شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الاعتكاف - 12
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه، ومن والاه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد،
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم مستمعينا الكرام إلى برنامجكم شرح التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، مع معالي الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير- وفقه الله- عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، نرحب به في مطلع هذا اللقاء، فمرحبًا بكم فضيلة الشيخ وأهلاً وسهلاً.
حياكم الله وبارك فيكم، وفي الإخوة المستمعين.
المقدم: لا يزال الكلام مستمعينا الكرام في حديث عائشة- رضي الله عنها-: «وإن كان الرسول –صلى الله عليه وسلم- ليُدخِل عليَّ رأسَه في المسجد فأرجِّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفًا».
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد، في آخر الحلقة السابقة ذكرنا قول الإمام مالك: (إن خرج المعتكف في غير ضرورة، مثل أن يموت أبوه أو أمه أو ابنه، ولا يكون له من يقوم به)، فإنه يخرج ولا ما يخرج؟ يخرج، لكن يستمر على اعتكافه أم يبطل؟ يبطل، فإنه يبتدئ اعتكافه.
المقدم: هذا على كلام الإمام مالك.
على كلام الإمام مالك نعم، فإنه يبدأ اعتكافه والذين منعوا خروجه لغير حاجة الإنسان أسعد بأتباع الحديث.
يعني ما يخرج إلا لحاجة الإنسان التي هي البول والغائط، يقول: (أسعد بأتباع الحديث؛ لأن المنصوص في الحديث: «وكان لا يخرج إلا لحاجة»، وفي رواية ابن مسلم: «إلا لحاجة الإنسان».
قال ابن المنذر: قولها: «وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» فيه دلالة على منع المعتكف من العشاء في بيته، والخروج من موضعه إلا لحاجة الإنسان، لبولٍ أو لغائط.
وقال الحسن وقتادة: له أن يشترط العشاء في منزله، وبه قال أحمد ابن حنبل، عرفنا فيما تقدم أن هذه رواية عن الإمام أحمد، وفي العتبية لابن القاسم عن مالك: فالرجل يأتيه الطعام من منزله ليأكله في المسجد، قال: أرجو أن يكون خفيفًا.
هو يمنع الخروج للأكل للعشاء في بيته، ويأتيه الطعام من منزله ليأكله في المسجد، قال: أرجو أن يكون خفيفًا، لا شك أن الأكل في المسجد من حيث الجواز جائز، لكن لا يؤمَن أن يتأثر المسجد بشيء من الفضلات والروائح من روائح الطعام، هذه المفسدة الخفيفة مغمورة فيما يشترطه المالكية من المكث في المسجد، ويشددون على ذلك، ولذلك قال: (أرجو أن يكون خفيفًا).
قال ابن المنذر: فيه دلالة على.
المقدم: يقصد الحكم ولا العشاء؟ يقصد الحكم ولا الأكل في قوله: أرجو أن يكون خفيفًا؟
أرجو أن يكون حكم من أكل في المسجد خفيفًا، قال ابن المنذر: وفيه دليلٌ على أن من حلف لا يدخل دارًا، فأدخل بعض بدنه أنه غير حانثٍ؛ لأن المعتكف ممنوعٌ من الخروج، ففي إدخاله رأسه لترجِّلَه عائشة دليلٌ على إباحة ذلك، وقد تقدم، وعلى إباحة غسل المعتكف رأسه، ولو أراد المعتكف حلق رأسه، فأخرجه إلى الحلاق ليحلقه كان ذلك عندي في معنى هذا.
ابن المنذر: ولو أراد المعتكف حلق رأسه فأخرجه إلى الحلاق ليحلقه، كان ذلك عندي في معنى هذا، والله أعلم، يعني أنه لم يخرج من المسجد ما دام أخرج رأسه فقط.
وفي عمدة القاري قال: واختلفوا في حضور مجالس العلم، أين تُعقد هذه المجالس؟ في المساجد، في المسجد نفسه؟
المقدم: وليس المقصود بها مسجد آخر.
