شرح كتاب الأربعين النووية (14) - من حديث رقم 32 إلى حديث رقم 42

بسم الله الرحمن الرحيم

شرح الأربعين النووية (14)

شرح الأحاديث: (32 - 42)

الشيخ: عبد الكريم الخضير

الحديث الحادي والثلاثون: "الزهد الحقيقي". 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا والسامعين والحاضرين.

قال الإمام النووي -عليه رحمة الله-:

عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟ فقال: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)) رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الحادي والثلاثين...

هذا سؤال متعلق بالحديث السابق.

يقول: الحديث الماضي: ((وسكت عن أشياء رحمةً بكم)) هل يؤخذ منه إثبات صفة السكوت؟

نعم؛ لأن الله -جل وعلا- يتكلم في الأزل، ويتكلم متى شاء إذا شاء، من لازم ذلك أنه يسكت، والحديث أيضاً: ((وسكت عن أشياء)) ففي هذا إثبات السكوت لله -جل وعلا-.

"عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله" هذه اهتمامات الصحابة، يسأل النبي -عليه الصلاة والسلام- فيما يقربه إلى الله، كما مضى نظائره في أسئلة قريبة من هذا "دلني على عمل إذا عملته أحبني الله" لأن كون العبد يحب الله -جل وعلا- هذا فرض من فرائض الدين، والعبادة لا تكون إلا مع الحب والتعظيم.

عبادة الرحمن غاية حبه

 

مع ذل عابده ....

مع الذل والتعظيم لله -جل وعلا-، فكون العبد يحب الله -جل وعلا-، ويحب رسوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه...)) الحديث، هذا من فرائض الدين، لا يستقيم دين الإنسان إلا بهما، وكذلك يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويحب إخوانه المسلمين، ويحب في الله، ويبغض في الله، لكن الشأن كله أن تُحَب، قال الانبي -عليه الصلاة والسلام-:  ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)) كيف تحقق محبة الله لك؟

"دلني على عمل إذا عملته أحبني الله؟" وسيأتي في حديث الولي ما فيه مزيد إيضاح -إن شاء الله تعالى-.

"أحبني الله وأحبني الناس" يعني محبة الناس للشخص، ومحبة الشخص للناس لا سيما المسلم منهم هذه مطلوبة شرعاً، وكون الناس يحبونه كما دعا النبي -عليه الصلاة والسلام- لأبي هريرة، هذا ييسر له أموره، أمور دينه وأمور دنياه. فلا يقول: "أنا أسعى لتحقيق محبة الله -جل وعلا- ولا يهمني الناس"، نعم لا يهمك الناس في بعثك على عبادة الله -جل وعلا-، ليكن الباعث والناهز لك على هذه العبادات هو مرضاة الله -جل وعلا-، لكن أيضاً كون الناس يحبونك، وكونك تحبهم هذه من مطالب الدين.

"وأحبني الناس، فقال: ((ازهد في الدنيا يحبك الله))" ازهد في الدنيا، وارغب في الآخرة؛ لأن من مقتضى الزهد في الدنيا مزيد الرغبة في الآخرة ازهد في الدنيا، يعني اترك القدر الزائد الذي لا تحتاجه من الدنيا.

((ازهد في الدنيا)) الزهد والورع لفظان متقاربان، لكن الزهد فيما في اليد، والورع قبل أن يصل اليد، هذا المال الذي تسعى إلى كسبه كونك تتحرى في الكسب، ولا تكتسب إلا على وجه شرعي، وإذا شككت في شيء تركته، وإذا وجد في المعاملة أدنى شبهة تركتها لله -جل وعلا- هذا الورع، فإذا حصل المال في يدك كونك تتخلص من القدر الزائد يعني البلغة التي توصلك إلى تحقيق الهدف الذي من أجله خلقت هذا الزهد في الدنيا، يعني الزهد مع القدرة. لما قيل لسفيان الثوري: "أنت زاهد"، قال: "لا، الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي في يده الدنيا، أما الذي ليس في يده الدنيا كيف يزهد؟"

((ازهد في الدنيا يحبك الله)) يحبك، فيه إدغام الباء الأولى في الثانية؛ لأن يحبك الباء المشددة هذه عبارة عن بائين أولهما ساكن (يحببك)، والأصل أنه مجزوم جواباً للطلب، ازهد يحببك.

((وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)) كيف يزهد فيما عند الناس؟ يعني إذا أعرضت عن الدنيا وزهدت فيها، ورخصت في عينك في مقابل حرصك على الآخرة، وما يقربك إلى الله -جل وعلا- هذا سبب لمحبة الله -جل وعلا- لك. وأيضاً ما في أيدي الناس كون الإنسان ينظر إلى فيما أيدي الناس، ويتطلع إلى فيما أيديهم، إن رأى شيئاً يعجبه بيد أخيه قال: "لو نحلتني إياه، لو أعطيتني إياه"، سواءً كان بصريح العبارة أو بالتعريض، يعني ممكن يتحملك مرة مرتين، لكن يتثاقلك فيما بعد، ازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس، والسؤال ثقيل على النفس، ولو كان شيئاً يسيراً.

ولو سئل الناس التراب لأوشكوا

 

إذا قيل: هاتوا أن يملوا ويمنعوا

فكيف إذا سئلوا ما فوق التراب؟ فإذا زهد الإنسان فيما أيدي الناس وأعرض عما في أيديهم أحبه الناس، لكن إذا كان يتشوف ويتطلع إلى ما في أيديهم أحياناً يصرح، وأحياناً يعرض، ولو كانوا من أقرب الناس إليه، فإنهم يملونه، ويكرهونه ويتثاقلونه، لكن إذا أعرض عنهم وعما في أيديهم فإنهم يحبونه.

"حديث حسن، رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة"، قد تكون المفردات ليست حسنة، لكن بالمجموع يرتقي إلى درجة الحسن.

الحديث الثاني والثلاثون: ((لا ضرر ولا ضرار)).

وقال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) حديث حسن، رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً، ورواه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلاً فأسقط أبا سعيد، وله طرق يقوي بعضها بعضاً.

وهذا كسابقه، يعني بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن، وفيه تعارض الوصل والإرسال، وعند ابن ماجه والدارقطني مسند، بمعنى أنه موصول، ذُكر فيه الصحابي أبو سعيد الخدري، وعند مالك مرسل.

مادام الدارقطني ذكره مسنداً، وهو من أشد الناس في هذا الباب، والإمام مالك -رحمة الله عليه- لا يكترث من مسألة الوصل والإرسال؛ لأن المرسل عنده حجة، وكم من حديث في الصحيح في البخاري، وفي مسلم موصول بذكر الصحابي يرسله الإمام مالك -رحمه الله-؛ لأن المرسل عنده حجة. فالتعارض في مثل هذا، يعني إذا نظرنا من منهج من أرسل، وأن المرسل عنده حجة هان الأمر، لكن لو كان ممن يرد المرسل لقلنا: إن إرساله له شأن وله وقع، تجد الحديث في في البخاري ومسلم موصولا يذكر فيه الصحابي، وقد يروونه من طريق مالك -رحمه الله- ويكون موصولاً، هو مالك في موطئه يسقط الصحابي؛ لأنه -رحمة الله عليه- يرى أن الإرسال لا يضر، وهنا يترجح الوصل في مثل هذه الصورة، وهذه الصورة من دقائق الصور في تعارض الوصل والإرسال، إذا عرفنا من منهج المرسل أنه يحتج بالمرسل، وأنه يكثر من الإرسال في الأحاديث التي يصلها غيره يكون الأمر سهل.

قال: "عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا ضرر ولا ضرار))" الحديث بني عليه قاعدة من القواعد الشرعية التي ذكرها أهل العلم واهتموا بها، وفرعوا عنها. والحديث وإن اختلف في وصله وإرساله إلا أن في القرآن ما يدل عليه باللفظ، {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [(233) سورة البقرة] {أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ} [(12) سورة النساء] في مواضع من هذا النوع. فالضرر منفي ابتداءً ومكافئةً، يعني لا يبتدئ الإنسان بالضرر، ولا يجيب من ضره بالضرر؛ لئلا يسعى إلى ضرر لا ابتداءً ولا مكافئة، لا بمفرده ولا في مقابل من ضره. نعم قد قال الله -تعالى-: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [(126) سورة النحل] لكن لا تزد على ذلك، لك أن تنتصر لنفسك بقدر المظلمة، لكن لا يجوز أن تزيد على ذلك.

ومضارة مفاعلة بين اثنين، فلا يجوز للزوج أن يضار زوجته، كما أنه لا يجوز لها أن تضاره. فمثلا الحضانة للأم إذا حصل الفراق، لكن قد تسعى هذه الأم لمضارة الزوج من خلال حضانة أولاده بأن تجعل العوائق والحوائل دون رؤيته لهم، هذه مضارة، وكذلك لا يضار الزوج زوجته لا وهي في عصمته وكذلك الزوجة ولا بعد الفراق بالأولاد وغيرهم؛ لأن الزوج قد يضار الزوجة، ولذا لا يضار يحتمل أن يكون مبنياً للمعلوم، ويحتمل أن يكون مبنياً للمجهول، وإذا فك الإدغام تبين المراد، فإما أن يكون الأصل لا يضارِر والد بولده، و يحتمل أن يكون لا يضارَر من قبل الزوجة أو من قبل بعض أهلها، فالضرر منفي، ولا يجوز إيصال الضرر إلى أحد أما بالنسبة للمسلم فظاهر، وأما بالنسبة لغيره إذا كان معاهداً أو ذمياً أو مستأمناً أيضاً جاءت فيه النصوص، وأما الحربي فهو بصدد أن يقتل، فالأمر فيه سهل، دمه وماله حلال، لكن ليس لكل أحد، وإن كان دمه مباحاً، وماله مباحًا، لكن ليس لأفراد الناس أن يتصرفوا مثل هذه التصرفات، هذه لمن ولاه الله -جل وعلا- الأمر.

