شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الاعتكاف - 11
المقدم:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على خيرِ خلقِ الله محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعدُ، فالسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم مستمعينا الكرام إلى هذا اللقاء الجديد في شرح التجديد الصريح لأحاديثِ الجامع الصحيح، أرحبُ بكم، كما أرحبُ بضيفنا في هذه اللقاءات معالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير- وفقه الله- عضو هيئةِ كبارِ العلماء، وعضو اللجنةِ الدائمة للإفتاء، فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشيخ.
حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.
المقدم: لا يزال الكلام في حديثِ عائشةَ- رضي الله عنها- قالت: «وإن كان رسولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- ليُدخلُ عليَّ رأسَه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل ُالبيتَ إلا لحاجة إذا كان معتكفًا».
الحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبدهِ ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
في الجملة الثانية: «وكان لا يدخل البيتَ إلا لحاجة»، قال ابن حجر: زاد مسلمٌ «إلا لحاجة الإنسان»، وفسّرها الزهري بالبولِ والغائط، وقد اتفقوا على استثنائهما، هذا محل إجماع؛ لأن البول والغائط يجب تنزيه المسجد عنهما حتى ولو كان في إناءٍ أو شبهه؛ لأن بعضَ الناس قد يحمله ضعف التصور فيقول إنه يحتاط للاعتكاف فلا يخرج من المسجد، فيبول في إناء احتياطًا للاعتكاف، لكنه مع ذلك أدى إلى امتهان المسجد، ومزاولة ما لا ينبغي أن يكون فيه، والاحتياط كما يقول شيخُ الإسلام- رحمهُ الله-: "إذا أدى إلى ارتكابِ محظورٍ، أو تركِ مأمور فالاحتياطُ في تركِ هذا الاحتياط"؛ لأنَّه أحيانًا يلتبس على المُكلّف على المسلم من طالب عالم مبتدئ أو غيرهِ كيف يحتاط لطرفينِ متضادين في مثلِ هذه الصورة، وقلّ مثل هذا في الاحتياط للرضاع التي لم تتم شروطه، يسأل يقول: أنا رضعت من امرأة ثلاثَ رضعات أو رضعتين أو بعدَ الحولين، هل يمكن الاحتياط في مثل هذا؟ يعني إن احتاط للرضاع لزم عليه لوازم من المحرمية والكشف، وإن احتاط لضدهِ نعم- عدم التأثير- لزم عليه النكاح مثلًا، ففي مثلِ هذا يكون الاحتياط للطرفين لا لأحدهما على حسابِ الآخر، وإن كان الحكم والجزمُ فيه معروف أن الرضاع غير المُحَرم وجوده كعدمه.
لكن مَنْ أرادَ أن يحتاط لما وردَ في المسألة من خلاف مثلًا، وقال: أنا أستعملُ الاحتياط في الأمرين، لا أرى هذا الرضاع ناشرًا للمحرمية، ولا أتزوج هذه المرأة فيحتاط للأمرين، فمثل هذا لا شك أن من يرتكب مثل هذا قد استبرأ بدينه، لكن إذا أراد الحسم في الحكم فهذا شيء آخر، فعندنا هذا الذي قال يحتاط للاعتكاف، لكنه لا يحتاط لتعظيم ما عظمه الشرع والمسجد.
والبولُ والغائط قد اتفقوا على استثنائهما، لكن ماذا عمَّا دون البول والغائط؟ مثل إرسال الريح هل نقول يخرج تعظيمًا للمسجد؟ أو يحتاط للاعتكاف؟
ابنُ العربي في عارضة الأحوذي يقول: "ولا بأسَ في إرسال الفساءِ والضراط في المسجد للحاجة"، للحاجة نعم إذا وجدت الحاجة ودعت إلى ذلك فلا مانعَ منه؛ لأنه لا جُرمَ له، لكن إذا مُنع من مثل الثوم والبصل لمن أرادَ أن يصلي في المسجد كما جاءت النصوص أكثر من حديث في الباب، ألا يكون منع الفساء والضراط من بابِ أولى؟
المقدم: إني أسال عليه.