لا، اختلفوا في حضور مجالس العلم، فذهب مالك إلى أن المعتكف لا يشتغل في حضور مجالس العلم ولا بغير ذلك من القُرَب، مما لا يتعلق بالاعتكاف، كما أن المصلي مشغولٌ بالصلاة عن غيرها من القرب، فكذلك المعتكف، وذهب أكثر أهل العلم.. رأي مالك معروف أنه إذا اعتكف بل في رمضان كله أنه يترك الحديث، ويُقبل على القرآن، فذهب مالك: إلى أن المعتكف لا يشتغل بحضور مجالس العلم، ولا بغير ذلك من القرب مما لا يتعلق بالاعتكاف ، كما أن المصلي مشغولٌ بالصلاة عن غيرها من القرب، فكذلك المعتكف.
هو لا شك أن هناك عبادات خاصة، وعبادات يتعدى نفعها إلى الآخرين، ويقرر أهل العلم أن ما نفعه متعدٍّ، أفضل مما نفعه قاصر في الجملة، يصير مطّردًا، وإلا فالصلاة أفضل من الزكاة، هذا معروف، هذا الركن الثاني، وهذا الركن الثالث، والصلاة نفعها قاصر، والزكاة نفعها متعدٍّ، لكن لما يقال: إن النفع المتعدي أفضل مما نفعه قاصر عند التساوي، أو في الجملة كما يعبر أهل العلم.
وذهب أكثر أهل العلم إلى جواز ذلك، بل إلى استحباب الاشتغال بالعلم، وحضور مجالس العلم؛ لأن ذلك من أفضل القرب، ويجوز له الاشتغال بالصنائع اللائقة بالمسجد كالخياطة والنسخ ونحوهما، والكلام المباح مع الناس.
ويجوز الاشتعال بالصنائع اللائقة بالمسجد يعني الصنائع المحتاج إليها، أم الصنائع التي يتاجر بها، (كالخياطة) نقول الخياط يحضر الآلات ويخيط في المسجد، ولا سيما في العشر الأواخر للناس من أجل العيد ويتاجر بذلك؟ لا، لكن حصل في ثوبه تمزق فلا مانع من مزاولة الخياطة، لا يتخذ مثل هذا الكلام ذريعة.
المقدم: لحاجة ذاتية.
نعم، المقصود أنها حاجة، أو ثوب من لا يحسن خياطة ثوبه أو شيء من ذلك، والنسخ فرع عن الاشتغال بالعلم، نسخ الكتب، ونسخ المسائل، نعم فرع عن الاشتغال بالعلم، وهذا على رأي أكثر أهل العلم فيما قاله العيني خلافًا للإمام مالك، رحمه الله.
وعن مالك: الاشتغال بالكلام المباح.. سيأتي في حديث لاحق في زيارة صفية للنبي –عليه الصلاة والسلام- وهو معتكف، فتحدثت عنده ساعة، ثم قال إلى آخره، وسيأتي الكلام بالتفصيل عن هذا الحديث، المقصود أن فيه دليلًا على الكلام المباح مع الناس، لكن بحيث لا يشغل عن الهدف الذي من أجله شرع الاعتكاف.
وعن مالك: أنه إذا اشتغل بحرفته في المسجد يبطل اعتكافه، وحُكي عن القديم للشافعي، وخصصه بعضهم بالاعتكاف المنذور، يعني ما حكي عن الشافعي خصصه بعض من الاعتكاف المنذور.
وفي بدائع الصنائع، هذا شرح للكاساني على تحفة الفقهاء لأبى ليث السمرقندي، وهو من الكتب المعتمدة عند الحنفية، ويذكرون: أن الكاساني لما شرح التحفة، زوجه السمرقندي ابنته، فقالوا: شرح تحفته فزوجه ابنته.
وفي البدائع: يحرم خروج المعتكف ليلًا أو نهارًا إلا لحاجة الإنسان، ولا يخرج لأكلٍ ولا شرب ونوم ولا عيادة مريضٍ، ولا لصلاة جنازة، فإن خرج فسد اعتكافه عامدًا أو ناسيًا، بخلاف ما لو خرج مكرهًا، أو انهدم المسجد فخرج منه فدخل مسجدًا آخر استحسانًا، لكن لو انهدم المسجد ثم خرج إلى بيته يكون بهذا قطع الاعتكاف، لكن لو خرج إلى مسجدٍ آخر ما ينقطع اعتكافه.
