كتاب الجهاد والسير من المحرر في الحديث - 01

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

 قال الإمام ابن عبد الهادي -يرحمه الله تعالى- في كتابه المحرر:

كتاب الجهاد والسِّيَر:

 عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق»، رواه مسلم.

 وذكر عن ابن المبارك أنه قال: فنرى أن ذلك كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 وعن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»، رواه أحمد والدارمي وأبو داود والنسائي، وإسناده على رسم مسلم.

 وعن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأذنه في الجهاد فقال: «أحي والداك؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد»، متفق عليه.

 وعن أبي سعيد الخدري أن رجلاً هاجر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من اليمن فقال: «هل لك أحد باليمن؟» قال: أبواي، قال: «أذنا لك؟» قال: لا، قال: «ارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما»، رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم من رواية درَّاج، وقد اختلف في توثيقه.

 وعن قيس بن أبي حازم عن جرير قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأمر لهم بنصف العقل وقال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين»، قالوا: يا رسول الله، ولمَ؟ قال: «لا تراءى ناراهما»، رواه أبو داود والترمذي والطبراني، ورواه النسائي والترمذي أيضًا مرسلاً، وهو أصح، قاله البخاري والدارقطني.

 وعن عبد الله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «القتل في سبيل الله يكفِّر كل شيء إلا الدَّين»، رواه مسلم.

 وروى ابن أبي عاصم: «الشهادة تكفِّر كل شيء إلا الدَّين، والغرق يكفِّر ذلك كله»، وفي روايته من يجهل حاله.

 وعن البراء قال: لما نزلت {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة النساء:95] دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيدًا فجاءه بكتف فكتبها وشكى ابن أم مكتوم ضرارته، فنزلت {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [سورة النساء:95]، متفق عليه، واللفظ للبخاري.

 وعن ابن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال قال: فكتب إليَّ: إنما كان ذلك في أول الإسلام قد أغار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تستقي على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى سبيهم، وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث قال: وحدثني هذا الحديث عبد الله بن عمرو وكان في ذلك الجيش، متفق عليه، واللفظ لمسلم.

 وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا ثم قال: «اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن أبوا فسلهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم.

 وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنك إن تخفروا ذممك وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا»، قال عبد الرحمن هو ابن مهدي هذا أو نحوه، رواه مسلم."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "كتاب الجهاد والسِّيَر، كتاب الجهاد والسِّيَر"، الكتاب مَرَّ التعريف به مرارًا في هذا الكتاب وفي غيره، وأنه مصدر كتب يكتب كتابًا وكتابة وكتْبًا، ومدار المادّة على الجمع، فالكتاب المراد به المكتوب الجامع لمسائل الجهاد والسِّيَر، الجهاد مصدر جاهد، والمراد به بذل الجهد، واستفراغ الوسع في قتال الأعداء من الكفار وغيرهم، بذل الجهد واستفراغ الوسع في قتال الكفار، ويُلحِق بهم أهل العلم البغاة، وجاء الأمر بجهاد الكفار والمنافقين، الجهاد جزء من السِّيَر، جزء من السِّيَر، فالسِّيَر تشتمل على الأخبار والجهاد، وهناك أخبار لا تتعلَّق بالجهاد تشتمل عليها كتب السِّيَر، وهناك أيضًا الجهاد والمغازي والسرايا نوع مما يُذكَر في كتب السِّيَر، وقد يُفرَد، وألَّف الأئمة في الجهاد كتبًا كثيرة، كما أنهم ألفوا في السير كتبًا كثيرة جدًّا.

 وعطف السِّيَر على الجهاد من باب عطف العام على الخاص؛ للعناية بشأن الخاص، والاهتمام به، مما زاده المحقق هنا باب فرض الجهاد، باب فرض الجهاد، مع أن هذا الباب يشتمل على حكم الجهاد وعلى مسائل أخرى، لا يختص بفرض الجهاد، ولو تُرِك هذا الباب وهذا العنوان لكان أولى.

 في الحديث الأول يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: قال: قال رسول الله "عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من مات ولم يغز»" يعني يباشر الغزو والجهاد والقتال في سبيل الله، من مات لم يباشر ذلك، "ولم يحدِّث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق".

 أولاً: الجهاد ذروة سنام الإسلام، وبه عز الإسلام، وبتركه يذل المسلمون، ولا يمكن أن يعود لهم عزهم ونصرهم ومكانتهم بين الأمم والشعوب إلا بأن يعاودوا دينهم عدوة صحيحة، ومن ذلك إعلاء شأن الجهاد، وإرغام الناس للدخول في دين الله، والجهاد في الإسلام إنما شرع من أجل هداية الناس والشفقة عليهم والنصح لهم؛ من أجل أن يفوزوا بخير الدنيا والآخرة، ولم يشرع الجهاد لذات القتل والتشفي وسلب الأموال وسبي الذراري أبدًا، ولذلك شرعت الدعوة قبل الجهاد، وإذا أراد النبي -عليه الصلاة والسلام- الغزو فإنه يدعو قبل إلى الإسلام، وسيأتي في الحديث الطويل أول ما تدعوهم إليه الإسلام «فادعهم إلى الإسلام». وجاء ما يدل على أنه غزا، كما في حديث أنه أغار على بني المصطلق وهم غارُّون، ويأخذ منه أهل العلم أنه يجوز القتال بدون دعوة، لكن سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

 المقصود أن الحكمة من شرعية الجهاد هي هداية الناس، الحرص على خلاصهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، لكن الذي يأبى هذه الهداية، ويأبى أن يُقاد إلى الجنة فمثل هذا يقاتَل، وهناك خيارات على ما سيأتي في الحديث الطويل في آخر حديثٍ قرئ.

 "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من مات ولم يغز»" يعني يباشر فعلاً الجهاد بنفسه وبماله إن كان ذا جدة ومال، «ولم يحدِّث نفسه بالغزو» لم يحدِّث نفسه بالغزو الشراح يقولون: إن المعنى أنه يعزم على الغزو متى وُجِد ومتى قدر عليه يعزم عليه، يوطِّن نفسه أنه متى وُجِدَ الغزو ووجد الجهاد ليس في كل وقت يوجد الجهاد، على كل حال إذا وجد الجهاد الشرعي فعلى الإنسان أن يوطِّن نفسه للمشاركة فيه بأن يجاهد بنفسه وماله ولسانه.

 «ولم يحدِّث نفسه» بعضهم يقول: إن حديث النفس بالجهاد المذكورة في هذا الحديث «ولم يحدِّث نفسه» أن الجهاد يعني لم يخطر على باله، ولا جالَ في فكره وخاطره، وهذا أقل عن مرتبة العزم، العزم على الجهاد، لكن جميع الواجبات الشرعية على المسلم أن يعزم على عملها والإتيان بها متى تعيَّنت عليه أو وجبت عليه، فالإنسان المسلم في هذه الحياة منذ التكليف وهو عازم، بل يجب أن يكون عازمًا على فعل الطاعات عازمًا على ترك المحظورات كونه تغلبه نفسه وشيطانه في وقت، أو في ظرف يضعف فيه هذا لا يُخِلّ بالعزم الذي قرره في نفسه متى تمكَّن من الفعل ومتى وُجِدَ الفعل، ولذا يقول بعضهم: إن عزم المسلم على الطاعة حتى يأتيَه اليقين ولو عُمِّر عمر نوح هذا الذي جعل مكافأته الخلود في الجنة؛ لأنه عازم إلى ما لا نهاية إلى أن يموت، ولو عُمِّر عمر نوح أنه يفعل الطاعات، ويجتنب المحظورات، فكُوْفيَ بجنة يُخَلَّد فيها أبد الآباد لا نهاية لها، ولا انقضاء لها.

 «لم يغز ولم يحدث نفسه» يعني ما خطر الجهاد على باله، ولا رفع به رأسًا هذا يموت على شعبة من النفاق، لماذا؟

لأن المسلم الذي أسلم إسلامًا صحيحًا ظاهرًا وباطنًا يمتثل الأوامر، ويجتنب النواهي بخلاف المنافق الذي استجاب ظاهرًا وكفر باطنًا، ولذا تجد في المغازي في عهده -عليه الصلاة والسلام- ما من غزاة إلا وللمنافقين فيها موقف خذلان وتخذيل ورجوع من أثناء الطريق، وتثبيط، هذه طريقة المنافقين، فمن شابههم في هذه المسألة من كراهية الغزو بحيث لا يغزو فلا فعلاً ولا يحدث نفسه إذا وجد الغزو ففيه شعبة منهم، وكون الإنسان فيه شعبة من النفاق لا يعني أنه يحكم عليه بأنه منافق، ففرق بين من فيه نفاق، وبين منافق، وبين امرئ فيه جاهلية، وبين امرئ جاهلي، وبين شخص فيه شرك، وبين شخص مشرك، فهذا فيه شعبة من شعب النفاق، كما أن من يكذب إذا حدث كذب فيه شعبة من شعب النفاق، وإذا وعد أخلف فيه شعبة من شعب النفاق، ولا يعني أنه منافق إلا إذا اجتمعت فيه الخصال، نسأل الله السلامة والعافية.

 حديث النفس الأصل أنه معفو عنه، حديث النفس يعني «عُفِيَ لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل»، فهل حديث النفس هنا من هذا الباب أو غيره؟

حديث النفس في هذا الباب، حديث النفس بفعل الخير هذا يثاب عليه، وينفصل به عن المنافقين، لكن حديث النفس الذي يحدِّث به المرء نفسه في فعل الشر هذا إذا حدث نفسه بمعصية هذا لا يؤاخذ عليها؛ لأنه مفعو عن حديث النفس ما لم يتكلم أو يعمل، ومراتب القصد كما قرر أهل العلم خمس: الخاطر والهاجس وحديث النفس والهم والعزم.

مراتب القصد خمس هاجس ذكروا

 

فخاطر ..................

أو العكس.

.........................

 

......فحديث النفس فاستمعا

يليه هم فعزم كلها رفعت

 

إلا الأخير ففيه الإثم قد وقعا

«إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قيل: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» عازم على قتل صاحبه، فالعزم يؤاخَذ عليه.

 يقول: "رواه مسلم، وذُكر عن ابن المبارك، ذُكر عن ابن المبارك" بهذه الصيغة صيغة التمريض، وثبوته عن ابن المبارك مشكوك فيه؛ لأن المؤلف ساقه بصيغة التمريض، وهو من أهل الحديث الذين يحسبون للكلام حسابه، فأهل الحديث عندهم أنه إذا صُدِّر الكلام بصيغة التمريض فهو ضعيف، بخلاف ما إذا صدر بصيغة الجزم كقال ابن المبارك مثلاً.

 "قال: وذكر عن ابن المبارك أنه قال: فنرى أن ذلك كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم"-، وهذا إن ثبت عن ابن المبارك مع أن في ثبوته نظرًا إن ثبت عنه، فهذا فهمه، فهذا فهمه، وهذا رأيه، وإلا فالحديث ما فيه تقييد بعهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، بل هو في حق الأمة إلى قيام الساعة، فعلى المسلم أن يباشر الجهاد بنفسه وبماله، وإذا لم يوجد جهاد في وقت من الأوقات أو في ظرف من الظروف لضعف الأمة مثلاً فإنه يعزم على أنه متى سنحت الفرصة أن يبادر بخلاف من يتمنى أنه إذا سمحت الفرصة أن يكون من المعذورين، {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ} [سورة النــور:61] يتمنى أنه مريض أو عرج أو أعمى في ذلك الوقت، هذا -نسأل الله العافية- ضد وخلاف ما جاء التوجيه النبوي به في هذا الحديث.

 قال -رحمه الله-: "وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «جاهدوا المشركين، جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم»لا شك أن تقديم المال على النفس في الجهاد في نصوص الكتاب والسنة كهذا النص الذي معنا «جاهدوا المشركين بأموالكم»، وأكثر النصوص على تقديم المال على النفس.

 قد يقول قائل: هل المال أغلى عند الإنسان من نفسه؟ نقول: لا، ليس المال أغلى من النفس، لكن ماذا تغني النفس في الجهاد بدون مال؟! المال كما يعبر المعاصرون عصب الحياة ما يمكن أن تعد العدة لجهاد العدو التي أمر الله بها {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم} [سورة الأنفال:60] إلا بالمال، وماذا يغني إنسان يذهب بنفسه ولا سلاح معه، ولا يمكن الحصول على السلاح إلا بالمال، ولذا عند أهل العلم تجدون في الغنيمة أن الفارس الراجل له سهم واحد، والفارس له ثلاثة أسهم، هل يقال: إن الفرس أفضل من مسلم؟!

لا، لا نقول: إن الفرس أفضل من المسلم، لكن نفعه في الجهاد الفارس أكثر من نفع ثلاثة من المشاة، ولذا يقدم المال على النفس في الجهاد في كثير من النصوص، مع أنه لا بد من الجهاد بالمال والجهاد بالنفس سعيًا لهداية الخلق لا للتسلط عليهم والتشفي بدمائهم وأموالهم وأعراضهم، كما يفعل الكفار إذا قاتلوا المسلمين تشفوا منهم من أبدانهم من أموالهم من أعراضهم.. أقول: الجهاد عند المسلمين يختلف عن الجهاد عند غيرهم من الأمم، ولذا تجدون الأثر الواضح في النصوص حينما يبعث النبي -عليه الصلاة والسلام- السرايا والبعوث ويوصيهم بالرفق واللين وإن كانت المسألة قتلًا وقتالًا، لكن «انفذ على رسلك، وليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله»، «فادعهم إلى الإسلام»، المراد هدايتهم إلى ما يكون سببًا لنجاتهم في الدنيا والآخرة هذا هو الهدف الأعظم في الجهاد الإسلامي بقسميه بجهاد الطلب، ولا ينكر أن جهاد الطلب موجود في الإسلام، ولا يقتصر الجهاد على جهاد الدفع، كما يقول بعضهم، بل هناك جهاد طلب، فالصحابة سافروا إلى الأمصار للجهاد، لكن هدفهم هداية الناس، وإدخالهم في دين الله، وليس هدفهم التشفي من الكفار أو الاستيلاء على أموالهم وأوطانهم كما يفعله أعداء الإسلام حينما يقاتلون المسلمين أو غيرهم للتوسع في البلدان والأوطان، والتشفي بالقتل وسلب الأموال وانتهاك الأعراض وغير ذلك، «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» كما جاء في القرآن {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [سورة الفرقان:52] بالقرآن، بالعلم، بالحجة، هذا جهاد باللسان، يجاهَدون يرد عليهم، يرد على شبههم، يبيَّن لهم محاسن الإسلام، ويدافَع عما يُلصَق بالإسلام من تهم، كما هو واقع اليوم، ويدافع عن رسول الإسلام وما يشوَّه به كما فعله أعداء الإسلام في القديم والحديث.

 قال: "رواه أحمد والدارمي وأبو داود والنسائي وإسناده على رسم مسلم" يعني على شرط مسلم، يعني ما رسمه الإمام مسلم ومشى عليه في صحيحه، وهذا ما يعبِّر به أهل العلم بشرط مسلم، ومر بنا مرارًا أن المراد بشرط البخاري، شرط مسلم، شرط الشيخين: رجالهم، رجالهم يعني أن يكون مسلم روى لهذا الإسناد الذي رواه به أحمد والدارمي وأبو داود والنسائي والنسائي بالصورة المجتمعة.

 هذا الحديث مخرج عند أحمد بإسناد، ومخرج عند الدارمي وأبي داود والنسائي، هذا الإسناد الذي رواه به هؤلاء الأئمة روى لهم الإمام مسلم في صحيحه، هذا شرط مسلم، وقل مثل هذا في شرط البخاري، وقل مثل هذا في شرط الشيخين، وتقدم ذكر ذلك مرارًا ومناقشة كلام الحاكم؛ لأنه هو الذي أكثر من صحيح على شرط الشيخين، صحيح على شرط البخاري، صحيح على شرط مسلم، أو صحيح فحسب لا على شرط واحد منهما، يقول الحاكم -رحمه الله- في مقدمة المستدرَك.. يقول الحاكم في مقدمة المستدرك: وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث صحيحة رواتها ثقات، احتج بمثلها الشيخان، احتج بمثلها الشيخان، رواتها ثقات احتج بمثلها، ونحن نقول: إن مراد الحاكم بقوله: على شرط الشيخين رجال الصحيحين أنفسهما، وهو يقول: احتج بمثلها؛ لأن تصرّف الحاكم إذا كان الحديث عنده برجال خرّج لهم الشيخان قال: صحيح على شرط الشيخين، وإذا كان الحديث عنده مخرجًا برجال احتج بهم الإمام البخاري قال: صحيح على شرط البخاري، وإذا كان الحديث مخرجًا عنده بإسناده خرج لهم الإمام مسلم قال: صحيح على شرط مسلم، وإذا كان الحديث عنده برجال لم يخرج لهم الشيخان ولا واحد منهما قال: صحيح الإسناد، وفي المقدمة يقول: احتج بمثلها الشيخان، فكيف نقول: بهم أنفسهم؟

 على كل حال تصرف الحاكم يقوي هذا الاختيار؛ لأنه بالاستقراء ظهر أن هذا مراده، ومن ذلك ما جاء في حديث رواه من طريق أبي عثمان، رواه من طريق أبي عثمان فقال: صحيح الإسناد، صحيح الإسناد ما قال: على شرطهما ولا على شرط البخاري ولا على شرط مسلم، ثم قال: ولو كان أبو عثمان هذا هو النهدي لقلت: صحيح على شرطهما؛ لأنهما خرجا لأبي عثمان النهدي، لكن أبا عثمان التبَّان الذي خرج الإمام الحاكم الحديث من طريقه لم يخرج له لا البخاري ولا مسلم فقال: صحيح الإسناد فحسب، فهذا يدل على أن المراد بشرط الشيخين رجالهما بالصورة المجتمِعة، ما تكون صورة مشوشة روى عن هذا الشيخ، عن البخاري عن هذا الشيخ، عن شيخ معين، وخرج له الحاكم عن .. خرج البخاري عن هذا الشيخ عن شيخ آخر، وإن خرج له البخاري في موضع آخر عن غير هذا الراوي، لا: قالوا: بالصورة المجتمعة؛ لأن الراوي قد يكون قويًا في شيخ، ضعيفًا في شيخ آخر، بل لا بد أن يخرج الحديث بالصورة المجتمعة نعود إلى ما قاله في المقدمة، فهل مثل الشيء هو الشيء نفسه؟

الحاكم يقول بمثلها، ونحن نقول هم أنفسهم، كلامه ما يمشي على ما قعّده أهل العلم من أنهم هم أنفسهم، قالوا: إن المثلية هنا أعم من أن تكون في حقيقتها أو مجازها الحقيقة هنا أو المثلية أعم فاستعمل المثلية على حقيقتها حينما يخرّج الحديث عن رواة ثقات على غير شرط الشيخين، ولم يخرج لهما الشيخان هذه المثلية حقيقية، وإذا خرَّج لرواة خرَّج لهم الشيخان هذه المثلية ليست حقيقية، وإنما هي من باب المجاز عند من يقول به، وذكروا قصة توضِّح ما نحن فيه، قال: إن رجلاً رأى بيد آخر ثوبًا فقال له: اشتر لي مثل هذا الثوب، فاشترى له الثوب نفسه، قال: اشتر مثل هذا الثوب، فاشترى الثوب نفسه، فتحاكما عند شريح وقال لشريح: إني قلت لهذا: اشتر لي مثل هذا الثوب، أنا لا أريد هذا الثوب، أنا أريد مثله، فألزمه بالبيع، وألزمه بالثوب، ودفع ثمنه وقال: لا شيء أشبه بالشيء من الشيء نفسه، أنت الآن قلت: اشتر لي مثل هذا الثوب هذه المثلية، إذا قلنا: إن تنفيذ هذا الأمر بشراء الثوب نفسه كم نسبة المماثلة؟ مائة بالمائة، لكن لو بحث عن ثوب آخر مثل هذا الثوب فهل يمكن أن تتحق المثلية مائة بالمائة؟

هذا قبل المصانع الموجودة الآن التي تصنع بالآلاف أشياء متطابقة مائة بالمائة، ما يمكن أن تتحق المماثلة مثل ما تتحقق بالشيء نفسه، فأهل العلم من هذه القصة ومن غيرها أخذوا واستندوا وأيدوا ما دل عليه الواقع، يعني هذا من باب التوضيح، وإلا فواقع المستدرك يشهد بأن المراد بشرط الشيخين رجال الشيخين.

 "وعن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأذنه، يستأذنه".

 يعني يطلب الإذن، مما يدل على أن الجهاد لا بد فيه من الإذن، يستأذن النبي -عليه الصلاة والسلام- النبي -عليه الصلاة والسلام- ولي الأمر، فلا بد من إذن ولي الأمر، يستأذنه، ما قال والله هذا جهاد، والجهاد ذروة سنام الإسلام، أذهب أجاهد، لكن إذا لم يكن ثَمَّ مانع، فعلى ولي الأمر أن يأذن، ولا يمنع الناس مما أوجب الله عليهم، إذا لم يكن ثَمَّ مانع فلا بد من الاستئذان، ولكل ما يخصه من خطاب الشرع، وقد يوجد مانع يلوح لولي الأمر، ولا يظهر لأفراد الناس وآحادهم، يظهر لولي الأمر، يظهر لأهل الحل والعقد من أهل العلم وغيرهم، وإن خفي على بعض عامة الناس.

 المقصود أن هذا الرجل جاء إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- يستأذنه، والقضايا متعددة، يأتي الصحابة إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- "يستأذنونه في الجهاد فقال: «أحي والداك؟ أحي والداك؟»" من يعرب لنا «أحي والداك؟»؟

طالب: ...........

ما أسمع والله..

طالب: ...........

طيب.. مضبوط..

طالب: ...........

فاعل سدَّ مسدَّ الخبر، ماذا قال ابن مالك في هذا؟

فأول مبتدئ والثاني

 

فاعل فأغنى كسار ذان

"«أحي والداك؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد، ففيهما فجاهد»"، في بعض الروايات التكرار ثلاثًا، حي والداك؛ لأن بر الوالدين فرض عين، والجهاد منه ما هو فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية، ولو تعيَّن الجهاد فما الذي يقدَّم بر الوالدين أو الجهاد؟ لو تعيَّن الجهاد، ومتى يتعيَّن الجهاد؟ إذا استنفره الإمام، وإذا حضر الصف، وإذا دهمه العدو، دهم بلده العدو، هذا يتعين فيه الجهاد، وإذا حضر الصف لم يجز له الفرار، وإذا استنفره الإمام تعين عليه أيضًا الجهاد، إذا تعين الجهاد.

 يقول أهل العلم: يقدَّم على البر؛ لأن نفعه متعدِّ للأمة كلها، وللذب عن الإسلام والمسلمين، وهذا لا شك أنه مقدَّم على المصالح الخاصة قال: نعم. قال: «ففيهما فجاهد»، معروف أن الجهاد بذل الجهد، واستفراغ الوسع في قتال العدو، فكيف سمى أو أخبر عن بر الوالدين أنه جهاد فيهما، منهم من يقول: إن هذا من باب المشاكلة مثل {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [سورة الشورى:40]، ومنهم من يقول: إن هذا من باب قياس العكس، العكس، يعني كما تجاهِد العدو تجاهِد نفسك في بر الوالدين، كما توصِل الضرر بالعدو عليك أن توصل النفع إلى الوالدين فيكون من باب قياس العكس، لكن إذا نظرنا ما يتعلَّق بالفعل جاهِد {جَاهِدِ الْكُفَّارَ} [سورة التوبة:73] هذا يتعدى بنفسه وإذا قال: جاهد في والديك فالمفعول محذوف، ما هو المفعول الوالدان، ليس المفعول الوالدين، ما قال: جاهد الوالدين، كما قال جاهد الكفار، قال: جاهد فيهما، يعني جاهد نفسك، جاهد شيطانك في بر والديك، قال: «ففيهما فجاهد»، يعني ولو واحد منهم، «أحي والداك؟» يعني لو واحد حي يدخل في هذا أو لا يدخل؟ الأب قد مات، وبقيت الأم، نعم يبقى الحكم إذا كان الوالد موجودًا، والأم قد ماتت يبقى الحكم، وهل الجد والجدة لهما حكم الأب والأم في هذا؟

يعني هل يلزم أن يستأذن الجد والجدة الأب والأم قد ماتا، وبقي الجد والجدة، هل نفس الحكم؟ «أحي والداك؟».

طالب: ...........

هو جاء في بعض النصوص ما يدل على أن الجد أب، والعلماء اختلفوا في تنزيله منزلة الأب في الميراث.

 وعلى كل حال العلماء يختلفون في مثل هذا، والمقرر عند الحنابلة أن الجد والجدة ليسا مثل الأب والأم، ليسا مثل الأب والأم، والمسألة مسألة أولويات، أولويات، يقدِّم الأولى فالأولى، يعني إذا كان الجد والجدة في غاية الضرورة لهذا الولد، يختلف فيما إذا كان عندهما أولاد كثر، جد وجدة لزيد من الناس، وهما جد وجدة لعشرات من الناس من أولاد البنين والبنات، يختلف الحكم في تقديم هذا على هذا أو العكس، لكن الوالدان مهما كثر أولادهما؛ لأن فيهما النص.

 "وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رجلاً هاجر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من اليمن فقال: «هل لك أحد باليمن؟» قال: أبواي، فقال: «أذنا لك؟» قال: لا، قال: «ارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما»".

 الحديث هو في معنى الحديث السابق «أحي والداك؟»، «هل لك أحد باليمن؟» قال: أبواي، هل يقصد بذلك أبواه في اليمن في قبورهما؟! أو في قبريهما؟! لا، إنما أحياء يحتاجان له، قال: «أذنا لك؟» قال: لا، قال: «ارجع إليهما فاستئذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما»، وهذا الحديث مضعَّف عند أهل العلم، والذي قبله يغني عنه، والذي قبله يغني عنه.

 يقول المؤلف -رحمه الله-: "رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم من رواية درّاج" دراج بن سمعان أبو السمح السهمي مولاهم المصري القاصّ، قال ابن حجر: صدوق في حديثه عن أبي الهيثم: ضعف، من الرابعة.

 على كل حال دراج أبو السمح هذا مختلف في تضعيفه وتوثيقه، والأكثر على تضعيفه، والأكثر على تضعيفه، ومثله يصلح في المتابعات، وهذا الحديث حديث أبي سعيد شاهد لحديث عبد الله بن عمرو المتفق عليه، فالمعنى واحد.

 قال -رحمه الله-: "وعن قيس بن أبي حازم عن جرير قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سريَّة إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، بادروا إلى السجود"، بادروا بالسجود للدلالة على أنهم مسلمون؛ ليعتصموا بذلك من القتل، بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرية إلى خثعم، وسيأتي الكلام في الحديث، والخلاف في وصله وإرساله، وأن الأكثر على أنه مرسَل اعتصم ناس بالسجود، يعني من القتل؛ ليدلّوا بذلك، أو ليَدُلّوا بذلك على أنهم مسلمون. "فأسرع فيهم القتل"؛ لأنهم ظنوا أنها حيلة، "فبلغ ذلك النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فأمر لهم بنصف العقل"، يعني بنصف الدية، بنصف الدية؛ لاحتمال أنهم صادقون في إسلامهم، واحتمال آخر أنهم إنما اعتصموا بالسجود من القتل، أهل العلم يقولون: من صلى مسلمٌ حكمًا، من صلى فهو مسلمٌ حكمًا، لماذا؟

لأن الصلاة تتضمن الشهادة، لكن هل من سجد يُحكَم بإسلامه، مجرد سجود؟ الكفار يسجدون لغير الله، لكن لا يصلون الصلاة التي يصليها المسلمون، لغير الله، الاحتمال قائم على صدقهم، كما أن الاحتمال قائم على أنهم مجرد أنهم فعلوا ذلك لمجرد الاعتصام به من القتل، ومادام الاحتمال قائمًا أمر لهم بنصف العقل، يعني بنصف الدية، وقال: «أنا بريء من كل مسلم، أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين»، الحديث بهذه الصورة المجتمِعة محكوم بضعفه عند أهل العلم وإرساله، "قال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين»، قالوا: يا رسول، ولمَ؟ قال: «لا تراءى ناراهما» جاء في الهجرة والانتقال من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام نصوص كثيرة، ومن ذلك آية النساء {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} [سورة النساء:97]، ثم جاء الجواب: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} [سورة النساء:97]، ثم استُثني المستضعفون، استُثني المستضعف من النساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً، لا يعرفون الطريق ليهاجروا إلى المسلمين، ولا يستطيعون حيلة يتحيلون بها للخروج من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، والحيلة لم تذكر صراحة إلا في هذا الموضع، مما يدل على أن التحايل على ترك المحظور شرعي، التحايل على التمكن من المأمور شرعي، التحايل على ترك المحظور شرعي، بخلاف ما كان عليه اليهود ومن يفعل فعل اليهود مما جاء النهي: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل»، أنت إذا حيل بينك وبين الواجب فعملت حيلة فهذه حيلة شرعية، لكن لو حيل بينك وبين المحرم فعملت حيلة؛ لترتكب المحرم فهذه حيل اليهود {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [سورة النساء:98].

وقد برئ المعصوم من كل مسلم

 

يقيم بدار الكفر غير مصارم

يقول: «لا تراءى ناراهما»، لا توقد نار المسلم بجوار نار الكافر، لا بد أن ينفصل المسلمون عن الكفار، ولا شك أن الأثر كبير وواضح بسبب الإقامة بين ظهراني الكفار، موافقتهم في الظاهر ومخالطتهم لا شك أن لها أثرً على القلوب، ولها أثر على الناشئة، وكم مِن ناشئة المسلمين من بنين وبنات التحقوا بأديان أخرى، وأعجبوا بها، ثم اعتنقوها وارتدوا عن الإسلام، فمن يرضى لنفسه أو لولده أن يصل إلى هذا الحد، ولا شك أن البقاء في دار الكفر تستثنى من ذلك، ما يستثنى عند أهل العلم، لكن الأصل وجوب الهجرة، وأنها باقية إلى قيام الساعة، وأما حديث «لا هجرة بعد الفتح» فالمراد به الهجرة من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام.

 "رواه أبو داود والترمذي والطبراني، ورواه النسائي والترمذي أيضًا مرسلاً، وهو أصح، قاله البخاري والدارقطني"، ورجحه- يعني الإرسال- أبو حاتم والترمذي وغيرهم، فأكثر أهل العلم على أنه مرسل.

 "وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «القتل في سبيل الله يكفِّر كل شيء إلا الدَّين»".

 نعم الشهادة في سبيل الله تكفر كل شيء إلا الدَّين، فالدَّين شأنه عظيم، شأنه عظيم، إذا كانت الشهادة التي فيها بذل النفس، بذل الروح، بذل المهجة لتراق في سبيل الله، وأي شيء أغلى من أن يقدم الإنسان نفسه ليقتل في سبيل الله، ثم بعد ذلك يبقى في ذمته هذا الدين لا يكفر، ويكفر ما هو أعظم منه في نظر كثير من الناس، لكن حقوق العباد من الديوان الذي لا يُغفَر حقوق العباد على الإنسان أن يتقيها ويجتنبها؛ لأنها من الديوان الذي لا يغفر، أما ما يتعلق بحقوق الله- جل وعلا- فمبنية على المسامحة، ولا يعني هذا أن الإنسان يجرؤ على محارم الله، ويرتكب ما حرمه الله عليه بناءً على هذه المسامحة الله -جل وعلا- كما أنه غفور رحيم شديد العقاب {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ = 49  وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ = 50 } [سورة الحجر:49-50] يعني كما أن مغفرته وسعت كل شيء أيضًا عذابه أليم.

 «القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين»، يعني ولو كان يسيرًا، والناس اليوم يتتابعون ويتتايعون ويتسارعون ويتسابقون إلى شغل الذمم بما تدعو إليه الحاجة وما لا تدعو إليه الحاجة في أمور كمالية لا يؤثِّر عدمها أي خلل في حياة الشخص، ثم بعد ذلك تجده في بيت مريح واسع نظيف جديد، لكن فلانًا من زملائه أو أقاربه سكن قصرًا أكبر منه وأوسع وأكثر جمالًا وزخرفة تجده لا بد أن يكون مثل فلان، ثم يتحمل الديون بسبب ذلك، والأمر أهون من ذلك كما جاء في حديث ابن عمر: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، كأنك غريب أو عابر سبيل»، بيت واسع وفسيح وأكثر من الحاجة بكثير، لكن والله آل فلان أو أقاربنا آل فلان أو زميلنا فلان سكن الحي الفلاني وشيد قصرًا من الطراز الفلاني، ثم يتحمل الديون بما لا يستطيع وفاءه، النساء تحملت ديونًا بسبب المسكن، وبسبب السيارة، وبإمكانها أن تعيش بأقل من ذلك وبدون ديون وبدون أي كلفة، المسألة تحتاج إلى إعادة نظر، والناس أغرقوا أنفسهم في هذه الديون، وساءت أحوالهم وتكدرت وتغيرت أمزجتهم، وبعضهم حصل له ما حصل من الأمراض والأزمات النفسية؛ بسبب كثرة الديون والمطالبة بها، فإذا كان هذا في الدنيا فماذا عن الآخرة الشهادة على عظمها تكفِّر كل شيء كل ذنب إلا الدَّين، لكن يبقى أن كل شيء من العموم المخصوص الذي يقبل الغفران، يقبل التكفير ما دون الشرك {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [سورة النساء:48].

"رواه مسلم.

 وروى ابن أبي عاصم، وروى ابن أبي عاصم" لكن بسند ضعيف جدًّا قال: «الشهادة تكفر كل شيء إلا الدين، الشهادة تكفر كل شيء إلا الدين»، وهذه الجملة بمعنى الحديث السابق، وكونها بسند ضعيف جدًّا وفيه مجاهيل، ويشهد لها حديث مخرج في الصحيح، هل يُفرَح بمثل هذه المتابعة؟ ضعيف جدًّا يستفاد منها تقوية أو ترقية؟

شديد الضعف لا يستفيد ولو كثرت طرقه التي يشملها الضعف الشديد.

 على كل حال هذه الجملة يغني عنها الرواية السابقة المخرجة عند مسلم، وأما الجملة الثانية وهي جملة جديدة قدر زائد على ما جاء في الصحيح: «والغرق يكفِّر ذلك كله»، الغرق يكفِّر كل شيء حتى الدين، وعرفنا أن هذا الحديث ضعيف جدًّا، الغرق شهادة، نوع من أنواع الشهادة، لكن الشهادة التي جاءت بها النصوص التي يقسمها أهل العلم إلى شهيد دنيا وآخرة، وشهيد آخرة فقط، وشهيد دنيا فقط، شهيد دنيا وآخرة، يعني في أحكام الدنيا شهيد فلا يغسل، ولا يصلى عليه، ويدفن بثيابه هذا في الدنيا، وفي الآخرة جزاؤه عند الله، وفي البرزخ أيضًا هو حي في قبره حياة برزخية الله أعلم بحقيقتها.

 المقصود أن هذه أحكامه في الدور الثلاث، هناك شهيد في الآخرة فقط مثل الحريق والغريق والمبطون، ومن جاء النص بالحكم عليهم بأنهم شهداء هؤلاء في الآخرة لهم حكم الشهادة، لكن في الدنيا أحكامهم كغيرهم يغسلون ويكفنون، ويصلى عليهم كسائر المسلمين، وبهذا نعرف أن الغريق وإن حكم له بالشهادة إلا أنه في المنزلة دون الشهيد الذي قتل في سبيل الله، وإذا كان الشهيد الذي قتل في سبيل الله شهادته لا تكفر الدَّين فمن باب أولى أن يكون الشهيد الذي دونه وإن حكم له بالشهادة أنه لا يكفر الدين، وهذا الحديث بلا شك ضعيف سندًا ومتنًا قال: "في رواته من يجهل حاله، في رواته من يجهل حاله.

 وعن البراء -رضي الله عنه- قال: لما نزلت {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة النساء:95] دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيدًا" وهو من كُتَّاب الوحي، زيد ابن.. زيد ابن..

طالب: ...........

ابن ثابت.. من كتاب الوحي "فجاء بكتف فكتبها" الكتِف العظم الذي يلي الكتف، وهو منبسط بقدر أصابع الكف، وهو من أنسب ما يكتب عليه في ذلك الوقت؛ لأنه خفيف المحمل وصالح للكتابة، وكانوا يكتبون على العظام مثل الكتف، ويكتبون على الحجارة، يعالجونها بطريقة معينة بحيث تصلح للكتابة ويخف حملها، وأيضًا على العسب وغيرها؛ لأنه لا يوجد ورق، لا يوجد ورق، الورق صناعته متأخرة في أول العصر العباسي، جاء ذكر القرطاس في القرآن، جاء ذكر القرطاس في القرآن، طيب القرطاس موجود في وقت التنزيل، فلماذا جاؤوا بكتف وكتبوا على حصى، وكتبوا على جلود، وكتبوا على عظام؟ لكن هل القرطاس المراد به القرطاس هذا؟

طالب: ...........

ما أسمع!

طالب: ...........

جلد؟ هو القرطاس؟

طالب: ...........

يعني الإخبار، نفترض أن القرطاس هو القرطاس الذي نعرفه، وهو إخبار من الله -جل وعلا- أنه لو أنزل القرآن في قرطاس فلمسوه لقال.. لا يعني أنه موجود، قد يكون إخبارًا عن مغيَّب سيحصل أو يكون موجودًا في أماكن لا يتيسر حصوله في بلاد العرب، أو يكون المراد بالقرطاس غير القرطاس الذي نعرفه فهذه الاحتمالات كلها واردة، وإلا لو وجد مثل هذا القرطاس لما عدلوا عنه إلى العظام والحجارة والعسب، تيسرت الأمور ولله الحمد، فصار الإنسان يكتب كل ما يريد على شيء يستطيع حمله، وكتب بعض الكتب في حمل بعير، يعني من الكتب الصغيرة في حمل بعير كُتِب، فكيف لو وجدت هذه الكتب التي بين أيدي الناس اليوم الملايين من الكتب، الملايين من المجلدات لو كتبت على عظام أو على جلود أو على.. أين الأماكن التي تسعها؟ وأين الدواب أو الآلات التي تحملها، لكن من نعم الله -جل وعلا- أنها لما كثرت تيسرت، ونعم الله -جل وعلا- لا تعد ولا تحصى.

 كان درس اليوم نحتاج في حمله إلى آلة تحمله معنا، لو نكتب هذه الأحاديث على حجارة مثلاً، لكن نعم الله -جل وعلا- التي لا تعد ولا تحصى، الإنسان يحمل المصحف في جيبه، يحمل ما يحتاجه من العلم في جيبه من تيسير الله -جل وعلا- على المسلمين.

 "لما نزلت {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة النساء:95] دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيدصا فجاء بكتف فكتبها، وشكا ابن أم مكتوم ضرارته" يعني شكا العمى، والأعمى ليس عليه حرج، وليس عليه جهاد، فكيف يفَضَّل عليه المجاهِد وهو ممنوع اضطرارًا، ما مُنِعَ اختيارًا، شكا ابن أم مكتوم ضرارته، يعني إذا تمنى ابن أم مكتوم أنه مبصِر، وأنه لولا هذا المانع من الله -جل وعلا- لكان في مقدمة المجاهدين، وقل مثل هذا في المريض، وقل مثل هذا في الأعرج، هؤلاء يكتب لهم، «إن بالمدينة لرجالاً ما سلكتم واديًا ولا فجًّا إلا شاركوكم في الأجر، منعهم العذر»، فإذا كان المانع العذر الذي ليس بمقدورهم التخلي منه فلهم أجرهم بخلاف المبصر الذي يتمنى العمى إذا وجد الجهاد، نسأل الله العافية، أو يتمنى أن يكون أعرج، أو يتمنى أن يكون مريضًا على العكس تمامًا هذا آثم بهذا التمني.

قد يقول قائل: المرأة إذا منعت من الصيام والصلاة وأفطرت في رمضان بسبب العذر، وهذا العذر ليس بيدها، والمريض والمسافر يكتب لهم، يكتب للمريض والمسافر ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا، فماذا عن المرأة الحائض هل يكتب لها ما كانت تفعله في حال الطهر أو لا يُكتَب؟ النية موجودة، تتمنى وتتحرق، المسألة خلافية بين أهل العلم؛ منهم من يقول: إنها في حكم المريض؛ لأنها ممنوعة بغير إرادتها، وهي تتمنى كغيرها من المعذورين أن لو لم يكن هذا المانع موجودًا فتتعبد كغيرها، فهو نوع من المرض {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [سورة البقرة:222]، والمانع هو الله -جل وعلا-، ولا يصح منها صيام ولا صلاة، بل يحرمان عليها لو مجرد عدم صحة من دون تحريم لوجدنا من النساء من تصلي وتصوم ولو منع ولو كانت معذورة، لكن المسألة أنه يحرم عليها أن تصلي أو تصوم حال العذر، من أهل العلم من يقول: لا يكتب لها، لا يُكتَب لها كغيرها من المعذورين، لماذا؟ لأنه لو كُتِبَ لها ما عُدَّ ذلك نقصانًا في دينها، كان دينها كاملًا، وتفسير نقصان الدين بأنه يمر عليها الأيام لا تصوم ولا تصلي فلو كان لها أجر من يصوم ويصلي كالمسافر مثلاً لما صار ذلك نقصًا وإلا لشارك المسافر والمريض الحائض في نقص الدين.

 "فشكا ابن أم مكتوم ضرارته فنزلت {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ}" [سورة النساء:95] استثني أولوا الضرر، والضرر هو العمى، ويُلحَق به من لا حرج عليه في ترك الجهاد كالأعرج والمريض.

 قال -رحمه الله-: "متفق عليه، واللفظ للبخاري."

طالب: ...........

كيف؟

طالب: ...........

على كل حال الزوجة والمرأة عمومًا كما جاء في بعض النصوص ما يقتضي النقصان جاء فيها أيضًا نصوص تتضمن الوعد من الله -جل وعلا- مما لا يتيسر مثله للرجل «إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها، دخلت الجنة من أي أبوابها الثمانية»، وجاء في حقها أشياء، وعُذِرت من أمور، وأعفيت من كثير من الأحكام؛ نظرًا لما في تركيبها من عدم القدرة على تحمل هذه الأحكام التي أعفيت عنها.

هذا يقول: نأمل إعادة موعد الدرس إلى الجدول السابق عصر الخميس والجمعة، حتى يمكننا التوفيق بين الدروس والدورات العلمية، وهذه رغبة كثير من الطلاب، نرجو تحقيقها.

على كل حال أنا ما أقدمت على تقديم الدروس من الخميس والجمعة إلى عشاء السبت ومغرب الإثنين إلا مضطرًّا، ولذلك لا أستطيع أن أغير الجدول المعلَن، وأنتم ترون الجدول غُيِّر مرارًا وما كانت العادة أننا إذا أعلنا عن شيء غيرناه، وما ذلكم إلا لتغير الظرف، أنا كان حكمي وأمري بيدي أنا الذي أقرر وأُنَفِّذ، الآن أمري ليس بيدي، فأنا مطالَب بأعمال أخرى.

والله أعلم.

 وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"