من بابِ أولى؛ لأنه لا شك أنه مُنتن وأيضًا ناقض للطهارة، لاشكَ أن الحاجة تُقدر بقدرها، لكن إذا كانَ الأمرُ يسيرًا، وبإمكانه أن يخرج إلى رحبة المسجد فهي أخف من داخل المسجد؛ للخلافِ فيه على ما تقدم، وإن كان في وقتٍ لا يستطيعُ الخروج أو يشق عليه الخروج، فيتجه قول بن العربي.
وفسرها الزهري بالبولِ والغائط، وقد اتفقوا على استثنائهما، وقد اختلفوا في غيرهما من الحاجاتِ كالأكلِ والشربِ ولو خرجَ لهما فتوضأَ خارجَ المسجد لم يبطل.
خرج لهما؛ يعني البول والغائط المُتفق على استثنائهما، فتوضأَ خارجَ المسجد لم يبطل الاعتكاف، ويلتحقُ بهما القيء بالبولِ والغائط يلتحق القيء، والفصد لمن احتاجَ إليه، ووقع عند أبي داود من طريقِ عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عُروةَ عن عائشةَ قالت: «السنةُ على المعتكفِ ألا يعودَ مريضًا، وألا يشهدَ جنازةً، ولا يمسَّ امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجةٍ إلا لما لابدَ منه»، قالَ أبو داود: غيرُ عبد الرحمن لا يقولُ فيه ألبتة، يعني كان عبد الرحمن يقول: "لا يخرج ألبتة أو لحاجةٍ ألبتة إلا لما لابدَ منه"، وجزمَ الدارقطني بأن القدر الذي من حديثِ عائشة قولها لا يخرجُ إلا لحاجة وما عداها ممن دونها، القدر الذي من حديثِ عائشة قولها لا يخرج إلا لحاجة ولا يخرجُ لحاجةٍ في حديث عائشة، لكن قالت: «السنةُ على المعتكف ألا يعودَ مريضًا وألا يشهدَ جنازةً» يعني كأن هذا ممن دون عائشة، قال: ورُوِّينا عن عليٍّ والنخعي والحسن البصري "إن شهدَ المعتكفُ جنازةً أو عادَ مريضًا أو خرجَ للجمعةِ بطلَ اعتكافه"، وبه قال الكوفيون وابنُ المنذر في الجمعة، وقالَ الثوري والشافعي وإسحاق: "إن شرطَ شيئًا من ذلك بابتداءِ اعتكافه لم يبطلْ اعتكافهُ بفعله"، وهو وروايةٌ عن أحمد، الأصل في الاعتكاف اللبث والمُكث في المسجد التعبد، لكن إذا اشترطَ أنه يخرج كما يفعلُه بعض الناس يعتكف ويشترط أن يخرج للدوام مثلًا، أو يخرج للأكل والشرب، أو يخرج ليصلي صلاة التراويح والتهجد في المسجد الفلاني، هل ينفع هذا الشرط؟ أم ينافي مقتضى الاعتكاف؟ ومفهوم الاعتكاف اللغوي والشرعي، قال: وقال الثوري والشافعي وإسحاق: "إن شرطَ شيئًا من ذلك بابتداءِ اعتكافه لم يبطل اعتكافه بفعله"، وهو وروايةٌ عن أحمد، لكن الأكثر على أن اشتراط ما يُنافي مقتضى الاعتكاف اللغوي والشرعي لا يصح، ويبقى أنه إذا وُجد ما لابدَ منه أو حاجة مُلحة فله أن يخرج قياسًا على ما ذُكر.
وفي شرحِ ابن بطال وقولها: «وكان لا يدخلُ البيت إلا لحاجةٍ لإنسان» يدلُ على أنَ المعتكفَ لا يشتغلُ بغيرِ ملازمةِ المسجد للصلواتِ، وتلاوةِ القرآن وذكرِ الله؛ يعني للتعبد العبادات الخاصة؛ للصلوات، تلاوة القرآن، والذكرِ، ولا يخرجُ إلا لما لهُ إليه حاجة، وفي معنى ترجيلِ رأسِ رسولِ الله r جوازُ استعمال الإنسان كلَ ما فيه صلاحُ بدنه من الغذاءِ وغيرهِ ومنَ جهة النظر جوازُ استعمال الإنسان كل ما فيه صلاحُ بدنه، من الغذاء وغيره، لكن يخرج أو لا يخرج؟
المقدم: لا يخرج.
