معرفته بتفصيل الأسماء والصفات؛ لأن المعرفة بالله عن طريق معرفة أسمائه وصفاته ودلالاتها، وأيضًا معرفة أحكامه وعدله وهو من صفاته، والثاني: أن علمه بالله مستند إلى عين اليقين؛ لأن العلم متفاوت، ثلاثة: علم اليقين، وحق اليقين، وماذا؟ وعين اليقين.

المقدم: وعين اليقين.

أعلاها: عين اليقين، إذا أخبرك من تثق به بحيث لا يكون هناك أدنى مجال للشك بأن زيدًا من الناس قد قَدِم ببضاعة وهي العسل مثلاً، حصل لك من هذا الخبر ماذا؟ علم اليقين، فإذا رأيته بعينك، حق اليقين، فإذا ذقته أخذت منه ولعقته.

المقدم: هذا عين اليقين.

خلاص عين اليقين، فالمراتب متفاوتة، لكن لماذا يكون المذاق أقوى من رؤية العين؟ شخص أعمى ذاق العسل، وشخص مبصر رأى العسل، أيهما أقوى؟ الذي ذاقه؛ لماذا؟ لأنه قد يرى مادة تشبه العسل في تركيبها، في لونها، في كيفيتها.

المقصود أن ابن رجب -رحمه الله تعالى- يذكر أن النبي -عليه الصلاة والسلام- إنما زاد علمه بالله لمعنيين: أحدهما: زيادة المعرفة بتفصيل أسمائه وصفاته... إلى آخر ما قال، والثاني: أن علمه بالله مستند إلى عين اليقين، فإنه رآه، رأى ربه إما بعين بصره كما هو قول لبعض الصحابة ومن تبعهم، أو بعين بصيرته كما قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: "رآه بفؤاده مرتين" وهذا هو الراجح أنه لم يره ببصره، جاء في الحديث: «نور أنى أراه».

"إذا أمرهم؛ أمرهم" بتكرار أمرهم في معظم الروايات، ووقع في بعض الروايات أمرهم مرة واحدة "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمرهم من الأعمال بما يطيقون، قالوا" فعلى التكرير يكون المعنى إذا أمرهم بعمل من الأعمال أمرهم بما يطيقون الدوام عليه، فأمرهم الثانية جواب الشرط، وقالوا: جواب ثانٍ، وعلى الرواية الثانية يكون المعنى كان إذا أمرهم بما يسهل عليهم دون ما يشق عليهم خشية أن يعجزوا عن الدوام عليه، وعَمِلَ هو بنظير ما يأمرهم به من التخفيف طلبوا منه التكليف بما يشق، فيكون جواب الشرط: قالوا، إذا أمرهم قالوا، مع عدم تكرار أمرهم، وعلى الرواية الثانية يكون المعنى كان إذا أمرهم بما يسهل عليهم دون ما يشق خشية أن يعجزوا عن الدوام عليه، وعمل هو بنظير ما يأمرهم به من التخفيف، طلبوا منه التكليف بما يشق لاعتقادهم احتياجهم إلى المبالغة في العمل؛ لرفع الدرجات دونه، الرسول -عليه الصلاة والسلام- درجاته مرتفعة، ما يحتاج إلى مثل هذه المشقة "فيقولون: لسنا كهيئتك، فيغضب -عليه الصلاة والسلام-" من جهة أن حصول الدرجات لا يوجِب التقصير في العمل، بل يوجِب الازدياد شكرًا للمنعِم الوهَّاب، كما جاء في الحديث الآخر: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!» لما كُلِّم قام -عليه الصلاة والسلام- حتى تفطرت قدماه كُلِّم في الموضوع، "كيف تصنع وأنت قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!" لا شك أن هذه نعمة تحتاج إلى شكر؛ ولذا جاء جوابه -عليه الصلاة والسلام- بقوله: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!».

وإنما أمرهم بما يَسهُل عليهم ليداوموا عليه، كما جاء في الحديث الآخر: «أحب العمل إلى الله أدومه» وفي بعض الروايات: «وإن قل».

قوله: "أمرهم بما يطيقون" يقول الكرماني: ظاهره أنه يكلفهم بما يطاق فعله، يعني: ولو كان شاقًّا؛ لأن المشقة لا تنفي القدرة والاستطاعة، يقول: ظاهره أنه يكلفهم بما يطاق فعله، أمرهم بما يطيقون، لكن السياق دل على أن المراد أنه يكلفهم بما يطاق الدوام على فعله، دون ما يطاق فعله فقط، لكن السياق دل على أن المراد أنه يكلفهم بما يطاق الدوام على فعله، فرق بين ما يطاق الدوام عليه لكونه لا يشق، وبينما يطاق فعله مع المشقة.

ومسألة التكليف بما لا يطاق أو التكليف بالمُحَال مسألة خلافية مستوفاة في كتب الأصول، يعني: لولا جوازه لما طُلِب رفعه، أيضًا التكليف بالمُحَال مسألة خلافية في الأصول، منهم من يُثبِت ومنهم من ينفي، على كل حال هي مستوفاة فلا نطيل بها.

يقول القسطلاني: ما يطيقون الدوام عليه فخير العمل ما دام عليه صاحبه وإن قل، ولا يخفى أن الكثرة تؤدي إلى القطع، والقاطع في صورة ناقض العهد. وهو مأخوذ من كلام النووي، فالنووي قال: معناه بما يطيقون الدوام عليه، وقال لهم -صلى الله عليه وسلم- هذا لئلا يتجاوزوا طاقتهم فيعجزوا، وخير العمل ما دام وإن قل، وإذا تحملوا ما لا يطيقون الدوام عليه تركوه أو بعضه بعد ذلك، وصاروا في صورة ناقض العهد، والراجع عادة غير جميلة، يعني الرجوع والنكوص عن العمل عمل الخير عادة غير جميلة، واللائق بطالب الآخرة الترقي، فإن لم يكن فالبقاء على حاله، يعني جميل بطالب العلم أو طالب الآخرة أن يكون وِرْده من القرآن في أول الأمر جزء في اليوم، ثم بعد ذلك يترقى إلى جزأين، إلى ثلاثة، إلى أربعة؛ ليقرأ القرآن في سبع، لكن أن يكون في بداية الأمر أن يقرأ القرآن في سبع، ثم ينزل، إلى عشر، إلى خمسة عشر، إلى مرة في الشهر، هذا ليس بلائق على ما قاله النووي -رحمه الله تعالى-.

الراجع عادة غير جميلة، واللائق بطالب الآخرة الترقي، فإن لم يكن فالبقاء على حاله؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا عمل عملاً أثبته؛ ولأنه إذا اعتاد من الطاعة ما يمكنه الدوام عليه دخل فيها بانشراح واستلذاذ لها ونشاط، ولا يلحقه ملل ولا سآمة، والأحاديث بنحو هذا كثيرة في الصحيح مشهورة.

المقدم: أحسن الله إليكم، إذًا بقي هناك مسائل عديدة في هذا الحديث، فضيلة الشيخ، لعلنا نرجئ الحديث عنها -بإذن الله- في حلقة قادمة.

مستمعي الكرام، انتهى المراد من هذه الحلقة، بقي معنا مجموعة من المسائل، سوف نستكملها -بإذن الله- مع فضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، في حلقة قادمة -بإذن الله تعالى-. حتى ذلكم الحين أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.