شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (033)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ونشكر له قبول دعوتنا، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم: توقفنا عند حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، وقد أشرتم إلى شيء من معانيه، ونستكمل في هذه الحلقة ما تبقى حول هذا الحديث -أحسن الله إليكم-.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فقد انتهينا إلى قوله في الحديث: «ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به» «مَن»: مبتدأ موصولة، تتضمن معنى الشرط، و«أصاب»: جملة صلتها، و«شيئًا»: مفعوله وهو عام؛ لأنه نكرة في سياق الشرط كما صرح به ابن الحاجب، حيث صرح بأن الشرط كالنفي في إفادة العموم للنكرة، و«مِن» للتبعيض.

يقول الكرماني: وفيه إرشاد إلى أن الأجر إنما يُنال بالوفاء بالجميع، والعقاب يُنال بترك أيِّ واحد كان من ذلك؛ لأن معنى الوفاء الإتيان بجميع ما التزمه من العهد.

«فعوقب» زاد أحمد في روايته: «به» والعقاب كالقطع بالنسبة للسارق، والجلد للزاني غير المحصن، والرجم للزاني المحصن، والجلد أيضًا في التعزير وغيرها، «فهو» أي العقاب «كفارة»، زاد ­أحمد: «له» أي كفارة له لمن أقيم عليه الحد، وكذا هو للمصنِّف من وجه آخر في باب المشيئة من كتاب التوحيد، وزاد: «وطهور».

يقول النووي: عموم هذا الحديث مخصوص بقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء 48] فالمرتد إذا قُتِل على ارتداده لا يكون القَتْل له كفارة إجماعًا، قال ابن حجر: وهذا بناء على أن قوله من ذلك شيئًا يتناول جميع ما ذُكِر وهو ظاهر، في قوله: «على ألا تشركوا بالله شيئًا» يعني: يتناول الشرك الأكبر الذي لا يُغفَر إلا بالتوبة والدخول في الإسلام، قال ابن حجر: وهذا بناء على أن قوله: «من ذلك شيئًا» يتناول جميع ما ذُكِر وهو ظاهر، وقد قيل: يحتمل أن يكون المراد ما ذُكِر بعد الشرك بقرينة أن المخاطَب بذلك المسلمون، فلا يَدخل حتى يُحتاج إلى إخراجه، ويؤيده رواية مسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة في هذا الحديث: «ومن أتى منكم حدًّا» إذ القتل على الشرك لا يسمى حدًّا؛ لكن يُعَكِّر على هذا القائل أن الفاء في قوله: «فمن» لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وخطاب المسلمين بذلك لا يمنع التحذير من الإشراك، وما ذُكِر في الحد عرفي حادث، فالصواب ما قاله النووي، معناه أنه يدخل فيه الشرك بنوعيه، وأنه مخصوص بمثل قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء 48] وقال الطيبي: الحق أن المراد بالشرك الشرك الأصغر وهو الرياء، ويدل عليه تنكير شيئًا، أي: شركًا أيًّا ما كان، وتُعُقب بأن عرْف الشارع إذا أطلق الشرك إنما يريد به ما يقابل التوحيد، وقد تكرر هذا اللفظ في الكتاب والأحاديث حيث لا يراد به إلا ذلك، ويجاب بأن طلب الجمع ودفع مثل هذا التعارض يقتضي ارتكاب مثل هذه الأشياء على بُعْدها، فما قاله محتمل، وإن كان ضعيفًا، هكذا قال الشراح، يُجاب بأن طلب الجمع، يعني للتوفيق بين الأحاديث المتعارضة يرتكب مثل هذه الأمور ولو كانت ضعيفة، ولكن يُعَكِّر عليه أيضًا أنه عقَّب الإصابة بالعقوبة في الدنيا والرياء لا عقوبة فيه، فوضح أن المراد الشرك وأنه مخصوص، المراد الشرك بأنواعه وأنه مخصوص، يقول القاضي عياض: ذهب أكثر العلماء إلى أن الحدود كفارات، واستدلوا بهذا الحديث «ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله» يقول: «ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له» هذا نص؛ ولذا ذهب أكثر العلماء إلى أن الحدود كفارات، استدلوا بهذا الحديث، ومنهم من وقف لحديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا» والحديث مخرَّج عند أحمد والحاكم والبزار، وهو صحيح على شرط الشيخين، لكن حديث عبادة أصح منه بلا شك؛ لأنه مخرَّج في الصحيحين، وما كان في الصحيحين فهو أرجح مما كان في غيرهما، ولو كان على شرطهما، لما عَرفنا من شدة تحرِّي الشيخين، وشدة انتقائهما للمتون، ويمكن أن يُحمَل حديث أبي هريرة على أنه ورد أولاً قبل أن يُعْلِمَه الله، ثم أَعْلَمَه بعد ذلك، كذا قال القاضي عياض، يمكن أن يحمل حديث أبي هريرة على أنه ورد أولاً قبل أن يعلم الله -سبحانه وتعالى- نبيه أن الحدود كفارات، ثم أعلمه الله بذلك بعد، لكن يَرِدَ عليه أن القاضي نفسه، القاضي عياض نفسه، ومن تبعه جازمون بأن حديث عبادة كان هذا بمكة ليلة العقبة؛ لما بايع الأنصار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيعة الأولى بمنى، وأبو هريرة إنما أسلم بعد ذلك عام خيبر سنة سبع، فكيف يكون حديثه متقدمًا؟! حديث عبادة في بيعة العقبة، وأبو هريرة أسلم سنة سبع، نعم لا يبعد أن أبا هريرة سمعه من غيره، لكن يُنظَر في الحدود هل شُرِعَت قبل بيعة العقبة أم لا؟ فهذا محل نظر ثانٍ، لكن ابن حجر -رحمه الله تعالى- قال: الحق عندي أن حديث أبي هريرة صحيح، والمبايعة المذكورة في حديث عبادة على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة، وإن ما كان في ليلة العقبة ما ذكر ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال لمن حضر من الأنصار: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» فبايعوه على ذلك، وعلى أن يرحل إليهم هو وأصحابه، هذه هي البيعة التي حصلت في العقبة.