المقدم: لو وجد في مسجدٍ شيء من الضوضاء، عدم احترام بعض المعتكفين للمسجد، فأراد التغيير، لأي سبب من الأسباب؟
لعل هذا من العذر، يعني كون المسجد الذي اختاره في أول الأمر لا يحقق الهدف من الاعتكاف؛ لكثرة المشغلات والملهيات، فانتقل إلى آخر، لعل هذا من الأعذار التي تبيح الانتقال، قاله خزانة الأكمل العيني، لو تحول من مسجد إلى مسجد، العيني يقول في خزانة الأكمل: لو تحول من مسجد إلى مسجد بطل اعتكافه يعني من غير عذر.
وفي النتف، نتف في الفتاوى الحنفية مطبوع في مجلدين: يجوز له أن يتحول على مسجدٍ آخر في خمسة أشياء، أحدها أن ينهدم مسجده، الثاني أن يتفرق أهله فلا يجتمعوا فيه، الثالث أن يخرجه منه سلطان، الرابع أن يأخذه ظالم، الخامس أن يخاف على نفسه وماله، إذا كان المسجد غير محصن، وليس له غَلَقْ ولا أبواب، والمكان مخيف يخشى على نفسه.
لكن الخوف المظنون الذي إذا تحقق منه وجد أنه لا حقيقة له، هل يبيح له أن يخرج من المسجد؟ يعني بعض الناس جبله يخاف من الظلام، يخاف من الوحدة، مع أن المسجد مغلق، ومحكم، ويجزم جزمًا تامًّا أنه لا خوف عليه حقيقي إنما هو مجرد وهم، وهذه المسألة يبحثها أهل العلم، فالذي يخاف من خروجه من بيته للبحث عن الماء.
ولا شك أن الناس يتفاوتون تفاوتًا عظيمًا، فبعض الناس شكه فيما يؤذيه، أعظم من المؤذي الحقيقي عند بعض الناس، بعض الناس إذا غابت الشمس حصل عنده من الخوف أشد مما لو كان عند بابه أسد، بالنسبة لبعض الناس، وهذه مسألة يبحثها أهل العلم في مسألة التيمم لعدم القدرة على الماء حكمًا، والأكثر على أنه في مثل هذه الحالة لا يتيمم.
هذه الأشياء التي ذكر صاحب النتف يجوز له أن يتحول من مسجد إلى آخر لخمسة أشياء، أحدها أن ينهدم المسجد، لكن قلنا إنه ينتقل إلى مسجدٍ آخر، إلا إذا أراد أن يبطل اعتكافه، الثاني أن يتفرق أهله فلا يجتمعوا فيه ما يتمكن ولا من إقامة صلاة الجماعة، الثالث أن يخرجه منه سلطان لا تجلس في هذا المسجد، ولا يمنعه من مسجد آخر، ينتقل إلى مسجدٍ آخر، وإن منعه من البقاء في المساجد كلها لمصلحة راجحة لمنعه أو لا يستطيع أن يقاوم هذا المنع، على كل حال إذا حصل منعه من قبل من يملك المنع، لا شك أنه يتحول ولا إثم عليه ولا ضير، وأجره ثابت، إن لم يكن سببًا في هذا المنع، إن كان هو السبب في هذا المنع، ويخشى منه على المسجد، أو على ممتلكات المسجد، فلا شك أن أجره، الآن قاوم ما هو أعظم، قاوم ثواب الاعتكاف بما هو أشد.
الرابع أن يأخذه ظالم، الخامس أن يخاف على نفسه وماله.
المقدم: ولعل بهذا نتوقف يا شيخ عند هذا الحد، أسأل الله تعالى أن ينفعنا جميعًا بما سمعنا وبما قلنا، وأن يتقبل ممن ينوون الاعتكاف، وأن ييسر لهم ذلك، إنه جواد كريم، أيها الإخوة المستمعون الكرام في ختام هذه الحلقة أتقدم بالشكر الجزيل لمعالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير- وفقه الله- عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء على ما تفضل به، شكر الله له ولكم، ونلقاكم في حلقة مقبلة بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.