 فالحديث فيه تحريم الضرر: ((لا ضرر)) وهو نفي يراد به النهي، والنهي إذا جاء بصيغة النفي كان أبلغ وأشد؛ لأن هذه الصورة من الشدة والبشاعة بحيث يصح نفيها عن المجتمع الإسلامي. يعني أن الأصل أنها ليست موجودة أصلاً فلا نحتاج إلى النهي عنها، هي منفية أصلاً، يعني لا يتصور أن المجتمع المسلم، أو مسلمين بينهم يحصل مثل هذا، كما قال بعض المغاربة بالنسبة لترك الصلاة في القرن السابع: إن الخلاف في كفر تارك الصلاة لفظي، وأهل العلم إنما يذكرونه من باب الإغراب في المسائل، إذ لا يتصور أن مسلماً يترك الصلاة، ما يتصور مسلم يترك الصلاة. ومثل ذلك يقولون في الفرائض: "هلك هالك عن ألف جدة"، يذكرونها من باب أنه لو حصل. فكثير من المسائل التي يفترضونها مستحيلة الوقوع، وبعضها نادر الوقوع، ومن ذلك ترك الصلاة على قول هذا العالم المغربي، وهذا لا شك أنه نابع من طيبه وطيبة قلبه وسلامة مجتمعه، يعني ما سمع أن أحد يترك الصلاة، مسلم يترك الصلاة؟ ماذا بقي له؟ كيف يدعي الإسلام وهو يترك الصلاة؟! وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، فلننظر كيف حالنا في عصرنا اليوم: ينازع في كفر تارك الصلاة ثم يترك الصلاة، يعني لم يكفر؟ وقد يكون ممن ينتسب إلى العلم. أما مسألة التهاون بالجماعة، مسألة التهاون بالوقت، ووجد في بيوت المسلمين من لا يصلي ألبتة، -نسأل الله السلامة والعافية-. وقبل أن تفتح الدنيا، وتبسط على الناس، ويكثر اختلاط المسلمين بغيرهم ما كان يتصور مثل هذا. وكانت الفتوى على طرد الولد من البيت إذا تساهل في الصلاة، يقول: اوقظه لصلاة الفجر ثم إذا جئت إذا به في فراشه، هذا ما يترك الصلاة، لكن يتكاسل، قال: هذا الولد لا خير فيه اطرده من البيت، فماذا يبقى بعد الصلاة؟ هذا قبل ثلاثين سنة؛ لأنه إذا طرد من البيت تأدب ثم يرجع إلى بيته. أما الآن إذا طرد من البيت تلقفه ألف شيطان، وخشي عليه من مصائب وجرائم متعدية، فلا يفتى الإنسان بأن يطرد ولده من البيت؛ لأنه تساهل في الصلاة وتهاون، والله المستعان.

"حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً، ورواه مالك في الموطأ مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسقط أبا سعيد، وله طرق يقوي بعضها بعضاً."

على كل حال الحديث بمجموع هذه الطرق يصل إلى درجة القبول، وإن لم يكن صحيحاً، لكنه حسن، واعتمده أهل العلم، وبنوا عليه قاعدة، وفرعوا لها فروعًا كثيرة، والوقت لا يستوعب ذكر هذه الفروع.

الحديث الثالث والثلاثون: ((البينة على المدعي واليمين على من أنكر)).

قال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر)) حديث حسن رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في الصحيحين.

في الحديث الثالث والثلاثين يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لو يعطى الناس بدعواهم))" يعني لو كل إنسان أعطي ما يدعي، كل إنسان يدعي شيئاً يعطاه، ((لادّعى رجال)) وأيضاً نساء، ((أموال قوم ودماءهم)). ولكن هناك قاعدة شرعية للخصومات، ((البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)) المدعي جانبه ضعيف؛ لأنه يدعي شيئاً ليس بيده، والمدعى عليه جانبه قوي؛ لأنه يدعى عليه شيء أنه ليس له وهو بيده وفي حوزته وفي ملكه وفي قبضته، فاشترط لصاحب الجانب الضعيف البينة التي هي أقوى، وطلب من المدعى عليه صاحب الجانب القوي ما لا يطلب من المدعى عليه، فجانب المدعي ضعيف يحتاج إلى من يدعمه بشهادة غيره، وجانب المدعى عليه هو الأقوى فاكتفي بيمينه.

((البينة على المدعي، واليمين على من أنكر))؛ لأن الأصل أن من أنكر أن الذي بيده له، فيكتفى بيمينه، يقبل قوله لكن بيمينه، لتكون هذه اليمين في مقابل الدعوة، هناك احتمال أن يكون المدعي صادقًا في دعواه لكن ليست لديه بينة، فجعل في مقابل هذا الاحتمال اليمين، ولا يضره أن يحلف ولا ينقصه أن يحلف إذا كان صادقاً.

 ((لو يعطى الناس بدعواهم))؛ لأن كل إنسان غرس فيه حب المال ومتع الدنيا وما يستفاد منه فيها، فتجده من باب الأثرة والاستئثار بالشيء دون الغير قد يكذب في دعواه، فيقول: "هذا المتاع لي، وهذه الدراهم لي، وهذه الأرض لي"، فلو كل من قال: هذا لي يعطى لتطاول الناس على أملاك الغير وادعوها ((لادعى رجال أموال قوم ودماءهم)). يدعي على هذا أن هذا المال له، وأن هذا قتل أباه أو أخاه، لكن القاعدة الشرعية: ((البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)). ادعيتَ هات، الدعوة لا تقبل إلا ببينة, قال الله -تعالى-: {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} [(111) سورة البقرة] فإذا لم يجد بينة، وبينة مقبولة شرعاً لها شروط، والأصل فيها الشهادة {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ} [(282) سورة البقرة] هذه هي البينة.

 ومن أهل العلم من يرى أن كل ما يبين إصابة المدعي، وأنه محق يقوم مقام البينة، فيجعلون القرائن القوية بمثابة البينة. وقرر هذا ابن القيم في الطرق الحكمية، يعني لو أن شخصاً على رأسه عمامة وبيده عمامة، والآخر أصلع ما عليه شيء، ادعى هذا الأصلع الذي ما على رأسه شيء أن هذا أخذ عمامته، في هذه الصورة يقوى جانبه، جانب المدعي، وما جرت العادة أن الإنسان يلبس عمامة وبيده عمامة، وجرت عادة هذا الشخص أنه لا يمشي إلا بعمامة، وقل مثل هذا في اختلاف الأعراف. لو أن شخصاً جاء حاسر الرأس، وشخص على رأسه شماغ، ومعروف أن هذا ليس من عادته أن يلبس الشماغ، وليس من عادة ذاك أن يحسر الرأس، يقوى جانبه، ولو كان العكس أن هذا الذي عليه شماغ جرى عرفهم وعادتهم في بلدهم واستمر على ذلك أنه يمشي حاسر الرأس، والثاني ما جرت العادة أنه يمشي حاسر الرأس. المقصود أن القرائن القوية تنزل منزلة البينات عند ابن القيم وجمع من أهل العلم، وإلا فالأصل أن البينات محددة في كل باب من أبواب الدين، منها ما يكون بشهادة رجلين، ومنها ما يكون بشهادة أربعة، ومنها ما يكون بشهادة رجل وامرأتين، ومنها ما يقبل فيه قول المرأة، ومنها ما يقبل فيه قول الرجل إذا ادعى على زوجته وهكذا. الأمور مفصلة في باب الدعاوى والبينات من كتب العلماء.

((البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)) إذا لم يحضر المدعي البينة طلب القاضي من المدعى عليه أن يحلف. افترض أن هذا المدعى عليه نكل عن اليمين، وقال: "أنا ما أحلف، حطام الدنيا كله ما يسوى عندي أن أحلف بالله -جل وعلا- ولو كنت صادقاً". من أهل العلم من يحكم عليه بالنكول، ومنهم من يرد اليمين على المدعي، فيقول: "ما عندك بينة، احلف يا فلان"، يقول: "والله ما أنا بحالف، الدنيا كلها ما تسوى اليمين"، "طيب ترضى بيمين صاحبك؟" فيرضى. منهم من يحكم عليه بمجرد النكول، ومنهم من يقول: ترد اليمين على المدعي، والمسألة خلافية، ولا شك أن رد اليمين على المدعي أقوى من مجرد الحكم بالنكول؛ لأنها قبلت في طرف، فلما رفض هذا الطرف الذي اكتفي بها منه تحول على الثاني، مع أن الإمام مالك -رحمه الله- قال: "لا أعلم أحداً قال برد اليمين"، مع أن القضاة في عصره كابن أبي ليلى وابن شبرمة يقولون برد اليمين، ولا شك أن كون المدعي يحلف أسهل من كونه يأخذ ما ادعاه من غير بينة ولا يمين.

قال: "حديث حسن رواه البيهقي وغيره، وبعضه في الصحيحين" بعضه فيه الصحيح: ((البينة على من ادعى)) هذه موجودة في الصحيح، وتكملته وأوله ليس في الصحيح. وعلى كل حال للمخرج أن يقول: "رواه البيهقي وغيره وأصله في الصحيح"، يعني أصل الحديث وجزء منه، وجزء له أثر في الحكم في الصحيح، وعلى كل حال الحديث صالح للحجة.

الحديث الرابع والثلاثون: "النهي عن المنكر من الإيمان". 

قال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الرابع والثلاثين:

"عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده))" (من) من صيغ العموم تتجه إلى كل من يندرج فيها، يصح اندراجه فيها ((من رأى منكم)) فلينكر كل مسلم وكل مسلمة، كل من يرى المنكر يجب عليه أن ينكر ((فليغيره)) اللام لام الأمر (فليغيره) يعني يسعى في تغييره، وإن لم يتغير؛ لأنه مطالب ببذل السبب، والنتيجة بيد الله -جل وعلا-، تغير أو لم يتغير فهذا ليس إليك.

 ((من رأى)) رأى: الأصل فيها البصر، وفي حكمه الخبر الصحيح، فـ(رأى) أعم من أن تكون بصرية، (رأى) تأتي بصرية وتأتي علمية، فإذا بلغه المنكر بواسطة من يثبت بقوله الخبر، وبواسطة الثقة فإنه يلزمه أن يغير. ولو قلنا: إنها بصرية فقط لقلنا: إن الأعمى معفى من الأمر والنهي، لا يأمر ولا ينهى، ولوقعنا في لوازم كثيرة، لقلنا: إن الأعمى أيضاً لا يلزمه الغسل إذا احتلم، ولو خرج منه الماء؛ لأنه ما يرى الماء، كما ورد في الحديث: "هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: ((نعم إذا هي رأت الماء))". فإذا كان أعمى، أو كانت المرأة عمياء لم يلزمها غسل إذا قلنا: إن (رأى) خاصة بالبصر. لكن إذا بلغ بطريق يقيني أنه خرج الماء يلزمه الغسل ولو كان أعمى، ولو كانت عمياء، ولو كان في ظلام دامس لا يرى يده، فإذا تحقق أنه خرج منه الماء يلزمه الغسل، وإذا تحقق أن هذا المنكر وقع يلزمه تغييره.

 لكن على المنكِر أن يحتاط؛ لأن أساليب الكيد كثرت من بعض المغرضين، الآن يشيع أن هناك منكرًا ليسارع أهل الغيرة في إنكاره، ثم يقال لهم: أنتم ناس تتسرعون، وليس هناك شيء. فلا بد من أن نتأكد من حصوله ، ولا نأخذ بإشاعات أو أقوال متعجلين لا يتثبتون، بل لا بد من أن نتأكد، لكن إذا تأكدنا يلزمنا الإنكار. وكم من قضية افتعلت ليس لها حقيقة ولا واقع, أشيعت ثم سارع بعض من سارع إلى الإنكار وفي النتيجة لا شيء، ثم بعد ذلك المصداقية تضعف، إذا أخطأ مرة مرتين قيل فيه: "فلان متسرع"، حتى لو أنكر أمراً رآه بنفسه ما قبل منه؛ لأنه متسرع، تؤخذ عنه هذه الصورة. فعلينا أن نتحرى ونتثبت، ونحتاط من أهل المكر والخديعة الذين يحاولون إيقاع الأخيار في مثل هذا الشباك.

((من رأى منكم منكراً فليغيره)) لا بد من التغيير، لكن عليك أن تبذل السبب، تغير أو ما تغير فهذا أمره إلى الله.

 إذا كان يستطيع التغيير باليد يلزمه أن يغير باليد، ولي الأمر يستطيع أن يغير باليد فيلزمه أن يغير باليد، بدءاً من الإمام الأعظم إلى من دونه من الولاة الذين يوليهم، ويكل إليهم الإمام الأعظم أمور المسلمين، إلى أن يصل الأمر إلى الوالد والوالدة في البيت يغيرون باليد، ولا أحد يمنعهم. لا بد أن يغير المنكر باليد عند من يستطيع، وهذا بالنسبة لمن يستطيع. أما مسألة حوار وجدال، وبعض الناس يقول: "ليس فيه إشكال مكن هؤلاء الشباب بل الأطفال من هذه الآلات التي فيها شيء من الإباحية، أو شيء من الشبهات والشهوات، ثم حاور وناقش أقنعه بعد ذلك". الآن غيرت بيدك ثم كبر، ما عليك، ما دام في ولايتك يلزمك أن تغير باليد. موجود في أساليب بعض من ينتسب إلى التربية يقول: الطفل أربع سنوات، خمس سنوات، يعني إنسان له حقوقه، أعطه ما يشاء، مكنه، فأعطه جوالا، أعطه آلة كمبيوتر وانترنت ومكنه من كل شيء، وخله يتصرف كيفما شاء، ثم أنت عليك تراقب وتبذل له النصيحة. إذن ما معنى (فليغيره بيده)؟ فنكون قد ألغينا هذه الجملة، يعني إذا ما استطعنا أن نغير على هذا الطفل الذي ما يشتري ولا يتصرف بشيء إلا من قبلنا حتى لو افترض أن هذا الطفل وارث يغير عليه باليد، ولو كان من خالص ماله، يغير عليه باليد؛ لأنه بالمقدور هذا يستطيع أن يغير بيده، يقال: يُعطى الآلة ثم اجلس أنت معه جلسة ودية وقل على أسلوبه هو تربوي، يا بابا خذ جوالي فتش واطلع وأعطني جوالك أفتش، وإذا رأيت شيئًا ناقشه، لعله أن يقتنع. أربع سنوات خمس سنوات، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)) هذا غش الرعية، أمكنه من الشر ثم بعد ذلك أناقشه؟! والله المستعان.

((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)) هذا من له القدرة على التغيير باليد يلزمه أن يغير باليد، ولا يكفي اللسان؛ لأن اللسان مرحلة ثانية إنما يكون مع عدم الاستطاعة، بالنسبة للذي يستطيع لا بد أن يغير باليد.

((فإن لم يستطع فبلسانه)) قال الله -تعالى-: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [(286) سورة البقرة] ما تأتي إلى محل وفيه بعض المنكرات تباع، تكسر هذه المنكرات، نقول: "لا، هذا ليس إليك، إلا إذا وكل إليك الأمر صاحب الأمر"، يعني وظف ولي الأمر من يتتبع هذه المنكرات ويكسرها، فأهل العلم ينصون على أن هذه المنكرات ليست بأموال محترمة فلا تضمن.

((فإن لم يستطع فبلسانه فبقلبه)) ينكر بقلبه، يكره هذا المنكر، ويبغض المنكر، وصاحب المنكر، ويبيت في نفسه أنه لو استطاع التغيير باللسان لغير، ولو استطاع التغيير باليد لغير، لكنه لا يستطيع يخشى على نفسه، يكتفى منه ذلك.

((فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) هل إذا لم يستطع ونزل إلى المرتبة الثالثة يضعف إيمانه بسببها، أو أن هذا أقل المراتب لهذه الشعيرة من شعائر الإيمان؟ لأنه إذا لم يستطع، وأنكر بقلبه حكمه حكم من أنكر بيده بالنسبة للمستطيع، لكن باعتبار أنه لا يستطيع لا ينقص أجره، ولا يأثم بذلك، تبرأ ذمته، وأجره ثابت، أجر المنكر، لكن هذا أقل ما يمكن أن يؤدى. "رواه مسلم".

الحديث الخامس والثلاثون: "أخوة الإسلام".

قال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى ههنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)) رواه مسلم.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الخامس والثلاثين:

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا)) كل هذه الصيغ صيغ المفاعلة التي تقتضي وقوع الفعل من طرفين.

((لا تحاسدوا)) لا تحسد أخاك، ولا يحسدك أخوك، مع أنه ليس بشرط أن يقع الفعل من طرفين، ولو وقع من طرف واحد، واحد حسد أخاه يحرم عليه، لا يلزم ألا يحصل الإثم إلا بوقوعه من الطرفين كما تقتضيه الصيغة، فالمقاتلة من طرفين. لكن سافر فلان مسافرة هل هذه من طرفين؟ لا، من طرف واحد؛ لأنه قد تأتي الصيغة وتكون من طرف واحد، وإن كان الأصل فيها أن تكون بين طرفين، فطارق النعل، من طرف واحد، وهنا ((لا تحاسدوا)). فإذا وقع الحسد من الطرفين كان الأمر أشد، وإذا حصل من طرف واحد حرم من جهة هذا الحاسد.

 ((لا تحاسدوا)) والحسد الأكثر على أنه تمني زوال النعمة عن الغير، يقولون: "كل ذي نعمة محسود، الذي لا يحسد الذي لا شيء عنده"، فإذا تمنى فلان من الناس زوال هذه النعمة أي نعمة كانت سواءً كانت في ماله أو في بدنه أو في ولده أو في جاهه، إذا تمنى زوال هذه النعمة هذا حسدا مذموما بالإجماع، ومنهم من يقول: إن المراد بالحسد وهذا ما اختاره شيخ الإسلام كراهية حصول النعمة للغير، ولو لم يتمن زوالها، وهذا لو لم يكن فيه إلا عدم الرضا بما قدر الرحمن.

وكن صابراً للفقر وادرع الرضا

 

بما قدر الرحمن واشكره واحمدِ

وقال الله -تعالى-: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ} [(32) سورة الزخرف] اعتبر مثل هذا الكلام {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ} [(32) سورة الزخرف] والمعطي والمانع والنافع والضار هو الله -جل وعلا-، فأنت إذا حسدت أخاك فإنك إنما تعترض على من أعطاه هذه النعمة.

الحسد جاء فيه ((لا حسد إلا في اثنتين)) والمراد بالحسد هنا الغبطة، الغبطة تغبط أخاك بما أعطاه الله -جل وعلا- من علم أو مال أو صحة أو جاه أو وظيفة أو شرف بأي نوع من أنواع الشرف تغبطه على ذلك، وتتمنى أن لو كنت مثله من غير كراهية لما أعطاه الله -جل وعلا-، ومن غير تمن لزوال هذه النعمة منه، فهذا جاء فيه ((لا حسد إلا في اثنتين)). وأما إذا تمنى زوال النعمة فهذا الحسد المذموم بالاتفاق. وما يراه شيخ الإسلام لا شك أنه يعني أحوط؛ لأنه مجرد أن تكره أن تكون هذه النعمة عند فلان لو لم يكن في ذلك إلا عدم محبتك لأخيك ما تحبه لنفسك، وأيضاً الاعتراض على ما قدر الله -جل وعلا-.

قد يوجد الحسد في النفوس وهذا كثير، وأصحاب المهن المتشاكلة المتماثلة يحصل بينهم كثير حتى مهنة العلم التي هي أشرف المهن يحصل فيها بين طلاب العلم هذه الصفة وهذه الخصلة الذميمة، وقد يحصل بين أهل العلم، لكن صاحب القلب السليم لا يحصل عنده شيء من هذا. قد يقول قائل: "أنا والله جبلت على هذا، جبلت على هذا الحسد، إذا رأيت عند شخص ما ليس عندي تمنيت أن يزول عنه". بعض النفوس القلوب المدخولة يحصل عندها هذا، لكن يقول: "هذا في نفسي، لا أبديه لأحد، لا أتحدث به عند أحد، ولا أعمل بمقتضى هذا الحسد"، فهل يكون مثل هذا من حديث النفس الذي عفي عن الأمة ما لم تتكلم أو تعمل، ما دام في النفس ما أبداه، يتمنى أن تزول هذه النعمة، لكن ما تكلم بهذا، ولا سعى لزوال هذه النعمة، ما عمل، هل نقول: إن هذا من حديث النفس أو نقول: إن هذا هو الحسد المذموم وهو من أعمال القلب وقد تحقق، وهو من أدواء وأمراض القلوب وقد وجد؟ الجمهور على أنه فيه النصوص ولو لم يتكلم ولو لم يعمل، ومن أهل العلم من يقول: إنه داخل في حديث النفس، وينصر هذا القول ابن الجوزي أنه ما دام ما تكلم ولا عمل، يكون مجرد حديث نفس تكرر في نفسك لست مؤاخذاً عليه. لكن القول بمقتضى هذا وإن كان يدل له الحديث حديث النفس إلا أنه قد يقتضي الاستمرار؛ لأن إذا أدخلناه في الحسد المذموم، ورتبنا عليه الوعيد الثابت في الحسد سعى الإنسان في معاجلة قلبه، وإذا قلنا: إنه داخل في حديث النفس وجائز لن يسعى في معالجة قلبه... فقول الجمهور لا شك أنه أولى وأقوى من جهة أن هذا العمل الذي تردد في النفس، نعم لو خطر على نفسك ثم طردته هذا لا يضرك، لكن كونه يتردد ويصير ديدنك هذا، كل من رأيت عنده نعمة تمنيت أن تزول، ولو لم تتكلم ولم تعمل هذا عمل القلب، كما أنه يؤجر على النية الصالحة يأثم بمثل هذا التمني، ولو لم يكن في ترجيح هذا القول إلا أن الإنسان يسعى لمعالجة قلبه.

((ولا تناجشوا)) النجش: رفع قيمة السلعة لمن لا يريد شراءها، إما نفعاً لصاحب السلعة أو إضراراً بالمشتري أو جمعاً بين الأمرين. فمثلا رأيت هذه السيارة لصديقك تباع في الأسواق سامها زيد من الناس خمسين ألفا، أنت لا تريدها، لكن هذا صديقك تريد أن ينتفع قلت: "خمسة وخمسين"، وأنت لا تريدها، لو قيل: نصيبك، قلت: لا، الفلوس ما هي بحاضرة، وذلك من أجل أن يقال: "ما نبيعها عليك"، ما تقدر تقول: "والله أنا لا أريد شراءها"، هذا نجش نسأل الله العافية، تريد أن تنفع زميلك على حساب ذمتك، ليقول الثاني الذي سامها على الخمسين ستة وخمسين أو ستين، هذا النجش المحرم. وإذا كنت لا تعرف صاحب السيارة وإنما رأيت المشتري الذي يسومها الخمسين، تريده يتضرر ويدفع الزيادة قلت: "خمس وخمسين"، وأنت لا تريد شراءها، وقد تجتمع الصورتان، كل هذا نجش محرم. الزيادة في قيمة السلعة ممن لا يريد شراءها قد لا يريد الإنسان شراء هذه السيارة، أو شراء هذه السلعة، لكن رآها تسام بثمن بخس، قال: أشتريها وأبيعها بربح، لا يريد السيارة، يريد أن يتكسب من ورائها، سيارة تستحق سبعين ألفا رآها تسام خمسين، قال: "خمس وخمسين". طيب أنت معك سيارة؟ قال: نتكسب، يمكن تجيب لي ستين أو خمسة وستين، هذا لا يلام، ولا يدخل في النجش المذموم، وإن كان لا يريدها لأنه لا يريد الإضرار بغيره، إنما يريد جلب مصلحة لنفسه ولا يلام على ذلك.

((ولا تباغضوا)) يعني لا يبغض بعضكم بعضًا، لا تبغض أخاك ويبغضك أخوك، اللهم إلا إذا كان البغض في الله، فهذا من أوثق عرى الإيمان، رأيته مُصرًّا على معصية، مجاهرًا بها، تبغضه لمعصيته لا لذاته.

 ((ولا تباغضوا)) يعني لا تبذلوا أسباب البغض وانتشاره بينكم، بل المطلوب بذل أسباب المحبة, قال -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تدخلوا الجنة حتى تحابوا، ألا أخبركم)) إلى أن قال: ((أفشوا السلام بينكم)). والهدايا تورث هذه المحبة، فعلى الإنسان أن يبذل الأسباب، يجتهد في بذل أسباب المحبة والمودة بين المسلمين، فضلاً عن أن يسعى في بغض أخيه أو نشر أسباب البغضاء بين المسلمين، ومن أسباب البغضاء نقل الكلام على جهة الإفساد كالنميمة، هذه من أسباب البغضاء. تجد اليوم أخاك يستقبلك بوجه طلق، ثم تراه من الغد كالكلب العقور، لماذا؟ لأنه بلغه، حمل واحد كلام عنك أنك قلت كذا -نسأل الله السلامة والعافية-. هذه هي النميمة التي هي من موجبات عذاب القبر، كما جاء في الحديث: ((كان أحدهما لا يستبرئ من بوله، والثاني كان يمشي بالنميمة))، وجاء نهي النبي -عليه الصلاة والسلام- الصحابة أن ينقلوا له شيئاً عن أصحابه ليخرج إليهم سليماً -عليه الصلاة والسلام-.

((ولا تدابروا)) يعني لا يولي كل واحد منكم أخاه دبره، لا حساً ولا معنىً، بل على الإنسان أن يستقبل أخاه بوجهه، وأن يبش في وجهه، وأن يعامله بالحسنى، وأن يسدي له النصيحة والكلمة الطيبة لتحصل المودة بينهم.

((ولا يبع بعضكم على بيع بعض)) وهذا سبب من أسباب التباغض والشحناء والتدابر والتقاطع. تأتي إلى شخص اشترى سلعة بعشرة فتقول: أنا عندي لك أفضل منها بتسعة، فتفسد هذه البيعة، أنت بعت على بيع أخيك، ومثله الشراء على الشراء، باع هذا الشخص هذه السلعة بعشرة، تأتي إلى البائع تقول: أنا أعطيك إحدى عشر، اثنا عشر ليفسخ البيع، وهل يستوي الأمر إذا كان هذا البيع على البيع أو الشراء على الشراء في مدة الخيار أو بعد لزوم البيع؟ من أهل العلم من يقول: إن النهي فيما إذا كان في مدة الخيار؛ لأن المشتري يملك الفسخ، والبائع يملك الفسخ، أما إذا لزم البيع ما يضر، نقول: لا، يضر، وقال بهذا جمع من أهل العلم. أنت إذا قلت: عندي لك سلعة بتسعة أفضل من هذه، أدخلت الغيظ والإساءة إلى قلب أخيك.

ومثله العكس الشراء على الشراء، تدخل في قلبه ما يغيظه، ويكدر عليه، وقد يسعى لإرجاع السلعة، يحرج أخاه في إبطال البيعة من أجلك، فيشمل ما كان في زمن الخيار، وما بعده بعد لزوم البيع، والنص عام.

((ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله)) منادى، كونوا يا عباد الله؛ لأنكم كلكم عبيد لله، هذا الأصل، وأنتم إخوة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [(10) سورة الحجرات], ((وكونوا عباد الله إخواناً))  طيب عباد الله إخوان، يحتاج أن يؤمروا بأن يكونوا إخواناً؟ نعم قد يؤمر الإنسان بملازمة صفة هو يتصف بها, كما قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ} [(136) سورة النساء] وقال -تعالى-: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [(6) سورة الفاتحة] يراد بذلك الاستمرار، ولزوم هذه الصفة.

 ((وكونوا عباد الله إخواناً)) كونوا إخواناً، من لازم الأخوة التحاب والتوادد وعدم التحاسد ولا التقاطع ولا التدابر، كونوا إخواناً.

((المسلم أخو المسلم)) المسلم أخو المسلم، والمؤمنون إخوة، ويلزم من هذه الأخوة المحبة والمودة، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

((لا يظلمه)) يعني هذا الأصل في المسلم أنه ما دام أخاً له في الإسلام أنه لا يظلمه ((ولا يخذله)) في موطن يحب نصره فيه لا يخذله، بل ينتصر له، وفي بعض الروايات: ((ولا يسلمه)) يعني يتركه بيد من يؤذيه، ((ولا يكذبه)) يعني لا يكذب عليه لا بصريح الكذب ولا بتورية ولا بغيرها إلا عند الحاجة، المقصود أن الكذب ممنوع بجميع صوره، الكذب القولي والكذب العملي.

((ولا يحقره)) بمعنى أنه يزدريه، ويسخر منه، هو أخوك، قد تكون أنت من أذكى الناس وهو عنده شيء من التغفيل، وهذا مع الأسف موجود بين المسلمين، إذا كان هذا ذكيا ونبيها والثاني عنده شيء من الغفلة تجده يحقره، ويتطاول عليه، وينكت عليه، ويضحك الناس عليه، ما تدري أيكما أفضل عند الله -جل وعلا-. جاء في حديث: ((أكثر أصحاب أهل الجنة البله)) الحديث فيه مقال، لكن سلامة الصدر لها شأن عند الله -جل وعلا-، هذا لا يخطر بباله كثير من الأمور المنكرة التي تدور في بالك أنت، وتخطط لها.

((ولا يحقره)) سواءً كان عنده شيء من النقص في البدن أو في الرأي أو في المال، وعندك شيء من الزيادة في هذه الأمور لا يجوز لك أن تحتقر أخاك.

وسيأتي قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه)) يكفيه من الشر أن يحقر أخاه المسلم، يحتقره ويزدريه، وأيضاً عند الاستطاعة لا يليق بمسلم أن يظهر للناس بمظهر يحتقر فيه ويزدرى فيه؛ لأن بعض التصرفات التي يستطيع الإنسان درأها عن نفسه تجعل بعض الناس يزدرونه ويحتقرونه. تجد عنده الأموال الطائلة ثم يخرج إلى الناس بأسمال من الثياب ثياب خلقة من رآه احتقره وازدراه، أو يركب شيئاً لا يليق به، أو يسكن وهكذا، هذا مظنة لأن يزدرى وأن يحتقر، فأنت كف هذا الأمر عن نفسك ما دمت تستطيع، إذا كنت لا تستطيع يتجه الأمر إلى الآخر.

على كل حال ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)).

"((التقوى ههنا، التقوى ههنا، التقوى ههنا)) يشير النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى صدره" وإلى جانبه الأيسر الذي فيه القلب، يشير إلى القلب، نعم التقوى والفجور كله في القلب, كما في الحديث: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)). المعول عليه القلب، والجوارح أعوان لهذا القلب، وجنود له، ينفذ القلب بواسطتها ما يريد، لكن إذا ظهر على الجوارح شيء من المخالفات هل يمكن أن يحتج هذا المخالف بأن التقوى ههنا؟ نقول: لو كان في هذا المخفي شيء، أو أن التقوى موجودة في هذا القلب لظهرت على الجوارح؛ لأن ما ظهر على الجوارح من المخالفات برهان على تكذيب الدعوى التي هي التقوى، لما استدل الصحابي بقوله -جل وعلا-: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ} [(93) سورة المائدة] قال: يشرب الخمر وهو تقي، قال له عمر -رضي الله عنه-: "أخطأت استك الحفرة، لو اتقيت ما شربت الخمر" وهذا الذي تظهر عليه علامات الفسوق كمن يحلق لحيته، ويشرب ما يشرب علناً، ويسبل ثيابه، أو عنده مخالفات، يقول: "التقوى ههنا!" هذا لو اتقى الله ما حصلت منه هذه الأمور، فقد كذب دعواه بفعله، وليس في هذا مستمسك للعصاة المعلنين بمعاصيهم أن يقولوا: "التقوى ههنا"، لو اتقى الله -جل وعلا- ما فعل هذه المعاصي.

((كل المسلم على المسلم حرام)) كل ما يتعلق بالمسلم حرام عليك ((دمه وماله وعرضه)), وقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((ألا إن دماءكم, وأموالكم, وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)). فدم المسلم حرام، لا يجوز أن يسفكه بغير حق، ولا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث على ما تقدم. وكذلك ماله فهو معصوم الدم والمال ما دام مسلماً، وعرضه كذلك، لا يجوز أن يغتاب، وإن كان عنده شيء من المخالفات، اللهم إلا من باب إذا ترتب على ذلك مصلحة راجحة، يعني من باب التحذير من هذه المعصية، فإن هذه المعصية تذكر ويحذر منها، ولو أدى ذلك إلى معرفة العاصي، ولا يجوز تسميته إذا أمكن أن يتأدى الغرض بغير تسمية.

الحديث السادس والثلاثون: "فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر"

وقال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)) رواه مسلم بهذا اللفظ.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث السادس والثلاثين:

"عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة))".

في بعض الأحاديث: ((من فرج عن مسلم)).

 ((من نفس)) التنفيس التخفيف، فمن خفف هذه الكربة خفف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن أزال هذه الكربة بالكلية أزال الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والجزاء من جنس العمل، من نفس عن مؤمن كربة يدخل في هذا المسلم؛ لأن له من الحق على أخيه ما له، لكن كل ما كان الإنسان أكثر استقامة على دين الله وتحقيقاً لوصف الإيمان كان أولى بأن تنفس كربه وتقضى حاجاته.

((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) جرت العادة الإلهية أن الحسنة بعشر أمثالها، هذا نفس كربة، لماذا لا ينفس عنه عشر كرب من كرب يوم القيامة؟ يقول أهل العلم: إن الكربة من كرب يوم القيامة تعادل العشرات من كرب الدنيا، بل قد لا تقاس كرب الدنيا بكرب القيامة، وحينما قال: ((ستره الله في الدنيا والآخرة)) ما قال هنا: نفس الله عنه كربة من كرب الدنيا والآخرة، لا؛ لأن كرب الدنيا مجتمعة لو اجتمعت كرب الدنيا على شخص ما تعادل كربة واحدة من كرب يوم القيامة، فكونه ينفس عنه كربة من كرب يوم القيامة أعظم بكثير من جميع كرب الدنيا.

((ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)) لك مال، لك حق عند أخ من إخوانك المسلمين، لكنه لما طلبته قال: "والله ما عندي شيء"، تيسر عليه، تؤجل الطلب, {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [(280) سورة البقرة] تنظره حتى يجد ما يوفي به دينك، ومن التيسير أيضاً أن تخفف عنه الدين، وتسقط عنه بعضه أو كله، هذا من التيسير.

((ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)) وكان فيمن قبلنا رجل يداين الناس وكان يعاملهم بالرفق واللين والتيسير والعفو فعفا الله عنه، فالجزاء من جنس العمل.

((ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)) رأيت أخاك المسلم في وضع لا يحب أن يعرف الناس عنه أنه يزاول هذا العمل أو يتصف بهذا الوصف تستر عليه ((من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)) لكن الستر ليس على إطلاقه كما قرر ذلك أهل العلم، فمن الناس من يستحق الستر، من حصلت منه هفوة أو زلة، وعرف منه أنه لا يعاود ذلك ولا يتكرر منه، مثل هذا يستحق الستر، لكن من عرف بالفواحش والمنكرات فهذا لا يستحق الستر، هذا لا بد من إيقاع حد الله عليه، لا بد من ردعه؛ لأننا إذا سترنا مثل هذا عطلنا الحدود. الحدود ما شرعت إلا لردع مثله، فلا يستر عليه حينئذٍ. ونسمع من يطالب بالستر المطلق استدلالاً بمثل هذا الحديث، نقول: الستر المطلق توطئة للإباحية، ما له داع أن تشرع حدود، وأنت إذا وجدت من يزاول المنكر تركته مطلقاً، هذا توطئة للإباحية، فلا بد من أن يردع مثل هذا، وأن يكف شره عن المجتمع، فيرتدع هو ويرتدع غيره ممن تسول له نفسه ارتكاب مثل هذا المنكر؛ ولذا شرع إعلان الحدود: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [(2) سورة النــور] ليرتدع بنفسه في إقامة الحد عليه، ويرتدع أيضاً غيره، وبعض الناس يقول: إن عدم الستر من باب إشاعة المنكر، من باب إشاعة الفاحشة. نقول: لا، إن الستر في بعض أحواله هو الذي يحقق شيوع الفاحشة، إذا سترت على فلان وعلان وبدون قيد ولا شرط شاعت الفاحشة بين الناس، لكن إذا أقيم الحد على هذا المرتكب للمنكر امتنع، وقلت الفاحشة، وقد تنتهي الفاحشة من المجتمع، يعني بعض الناس يستعمل النصوص في غير مواردها، فالذي يطالب بالستر المطلق لا شك أن هذا يطالب بإلغاء الحدود، ويطالب أيضاً بانتشار الفاحشة بين الناس؛ لأنه لا يكف عن الفواحش إلا هذه الحدود التي شرعها الشارع الحكيم.

 ((ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)) مسلم وقعت منه هفوة وزلة وندم عليها، ما له داع أن يشهر أمره، ويفضح بين الناس؛ لأنه يغلب على الظن أنه لن يتكرر منه، لكن إن تكرر لا يستر عليه.

((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) إذا كان الإنسان في حاجة أخيه يقضيها له فإن الله -جل وعلا- يعينه على ذلك، ويعينه على سائر أموره؛ لأن الخلق كما جاء في الخبر "عيال الله"، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله. فأنت تعين أخاك على كل ما ينوبه من أمور دينه وأمور دنياه، ما تستطيع، ما استطعت من ذلك.

((ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً)) سلك الطريق، بذل السبب، وحضر إلى الدروس، واستمع إلى الدروس العلمية، وقرأ في الكتب، وسمع ما سجل منها، وبذل السبب، وسلك الطريق الحسي والمعنوي، والأصل في السلوك، سلوك الطريق أنه حسي، لكن أيضاً يدخل فيه الطريق المعنوي، يسلك طريق العلم بالذهاب إلى أماكن الدروس، وإلى القراءة في الكتب، وحفظ المتون، ومزاولة الشروح، وسماع الشروح المسجلة، ومتابعة الدروس من خلال الآلات كل هذا من سلوك الطريق، فبمجرد سلوك الطريق يسهل الله لك به طريقاً إلى الجنة.

 ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريق)) مجرد سلوك الطريق، ما يلزم أن تكون عالماً، حتى لو سلكت الطريق تقول: "والله ما فهمت"، أنت سلكت الطريق؛ لأنه وجد من يطلب العلم عقودًا، خمسين سنة، ستين سنة، ومع ذلك ما أراد الله أن يكون من أهل العلم، فنقول: هذا سلك الطريق، ويكفيه هذا، وسهل الله له به طريقا إلى الجنة، لكن إن كان من أهل العلم فيرفع عند الله -جل وعلا- درجات.

((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله)) يقرؤون القرآن ((ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة)) في ألفاظه، وفي أحكام هذه الألفاظ، وفي معاني هذه الألفاظ، وفيما يستنبط من هذه الألفاظ من أحكام وآداب وعبر ((بينهم إلا نزلت عليهم السكينة)) الطمأنينة ((وغشيتهم الرحمة)) من الله -جل وعلا- ((وحفتهم الملائكة)) يعني احتفت بهم، وصارت حولهم، ومن احتفت به الملائكة هل يحضره الشيطان؟ لا، بخلاف من جلب الأسباب التي تعين الشياطين عليه، الملائكة لا تدخل بيت فيه كلب ولا صورة، والبيت إذا لم تدخله الملائكة دخلته الشياطين، والمكان الذي فيه الملائكة لا تدخله الشياطين، فاختر لنفسك.

((وذكرهم الله فيمن عنده)) الذين يذكرهم الله -جل وعلا- عند ملائكته، يباهيهم بهم، انظروا إلى عبادي، تركوا الراحة، تركوا الأهل، تركوا الأولاد، تركوا الأموال، واجتمعوا يتدارسون كتاب الله في بيت من بيوته، في مسجد من مساجد المسلمين، هؤلاء يذكرهم الله فيمن عنده ذكر مباهاة، وورد في الحديث: ((من ذكر الله في نفسه ذكره الله في نفسه، ومن ذكر الله في ملأ ذكره الله في ملأ خير منه)).

الناس لتشبثهم بهذه الدنيا، وعدم التفاتهم إلى ما ينفعهم نفعاً حقيقياً تجد الواحد منهم لو قيل له: "إن الملك فلان أثنى عليك البارحة في المجلس"، أو الأمير فلان، أو الوزير فلان، أو الرئيس، أو المدير، أو الوجيه، ذكرك البارحة في المجلس وأثنى عليك، احتمال ما تنام تلك الليلة، احتمال هذا؛ لأن بعض الناس يؤثر فيه هذا الكلام تأثيراً بالغاً، لكن أين أنت من قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه))؟ أين ذكر الرب -جل وعلا- الذي بيده كل شيء، هو المعطي وهو المانع، وهو النافع، هو الذي ينفع مدحه، ويضر ذمه؟ الأعرابي لما قال: "يا محمد أعطني، فإن مدحي زين وذمي شين"، قال: ((ذاك الله -جل وعلا-)) أما أنت مدحك لا ينفع وذمك لا يضر، لكن كون الإنسان يُمدح من قِبل الأخيار هذه علامة خير، لكن كونه يمدح من قبل الأشرار هذه ليست بعلامة خير.

((ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)) ولنا في أبي لهب وأبي طالب عبرة. أعمام النبي -عليه الصلاة والسلام- في الذروة من جهة بالنسبة للنسب، ومع ذلك بطأت بهم أعمالهم فلم تنفعهم أنسابهم وبالمقابل: ((وسلمان منا أهل البيت)) كما جاء في الحديث.

((من بطأ به عمله)) يعني تأخر به عمله لو كانت أعماله صالحة لكنه أقل من غيره ممن ليس مثله في النسب غيره يتقدم عليه في النسب، وأهل العلم يبحثون أيهما أفضل العباس عم النبي -عليه الصلاة والسلام- أو بلال مؤذن الرسول -عليه الصلاة والسلام- الحبشي؟

العباس عم النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهذا مولى يباع ويشترى، أعتقه أبو بكر، منّ عليه أبو بكر بالعتق، أيهما أفضل؟

من السابقين، يقول شيخ الإسلام: فرق بين من قاتل في بدر في صف النبي -عليه الصلاة والسلام-، ومن قاتل في صف أبي جهل، مع أن العباس يعني عم الرسول -عليه الصلاة والسلام-، الرسول أوصى بعترته، وفضائله ومناقبه معروفة، لكن المسألة إسلام، والحديث حكم ((من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)). نقول: العباس ما بطأ به عمله، أدرك هذا وهذا، لكن المسألة مفاضلة، من أهل العلم من يسكت عن مثل هذا لشرف العباس ومنزلته من النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: لا ينبغي أن يقال مثل هذا الكلام، وله وجه، وإن كان الحديث يعني نص في كون النسب لا ينفع حينما يتأخر العمل، والطعن في الأنساب والفخر في الأحساب من دعاوى الجاهلية، مما يؤثر عن الجاهلية، وهذه لا تنفع في الإسلام شيئًا، لكن إذا اجتمع النسب، وكون الإنسان من أهل البيت الذين وصى بهم النبي -عليه الصلاة والسلام- لا شك أن لهم حق عظيم على الأمة، شريطة أن يكونوا من أهل البيت بالفعل، يعني من النسب الطاهر والعمل الصالح، أما إذا وجد من الذرية الطاهرة لكنه لوث نفسه بالأدناس والأرجاس، بالمعاصي والمنكرات، هذا لا يمكن أن يسرع به نسبه كما جاء في الحديث الصحيح.

الحديث السابع والثلاثون: "فضل الله تعالى ورحمته".

قال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى- قال: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة)) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث السابع والثلاثين:

"عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى-".

تقدم معرفة هذا النوع من الحديث في حديث أبي ذر السابق، وأن أهل العلم يسمونه الحديث القدسي، إضافة إلى الله -جل وعلا- القدوس، ومنهم من يقول: الحديث الإلهي، والحديث القدسي كما تقدم ما يضيفه ويرويه النبي -عليه الصلاة والسلام- عن ربه -تبارك وتعالى-.

قال: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات)) فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى- قال" يعني الرسول ((إن الله كتب الحسنات)).

ما الفائدة في كونه يرويه عن ربه -تبارك وتعالى- حيث قال هناك: ((إني حرمت)) ولم يقل هنا: إني كتبت؟

الآن فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى-، وحديث أبي ذر فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى-، هناك قال: ((إني حرمت)) وهنا قال: ((إن الله كتب)).

قال: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات)) يعني هل نقول: فيه التفات، التفات من الخطاب إلى الغيبة، والأصل أن يقول: (إني كتبت) مثلما قال: ((إني حرمت)). هنا قال: ((إن الله كتب)) يعني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله كتب الحسنات)) ما نحتاج إلى قوله: فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى-؛ لأن كل الأحاديث التي يسوقها النبي -عليه الصلاة والسلام- بلفظه هو يرويه عن الله -جل وعلا-، ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فقوله: فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى-، يعني مقتضى هذه الرواية أن يسند الكلام إلى الله -جل وعلا- كما في حديث أبي ذر السابق، لكن هنا قال: ((إن الله كتب الحسنات)). فإما أن يقال: إن هذا التفات، التفات من الخطاب إلى الغيبة، بدلاً من أن يقول: "إني كتبت"، قال: "إن الله كتب"، وفي معاملة المخلوق يمكن أن يسموا مثل هذا تجريد.

ما معنى تجريد؟ المتكلم يجرد من نفسه شخصاً يتحدث عنه، ففي الحديث الصحيح عن سعد بن أبي وقاص أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى رهطاً وسعد جالس، ما قال: "وأنا جالس"، بل قال: "وسعد جالس"، قالوا: "هذا تجريد"، جرد سعد من نفسه شخصاً آخر تحدث عنه.

((إن الله كتب الحسنات والسيئات)) كتبها عنده في اللوح المحفوظ، وأثبتها عنده، فمن هم بحسنة فلم يعملها، كتبها الله حسنة كاملة.

 الهم مرتبة من مراتب القصد.

مراتب القصد خمس هاجس ذكروا
يليه هم فعزم كلها رفعت

 

فخاطر فحديث النفس فاستمعا
إلا الأخير ففيه الأخذ قد وقعا

الذي هو العزم.

فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، لم يعملها، هم بها فلم يعملها، ما الذي منعه من عملها؟ إن كان ندم على هذا الهم، الداعي لتركها هو الندم. هَمّ ببناء مسجد، هَمّ ثم بعد ذلك قال: "لا داعي نبني مسجدًا، المساجد كثيرة ولا داعي لذلك"، وكان أمضى في تخطيط المسجد مدة وبذل مالا في تخطيط المسجد، ثم ندم على بذل هذا المال، وعلى بذل هذه المدة التي يفكر فيها في بناء المسجد، هل نقول: يدخل في هذا الحديث، فمن هم بحسنة؛ لأن تفاصيل هذا الحديث كثرة جداً جداً ((فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة)) وُجد مانع من فعل هذه الحسنة، يكتبها حسنة كاملة إذا وجد ما يمنعه من فعلها، أما إذا ندم على التفكير فيها، والهم فيها هذا لولا أن الله -جل وعلا- فضله واسع لقلنا: إنه يعاقب على هذا الندم.

((وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات)) الحسنة بعشر أمثالها، وجاء في ذلك نصوص كثيرة ((إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة)) وهذه المضاعفات تزداد تبعاً لنوع العمل والعامل والزمان والمكان، كل هذه مؤثرات في زيادة المضاعفات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، {والله يضاعف لمن يشاء}. وجاء في حديث مضعف عند أهل العلم: ((إن الله ليضاعف لبعض عباده الحسنة بألفي ألف حسنة)) لا شك أن فضل الله لا يحد، وخزائنه لا تنفذ، لكن الحديث ضعيف.

((وإن هم بسيئة)) يعني دون العزم، وفوق حديث النفس، هَمّ، ((وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة)) حسنة كاملة لم يعملها؛ لأنه عجز عنها، حاول وعجز؟ لا، لم يعملها لوجود مانع، وهو خوف الله -جل وعلا- إنما تركها من جرائي، يعني من أجلي، نعم، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، إن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة.

ولننظر الفرق بين حسنة كاملة، وبين سيئة واحدة، يعني تعظيم شأن الحسنات، مما يبين فضل الله -جل وعلا-، ويدل له ((إن رحمتي سبقت غضبي)).

رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف.

المؤلف -رحمه الله- علق على هذا الحديث، يقول: "فانظر يا أخي وفقنا الله وإياك إلى عظيم لطف الله -تعالى-، وتأمل هذه الألفاظ، وقوله: ((عنده)) إشارة إلى الاعتناء بها، هذه حسنة قريبة منه، نعم، -إلى الاعتناء بها-، وقوله: ((كاملة)) للتأكيد وشدة الاعتناء بها.

وقال في السيئة التي هم بها ثم تركها ((كتبها الله عنده حسنة كاملة)) فأكدها بكاملة، ((وإن عملها كتبها سيئة واحدة)) فأكد تقليلها بواحدة، ولم يؤكدها بكاملة، فلله الحمد والمنة، لا نحصي ثناء عليه وبالله التوفيق"، هذا تعليق نفيس من المؤلف -رحمه الله تعالى-، ولفتة إلى دقيقة من دقائق العلم، والله المستعان.

النبي -عليه الصلاة والسلام- هم ولم يفعل، هم أن يحرق البيوت على المتخلفين عن الصلاة، لكنه لم يفعل، ومنعه من ذلك وجود النساء والذرية، هل نقول: إن الهم لا يترتب عليه حكم؟ أو نقول: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يهم إلا بما يجوز له فعله كما قرر ذلك أهل العلم؟ وإلا إذا قلنا: إن الهم مثل حديث النفس ما يترتب عليه حكم، قلنا: إن هذا الحديث ليس فيه، يعني مفرغ عن الدلالة.

عرفنا أن المقاصد كلها أربع مراتب منها: لا مؤاخذة فيه؛ لأنه إذا هم بسيئة ولم يعملها لا يؤاخذ عليها، لكن لو عزم عليها ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) قيل: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قيل: ((إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)) عازم على قتله.

الحديث الثامن والثلاثون: "العبادة لله وسيلة القرب والمحبة".

وقال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) رواه البخاري.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الثامن والثلاثين:

"عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله تعالى قال))" هذا أيضاً حديث قدسي، وهذه صيغة من صيغ الرواية في الحديث القدسي فيما يرويه عن ربه -عز وجل-، فيما يرفعه إلى ربه "إن الله تعالى قال: ((من عادى لي ولياً))" المعاداة نقيض الموالاة، الذي ينصب العداء لأولياء الله. فمن أولياء الله؟ {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ} [(257) سورة البقرة] {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [(62-63) سورة يونس] هؤلاء هم أولياء الله، فمن عادى من اتصف بالإيمان والتقوى ((فقد آذنته بالحرب)) وهل لأحد بحرب الله يد؟! هل يستطيع أن يبارز الله بالحرب؟! كما هو شأن أكلة الربا؟ هل للإنسان المسكين الضعيف الذي لو اعتراه أدنى ما يعتري البشر لأعلن العجز والضعف؟ هل له يد وطاقة في حرب الله -جل وعلا-؟ ومع ذلك نجد كثيرًا من المسلمين يتعاملون بهذه المعاملة المتضمنة لحرب الله ورسوله، وهنا تجده يعادي أولياء الله، ويبغضهم ويكرههم ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) يعني أعلمته بالحرب.

((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)) التقرب بالفرائض لا شك أنه أقرب من التقرب بالنوافل؛ لأن الفرائض أفضل، وهي التي يأثم بتركها بخلاف النوافل التي لا يأثم بتركها، والفرائض أولى بالاهتمام من النوافل ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)) يعني أحب الأعمال إلى الله -جل وعلا- هذه الفرائض، فإذا أداها الإنسان وبرئ من عهدتها سلم، مثلما تقدم في حديث الذي لا يزيد على ما افترض الله عليه، الذي يفعل الواجبات ويترك المحرمات، يدخل الجنة، وهذا هو المقتصد، لكن إذا زاد على ذلك النوافل لا شك أنه كلما زاد كان أقرب إلى تحقيق الولاية.

((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل)) الفرائض ليس فيها مسوامة، لكن النوافل هي التي تقبل الزيادة والنقص ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)) ((ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)) ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)) هل يقال: إن الغسل أفضل من الوضوء وهو مندوب والوضوء واجب شرط لصحة الصلاة؟ أو أن نقول: الغسل المشتمل على الوضوء كما هو معلوم، وإلا ما يكفي غسل لا يشتمل على وضوء؟ نقول: إذا اجتمع النفل مع الفرض صار أفضل من الفرض وحده.

قال: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)) نعم، الإكثار من النوافل سبب لمحبة الله -جل وعلا- للعبد، والإخلال بالفرائض سبب لبغض الله -جل وعلا- للعبد.

 ((فإذا أحببته)) يعني تحقق هذا الوصف بكثرة نوافل هذا الشخص. ((فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)) يعني وفقه الله -جل وعلا- ويسر له استعمال هذه النعم فيما يرضيه -جل وعلا-، فلا يزاول بها ما يكرهه الله ويسخطه، إنما يستعملها فيما يحب الله -جل وعلا-.

((فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به)) فلا تجد مثل هذا يسمع إلا الطيب من الكلام، ما تجده يسمع المحرمات. ((وبصره الذي يبصر به)) لا تجد يرى ويشاهد في هذه النعمة التي هي نعمة البصر ما يكرهه الله -جل وعلا- ويبغضه، وما أخل عبد بشيء من هذين المنفذين وغيرهما السمع والبصر يعني تجد بعض الناس طالب علم، لكن قد تغلبه نفسه على سماع محرم غيبة وإلا غناء وإلا مزامير وإلا شيء، سببه الإخلال بالسبب الموجود في هذا الحديث بالنوافل، أخل بالنوافل فاختل الوعد ((كنت سمعه الذي يسمع به)) لكن لو حافظ على النوافل وأكثر من النوافل ما وجد هذا الخلل عنده، كيف يشاهد قنوات إباحية تعرض صور عارية، تعرض صور مومسات، وتعرض أفلام فاحشة، وتعرض شبهات؟ كيف تسمح نفسه بهذا وهو من يتقرب إلى الله -جل وعلا-؟ لا بد أن يوجد الخلل في هذه النوافل التي هي سبب الوعد بحفظ السمع والبصر، فإذا تساهل بهذه النوافل، والنوافل لا شك أنها سياج واحتياط يمنع الإنسان من الإخلال بالواجبات والوقوع في المحرمات.

((ويده التي يبطش بها)) تجده لا يستعمل هذه اليد إلا فيما يرضي الله، تجده ما يكتب شيئًا يبغض الله -جل وعلا-، تجده ما يزاول شيئًا بيده يغضب الله -جل وعلا- إلا إذا أخل بالسبب.

((ورجله التي يمشي بها)) تجده يمشي إلى المساجد، يمشي إلى الدروس، يمشي إلى صلة الأرحام، يمشي إلى زيارة المرضى، وتشييع الجنائز، وما أشبه ذلك، يوفق لهذا كله، وتكون نوافله التي تقرب بها سياجًا ومانعًا له من أن يبطش بيده شيئاً مما لا يجوز، أو يمشي برجله إلى شيء لا يجوز.

((ولئن سألني لأعطينه)) إذا وصل إلى هذه المرتبة ما ترد دعوته ((ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني)) مما يكره، سألني شيئاً يطلبه مما ينفعه في دينه أو دنياه لأعطينه، ((وإن استعاذني)) مما يكرهه في دينه أو دنياه ((لأعيذنه)) رواه البخاري.

الحديث التاسع والثلاثون: "التجاوز عن المخطئ والناسي والمكره".

قال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه)) حديث حسن، رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث التاسع والثلاثين:

"عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله تجاوز))" وعفا ((لي)) يعني بسببي ولأجلي، هذا من شرف هذه الأمة بسبب شرف نبيها -عليه الصلاة والسلام- ((إن الله تجاوز لي عن أمتي)) عفا عنهم، وتجاوز عن أمتي ثلاثة أشياء: ((الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي.

على كل حال الحديث فيه كلام لأهل العلم، لكن شواهده في القرآن والسنة أيضاً.

((إن الله تجاوز لي عن أمتي)) قال الله -تعالى-: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [(286) سورة البقرة], وقال -تعالى-: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [(106) سورة النحل].

((إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) فلا إثم بسبب الخطأ ولا النسيان ولا بسبب الإكراه، الإثم مرتفع؛ لقول الله -تعالى-: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [(286) سورة البقرة] قال: قد فعلت، يقول الله -جل وعلا-: قد فعلت، فلا مؤاخذة. وكذلك الإكراه، وهو الإلجاء وليس كل ما يدعيه الناس إكراهاً هو في الحقيقة إكراه، لا، وهناك أمور لا يمكن أن يكره عليها الإنسان.

 الخطأ والنسيان، ومثلهما الجهل لقول الله -تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [(15) سورة الإسراء] فالجهل يعذر به الإنسان لا يؤاخذ، وإذا أخطأ أو نسي فإنه لا يؤاخذ، أخطأ فعمل شيئاً لا يعرف حكمه، أو نسي ما يعرف حكمه وفعله أو تركه، وأكره على ما يعرف حكمه بدءاً من كلمة الإشراك إلى ما دونها، فإذا أكره على ذلك إكراهاً معتبراً شرعاً فإنه لا مؤاخذة عليه. أخطأ ففعل محظوراً، نسي ففعل محظوراً لا شيء عليه، لكن أخطأ في حق آدمي نسي فتناول شيئاً لمخلوق فإنه لا يؤاخذ بالنسبة لحق الله، فلا إثم عليه، لكنه يضمن حق المخلوق، وعند أهل العلم النسيان والخطأ ومثله الجهل ينزل الموجود منزلة المعدوم، ولا ينزل المعدوم منزلة الموجود، نسي فصلى بدون طهارة، نقول: صلاته صحيحة؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [(286) سورة البقرة] قال: "قد فعلت؟" تجاوز لأمتي الخطأ والنسيان؟ النسيان لا ينزل المعدوم منزلة الموجود، فلا بد أن يتوضأ ويصلي، ونسيانه لا يعفيه، لكن النسيان ينزل الموجود منزلة المعدوم، نسي فصلى الظهر خمس ركعات، نقول: يعيد؟ لا يعيد؛ لأن هذه الركعة في حكم المعدوم؛ لأنه ما قصدها ولا تعمدها، لو تعمدها لأبطلت صلاته، وقل مثل هذا في المحرمات وترك الواجبات، نسي فترك واجباً لا بد أن يأتي به؛ لأنه لا ينزل المعدوم منزلة الموجود، نسي ففعل محرماً ارتكب محرماً نقول: يعفى عنه؛ لأن النسيان ينزل الموجود منزلة المعدوم.

 ((وما استكرهوا عليه)) والإكراه إلجاء ممن يقدر على التنفيذ، لكن لو أكره على إتلاف مال فإنه يضمن، لو أكره على قتل فإنه لا يجوز الإقدام على القتل؛ لأنه ليست روحه ونفسه أولى بالصيانة من روح غيره، فإذا قتل ولو كان مكرهاً يقتل.

 أهل العلم يقولون: إن الرجل لا يتصور إكراهه على الزنا بخلاف المرأة، لا يتصور إكراه الرجل على الزنا، لماذا؟ لأنه إذا أكره لا ينتشر، ما يستطيع أن يزاول بخلاف المرأة، بعضهم يتساهل في هذا الباب تساهلاً شديداً.

 امرأة تسأل: إنها أحرمت مع زوجها بعمرة، فلما طافوا قال: "خلاص لا تسعي، اذهبي إلى البيت تجهزي وأنا أسعى وآتيك"، أفتاها من أفتاها بأنها مكرهة لا شيء عليها، هذا تفريط، هذا تساهل في الفتوى، هذه الفتوى لا قيمة لها، مادام مكنها من الإحرام، وأذن لها أن تحرم، يلزمه ويلزمها الإتمام ولا التفات إلى قوله لها: "لا تسعي"، لا يملك أصلاً، هو ملزم بالإتمام، وهي ملزمة بالإتمام، مادام أذن لها، لكن لو قبل الإحرام والعمرة ليست الواجبة قال: "لا تحرمين"، يملك يمنعها، لكن لما طاف طواف العمرة وبدلاً من أن تسعى معه تذهب لتجهز له ما يريد أثناء سعيه، هذا لا يملك هو مثل هذا، وهي لا تملك بل عليها أن تسعى. فالإكراه له حد شرعي، إذا وصل إليه نعم يعذر إذا لم يصل إليه لا يعذر.

الحديث الأربعون: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)).

قال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" رواه البخاري.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الأربعين:

ومقتضى تسمية الكتاب بالأربعين واستدلال المؤلف بحديث: ((من حفظ على أمتي أربعين حديثاً)) أن يكون هذا آخر الأحاديث، لكنه زاد حديثين، والزيادة اليسيرة لا تخرج الشيء عن مسماه؛ ولذا كثيراً ما نجد في الألفيات زيادة بيت أو بيتين أو ثلاثة أو نقص بيت أو بيتين في الألفية؛ لأن الحكم للغالب، هذا زاد حديثين، رأى أن الحاجة داعية وماسة لهما، وإلا فالأصل أن يكون الحديث الأربعون هو آخر الكتاب، وهو مقتضى التسمية. وبعض الناس يستغرب يقول: أربعين حديثًا، الاثنين هذه من أين جاء بها؟ هي من أصل التأليف، يعني من المؤلف، رأى الحاجة داعية إلى هذين الحديثين، ولما جاء الحافظ ابن رجب فزادها ثمانية فصارت خمسين، ولا يمتنع أن يأتي من يزيدها عشرة فتصير ستين، إلى أكثر من ذلك، والزيادات والزوائد معروفة عند أهل العلم.

يقول: الحديث الأربعون:

"عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي" طرف الكتف، المنكب ملتقى العاتق مع العضد "بمنكبي فقال" من باب التنبيه؛ لأنه أيضاً بعد يمكن أخذ بمنكبه وشده من أجل أن ينتبه، هذا أسلوب مستعمل إلى الآن.

"قال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))" كوافد على هذا البلد لا تَعرِف ولا تُعرَف، والغريب ينبسط في بلد لا يعرف ولا يعرف فيه؟ ((أو عابر سبيل)) مررت بهذا البلد وأنت ماشي في طريقك، ومقتضى ذلك أن تأخذ الأهبة للغربة والسبيل الذي ينتظرك، فتأهب لما أمامك، والدنيا سفر يقطعه الإنسان يقطع منه في كل يوم مرحلة تقربه إلى الدار الحقيقية، الدار الآخرة.

 ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) يعني استعد لما أمامك، أما غير الغريب صاحب البلد والمقيم فيه غير عابر السبيل، هذا عنده بيت، وعنده أهل، وعنده عشيرة، وعنده متاع، فما شبه السائر إلى الله -جل وعلا- بالمقيم؛ لأن هذه الدنيا وهي المشبه ليست دار إقامة، وإنما هي ممر، كأنك عابر سبيل. وابن عمر وهو المعروف بالمبادرة بالامتثال, وقد قال فيه النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)) فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً، يبادر.

"يقول: كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول" لما سمع هذا الكلام "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح" يعني قصر الأمل، ومن لازم تقصير الأمل المبادرة بكل ما يستطيع المبادرة به. "وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء" بخلاف حال كثير من الناس الذين آمالهم تطول فتجد الإنسان وهو طالب يخطط لما بعد التقاعد، لا يخطط لما بعد التخرج لا، بل لما بعد التقاعد، الله المستعان. وما يدري هل يقوم من مجلسه أو لا يقوم، وكم من شخص عَمّر وشيد وأسس ولا سكن، وأكثر من قضية يتزوج وفي صباح الغد وهو يتناول الإفطار مع عرسه يموت بين يديها أو تموت بين يديه. وموت الفجأة يكثر، وبسبب حوادث السيارات التي تخترم الناس وهم في عنفوان الشباب، يعني أمور مهولة، فعلى الإنسان أن يهتم بهذا الأمر.

"إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح" وليس معنى هذا أنك تقصر نظرك وعملك على هذه المدة بحيث لا تفكر فيما تفعله في الغد أو بعد غد، لا مانع أن تعمل، لكن تجعل نصب عينيك أن المنية أقرب إليك من شراك نعلك لتتأهب، ولا تتمادى في التسويف والمماطلة بفعل الصالحات، أو عدم الإسراع في إبراء الذمة من الحقوق، بادر، سارع.

الآن يجلس بعض الناس سنوات يشيد المسكن، ويحمل ذمته من الديون بما يجزم عليه أنه يموت ما سدده، يشيد بيت بمليون وهو ما يحتاج ولا عُشر هذا البيت، وديون المليون يصير عليه بسبب التأخير والآجال مليونين أو ثلاثة، ثم بعد ذلك يبقى محسوراً ملوماً، مفرطا. ابن عمر شيد بيته بيده، عَمّر بيته، ويومين ثلاث وينتهي البيت. الآن الملاحق في البيوت تحتاج إلى وقت طويل ولأموال، وتحتاج إلى أشياء فضلاً عن البيوت. ابن عمر يومين أو ثلاث وشيد بيته وسكن، الأمر ميسور، يعني قبل أن تنفتح الدنيا، ويتباهى الناس في البنيان، يتطاولوا فيه، يقف الإنسان عند باب المسجد يقول: "أعان الله من يعين"، فيأتي هذا بلبنة، وهذا بطينة، وهذا يحضر ماء، وهذا كذا، وفي مدة يسيرة ينتهي بناء البيت؛ لأنهم ينظرون إلى حقيقة هذه الدنيا أنها ممر، عابر سبيل، غريب، ينتقل عنها اليوم أو غداً، لكن الآن صارت غاية، إذا ما شيد البيت، ووسع البيت. ولو نظرنا في تسلسل البيوت بالنسبة للناس يعني كانت الأسر تسكن في بيت واحد، ثم توسعوا قليلاً فصارت كل أسرة تسكن في بيت، يعني الولد عنده خمسة من الأولاد مزوجين كلهم في بيت واحد، هؤلاء توسعوا قليلاً وصار كل واحد في بيت، لكن كم مساحة هذا البيت؟ رأينا من بيوت في الرياض وفي غيره ستين مترًا البيت، ثم بعد ذلك رأينا حماما في بيت ستين مترًا!! التوسع في أمور الدنيا مشكلة، يدل على طول في الأمل واغترار بإمهال الله -جل وعلا- للناس، لكن إذا حضر الأجل ما نفعت هذه الأمور، يعني كانت البيوت خمسين، ستين مترًا، التجار يمكن قد يصل إلى مائة، ورأينا بعض القرى التي هدمت السيول بيوتهم يعني القرية كلها ما تجي خمسة آلاف متر، وفيها خمسين ستين بيت، والدليل على ذلك أن الأماكن التي يوضع فيها التمر هذه لا تهدمها السيول باعتبار أنها حصى، يعني تشيد من حصى، وآجر وجص فهي قوية، وجدناها في بعض القرى ما بين الواحدة والثانية إلا خمسة أمتار، عشرة أمتار، هذه في بيت وهذه في بيت، فالناس كانوا ينظرون إلى حقيقة الدنيا ما توسعوا. أما اليوم فقد توسعوا وخرجوا إلى المئات، قالوا: "هذه قبورهم ما هذه ببيوت"، توسعوا، خرجوا إلى المئات بعد ذلك، بدؤوا يشيدون القصور من الآلاف، ما تكفي مئات، يريد مساحة للمشي، ومساحة للزراعة، ومساحة لكذا؟ وكأنه في قرارة نفسه أنه لن يموت.

ابن عمر في أيام يسيرة شيد البيت وسكن، بيت يسكنه هو وزوجته وينتهي الإشكال من الحر والقر، وما وراء ذلك يحاسب عليه، ترى في الزائد يحاسب عليه الإنسان فضلاً عن كونه يحتاج إلى أن يحمل ذمته الديون. يتكلم الإنسان مثل هذا الكلام، ومن يسمع الكلام يقول: هذا بيته أكيد أنه خمسين متر أو ستين متر، لا هو مثل الناس، الإنسان ابن بيئته، لكن الكلام في الجملة يعني، كان الناس على وضع ثم اختلف هذا الوضع، والله المستعان.

"وخذ من صحتك لمرضك" خذ استعد لما أمامك في وقت الصحة, كما ورد في الأثر: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ)) صحة تضيع بدون عمل صالح، أو فراغ يضيع بدون عمل! كثير من الناس يضيع هذه الصحة من دون عمل، وإذا علم الإنسان أنه يكتب له إذا مرض مثل ما كان يعمله صحيحاً استغل وقت الصحة من أجل أنه إذا مرض يكتب له نفس العمل.

"ومن حياتك لموتك" تحتاج إلى العمل الصالح الذي يبقى معك بعد الموت، يبقى معك يؤنسك في قبرك، ويكون سبباً في دخولك الجنة، ونجاتك من النار، إذا مات الإنسان وهو مقصر سيقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [(99-100) سورة المؤمنون] لا، ليس له ذلك، تنتهي أيام المهلة بالغرغرة، إذا تغرغر الإنسان انتهى، التوبة لا تقبل، والعمل الصالح انتهى لا يقبل، فعلى الإنسان أن يبادر باستغلال أيام الصحة، أيام الفراغ، يأتي في يوم من الأيام يقول: "يا ليت، كنت أنام الساعات الآن ما يتيسر، ليت هذه الساعات قسمتها نصفين، نصف للنوم ونصف عمل، ركعتان في جوف الليل، أو صيام في يوم شديد الحر ما يمدي، يندم ولات ساعة مندم.

"ومن حياتك لموتك" تزود، وخير الزاد التقوى.

الحديث الحادي والأربعون: "علامة الإيمان". 

قال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به))

حديث حسن صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.

يقول المؤلف -رحمة الله عليه- في الحديث الحادي والأربعين:

"عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" أولاً الحديث فيه كلام طويل لأهل العلم، وابن رجب -رحمه الله- في شرح الأربعين بين عللاً لهذا الحديث، وإن كان معناه يمكن حمله على وجه صحيح.

يقول: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يؤمن أحدكم))" المراد به الإيمان الكامل ((حتى يكون هواه)) ورغبته النفسية تدور تبعاً لما جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام-، فتجد في النفس رغبة لما حث عليه النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإذا منع النبي -عليه الصلاة والسلام- من شيء تجد نفسك تدور تبعاً للحث والمنع.

((لا يؤمن أحدكم)) يعني الإيمان الكامل ((حتى يكون هواه تبعاً لما)) من صيغ العموم ((لما جئت به)) يعني لجميع ما جئت به، لكن إذا كان هواه تبعاً لما أوجبه الله عليه وما حرمه الله عليه لا يستثني بذلك شيئاً. أما بالنسبة لما حث عليه من غير إيجاب، أو منع منه من غير كراهة فمثل هذا لا يخدش في الإيمان، ولا يؤثر فيه؛ لأن للإنسان أن يترك المستحب ولا يأثم، وله أن يرتكب المكروه لأدنى حاجة ولا يأثم، و(ما) من صيغ العموم، لكن إذا كان الهوى تبعاً لما جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام- من واجبات ومستحبات، وتاركاً لجميع ما جاء عنه من محرمات ومكروهات هذا هو الإيمان الكامل.

((حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)) حديث حسن صحيح... إلى آخره.

وعرفنا أن الحافظ ابن رجب بين له بعض العلل.

الحديث الثاني والأربعون: "سعة مغفرة الله -تعالى-".

قال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن أنس -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في آخر الأحاديث:

"عن أنس -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وهذا آخر ما في الكتاب من الأحاديث، يقول: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم)) وإذا أضيف الابن إلى جنس يشترك فيه الناس أو فئام من الناس فإنه يشمل الذكور والإناث، وإلا فالأصل أن الابن خاص بالذكر، والبنت بالأنثى، فإذا قيل: ابن زيد، فالمراد ولده الذكر، بخلاف ما يقال: ابن آدم، فإنه يشمل، كما إذا أوصي إلى بني تميم مثلاً، فإنه يشمل الرجال والنساء، لكن إذا أوصي إلى بني فلان فإنه يختص بالأبناء دون الإناث، وهنا يقول: يا ابن آدم مما يشمل الذكور والإناث، والإناث في عموم خطابات الشرع تدخل في خطاب الرجال.

((يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني)) يعني الدعاء {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [(60) سورة غافر] عرفنا فيما تقدم أن الدعاء له أسباب للقبول، وهناك موانع، فلا بد من توافر الأسباب، وانتفاء الموانع. ومع ذلك من الأسباب اقتران الدعوة بالرجاء، ما يدعو الإنسان وقلبه غافل ساهٍ، فإنه حري ألا يستجاب له إذا غفل، لكن إذا اقترن مع الدعاء الرجاء وحضور القلب ((غفرت لك على ما كان منك)). الله -جل وعلا- يقبل التوبة ويغفر لمن استغفر له.

 ((ولا أبالي)) يعني لا أهتم بذلك؛ لأن هذا لا يثقله -جل وعلا-، ولا يكرسه، ولو اجتمعوا كلهم في صعيد واحد واستغفروا غفر لهم، لو طلبوا أعطاهم، ولا ينقص ذلك من ملكه شيئاً كما تقدم.

((يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء)) أذنبت الذنوب الكثيرة العظيمة التي ملأت الأرض وارتفعت إلى عنان السماء، إلى السحاب، إلى الأفق فإنه يقول: "لو بلغت ذنوبك كثرة إلى عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك"، لكن بالشروط المعروفة، مع انتفاء الموانع المعروفة.

((يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض)) يعني بملء الأرض أو بما يقارب ملئها ((خطايا، ثم لقيتني)) بشرط ((لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)) لا تشرك بي شيئاً نكرة يشمل قليل الشرك وكثيره، صغيره وكبيره، وبهذا يستدل جمع من أهل العلم أن الشرك الأصغر لا يغفر ولقوله -تعالى-: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [(48) سورة النساء]. الكبائر كلها تحت المشيئة، لكن الشرك لا يقبل المغفرة، لكن الفرق بين الشرك الأصغر والذنوب أنه لا بد من أن يعذب عليها، والفرق بينه وبين الأكبر أن صاحب الشرك الأكبر مخلد في النار، لكن صاحب الشرك الأصغر إذا عذب مآله إلى الجنة.

((لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

وهذا يبين عظمة التوحيد، وتحقيق التوحيد، وتصفية التوحيد من شوائب الشرك صغيره وكبيره، من البدع من المعاصي ليدخل الجنة وينجو من النار، وهنا أيضاً وعيد لمن لا يشرك بالله شيئاً، يعني جميع صور الشرك كفيلة بأن يغفر للإنسان ما اقترفه من ذنوب. قد يقول قائل: لو أنه لا يكون مشركًا، لكنه يرتكب محرمات قد يترك الصلاة ولا يشرك؟ نقول: لا، إذا ترك الصلاة فهو مشرك. لماذا؟ لأنه اتخذ إلهه هواه؛ ولذا جاء في الحديث: ((بين الكفر وبين الشرك ترك الصلاة)) فلا يرد على هذا أنه إذا كان لا يشرك، لكن لا يصلي أنه يغفر له عند من يقول بكفر تارك الصلاة، والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.