نعم؛ لأن الترجيل وهو في المسجد ولم يُخرج إلا رأسهُ، وعرفنا أن مجرد إخراج الرأس لا يعني إخراج البدن، وفي معنى ترجيلِ رأس رسول الله r جوازُ استعمالِ الإنسانِ كلَ ما فيه صلاحُ بدنه من الغذاءِ وغيره، ومن جهةِ النظر أن المُعتكفَ ناذرٌ جاعلٌ على نفسه المُقام في المسجد لطاعةِ اللهِ، فواجبٌ عليه الوفاءُ بذلك، وألا يشتغلَ عنه بما يُلهيه، ولا يخرجْ إلا لضرورةٍ كالمرض البيّن، والحيض في النساء، وهذا في معنى خروجه لحاجة الإنسان، طيب، ومن جهةِ النظر أن المُعتكف ناذر. هل كل مُعتكف ناذر؟
المقدم: ليس بالضرورة، هو ألزمَ نفسهُ، لكنه لا يُسمى نذرًا.
من جهةِ النظر أن المُعتكف ناذر؛ يعني دخل في العبادة، وعندهم يعني في مذهبهم يعني المالكية أن من دخل في العبادة لا يجوزُ له القطع ولا تُبطلوا أعمالكم، ومن دخل في صوم مُستحب وقطعه يقضيه وهكذا، فمن هذه الجهة قرر أن المُعتكف ناذر يعني مجرد الوعد، مُجرد الوعد قرّرَ القرطبي وغيره أنه إذا كانَ وعدٌ على سبب فإنه يلزمُ الوفاءُ به.
نعم، قال: إن نجحت أعطيتكَ كذا يعني ولده، فوعد على سبب فيلزمهُ الوفاء به، وهذا مثله، المقصود أن هذه من جهةِ نظرهم، وإلا فجمعٌ من أهلِ العلم بل كثيرٌ من أهلِ العلم يرون أن المتطوع آمرُ نفسه، ما دام سنة له أن يقطعها متى يشاء، لكن لا شكَ أن النقوص والرجوع عما شرع فيه من عبادة لا شك أن هذا غير مطلوب كما جاء في الحديث: «إِكْلَفُوا من العمل ما تطيقون، فإن اللَّهُ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»، كان النبي r إذا عمل عملًا أثبته، «ولا يخرجُ إلا لضرورةٍ»، قال: ومن جهةِ النظر أن المُعتكف ناذرٌ جاعل ذلك على نفسه المقامُ في المسجد لطاعةِ الله فيجب عليه الوفاءُ بذلك، وألا يشتغل عنه بما يُلهيه، ولا يخرجُ عنه إلا لضرورةٍ؛ كالمرض البيِّن والحيض في النساء، وهذا في معنى خروجه في حاجةِ الإنسان.
واختلفوا في خروجهِ لما سوى ذلك، فروي عن النخعي، والحسن البصري، وابن جُبير، "أن له أن يشهدَ الجمعة، ويعودَ المرضى، ويتبعُ الجنائز"، ومعروفٌ فيما تقدمَ تقريرهُ أن شهودَ الجمعة يصحُ معه الاعتكاف عندَ الحنابلة، أما عند الشافعية فإن الخروج للجمعة يُبطل وعندَ المالكية أيضًا، أما عندَ غيرهم فإنَّ له أن يشهدَ الجمعة، ولذا يصح أن يعتكف في مسجد غير جامع تُقام فيه الجمعة على مضى تقريره، وقالَ مالكٌ: [خرجَ المُعتكفُ لغيرِ ضرورة مثل أن يموتَ أبوهُ أو ابنه ولا يكونُ له من يقومُ بهِ فإنه يبتدئ اعتكافه]؛ يعني يخلع اعتكافه ويستأنفه، والذين منعوا خروجهُ لغيرِ حاجة الإنسان أسعد باتباعِ الحديث.
أحسنَ اللهُ إليكم ونفعَ بما قُلتم معالي الشيخ، أيها الإخوة المستمعون الكرام بهذا نصلُ إلى ختامِ هذه الحلقة، نتقدمُ في ختامها بالشكر الجزيل لمعالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير- وفقه الله- عضو هيئة كبار العلماء، وعضوُ اللجنة الدائمة للإفتاء، شكرَ الله لكم فضيلة الشيخ، وجزيتم عنّا خيرًا، والسلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته.