شرح نخبة الفكر (09)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

المضطرب:

قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: أو بإبداله ولا مرجح فالمضطرب" يقصد الحافظ -رحمه الله تعالى- أن المخالفة إن كانت من الراوي بإبداله الشيخ المروي عنه أو بعضاً من المروي، فالحديث حينئذ يسمى المضطرب، "أو بإبداله ولا مرجح" الذي قبله أو بزيادة راوٍ، إن كانت مخالفة الراوي للثقات بزيادة راوٍ فالمزيد في متصل الأسانيد، وإن كانت هذه المخالفة بإبداله، والإبدال يشمل ما كان في السند وما كان في المتن ولا مرجح فالمضطرب، فعلى هذا يكون شاملاً لمضطرب السند ومضطرب المتن.

المضطرب: اسم فاعل من الاضطراب وهو اختلال الأمر، وفساد نظامه، ويقال: اضطرب الأمر اختل، واضطرب البرق في السحاب تحرك، واضطرب الحبل بين القوم إذا اختلفت كلمتهم.

والمضطرب في الاصطلاح: هو الحديث الذي يروى على أوجه مختلفة متساوية، الذي يروى على أوجه مختلفة متساوية، يقول ابن الصلاح: "المضطرب من الحديث هو الذي تختلف الرواية فيه فيرويه بعضهم على وجه، وبعضهم على وجه آخر مخالف له"، وإنما نسميه مضطرباً إذا تساوت الروايتان، أما إذا ترجحت إحداهما بحيث لا تقاومها الأخرى بأن يكون راويها أحفظ أو أكثر صحبة للمروي عنه أو غير ذلك من جوه الترجيحات المعتمدة فالحكم للراجحة، ولا يطلق عليه حينئذٍ وصف المضطرب ولا له حكمه"، يعني أن المضطرب لا بد أن يكون لحديث مروياً على أوجه لا على وجه واحد، فالذي يروى على وجه واحد لا يمكن أن يسمى مضطرباً، فلا بد أن يكون على أوجه، وأن تكون هذه الأوجه مختلفة، فإن كانت متفقة فلا اضطراب، ولا بد أن تكون متساوية، بحيث لا يمكن ترجيح بعضها على بعض، بهذه القيود يسمى الخبر مضطرباً، أن يروى على أوجه مختلفة متساوية، إن أمكن ترجيح بعضها على بعض انتفى الاضطراب.

أقسام المضطرب:

وينقسم الاضطراب بحسب موقعه في الحديث إلى ثلاثة أقسام:

الأول: الاضطراب في السند وهو الأكثر، ومثاله: حديث أبي بكر -رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله أراك شبت؟ قال: ((شيبتني هود وأخواتها)) قال الدارقطني: "هذا حديث مضطرب فإنه لم يروَ إلا من طريق أبي إسحاق وقد اختلف فيه على نحو عشرة أوجه" فمنهم من رواه مرسلاً، ومنهم من رواه موصولاً، ومنهم من جعله من مسند أبي بكر، ومنهم من جعله من مسند سعد، ومنهم من جعله من مسند عائشة، ورواته ثقات لا يمكن ترجيح بعضهم على بعض، والجمع متعذر كما قرره الحافظ ابن كثير في اختصار علوم الحديث، فهذه الأوجه في سند هذا الحديث عشرة وهي مختلفة متساوية بحيث لا يمكن ترجيح بعضها على بعض، وقد لاح لبعضهم ترجيح بعض الطرق على بعض فانتفى الاضطراب عن الحديث.

ومثل ابن الصلاح لمضطرب السند بحديث الخط في السترة، قد روي على أوجه ذكرها ابن الصلاح وغيره، مع عدم تمكنه من ترجيح بعضها على بعض، لكن الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام نفى الاضطراب عن الحديث فقال: "لم يصب من زعم أنه مضطرب بل هو حديث حسن"، وعلى كل حال قد يخفى وجه الترجيح على بعض أهل العلم فيحكم بالاضطراب، ثم يلوح لآخر فينفي عنه الاضطراب.

الثاني: الاضطراب في المتن وهو نادر، ومثاله: حديث البسملة الذي خرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك: قال: "صليت خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بـ{الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [(2) سورة الفاتحة] ولا يذكرون {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [(1) سورة الفاتحة] في أول قراءة ولا في آخرها".

قال ابن عبد البر: "هذا الحديث مضطرب، وبيان ذلك أن البخاري ومسلماً قد اتفقا على إخراج رواية أخرى في الموضوع نفسه لم يتعرض فيها الراوي بذكر البسملة بنفي أو إثبات، بل اكتفى بقوله: "فكانوا يستفتحون القراءة بـ{الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [(2) سورة الفاتحة] وهناك رواية ثالثة عن أنس تفيد أنه سئل عن الافتتاح بالتسمية فأجاب: أنه لا يحفظ في ذلك شيئاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكن هل هذا من المضطرب؟ ابن عبد البر قال: "هذا حديث مضطرب" الآن الرواية في صحيح مسلم: "كانوا لا يذكرون: {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [(1) سورة الفاتحة] في أول قراءة ولا في آخرها، والمتفق عليه ليس فيه ذلك، فكانوا يستفتحون القراءة بـ{الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [(2) سورة الفاتحة] لم يتعرض فيه لا لنفي ولا إثبات التسمية، وأنس سئل عن الافتتاح بالتسمية فأجاب أنه لا يحفظ في ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هل ينطبق على هذا المثال تعريف المضطرب؟ أو نقول: هذه من زيادات الثقات؟ هذه زيادة، نعم، على أن هذه الزيادة من فهم الراوي، الراوي سمع أنهم كانوا يفتتحون بـ{الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [(2) سورة الفاتحة] ففهم أنهم لا يذكرون {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [(1) سورة الفاتحة] ولذا مُثل بالحديث للمعل، يقول الحافظ العراقي:

وعلة المتن كنفي البسملة

 

إذ ظن راوٍ نفيها فنقله

وعلة المتن، نعم قد يكون التعليل بالاضطراب، والاضطراب وجه من وجوه العلل، لكن إذا أردنا أن نطبق تعريف الاضطراب على هذا الحديث نجد أن هذا المثال لا ينطبق عليه التعريف، الحافظ ابن حجر يرى أن الحديث ليس فيه أدنى اضطراب ولا علة أيضاً؛ لأنه يمكن الجمع بين الروايات المختلفة بحمل نفي القراءة على نفي السماع، ونفي السماع على نفي الجهر، الراوي الذي قال: لا يذكرون {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول قراءة ولا في آخرها؛ لأنه لم يسمع، لم يسمعهم يذكرون، هو لا يستطيع أن ينفي الإسرار بالبسملة، نعم، لا يستطيع أن ينفي الإسرار بالبسملة هو ينفي الجهر، ولا ينفي الذكر، هو لم يسمع وعدم السماع يتضمن نفي الجهر بالبسملة.

وعلى كل حال الرواية في الصحيح، وحملها على هذا الوجه صيانة للصحيح هو المتعين، فنقول: الرواية ليست مضطربة فنقول حينئذٍ: إنهم لا يذكرون جهراً {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ولو قدر أن الراوي فهم أنهم لعدم جهرهم بها لا يذكرونها مطلقاً هذا فهمه، ولا يقدح في الحديث حينئذٍ.

الثالث: الاضطراب في السند والمتن معاً، ومثاله: حديث عبد الله بن عكيم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى جهينة قبل موته بشهر: ((ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)) رواه الخمسة، قال الترمذي: ترك أحمد بن حنبل هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده حيث رواه بعضهم فقال: عن عبد الله بن عكيم عن أشياخ له من جهينة، قال الحافظ ابن حجر: "الاضطراب في سند، فإنه تارة قال: عن كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتارة عن مشيخة من جهينة، وتارة عن من قرأ الكتاب، واضطراب متنه حيث رواه الأكثر من غير تقييد بشهر، ومنهم من رواه بقيد شهر أو شهرين أو أربعين يوماً أو ثلاثة أيام، ويمكن أن يمثل له بحديث القلتين في اضطراب السند والمتن.

حكم الاضطراب:

وأما حكم الاضطراب: فالاضطراب حيث وقع في سند حديث أو متنه فإنه موجب للضعف؛ لإشعاره بعدم ضبط راويه، وذلك أنه لما كان يروى الحديث تارة على وجه وأخرى على وجه آخر فإن ذلك معناه أنه لم يستقر الحديث في حفظه، وكذا إذا وقع التعارض بين رواة متعددين ولا يعلم أيهم أضبط للحديث فيحكم بضعفه من أجل ذلك، لكن هناك اضطراب لا يضر ولا يقدح في صحة الحديث، وذلك بأن يقع الاختلاف في اسم راوٍ أو اسم أبيه أو نسبته أو نحو ذلك مع كون ذلك الراوي ثقة، يختلف في اسم الراوي، يختلف في اسم أبيه، يختلف في نسبته، مع أنه ثقة، سواء نسب إلى هذه القبيلة أو إلى تلك هو ثقة، فيحكم حينئذ للحديث بالصحة ولا يضر الاختلاف فيمن ذكر مع تسميته مضطرباً.

يقول: "وقد يقع الإبدال عمداً امتحاناً" يقصد الحافظ -رحمه الله تعالى- أن الراوي قد يبدل راوٍ بآخر عمداً، لمن يراد اختبار حفظه امتحاناً من فاعله، كما وقع للبخاري والعقيلي وغيرهما كالدارقطني، وشرطه ألا يستمر عليه، بل ينتهي بانتهاء الحاجة إليه، وسبقت الإشارة إليه في المقلوب، قال القاري في شرح النزهة: "والأظهر عندي أن مناسبته بالقلب أقوى، فإنه يفيد العكس بخلاف الإبدال كما يظهر وجهه في المثال" قال الحافظ: "فلو وقع الإبدال عمداً لا لمصلحة بل للإغراب مثلاً فهو من أقسام الموضوع، ولو وقع غلطاً فهو من المقلوب أو المعل" كذا قال -رحمه الله تعالى-.

المصحف والمحرف:

ثم قال: "أو بتغيير مع بقاء السياق فالمصحف والمحرف" يقصد الحافظ -رحمه الله تعالى- أنه إن كانت مخالفة الراوي لغيره من الرواة بتغيير حرف أو حروف مع بقاء صورة الخط في السياق، فإن كان ذلك بالنسبة إلى النقط فالمصحف، وإن كان ذلك بالنسبة إلى الشكل فالمحرف.

والمصحف: اسم مفعول من التصحيف، وهو في الأصل تغيير اللفظ حتى يتغير المعنى المراد من الموضع، وأصله الخطأ، قال المطرزي: "التصحيف أن يقرأ الشيء على خلاف ما أراده كاتبه، أو على خلاف ما اصطلحوا عليه" والمصحِف والصحفي هو الذي يروي الخطأ على قراءة الصُحُف، يعني إذا قيل: صحفي نسبة إلى الصحيفة المفرد، أما نطقها صُحُفي نسبة إلى الجمع شاذة، فيقال: صحفي، فهذا الصحفي الذي يروي الخطأ على قراءة الصحف هذا عند أهل الحديث؛ لأنه لا يوجد صحف بمعنى جرائد عندهم، وإن كان الآن اللفظ ينطلق عرفاً على من له عناية بالصحافة، والله المستعان.

المصحف اصطلاحاً: هو ما وقعت المخالفة فيه بتغيير النقط في الكلمة مع بقاء صورة الخط فيها، وبهذا الحد قال الحافظ ابن حجر، وعرفه السخاوي: بأنه تحويل الكلمة من الهيئة المتعارفة إلى غيرها، تحويل الكلمة من الهيئة المتعارفة إلى غيرها، وبين هذين التعريفين عموم وخصوص، فمجرد التغيير بأي صفة كان يسمى تصحيفاً عند السخاوي، ولا شك أن المعنى اللغوي يعضد هذا، والحافظ ابن حجر يخصه بالتغيير في النقط فقط وهو اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح.

أقسام التصحيف:

ينقسم التصحيف باعتبار موقعه إلى قسمين: تصحيف في السند، ومثاله: العوام بن مراجم، صحفه ابن معين فقال: ابن مزاحم، وهذا يقع كثيراً حينما يكون الاسم على غير الجادة، يقع فيه التصحيف.

والثاني: تصحيف المتن، ومثاله: ((من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال)) صحفه الصولي فقال: "شيئاً" بدل "ستاً"، كما أنه ينقسم باعتبار اللفظ والمعنى إلى قسمين:

الأول: تصحيف لفظي وأمثلته كثيرة، منها المثالان السابقان.

الثاني: تصحيف معنوي، ومثاله: قول أبي موسى العنزي: "نحن قوم لنا شرف، نحن من عنزة –قبيلة- صلى إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" يريد بذلك حديث أن النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى إلى عنزة، فتوهم أنه صلى إلى قبيلتهم، والمراد بالعنزة هنا العصا الذي ينصبه المصلي أمامه سترة له، وليس المراد بذلك القبيلة، كما أن هذا حديث صحف على ما سيأتي من وجه آخر، فقُرأتْ عَنَزَة عَنْزة، صحفت من وجه آخر.

وينقسم التصحيف باعتبار منشأه إلى قسمين:

الأول: تصحيف بصر وهو الأكثر، وهو أن يشتبه الخط على بصر القارئ، إما لرداءة الخط، أو لضعف البصر.

والثاني: تصحيف سمع، ومنشأه رداءة السمع أو بعد السامع أو نحو ذلك، فتشتبه عليه بعض الكلمات لكونه على وزن صرفي واحد، تصحيف السمع سببه رداءة السمع من المستمع، أو بعد السامع من المتكلم، أو عدم إبانة المتكلم يعني من الطرف الآخر، فتشتبه عليه بعض الكلمات لكونها على وزن صرفي واحد، من ذلكم تصحيف بعضهم اسم عاصم الأحول فقال: واصل الأحدب، عاصم صار واصل، والأحول صار الأحدب، قد ذكر الدارقطني أنه من تصحيف السمع، لا من تصحيف البصر؛ لأنه في الكتابة مختلف، بينهم فرق كبير في الكتابة، لكن في السمع، واصل وعاصم قريبة، لا من تصحيف البصر كأنه -والله أعلم- ذهب إلى أن ذلك مما لا يشتبه من حيث الكتابة وإنما أخطأ فيه سمع من رواه.

والمحرف: اسم مفعول من التحريف وهو تغيير الكلمة عن معناها، وهي قريبة الشبه كما كانت اليهود تغير معاني التوراة بالأشباه، فوصفهم الله بفعلهم كما قال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} [(46) سورة النساء] ويقال: تحرف وانحرف واحرورف عن الشيء إذا مال، قال تعالى: {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ} [(16) سورة الأنفال].

واصطلاحاً: هو ما وقعت المخالفة فيه بتغيير الشكل في الكلمة مع بقاء صورة الخط فيها، وإفراده عن المصحف اصطلاح لبعض العلماء، وهو الذي مشى عليه الحافظ، وإلا فكثير من العلماء لا يفردون المحرف، فيجعلونه داخل في المصحف، ويطلقون كلا منهما التصحيف والتحريف على كل تغيير يقع في الكلمة ولو مع عدم بقاء صورة الخط فيها.

أقسام التحريف: ينقسم التحريف باعتبار موضعه إلى قسمين:

تحريف في السند كأن يجعل بشيراً ولهيعة بفتح أولهما بُشيراً بالتصغير ولُهيعة بضمهما، هذا تحريف، تحريف في المتن: ومثاله ما وقع لبعض الأعراب في حديث:" صلى النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى عنزة" الذي مر آنفاً، فحرك العنزة وسكن النون وقال: "عنْزة" ثم روى الحديث بالمعنى على حسب وهمه، فقال: "كان النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا صلى نصبت بين يديه شاة" حرف، سكن النون، ثم روى الحديث بالمعنى صارت العنزة بدل ما هي عنزة صارت شاة، إذا وجد الراوي كلمة مصحفة أو محرفة في كتابه فهل يهجم على هذه الكلمة ويصححها؟ أو يبقيها كما هي خطأ ويقرأها خطأ ويشير إلى الصواب؟ اختلف العلماء فيما إذا وجد الراوي أو المحدث في سند حديث أو متنه تصحيفاً أو تحريفاً فهل له تصحيح هذا التصحيف أو ضبط التحريف؟ على قولين:

الأول: ذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك لا يجوز، بل يبقى كما هو إذا كان مكتوباً ذكره الخطيب عن عبد الله بن داود الخريبي، وذكره ابن الصلاح عن محمد بن سيرين، ولا شك أن هذا أحفظ للكتب، تبقى كما هي، تبقى كما أرادها مؤلفوها، يعني مو بخطأ من النساخ أو من الطابع، لا، خطأ من المؤلف نفسه، أما خطأ من النساخ يبين بمقابلة النسخ، خطأ من الطابع كذلك، يتبين بمراجعة الأصول، لكن إذا كان خطأ من المؤلف؟

القول الأول: أنه يبقى كما هو فلا يتعرض له لا بتصحيح ولا بضبط، يبقى كما هو، ولا شك أن هذا أحوط، نقله الخطيب عن عبد الله بن داود الخريبي، وابن الصلاح نقله عن محمد بن سيرين، وهذا من باب احتياط للكتب لئلا يهجم من ليس بأهل فيصحح فيقع في الخطأ، يظن أن هذا خطأ فيهجم عليه فيصححه فإذا حسمت المادة ما يصحح شيء خلاص، احتاط الناس للكتب.

القول الثاني: ذهب ابن المبارك والأوزاعي إلى جواز تغييره وإصلاحه وروايته على الصواب -لكن الأول إذا روي على الخطأ ينبه بالحاشية أن هذا خطأ صوابه كذا- القول الثاني: ذهب ابن المبارك والأوزاعي إلى جواز تغييره وإصلاحه وروايته على الصواب، أما إصلاحه في الكتاب فجوزه بعضهم، قال النووي: "والصواب تقريره في الأصل على حاله" يبقى في الأصل على حاله، والتضبيب عليه يوضع ضبة وبيان الصواب في الحاشية، الصواب كما قرره النووي أن يبقى الخطأ كما هو ويوضع عليه ضبة، إيش معنى الضبة؟ طرف صاد على شان تمد بقدر الكلمة، أو الكلام الذي يظن أنه خطأ، هذه يسمونها ضبة، يضبب عليه، ويكتب في الحاشية أن هذا خطأ صوابه كذا، إذا عرفنا هذا وأن الخطأ لا بد أن يقع من المخلوق، وأن التصحيف والتحريف موجود؛ لأن الرواة بشر يقعون في الخطأ، والنساخ كذلك، فعلينا أن نعتني بالتصحيح والتصويب والمقابلة، مقابلة الكتب على أصولها لنسلم من كثرة الأخطاء، ثم بعد ذلكم علينا أن نعتني بهذه الكتب فلا نهجهم عليها بتصحيح ومحو وكشط، بل يبقى الكتاب كما هو، إذا قوبل على الأصل يبقى كما هو، وإذا تبادر إلى الذهن أن هذه الكلمة خطأ أو هذه الجملة خطأ يبقيها كما هي ونصوب في الحاشية.

مما ينبغي الاهتمام به لطالب الحديث وغيره من طلاب العلم الشرعي أن يتعلم من النحو واللغة ما يسلم به من اللحن والتصحيف، وطريقه في السلامة من التصحيف الأخذ من أفواه الرجال، كم من كلمة تقرأ على غير وجهها؟ أما إذا سمعت من الأفواه استقرت، تكون الصورة واحدة تقرأها على الخطأ وإيش المانع؟ عَبيدة تقرأها عُبيدة على الجادة، لكن إذا سمعتها من أفواه الرجال ما أخطأت مرة ثانية، عن أبي حَصين تقرأها حُصين الجادة.

وطريقه في السلامة من التصحيف الأخذ من أفواه أهل المعرفة والتحقيق والضبط، لا من بطون الكتب، ولذا يقولون: "من كان علمه من كتابه كان خطأه أكثر من صوابه" تجدون الأوهام الكثيرة فيمن يعتني بالكتب ولم يأخذ العلم من أفواه الرجال، أيضاً على طالب العلم أن يعتني بالكتب التي فيها الضبط، سواء كانت لألفاظ المتون أو الأسانيد يعتني بها، فإذا تحررت له كلمة مضبوطة بعد المراجعة يهتم بها ويودعها سويداء قلبه، ويكون هذا ديدنه أي كلمة يشك فيها يراجع، ثم لا يلبث أن يكون لديه رصيد من الكلمات المصححة المصوبة التي يقع فيها كثير من الناس خطأً.

هناك بعض الشروح تعتني بالضبط بدقة، والضبط أحياناً يضبطون بالشكل، وأحياناً يضبطون بالحرف، وأحياناً يضبطون بالضد، وأحياناً يضبطون بالنظير، بالشكل واضح، يضعون الفتحة والضمة إلى آخره، زيد ....... بفتح الزاي والياء ساكنة، يضبط، أحياناً يضبطون بالحرف فيقولون: عبيدة بفتح العين، أو يقولون: بفتح المهملة وكسر الموحدة، أحياناً يضبطون بالضد: حرام بن عثمان ضد الحلال، حرام بن عثمان ضد الحلال، أسد بن موسى بلفظ الحيوان المعروف، عياض بن حمار بلفظ الحيوان، الحكم بن عتيبة بتصغير

عتبة الدار، وهكذا هم يضبطون بهذه الطريقة، يضبطون بهذه الطرق، وهل يضبط كل الكلام؟ منهم من ذهب إلى ذلك، قال: يضبط بالشكل كل الكلام من أوله إلى آخره، حتى كلمة (قال) تضبط؛ لأنه لا يبعد أن يأتي من صغار المتعلمين من لا يحسن قراءتها، لكن هذا لا، هذا ليس بجيد وإن قيل به، لكن إنما يشكل المشكل، يشكل المشكل، الكلام المشكل هو الذي يضبط بالشكل، إيش معنى تضبط كلمة (زيد) بفتح الزاي وسكون الياء ومثناة التحتية؟ ما هو لازم، لا داعي لضبط (زيد) لأنه ما في أحد..، إيش بيقراه؟ كيف يقرأ غير زيد؟ لكن عبيدة اضبط؛ لأنه يأتي من يبي يقرأها على الجادة عُبيدة، ولذا المحرر عند أهل التحقيق أنه إنما يشكل المشكل.

طالب:.......

نعم؟

طالب:......

يعني في القرآن؟ القرآن يصحح بلا شك، القرآن يصحح ويضبط على..، لكن ما يهجم على تصحيح قراءة وهو لا يعرف أنها قراءة، يمكن هذه القراءة المعتمدة عند المؤلف "تفسحوا في المجلس" ثم يصحح يقول: "مجالس" قد تكون القراءة التي اعتمدها المؤلف غير القراءة التي اعتمدتها أنت، فكونك تصحح هذه مشكلة، اترك الكتاب كما هو، نعم، إذا بحثت في القراءات ولا وجدت وجه لهذه القراءة لك أن تصحح، على أنك لا تستعجل في التصحيح.

التصحيف والتحريف صنف فيه أبو هلال العسكري كتب، صنف فيه الدارقطني وغيره.

اختصار الحديث والرواية بالمعنى:

ثم قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: "ولا يجوز تعمد تغيير المتن بالنقص والمرادف إلا لعالم بما يحيل المعاني"، يقصد الحافظ -رحمه الله تعالى- أنه لا يجوز تغيير متن الحديث بنقص من ألفاظه وجمله، وهو ما يعرف باختصار الحديث، والاقتصار على بعضه دون بعض، ولا تعمد إبدال ألفاظه أو بعضها بالمرادف، وهو ما يعرف بالرواية بالمعنى، فعندنا مسألتان: اختصار الحديث، والرواية بالمعنى، كل منهما لا يجوز لكل أحد، إنما يجوز لعالم بما يحيل المعاني ومدلولات الألفاظ، وفي كل من المسألتين خلاف.

المسألة الأولى: اختصار الحديث، اختلف العلماء في حكم اختصار الحديث والاقتصار على بعضه دون بعض

الحديث مكون من جمل تقتصر على جملة من هذه الجمل لكونك بحاجة إليها ولست بحاجة إلى بقية الجمل، منع بعض العلماء مثل هذا التصرف، مثل هذا الاختصار، وأجازه بعضهم مطلقاً، والصحيح التفصيل، وهو المنع من غير العالم، العارف بما يحيل المعاني، وجواز ذلك من العارف إذا كان ما تركه متميزاً عما نقله، غير متعلق بما رواه بحيث لا يختل المعنى، ولا تختلف الدلالة، سواء رواه قبله تاماً أم لا؛ لأن ذلك بمنزلة خبرين منفصلين، يعني إذا رويت حديث: "نهى عن بيع حبل الحبلة، ونهى عن النجش" إذا اقتصرت على جملة لكونك بحاجة إلى الحديث عن هذا البيع وتركت الأخرى هل يلمزك أن تأتي بالثانية؟ أنت بحاجة وجدت شخص ينجش في السلعة -يزيد وهو لا يريد شرائها- هل يلزمك أن تقول: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع حبل الحبلة، ونهى عن النجش؟ أو تقتصر على ما تريد وتترك الشق الثاني؟

الصواب في ذلك أنه يجوز أن تقتصر على ما تريد بالشرط المذكور، بحيث لا يكون المذكور متوقف فهمه على المحذوف، يعني لا يتوقف فهم المذكور على المحذوف لكونه وصف مؤثر، أو لكونه استثناء أو ما أشبه ذلك، أو قيد، إذا احتاج المذكور إلى المحذوف لا يجوز لك أن تتصرف، والصحيح حينئذٍ التفصيل وهو المنع من غير العالم وجوازه من العارف إذا كان ما تركه متميزاً عما نقله، غير متعلق بما رواه بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة، سواء رواه قبل تاماً أم لا؛ لأن ذلك بمنزلة خبرين منفصلين، روى البيهقي في المدخل عن ابن المبارك قال: "علمنا سفيان اختصار الحديث"، وهذا الاختصار إنما يجوز من الراوي الذي ترتفع منزلته عن التهمة، أما إذا اتهم الراوي بأنه زاد في الحديث إذا روه تاماً ونقص منه إذا رواه ناقصاً فعليه أن يأتي بالحديث بلفظه من غير نقص؛ فأما من رواه مرة تاماً فخاف إن رواه ناقصاً ثانياً أن يتهم بزيادة فيما رواه أولاً أو نسيان لغفلة وقلة ضبط فيما رواه ثانياً فلا يجوز له النقصان ثانياً، كما أنه لا يجوز له النقصان ابتداء إن تعين عليه أداء تمامه، كما أنه لا يجوز له النقصان ابتداء إن تعين عليه أداء تمامه؛ لئلا يخرج بذلك باقيه عن حيز الاحتجاج به، يعني إذا كان الحديث لا يوجد إلا عنده لا بد أن يأتي به تاماً، وإذا جاز الاقتصار على بعض الآية دون بعض فالحديث بالشرط المتقدم من باب أولى، كما أنه لا يجوز أن تقول: "ويل للمصلين" وتسكت، لا يجوز أن تقول: "ويل للمصلين" وتسكت، لا بد أن تأتي بما بعدها، كذلك لا يجوز أن تقول: ((فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم)) وتسكت، فلا بد من إتمام مثل هذا لتعلق ما ذكر بما حذف، لا بد أن تقول: ((إذا كان يداً بيد)) لأنك إذا قلت: ((إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم)) يعني متفاضلاً ولو من غير تقابض، لكن الحاجة داعية إلى ذكر الجملة التي بعد ذلك ((إذا كان يداً بيد)) وإذا جاز الاقتصار على بعض الآية في مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [(58) سورة النساء] يعني من يتحدث عن الأمانة ويستدل على وجوب أدائها بقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [(58) سورة النساء] هل يلزم أن تقول: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [(58) سورة النساء]؟ نعم، لا يلزم، ومثله إذا كان الحديث عن العدل، هل يلزمك أن تقول: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [(58) سورة النساء]؟ تقتصر على ما تريد؛ لأن ما حذفته لا تعلق له بما ذكرته، فإذا جاز الاقتصار على بعض الآية في مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ولا يجب الإتمام لمن أراد أن يحتج بالآية على وجوب أداء الأمانات، فلا يلزمه حينئذٍ أن يقول: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} وصنيع الأئمة جارٍ على جواز الاقتصار، وصحيح البخاري فيه من ذلك الشيء الكثير، مملوء من أجزاء الأحاديث التي يقتصر فيها الإمام البخاري على موضع الحاجة من الحديث، ومن أمثلة ذلك: صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة صحيفة طويلة تشتمل على أكثر من مائة وثلاثين جملة، سيقت في مسند الإمام أحمد مساقاً واحداً، سيقت في المسند مساقاً واحداً وفرقت في الصحيحين.

أقول: صحيفة همام بن منبه تشتمل على أكثر من مائة وثلاثين جملة، هي مسوقة سياقاً واحداً في مسند الإمام أحمد؛ لأنه مرتب على المسانيد، ففي أحاديث أبي هريرة ذكر هذه الصحيفة كاملة، والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- استشهد من هذه الصحيفة في مواضع كثيرة قطع منها ما يحتاجه من الجمل في مواضع، وكذلك مسلم، وللبخاري طريقته فيما يختاره، ولمسلم طريقته، فالبخاري إذا أراد أن ينقل من الصحيفة نقل عن همام عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة..)) ثم يردف هذه الجملة بما يريد، هذه طريقة البخاري، طريقة مسلم يقتصر على ما يريد بعد أن يقول: عن همام عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر أحاديث منها، ثم يذكر ما يريد، وهذا مصير منهما إلى جواز تقطيع الحديث، والاقتصار على ما يريد منه.

المسألة الثانية: رواية الحديث بالمعنى: إذا كان الراوي عالماً بالألفاظ ومدلولاتها ومقاصدها، خبيراً بما يحيل المعاني، بصيراً بمقادير التفاوت بينها جازت له الرواية بالمعنى، أما إذا لم يكن الراوي عالماً بالألفاظ ومدلولاتها ومقاصدها ولم يكن خبيراً بما يحيل المعاني بصيراً بمقادير التفاوت بينها فإنه حينئذ لا يجوز له أن يروي ما سمعه بالمعنى، بل عليه أن يؤدي ما سمع باللفظ وهذا بلا خلاف، فالمتعين عليه حينئذٍ إذا كان هذا وصفه أن يؤدي اللفظ الذي سمع، فإن كان عالماً بما يحيل المعاني عارف بمدلولات الألفاظ ومقاصدها خبيراً بما يحيل المعاني فالجمهور على جوازه، إذا كان الراوي عالماً بالألفاظ بهذه القيود لا بد أن تتوفر فيه هذه القيود، إذا كان عالماً بالألفاظ ومدلولاتها ومقاصدها، خبيراً بما يحيل المعاني، بصيراً بمقادير التفاوت بين الألفاظ فاختلف العلماء في حكم روايته الحديث بالمعنى: فقال طائفة من أصحاب الحديث والفقه والأصول: لا يجوز له الرواية بالمعنى كذلك، بل يتعين اللفظ، وإليه ذهب ابن سيرين وثعلب وأبو بكر الرازي من الحنفية، وهو مروي عن ابن عمر، وجوز بعضهم ذلك في غير حديث النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولم يجوزه في الحديث والكلام في الحديث، وقال جمهور السلف والخلف من الطوائف: يجوز بالمعنى في جميعه، إذا قطع بأداء المعنى، إذا قطع بأداء المعنى؛ لأن ذلك هو الذي تشهد به أحوال الصحابة والسلف، ويدل عليه روايتهم القصة الواحدة بألفاظ مختلفة، القصة الواحدة تروى عن جمع من الصحابة بألفاظ مختلفة، فهذا يدل على جواز الرواية بالمعنى، قال ابن حجر: ومن أقوى حججهم الإجماع على جواز شرح الشريعة للعجم بلسانهم للعارف به، فإذا جاز الإبدال بلغة أخرى فجوازه بالعربية أولى، وقيل: إنما يجوز في المفردات دون المركبات، وقال الماوردي: إن نسي اللفظ جاز؛ لأنه تحمل اللفظ والمعنى وعجز عن أداء أحدهما فيلزمه أداء الآخر لا سيما أن تركه قد يكون كتماً للأحكام، فإن لم ينسه، لم ينسَ اللفظ لم يجز أن يورده بغيره؛ لأن في كلامه -صلى الله عليه وسلم- من الفصاحة ما ليس في غيره، إذا نسي اللفظ جاز الأداء بالمعنى، أما إذا لم ينسَ اللفظ فإنه لا بد أن يؤدي اللفظ على هذا القول، وقيل: عكسه وهو الجواز لمن يحفظ اللفظ ليتمكن من التصرف فيه دون من نسيه، لكن الذي عليه جماهير أهل العلم جواز الرواية بالمعنى بالشروط والقيود التي ذكرت، والاحتياطات التي جعلها أهل العلم:

أن يكون عالم بمدلولات الألفاظ، عارف بما يحيل المعاني، يقول القاضي عياض: "ينبغي سد باب الرواية بالمعنى؛ لئلا يتسلط من لا يحسن ممن يظن أنه يحسن كما وقع للرواة كثيراً قديماً وحديثاً" والأولى لا شك أن الأولى إيراد الحديث بلفظه دون التصرف فيه، ولا شك في اشتراط ألا يكون الحديث مما تعبد بلفظه، وقد صرح به الزركشي.

إذا كان الحديث مما تعبد بلفظه لا تجوز روايته بالمعنى، ففي ذكر النوم في حديث البراء: ((ونبيك الذي أرسلت)) في آخره لما عرضه البراء على النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "ورسولك الذي أرسلت" قال: ((لا، قل: ونبيك الذي أرسلت)) لأن هذا اللفظ متعبد به، وهذا الخلاف إنما يجري في غير المصنفات، ولا يجوز تغيير شيء من مصنف أو إبداله بلفظ آخر وإن كان بمعناه قطعاً؛ لأن الرواية بالمعنى رخص فيها من رخص لما كان عليهم في ضبط الألفاظ من الحرج وذلك غير موجود فيما اشتملت عليه الكتب، يعني شخص يعمد إلى صحيح البخاري مثلاً لينسخ له نسخة من الكتاب فلا يعجبه لفظة فيبدلها بغيرها، يقول: الرواية بالمعنى جائزة، لا تعجبه جملة فيركب جملة هي أعجب إليه، نقول: لا، المصنفات لا يجوز تغييرها، لا يجوز تغييرها بحال، انقل من الكتاب كما وجدته، والسبب في ذلك: أن أداء اللفظ ونقل اللفظ أمر مقدور عليه، والرواية بالمعنى إنما جوزت للحاجة؛ ولأنه إن ملك تغيير اللفظ فليس يملك تغيير تصنيف غيره، يعني ماذا نتصور عن كتاب من الكتب المعتمدة عند أهل العلم يأتي شخص لينسخه فيرويه بالمعنى ثم يأتي آخر فيتصرف فيه فيرويه بالمعنى إيش تكون النتيجة بعد عشرة نساخ؟ النتيجة يمسخ الكتاب مسخاً كاملاً، وينبغي للراوي بالمعنى أن يقول عقيبه: أو كما قال، أو نحو ذلك، أو شبهه، أو ما أشبه هذا من الألفاظ، وقد كان قوم من الصحابة يفعلون ذلك، وهم أعلم الناس بمعاني الكلام، خوفاً من الزلل بمعرفتهم بما في الرواية بالمعنى من الخطر، روى الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم عن ابن مسعود أنه قال يوماً: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاغرورقت عيناه، وانتفخت أوداجه، ثم قال: "أو مثله، أو نحوه، أو شبيهاً به"، ومثل ذلك في سنن الدارمي عن أبي الدرداء، وفي المسند وابن ماجه عن أنس ابن مالك أنه كان إذا حدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففرغ قال: "أو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، لكن هذا على سبيل الاستحباب، ليس بلازم، إنما هو على سبيل الاستحباب؛ لأنه هذا نادر أن يقال في مثل هذه المناسبات، كثيراً ما نجد الرواية بالمعنى في الكتب ولا ينصون على أنه شبهه أو نحوه، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.

سم.

غريب الحديث:

قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: "ولا يجوز تعمد تغيير المتن بالنقص والمرادف إلا لعالم بما يحيل المعاني فإن خفي المعنى احتيج إلى شرح الغريب وبيان المشكل"، يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: "فإن خفي المعنى احتيج إلى شرح الغريب وبيان المشكل" يقصد الحافظ -رحمه الله تعالى- أنه إن خفي معنى الحديث من أجل لفظة غريبة يقل استعمالها ودورانها احتيج إلى شرح الغريب من كلمات الحديث، وهذا ما يسمى بغريب الحديث، وغريب الحديث المقصود به: غريب ألفاظه، وهو ما يقع في متن الحديث من لفظة غامضة بعيدة من الفهم لقلة استعمالها، وهو فن مهم جداً يقبح جهله بأهل الحديث، والخوض فيه صعب، حقيق بالتحري، جدير بالتوقي، فليتحرى الخائض في ذلك، وليتق الله -عز وجل- أن يقدم على تفسير كلام نبيه -صلى الله عليه وسلم- بمجرد الظنون.

على طالب العلم أن يتحرى ويتثبت، جاء الوعيد الشديد بالنسبة لتفسير القرآن بالرأي؛ لأنك إذا فسرت القرآن برأيك جزمت بأن هذا هو مراد الله -عز وجل- من كلامه، ومثله إذا جزمت بأن هذا معنى الحديث كأنك نسبت إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ما لم يرده، فهذا الباب حقيق بالتحري، جدير بالتوقي، فليتحرى خائضه وليتق الله -عز وجل- أن يقدم على تفسير كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- بمجرد الظنون، وكان السلف يتثبتون فيه أشد تثبت، فهذا الإمام أحمد إمام السنة سئل عن حرف منه فقال: "سلوا أصحاب الغريب"، الإمام أحمد -رحمه الله- يقول: "سلوا أصحاب الغريب، فإني أكره أن أتكلم في قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالظن"، وسئل الأصمعي عن معنى حديث: ((الجار أحق بصقبه)) فقال: "أنا لا أفسر حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن العرب تزعم أن الصقب اللزيق"، وإذا كان اللفظ مستعملاً بكثرة لكن في مدلوله دقة احتيج حينئذٍ إلى الكتب المصنفة في شرح معاني الآثار وبيان المشكل فيها، وقد صنف الأئمة في غريب الحديث كتب كثيرة جداً، كتب كثيرة جداً، عشرات من الكتب في غريب الحديث لأهميته، وغريب الحديث غريب الألفاظ يختلف تماماً عن الحديث الغريب الذي تقدم، وهو ما يتفرد بروايته راو واحد، وهنا المقصود به غريب الألفاظ، وهو ما يقع في المتن من لفظ غامض بعيد من الفهم قليل الاستعمال يحتاج إلى شرح، فإذا خفي معنى الحديث ووجد لفظة غريبة يقل استعمالها ودورانها احتيج إلى شرح الغريب من كلمات الحديث بواسطة الكتب المنصفة في الغريب.

ومن أهمهما غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام، وغريب الحديث للنظر بن شميل، وغريب الحديث لأبي عبيدة معمر بن المثنى، وغريب الحديث لابن قتيبة، وغريب الحديث لإبراهيم الحربي، وغريب الحديث لأبي سليمان الخطابي، والفائق في غريب الحديث للزمخشري، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير، وهو أحسن كتب الغريب وأجمعها وأشهرها وأكثرها تداولاً؛ لأنه جمع الكتب السابقة، غالب ما في الكتب السابقة جمعه ابن الأثير في كتاب النهاية، فالذي يريد أن يقتصر على كتاب واحد في الغريب فعليه بالنهاية، إذا أراد أن يجمع أكثر من كتاب في الغريب فليعتنِ بأبي عبيد؛ لأنه إمام في هذا الباب، وهو ثقة إن أضاف إليه غريب الحديث للغربي والخطابي والفائق للزمخشري جيد، لكن إن أراد أن يقتصر على كتاب واحد فعليه بالنهاية، إن كان اللفظ مستعمل بكثرة يعني لفظ مع لفظ، لفظ مستقل ما في إشكال واضح، لكن إذا ركب منه جملة خفي معناها، إن كان اللفظ مستعملاً بكثرة لكن في مدلوله دقة احتيج حينئذ إلى الكتب المصنفة في شرح معاني الآثار وبيان المشكل منها، وقد أكثر الأئمة من التصانيف في ذلك كالطحاوي والخطابي وابن عبد البر وغيرهم، ومن ذلكم في شرح الغريب والمشكل ينبغي لطالب العلم أن يعتني بالشروح الموثوقة المعتمدة عند أهل العلم لكتب السنة، وهي كثيرة جداً، من أهمها: شرح الخطابي على صحيح البخاري (أعلام السنن) أو (أعلام الحديث) وشرح الكرماني على صحيح البخاري، و(فتح الباري) للحافظ ابن حجر، و(عمدة القاري) للعيني، و(إرشاد الساري) للقسطلاني، و(المعلم) للمازري، و(إكمال المعلم) للقاضي عياض، و(إكمال الإكمال) للأبي، ومكمله للسنوسي، وشرح النووي على مسلم، و(المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم) للقرطبي، و(معالم السنن) على سنن أبي داود للخطابي، و(تهذيب السنن) لابن القيم، وشرح سنن أبي داود لابن رسلان، و(عون المعبود) لشمس الحق العظيم أبادي، وتعليقات السندي والسيوطي على سنن النسائي، و(عارضة الأحوذي) لابن العربي، و(تحفة الأحوذي) للمبارك فوري، وحاشية السندي على ابن ماجه، و(التمهيد) و(الاستذكار) على الموطأ لابن عبد البر، و(المنتقى)  للباجي، وغيرها كثير، كتب كثيرة جداً، كتب كثيرة جداً، نعم.

الجهالة:

"ثم الجهالة وسببها أن الراوي قد تكثر نعوته فيذكر بغير ما اشتهر به لغرض، وصنفوا فيه الموَضِح".

أو الموُضح؟

طالب: مشددة عندي.

نعم.

طالب: مشددة عندي.

لا بأس، لا بأس.

يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: "ثم الجهالة وسببها أن الراوي قد تكثر نعوته فيذكر بغير ما اشتهر به لغرض، وصنفوا فيه المُوضِح" أو المُوضّح لا بأس، تقدم الحديث عن الجهالة وحكم رواية المجهول بأقسامه، ذكر الحافظ هنا سبب الجهالة وهو أمران: أحدهما: كثرة نعوت الرواي من اسم أو كنية أو لقب أو صفة أو نسب أو حرفة فيشتهر بشيء منها فيذكر بغير ما اشتهر به لغرض من الأغراض، وقد تقدم شيء من ذلك في مبحث تدليس الشيوخ، ومن أمثلة ذلك ما يفعله الخطيب البغدادي في تنويع الشيخ الواحد حيث يقول مرة: أخبرنا الحسن بن محمد الخلال، ومرة أخبرنا الحسن بن أبي طالب، ومرة أخبرنا أبو محمد الخلال والجميع واحد، وقال مرة: عن أبي القاسم الأزهري، ومرة عبيد الله بن أبي القاسم الفارسي، ومرة عن عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي والجميع و احد.

قال السخاوي: "وهو مكثر في تصانيفه من ذلك جداً" قد تقدم التنبيه على ذلك في تدليس الشيوخ أيضاً، مثل الحافظ ابن حجر في النزهة لذلك بمحمد بن السائب بن بشر الكلبي؛ نسبه بعضهم إلى جده فقال: محمد بن بشر، وسماه بعضهم حماد بن السائب، وكناه بعضهم أبا النضر، وبعضهم أبا سعيد، وبعضهم أبا هشام فصار يظن أنه جماعة وهو واحد، وصنف في ذلك الخطيب البغدادي الحافظ كتاباً سماه: "موضح أوهام الجمع والتفريق"، يعني بعض الرواة يختلف فيهم أهل العلم هل هو واحد أو أكثر فيجعلهم البخاري اثنين مثلاً، وأبو حاتم يجزم بأنهم واحد، والعكس قد يجعل البخاري الاثنين واحد والواحد اثنين وأبو حاتم كذلك، كيف نميز هؤلاء الرواة؟ هل هم بالفعل اثنين أو هم واحد مرة ذكر بلقبه ومرة ذكر بنسبه؟ هذا يفيدنا فيه كثيراً الموضح (موضح أوهام الجمع والتفريق) للإمام الخطيب البغدادي، وفيه أيضاً لابن أبي حاتم (بيان خطأ البخاري في تاريخه) يفيد كثيراً في هذا الباب، فصنف في ذلك الخطيب البغدادي الحافظ كتاباً سماه: (موضح أوهام الجمع والتفريق) ذكر فيه الرواة الذين يظن فيهم أنهم عدد وهم في الحقيقة واحد وعكسه، وأجاد فيه كما قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-.

صدّر الكتاب بمقدمة على طالب العلم أن يعتني بهذه المقدمة، جاء فيها قول الخطيب: "ولعل بعض من ينظر فيما سطرناه، أو يقف على ما لكتابنا هذا ضمناه يلحق سيء الظن بنا، ويرى أنا عمدنا للطعن على من تقدمنا، وإظهار العيب لكبراء شيوخنا وعلماء سلفنا، وأنى يكون ذلك" لماذا؟ لأن الخطيب حينما يتعرض للتصحيح والتصويب في هذه الكلمات إنما يتعقب الكبار، يتعقب البخاري، يتعقب أبا حاتم الرازي، يتعقب الأئمة، يقول: "ولعل بعض من ينظر فيما سطرناه، ويقف على ما لكتابنا هذا ضمناه يلحق سيء الظن بنا، ويرى أنا عمدنا للطعن على من تقدمنا، وإظهار العيب لكبراء شيوخنا وعلماء سلفنا، وأنى يكون ذلك، وبهم ذكرنا، وبشعاع ضيائهم تبصرنا، وباقتفائنا واضح رسومهم تميزنا، وبسلوك سبيلهم عن الهمج تحيزنا"، يقول: نحن عالة عليهم، لكن معلوم أنهم ليسو بمعصومين، يعني إذا كان في تاريخ البخاري عشرات الألوف من التراجم وأخطأ في عشر أو عشرين أو مائة ترجمة هذا يعد خطأ؟ لا، استفدنا من البخاري الشيء الكثير، ونبهنا على ما عنده من وهم يسير، ولا يعني هذا أننا نتطاول على البخاري.

ومثله إذا تعقب العالم كلام لشيخ الإسلام وغيره من الأئمة أو انتقد حكم في مذهب الإمام أحمد أو مذهب أبي حنيفة أو مالك...، لا يعني هذا أننا نتطاول على الأئمة أبداً، يقول: "وباقتفائنا واضح رسومهم تميزنا، وبسلوك سبيلهم عن الهمج تحيزنا" هذا إنصاف من الخطيب -رحمة الله عليه-، ثم ساق بسنده عن أبي عمرو بن العلاء: "ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال"، ثم قال: "ولما جعل الله تعالى في الخلق أعلاماً، ونصب لكل قوم إماماً لزم المهتدين بمبين أنوارهم، والقائمين بالحق في اقتفاء آثارهم، ممن رزق البحث والفهم، وإنعام النظر في العلم بيان ما أهملوا، وتسديد ما أغفلوا، إذ لم يكونوا معصومين من الزلل، ولا آمنين من مقارفة الخطأ والخطل، وذلك حق العالم على المتعلم، وواجب على التالي للمتقدم، وعسى أن يضح العذر لنا عند من وقف على كتابنا المصنف في تاريخ مدينة السلام، وأخبار محدثيها، وذكر قطانها العلماء من غير أهلها ووارديها، فإنا قد أوردنا فيه من مناقب البخاري وفضائله ما ينفي عنا الظنة في بابه، والتهمة في إصلاحنا بعض سقطات كتابه -إن شاء الله تعالى-".

يقول: من أراد أن ينظر إلى منزلة هذا الإمام عندي وأنا أتعقب كلامه لا يعني أني أتنقصه، من أراد أن ينظر إلى منزلة هذا الإمام عندي أنا فلينظر إلى ترجمة هذا الإمام في تاريخ بغداد للخطيب، له، ليتبين له أنه لا يتنقص هذا الإمام، أقول: نقلت هذا الكلام استطراداً لما فيه من توجيه، وفيه دروس تربوية لطلاب العلم من إمام حافظ كبير يعترف لأهل الفضل بفضلهم، قبل الخطيب صنف أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي كتاباً في بيان خطأ الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه، وسبق الخطيب إلى التصنيف في ذلك الحافظ عبد الغني بن سعيد، ثم تلاه أبو عبد الله محمد بن علي الصوري وهو من شيوخ الخطيب، نعم.

أحسن الله إليك: "وقد يكون مقلاً فلا يكثر الأخذ عنه، وصنفوا فيه الوحدان".

نعم هذا الأمر الثاني من أسباب الجهالة، وهي جهالة العين، أما الأمر الأول أخذناه فيما مضى في جهالة الذات وهذا المراد به جهالة العين، حيث قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: "وقد يكون مقلاً فلا يكثر الأخذ عنه، وصنفوا فيه الوحدان"، يعني أن الراوي قد يكون مقل من الرواية أو من التحديث فلا يكثر الآخذون عنه والرواة، قال القاري في شرحه: "فيصير مجهول الذات، فيصير مجهول الذات" كذا قال.

سبق أن عرفنا فيما تقدم أن هذا النوع يسمى عند أهل العلم مجهول العين، وسيأتي في كلام الحافظ، وسبق أني أطلقت جهالة الذات على المبهم الآتي ومن كثرة نعوته بحيث لا يتميز فيحصل الجهل به وهو الذي تقدم ذكره قريباً، وصنفوا في هذا النوع الوحدان، وصنف فيه الإمام مسلم بن الحجاج، والحسن بن سفيان، وأبو الفتح الأزدي وغيرهم، وتقدم الكلام في مجهول العين، وفي حكم روايته، فلا داعي لإعادة الكلام فيه، نعم.

المبهم:

أحسن الله إليك: "أو لا يسمى اختصاراً وفيه المبهمات، ولا يقبل المبهم ولو أبهم بلفظ التعديل على الأصح، فإن سمي وانفرد واحد عنه فمجهول العين، أو اثنان فصاعداً ولم يوثق فمجهول الحال وهو المستور".

نعم، يقول الحافظ: "أو لا يسمى اختصاراً وفيه المبهمات" فإذا لم يسمّ الرواي اختصاراً: حدثني رجل، حدثني بعضهم نعم، هو المبهم، يعني أن الراوي قد لا يسمي شيخه من باب الاختصار، فيقول: أخبرني فلان، أو شيخ، أو رجل، أو بعضهم، أو ابن فلان، ويستدل على معرفة اسم المبهم بوروده من طريق أخرى مسمى.

وصنفوا في هذا النوع المبهمات وهي كثيرة جداً، فأول من صنف في ذلك عبد الغني بن سعيد الأزدي، ثم تلاه الخطيب الحافظ البغدادي في كتاب أسماه: (الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة) ثم تلاه الحافظ أبو الفضل بن طاهر في (إيضاح الإشكال) ثم أبو القاسم خلف بن بشكوال في كتاب أسماه: (الغوامض والمبهمات)، ثم قطب الدين القسطلاني، وولي الدين أبو زرعة بن الحافظ العراقي له كتاب جامع في الباب اسمه: (المستفاد من مبهمات المتن والإسناد) وجلال الدين البلقيني (الإلهام بما وقع في البخاري من الإبهام) والكتب كثيرة في هذا الباب.

"ولا يقبل المبهم ولو أبهم بلفظ التعديل على الأصح"، يعني أن الرواي المبهم الذي لم يسم لا يقبل حديثه، الراوي المبهم الذي لم يذكر اسمه لا يقبل حديثه؛ لأن شرط قبول الخبر عدالة الراوي، ومن أبهم اسمه لا تعرف عينه فكيف تعرف عدالته؟ وكذا لا يقبل خبره ولو أبهم بلفظ التعديل كأن يقول الراوي عنه: أخبرني الثقة أو الضابط أو العدل من غير تسمية؛ لأنه قد يكون ثقة عنده مجروحاً عند غيره، هذا تقدم البحث فيه، وعرفنا أن الشافعي يقول: حدثني الثقة وغيره، وذكرنا أنه لا يكفي.

ومبهم التعديل ليس يكتفي

 

به الخطيب والفقيه الصيرفي

بل صرح الخطيب بأنه لو قال: "جميع أشياخي ثقات ولو لم أُسمِ" ثم روى عن واحد أبهم اسمه فإنه لا يقبل من أبهم للعلة المذكورة، مع كون الراوي في هذه الصورة أعلى مما تقدم، قاله السخاوي.

ثم قال: "فإنه كما نقل عن المصنف -يعني الحافظ العراقي- إذا قال: حدثني الثقة، يحتمل أن يروي عن ضعيف، يعني عند غيره، وإذا قال: "جميع أشياخي ثقات" علم أنه لا يروي إلا عن ثقة فهي أرفع بهذا الاعتبار، يقول السخاوي: "وفيه نظر، إذ احتمال الضعف عند غيره يطرقهما معاً، بل تمتاز الصورة الثانية باحتمال الذهول عن قاعدته، أو كونه لم يسلك ذلك إلا في آخر أمره، يعني هل قول المحدث: "جميع أشياخي ثقات" ثم يروي عن واحد منهم ولا يسميه أقوى أو قول المحدث: حدثني الثقة؟ نعم؟ الظاهر أنه إذا وثق شخصاً بعينه ولو أبهمه أقوى من أن يوثق بالمجموع، جميع أشياخي ثقات؛ لأنه حينما يروي عنه ويصفه بالثقة مستحضراً له، بينما يقول: "جميع أشياخي ثقات" هذه قاعدة ثم يروي عن واحد منهم بعد حين، من هؤلاء الأشياخ، قد لا يستحضر القاعدة التي أطلقها، فيكون تنصيصه على واحد مع وصفه بالثقة أقوى من هذه الحيثية، كل هذا على الأصح في هذه المسألة، كما قال الحافظ، وقيل: يقبل التعديل على الإبهام، إذا قال: حدثني الثقة يقبل، تمسكاً بالظاهر إذ الجرح خلاف الأصل، وقيل: إن كان القائل عالماً أجزأ ذلك في حق من يقلده في مذهبه، نعم، يعني إذا كان العالم الذي يقول: حدثني الثقة من الأئمة المتبوعين كالشافعي ومالك وأحمد، إذا قال الشافعي: حدثني الثقة يلزم جميع الشافعية أن يقبلوا هذا الخبر؛ لأنهم يقلدون الإمام في الحكم ففي الخبر من باب أولى، بينما الحنبلي لا يلزمه أن يقلد الشافعي في هذا ولا العكس.

قال السخاوي: "كثيراً ما يقع للأئمة ذلك، فحيث روى مالك عن الثقة عن بكير بن عبد الله بن الأشج فالثقة مخرمة ولده، أو عن الثقة عن عمرو بن شعيب فقيل: إنه عبد الله بن وهب أو الزهري أو ابن لهيعة، أو عن من لا يتهم من أهل الحديث فهو الليث، وجميع ما يقول: بلغني عن علي سمعه من عبد الله بن إدريس الأودي، وحيث روى الشافعي عن الثقة عن ابن أبي ذئب فهو ابن أبي فديك، أو عن الثقة عن الليث بن سعد فهو يحيى بن حسان، أو عن الثقة عن الوليد بن كثير فهو أبو أسامة، أو عن الثقة عن الأوزاعي فهو عمرو بن أبي سلمة، أو عن الثقة عن ابن جريج فهو مسلم بن خالد، أو عن الثقة عن صالح مولى التوأمة، فهو إبراهيم بن أبي يحيى، أو عن الثقة وذكر أحداً من العراقيين فهو أحمد بن حنبل، وفي مسند الشافعي وساقه البيهقي في مناقبه عن الربيع أن الشافعي إذا قال: أخبرني الثقة فهو يحيى بن حسان، أو من لا أتهم فهو إبراهيم بن أبي يحيى، انتهى المقصود من فتح المغيث.

على كل حال هذه أمثلة لوجود مثل هذا التوثيق مع الإبهام عند هؤلاء الأئمة.

نقول: "فإن سمي وانفرد واحد عنه فمجهول العين"، "فإن سمي وانفرد واحد عنه فمجهول العين أو اثنان فصاعداً ولم يوثق فمجهول الحال وهو المستور"، يعني أن الراوي الذي ذكر اسمه لكونه مقلاً من الرواية لا يكثر الرواة عنه، بل يتفرد بالرواية عنه راوٍ واحد فإنه يسمى مجهول عين، وتسميته بمجهول عين مجرد اصطلاح، وسبق ذكره وذكر الخلاف في روايته فلا نكرره، وإذا روى عنه راويان فأكثر لكنه لم يذكر بتوثيق من قبل أهل العلم فإن هذا يسمى مجهول الحال، وهو المستور، وتقدم أيضاً ذكره وأنواعه، والخلاف في روايته.

وذكرنا فيما تقدم الخلاف في الجهالة هل هي جرح؟ أو عدم علم بحال الرواي؟ وما يلزم على ذلك؟ وسيأتي كلامه على ذلك أيضاً عند قول الحافظ: "ومن المهم معرفة حال الرواة تعديلاً وتجريحاً أو جهالة" ثم من ذكر في كتب الجرح والتعديل وسكت عنه أهل العلم، ذكره البخاري في تاريخه فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، هذا موجود بكثرة في تاريخ البخاري وفي الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، فهل يعني ذلك التوثيق؟ لا يذكر بجرح ولا تعديل، من أهل العلم من يرى أنه توثيق، إذ لو كان مجروحاً لذكر الجرح، وكثيراً ما يقول أحمد شاكر -رحمه الله-: "ذكره البخاري في تاريخه وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً فهو ثقة" وأحياناً يقول: "سكت عنه البخاري وهذه أمارة توثيقه"، هذا قيل به إن من ذكر في هذين الكتابين ولم يذكر فيه جرح ولا تعديل فهو ثقة، لكن الصواب أنه ليس بتوثيق، وعدم الذكر لا يعني الذكر، بل صرح ابن أبي حاتم أنه ذكر رواة في كتابه ولم يذكر فيهم الجرح والتعديل رجاء أن يقف فيهم على كلام لأحد، فدل على أنه لا يعرف حالهم، بل يتوقف فيهم حتى يوجد التنصيص على عدالتهم أو جرحهم؛ لأن مجرد ذكر اسم الرجل هل يعني أنه ثقة أو ليس بثقة؟ لا يعني ذلك، وهذه مسألة مهمة، ولولا ضيق الوقت لبسطنا الكلام فيها، نعم.

من أسباب الطعن في الراوي البدعة:

أحسن الله إليك: "ثم البدعة إما بمكفر أو بمفسق، فالأول لا يقبل صاحبها الجمهور، والثاني يقبل من لم يكن داعية في الأصح، إلا إن روى ما يقوي بدعته فيرد على المختار، وبه صرح الجوزجاني شيخ النسائي".

يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: "ثم البدعة إما بمكفر أو بمفسق، فالأول لا يقبل صاحبها الجمهور، والثاني يقبل من لم يكن داعية في الأصح، إلا إن روى ما يقوي بدعته فيرد على المختار، وبه صرح الجوزجاني شيخ النسائي"،

لما أنهى الحافظ -رحمه الله تعالى- الحديث عن الجهالة وأسبابها وأنواعها شرع في بيان السبب التاسع من أسباب الطعن في الراوي وهو البدعة، وسبق الحديث عنها من حيث تعريفها وتقسيمها، وهنا حكم رواية المبتدع، وهنا الكلام يقتصر على حكم رواية المبتدع.

حكم رواية المبتدع:

اختلف العلماء في الرواية عن الراوي المبتدع كالمرجئ والقدري والخارجي والرافضي وغيرهم في الاحتجاج بما يروونه على أقوال:

الأول: يرى جمع من أهل العلم أن رواية أهل البدع لا تقبل مطلقاً، وذلك لأنهم إما كفار وهذا في أهل البدع المغلظة، أو فساق لما ذهبوا إليه، وكلٌ من الكافر والفاسق مردود الرواية، فلا تقبل رواية المبتدع مطلقاً، وهذا القول مروي عن الإمام مالك والقاضي أبي بكر الباقلاني، واختاره الآمدي، و جزم به ابن الحاجب، وأيد هذا الرأي بأن في الرواية عن المبتدع ترويجاً لأمره، وتنويهاً بذكره، وقد رد ابن الصلاح هذا الرأي وقال: إنه مباعد للشائع عن أئمة الحديث، فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة، يعني رد رواية المبتدع مطلقاً مخالف لما عليه العمل عند أهل العلم، فكتب السنة مملوءة بالرواية عن المبتدعة.

القول الثاني: يرى بعض العلماء التفصيل فإن كانت البدعة صغرى قبل وإلا فلا، وبهذا قال الحافظ الذهبي معللاً بأنه لو ردت مرويات هذا النوع –يعني من كانت بدعته صغرى- لذهب جملة من الآثار النبوية وفيه مفسدة بينة؛ لأن هذا النوع كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، وقال: وإن كانت الكبرى –البدعة كبرى- كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما، والدعاء إلى ذلك فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة، لا سيما ولست أستحضر الآن من هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم والنفاق والتقية دثارهم فكيف يقبل من هذا حاله؟ حاشا وكلا، هذا رأي الذهبي، التفريق بين البدعة الصغرى والبدعة الكبرى.

القول الثالث: وهو تفصيل أيضاً: وهو إن كان المبتدع داعية إلى مذهبه لم يقبل، وإلا قبل إن لم يروِ ما يؤيد بدعته، وهذا مذهب أكثر العلماء ونسبه الخطيب للإمام أحمد ورجحه ابن الصلاح، إن كان المبتدع داعية إلى مذهبه وبدعته لم يقبل وإلا قبل إن لم يروِ ما يؤيد بدعته، وهذا مذهب أكثر العلماء، ونسبه الخطيب البغدادي للإمام أحمد، ورجحه ابن الصلاح، بل نقل ابن حبان الاتفاق عليه، حيث قال في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي من الثقات، يقول: "وليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا كانت فيه بدعة ولم يكن يدعو إليها أن الاحتجاج بأخباره جائز، فإذا دعا إليها سقط الاحتجاج بأخباره"، "وليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا كانت فيه بدعة ولم يكن يدعو إليها أن الاحتجاج بأخباره جائز، فإذا دعا إليها سقط الاحتجاج بأخباره".

لكن قال السخاوي في فتح المغيث: "كلام ابن حبان ليس صريحاً في الاتفاق لا مطلقاً ولا بخصوص الشافعية" "ليس بين أهل الحديث من أئمتنا" من أئمتنا، قال السخاوي في فتح المغيث: "كلام ابن حبان ليس صريحاً في الاتفاق" ليس بين أهل الحديث خلاف، إذا ارتفع الخلاف وجد الاتفاق؟ نعم، إذا لم يوجد خلاف في المسألة فيوجد الاتفاق؟ نعم، لا ما يلزم، ما يلزم قد يوجد خلاف لكنه لم يقف عليه الناقل، قد يكون ما يسمى بالإجماع السكوتي مثلاً، ويقول: "ليس بين أهل الحديث من أئمتنا"، فليس النقل عن أهل الحديث كلهم، وليس النقل عن أئمتهم كلهم، واضح وإلا مو بواضح؟ لأنه يقول: "ليس بين أهل الحديث من أئمتنا"، فأهل الحديث أعم من أن يكونوا من أئمتهم الشافعية، وأئمتهم الشافعية أعم من أن يكونوا أهل حديث أو أهل فقه أو غير ذلك، ولذا قال السخاوي: "كلام ابن حبان ليس صريحاً في الاتفاق لا مطلقاً ولا بخصوص الشافعية".

وأضاف الجمهور إلى كونه غير داعية ألا يروي ما يؤيد بدعته، وبذلك صرح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ أبي داود والنسائي في كتابه: (معرفة الرجال)، فقال في وصف الرواة: "ومنهم زائغ عن الحق، زائغ عن الحق، صادق اللهجة، فليس فيه حيلة إلا أن يؤخذ من حديثه ما لا يكون منكراً إذا لم يقوِ بدعته".

قال الحافظ: "وما قاله متجه؛ لأن العلة التي رد لها حديث الداعية واردة فيما إذا كان ظاهر المروي يوافق مذهب المبتدع ولو لم يكن داعية" قال الحافظ العراقي:

والأكثرون  ورآه الأعدلا
فيه ابن حبّان اتّفاقاً ورووا

 

ردّوا دعاتهـم فقـط ونقـلا
عن أهل بدع في الصّحيح ما دعوا

مما يرد على هذا القول -رد حديث الداعية- يرد عليه تخريج البخاري لبعض الدعاة إلى البدع مثل عمران بن حطان، الذي قال فيه المبرد: "كان رأس القعدية من الصفرية وخطيبهم وشاعرهم"، قال ابن حجر: "إنه كان داعية إلى مذهبه"، عمران بن حطان داعية إلى مذهب الخوارج ومع ذلكم خرج له البخاري، وابن حجر يقول: "ما المانع أن يخرج لمثل هذا وإن كان داعية؟ لأن الخوارج عرفوا بصدق اللهجة"، الخوارج عرفوا بصدق اللهجة، لماذا؟ لأن الكذب عندهم كبيرة، والكبيرة مكفرة، تخرج من الملة عند الخوارج، فعلى هذا يقبل حديث الخوارج ولو كانوا دعاة على كلام الحافظ؛ لأن الخوارج عرفوا بصدق اللهجة بخلاف الروافض، لكن العيني في عمدة القاري وهو يرد على الحافظ يقول: "أي صدق في لهجة مادح قاتل علي؟" الذي يمدح قاتل علي هل هذا يسمى صادق اللهجة؟ نعم؟ الذي يمدح قاتل علي -رضي الله عنه- يقال عنه: إنه صادق اللهجة؟ نعم، أقول: كلام الحافظ يقول: إن الخوارج عندهم صدق في اللهجة وهذا صحيح، هم من أصدق الطوائف، وشيخ الإسلام يقول ذلك، عندهم صدق في اللهجة، لكن العيني يرى مستدركاً على الحافظ ابن حجر أن كلامه ليس بصحيح لماذا؟ لأن عمران بن حطان على وجه الخصوص من هؤلاء الخوارج يمدح قاتل علي، والذي يمدح قاتل علي يسمى صادق؟ نقول: من وجهة نظره، من وجهة نظره يرى أن هذا هو الحق فيمدح الحق، فيمدح الحق، وهو مخطئ في زعمه ووهمه، لا شك أنه مخطئ ضال، لكن الصدق شيء، والضلال شيء آخر؛ لأنه قد يوجد الصدق عند بعض الضلال، وهو موجود حتى في الكفار، يوجد منهم من يصدق، والكذب قد يوجد بل هو موجود، وإن كان الأصل في المسلم أنه لا يكذب، لكن يوجد في المسلمين من يكذب، وهذا ما دعا ابن حزم أن يقول: "الداعية أولى بالقبول من المقلد" لماذا؟ " الداعية أولى بالقبول من المقلد" هذا كلام ابن حزم، جماهير الأمة على أن الداعية لا يقبل وابن حزم يقول: "الداعية أولى بالقبول من المقلد" لماذا؟ لأنه ينصر ما يراه حق، ينصر ما يراه حق الداعية، لكن كلامه مرجوح، بل مردود، وجماهير الأئمة على أن الداعية غير مقبول، وأما الخوارج على وجه الخصوص فيقبلون؛ لأنهم عرفوا بالصدق.

القول الرابع: تفصيل أيضاً: وهو أنه إن كان المبتدع يستحل الكذب لنصرة مذهبه لم يقبل وإلا قبل؛ لأن اعتقاد حرمة الكذب يمنع من الإقدام عليه فيحصل الصدق، وممن قال بهذا الإمام الشافعي، فقد روى الخطيب عنه قوله: "تقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية، "تقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم".

وحكاه الخطيب عن ابن أبي ليلى وسفيان الثوري وأبي يوسف القاضي، ونسبه الحاكم لأكثر الأئمة، الذي يستحل الكذب على هذا القول لا يقبل، لكن نرجع إلى أصل المسألة هو أن الخلاف في البدعة غير المكفرة، واستحلال الكذب مكفر وإلا غير مكفر؟ نعم مكفر، فلا ينبغي أن يدخل مثل هؤلاء في الخلاف، قال الحافظ العراقي:

وقيل: بل إذا استحلّ الكذبا
للشّـافعيّ إذ يقول: أقبل

 

نصـرة مذهـب لـه ونسـبا
مـن غير خطّابيّـة مـا نقلـوا

لكن قال الشيخ أحمد شاكر: "هذا المذهب فيه نظر؛ لأن من عرف بالكذب ولو مرة لا تقبل روايته، فأولى أن ترد رواية المستحل للكذب".

والقول الخامس: يرى جماعة من أهل النقل والمتكلمين، يرى جماعة من أهل النقل والمتكلمين أن أخبار أهل الأهواء كلها مقبولة، سواءً كانوا فساقاً أو كفاراً بالتأويل، قال ابن حجر في شرح النخبة: "والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعته، والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعته؛ لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة، وقد تبالغ فتكفر مخالفيها فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف، فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمراً متواتراً من الشرع، معلوماً من الدين بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه، فأما من لم يكن بهذه الصفة، وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله"، هذا موجود في النزهة.

وأما ابن الصلاح فلم يدخل من كفر ببدعته في الخلاف أصلاً، ابن الصلاح لم يدخل من كفر ببدعته في الخلاف أصلاً، بل حصر الخلاف فيمن لا يكفر ببدعته، وتبعه على ذلك الحافظ العراقي فقال:

والخلف في مبتـدع مـا كفّرا

 

قيل: يـردّ مطلقاً واسـتنكرا

خلف -يعني الخلاف- في مبتدع ما كفرا، أما الذي يكفر ببدعته فلا خلاف فيه، قيل: يرد مطلقاً واستنكراً، واختار الصنعاني في شرحه على نظم النخبة له أن يجعل المعيار في قبول الرواية الصدق، ويطرح رسم العدالة وغيره؛ لأن قبولهم رواية الدعاة إلى البدع كعمران بن حطان يقوي القول بقبول المبتدع مطلقاً إذا كان صدوقاً.

ورجح الشيخ أحمد شاكر ما حققه الحافظ ابن حجر وقال: إنه الحق الجدير بالاعتبار، ويؤيده النظر الصحيح، أنه لا يرد كل مكفر ببدعته؛ لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة، وقد تبالغ فتكفر مخالفيها، فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف، فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمراً متواتراً من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه، فأما من لم يكن بهذه الصفة وانظم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله.

عندنا معيار نزن به ونقيس، وهو اتباع الكتاب والسنة، فبقرب الإنسان من هذا المعيار وبقدر قربه من الكتاب والسنة يكون قربه من الحق وبمقدار بعده عن الكتاب والسنة يكون بعده عن الحق، يعني كون الرافضة يكفرون أهل السنة، وأهل السنة يكفرون الرافضة، والخوارج مختلف في تكفيرهم وكذا، هل يعني هذا أن الحق ضائع بين هؤلاء؟ نعم، كلام ابن حجر قد يفهم منه أن الأمة فيها شيء من الضياع في الأحكام، لا، إحنا عندنا {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} [(59) سورة النساء] هذا هو المقياس والميزان الذي يوزن به الناس أفراد وجماعات الكتاب والسنة، والعبرة بأحكام أهل العلم الملتزمين لنصوص الكتاب والسنة، فإذا كفر ببدعته لبعده عن الكتاب والسنة فمثل هذا لا يروى عنه، والله المستعان.

وعلى كل حال من كفر ببدعته لا ينبغي أن تقبل روايته، بل لا ينبغي أن يدخل في الخلاف أصلاً، نعم، اقرأ.

حكم رواية سيء الحفظ:

أحسن الله إليك: "ثم سوء الحفظ إن كان لازماً فهو الشاذ على رأي، أو طارئاً فالمختلط، ومتى توبع سيء الحفظ بمعتبر وكذا المستور والمرسل والمدلس صار حديثهم حسناً لا لذاته بل بالمجموع".

نعم يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: "ثم سوء الحفظ إن كان لازماً فهو الشاذ على رأي، أو طارئاً فالمختلط"، سوء الحفظ وهو السبب العاشر من أسباب الطعن في الراوي، وتقدم الحديث في الحفظ وسوئه وأقسامه.

الغرض هنا حكم رواية سيء الحفظ، فإن كان من النوع الأول اللازم للراوي فحديثه مردود لضعف الراوي بسبب عدم غلبة الظن لحفظه ما روى، والضبط كما تقدم شرط من شروط القبول، وسوء الحفظ يناقض الضبط، وإن كان من النوع الثاني وهو الطارئ كان حافظاً ضابطاً ثم طرأ عليه سوء الحفظ هذا يسمى الاختلاط، فإن تميز حديث المختلط، إن تميز ما حدث به قبل الاختلاط قبل، وإن لم يتميز توقف فيه وكذا من اشتبه الأمر فيه، الرواة الذين طرأ عليهم ما طرأ وتغير حفظهم وساءت حوافظهم واختلطوا مثل هؤلاء إذا تميز ما كان قبل الاختلاط وما بعده يقبل ما قبل الاختلاط ويرد ما بعده، إن اشتبه ولم يعرف متى اختلط؟ ومن روى عنه قبل الاختلاط؟ ومن روى عنه بعد الاختلاط؟ فإن هذا يتوقف فيه، ويعرف ذلك باعتبار الآخذين عنه ليعلم متى أخذوا؟ أو أين أخذوا؟ أو كيف أخذوا؟ فمنهم من سمع منه قبل الاختلاط فقط، ومنهم من سمع بعد الاختلاط فقط، ومنهم من سمع في الحالين، فحديث الأول مقبول، وحديث الثاني مردود، وحديث الثالث فيه تفصيل، من سمع منه قبل الاختلاط فقط حديثه مقبول، من سمع منه بعد الاختلاط فقط حديثه مردود، من سمع منه في الحالين قبل الاختلاط وبعده فيه تفصيل.

ومثال ذلك: عطاء بن السائب: اختلط في آخر عمره، فممن سمع منه قبل الاختلاط شعبة وسفيان الثوري، وممن سمع منه بعد الاختلاط جرير بن عبد الحميد، وممن سمع منه في الحالين معاً أبو عوانة، فحديث شعبة وسفيان عن عطاء بن السائب مقبول؛ لأن الرواية كانت قبل الاختلاط، وحديث جرير بن عبد الحميد عن عطاء بن السائب مردود؛ لأن روايته عنه بعد الاختلاط، وحديث أبي عوانة عن عطاء بن السائب مردود؛ لأنه سمع منه في الحالين ولم يتميز.

وحديث سيء الحفظ يسمى الشاذ: تقدم في شرح تعريف الحديث الصحيح أن الشاذ ما خالف فيه الثقة من هو أوثق منه، وهذا ما حققه الإمام الشافعي، وهذا على رأي، الشاذ على رأي، أي على رأي من لا يشترط قيد المخالفة، ومتى توبع السيئ الحفظ بمعتبر وكذا المستور والمرسل والمدلس صار حديثه حسناً لا لذاته، بل بالمجموع، يشير المصنف -رحمه الله تعالى- إلى أنه متى توبع السيئ الحفظ سواءً في ذلك الملازم أو الطارئ الذي لم يتميز بمعتبر كأن يكون فوقه أو مثله لا دونه، يعني إذا كان ممن يعتبر به بأن يكون ضعفه ليس بشديد، كأن يكون فوقه أو مثله لا دونه، وكذا المستور والمرسل والمدلس إذا لم يعرف المحذوف من إسناده صار حديثهم حسناً لغيره لا لذاته، بل باعتبار مجموع الطرق.

عندنا السيئ الحفظ والمستور والمرسل والمدلس، يعني إذا كان سبب الضعف ناشئ عن قلة الحفظ أو السقط من السند فإنه يقبل الانجبار، بخلاف ما إذا كان سبب الضعف ناشئ إلى عدم العدالة، إذا كان سبب القدح في العدالة فإن هذا لا ينجبر؛ لأن مع كل واحد منهم احتمال كون روايته صواباً أو غير صواباً على حد سواء، فإذا جاءت من المعتبرين رواية موافقة لأحدهم رجح أحد الجانبين من الاحتمالين المذكورين، ودل ذلك على أن الحديث محفوظ فارتقى من درجة التوقف إلى درجة القبول، وينبغي أن يعلم أنه مع ارتقائه إلى درجة القبول فهو منحط عن رتبة الحسن لذاته، وربما توقف بعضهم في إطلاق اسم الحسن عليه، الحسن لغيره في المرتبة دون الحسن لذاته، وبعضهم لا يقبله أيضاً لا يقبل من الحسن إلا ما كان حسنه لذاته، مثال ذلك: ما رواه الترمذي عن عاصم بن عبيد الله قال: سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟)) قالت: نعم، فأجاز، قال الترمذي: "وفي الباب عن عمر وأبي هريرة وعائشة وأبي حدرد، وعاصم بن عبيد الله ضعيف لسوء حفظه، وقد حسن الترمذي له هذا الحديث لمجيئه من غير وجه".

أما إذا كان الضعف لجهالة راويه والمراد غير المستور فقد اختار بعضهم أنه يرتقي إلى درجة الاحتجاج بعمل السلف، وسكوتهم عند اشتهار روايته كعملهم إذ لا يسكتون عن منكر يستطيعون إنكاره، وإذا كان الضعف ناشئاً عن فسق الراوي أو كذبه فهذا النوع لا تؤثر فيه موافقة غيره له، إذا كان الآخر مثله لقوة الضعف، وتقاعد هذا الجابر عن أن يرفعه إلى درجة الحسن، قال ابن الهمام في التحرير: "حديث الضعيف بالفسق لا يرتقي بتعدد الطرق إلى الحجة وبغيره مع العدالة يرتقي".

وخلاصة القول أن العدالة والضبط إما أن يجتمعا في الراوي أو ينتفيا عنه، أو يوجد فيه أحدهما دون الآخر، فإن انتفيا لم يقبل حديثه أصلاً، إذا انتفت العدالة والضبط لا يقبل حديث الرواي أصلاً، وإن اجتمعا فيه قبل، إذا توافرت العدالة والضبط قبل، صار ثقة، إذا انتفيا -العدالة والضبط معاً- لم يقبل، وإن وجدت العدالة دون الضبط توقف القبول فيه على المتابع وشاهد ليجبر ما فات من ضعف الضبط، وإن وجد الضبط دون العدالة لم يقبل حديثه؛ لأن العدالة هي الركن الأكبر في الرواية، واختار البقاعي أن الضعيف الواهي شديد الضعف الذي لا يعتبر به ربما كثرت طرقه حتى يصل إلى درجة رواية المستور وسيء الحفظ، بحيث أن ذلك الحديث إذا كان مروياً بإسناد آخر فيه ضعف قريب محتمل، فإنه يرتقي بمجموع ذلك إلى درجة الحسن؛ لأن مجموع تلك الطرق الواهية صارت بمنزلة الطريق الذي فيه ضعف يسير، فصار ذلك بمنزلة طريقين، في كل منهما ضعف يسير، وما ذكر عن البقاعي هو اختيار السيوطي في ألفيته؛ لأنه قال:

وربما يكون كالذي بدي

 

 

...................................

اختيار السيوطي في ألفيته يجبر الضعف ولو كان شديداً، وعليه عمله في مصنفاته وتخاريجه، وكأن الشيخ الألباني يعمل بهذا أحياناً، والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"