وفي الفتن من صحيح البخاري من حديث عبادة قال: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، هذه أيضًا بيعة ثانية؛ فلماذا لا تكون البيعة الواردة في حديث الباب بيعة ثالثة متأخِّرة عن ذلك؟ يقول ابن حجر: وأصرح من ذلك في هذا ما أخرجه أحمد والطبراني عن عبادة أنه جرت له قصة مع أبي هريرة عند معاوية بالشام، فقال: "يا أبا هريرة إنك لم تكن معنا، إذ بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول بالحق ولا نخاف في الله لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة" هذا العِوَض، هذا صريح في أن بيعة العقبة وقعت على هذا.

"فهذه بيعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي بايعناه عليها"... الحديث، قال ابن حجر: ثم صدرت مبايعات أخرى ستُذكَر في كتاب الأحكام -إن شاء الله تعالى-، منها هذه البيعة التي في حديث الباب في الزجر عن الفواحش المذكورة، والذي يقوِّي أنها وقعت بعد فتح مكة، وبعد أن نزلت الآية التي في الممتحنة، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [سورة الممتحنة 12] ونزول هذه الآية متأخر بعد قصة الحديبية بلا خلاف؛ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- تلا هذه الآية في الحديث، والدليل على ذلك ما عند البخاري في كتاب الحدود من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري في حديث عبادة هذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بايعهم قرأ الآية كلها فهذا دليل على أن هذه البيعة المذكورة في حديث الباب متأخرة عن بيعة العقبة الأولى والثانية، إلى أن قال ابن حجر: فهذه أدلة ظاهرة في أن هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول الآية، بل بعد صدور البيعة، بل بعد فتح مكة، وذلك بعد إسلام أبي هريرة بمدة، هذا ظاهر كون هذه البيعة تأخرت كما ذكره ابن حجر وغيره، لكن يَرِد عليه أنه جاء في بعض الروايات أنه أشير إلى العقبة في هذا الحديث، ولعل بعض الرواة حينما عَرَف أن عبادة بن الصامت حضر البيعة الأولى والثانية في العقبة وساق هذه البيعة، ساق ما جاء في هذه البيعة ذهب وهَله وذهنه إلى بيعة العقبة، فقرن ما جاء في هذا الحديث ببيعة العقبة؛ لأنه جاء ذكر العقبة في هذا الحديث، وما ذكره ابن حجر مما ذكرناه كالنص في أن هذه البيعة متأخرة عن بيعة العقبة، وأنه جاء في بيعة العقبة الأولى ما ذكره ابن إسحاق، وفي بيعة العقبة الثانية ما ذُكِر بعد ذلك مما جرت المحاورة فيه بين عبادة وأبي هريرة، ولتكن هذه بيعة ثالثة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- بايع مرارًا كما ستأتي الإشارة إلى ذلك -إن شاء الله تعالى-.

قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: وقد اختلف العلماء هل إقامة الحدود بمجرده كفارة للذنب من غير توبة أم لا؟ على قولين، يعني هل مجرد إقامة الحد على مرتكبه كفارة بمعنى أنه لا يعاقب عليه في الآخرة أم لا بد له مع ذلك من التوبة؟

على قولين: أحدهما: أن إقامة الحد كفارة للذنب بمجرده، وهو كالصريح في حديث الباب، أو هو صريح حديث الباب: «من أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له» صريح في المراد، وهو مروي عن علي بن أبي طالب وابنه الحسن ومجاهد وزيد بن أسلم، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد واختيار ابن جرير وغيره من المفسرين، والثاني: أنه ليس بكفارة بمجرده، بل لا بد من التوبة مع إقامة الحد، وهو مروي عن صفوان بن سُليم وغيره، ورجحه ابن حزم وطائفة من متأخري المفسرين كالبغوي وأبي عبد الله ابن تيمية وغيرهما، استدل هؤلاء بقوله تعالى في المحارِبين: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ* إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ} [سورة المائدة 33-34] وجه الاستدلال: أنه بعد أن ذكر عقوبة المحارِب في الدنيا؛ ذكر أن ذلك خزي لهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم، إلا الذين تابوا، قد يجاب عن هذا بأن ذكر عقوبة الدنيا والآخرة لا يلزم اجتماعهما، فقد دل الدليل على أن عقوبة الدنيا تُسقِط عقوبة الآخرة، لا شك أن الدليل كالظاهر في المسألة، وحديث الباب نص في المسألة، لكن يمكن تخريج الآية على أن الخزي في الدنيا إقامة الحد في الدنيا، والعذاب العظيم في الآخرة لمن لم يُقَم عليه حد في الدنيا، ثم جاء الاستثناء {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ} [سورة المائدة 34] والاستثناء إذا تَعَقَّب جُمَل كما هو معروف، إذا تعقب جُمَل متعددة هل يعود إلى الآخرة منها أو إلى الجميع؟ محل خلاف بين أهل العلم، وهذا من أمثلته، فقوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ} [سورة المائدة 34] هل يعود على ما تقدم من حد المحارِبين أو يعود على قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ} [سورة المائدة 33-34]؟ مسألة خلافية بين أهل العلم مما يوضحها ما جاء في توبة القاذف، فهل التوبة التي دخل عليها الاستثناء تأتي على الجمل الثلاث؟ إذا تاب القاذف لا يُحَدّ وتُقبَل شهادته، ويرتفع عنه وصفه بالفسق؟ أو نقول: يعود إلى الآخرة فقط، يُجلَد ثمانين جلدة ولا تُقبَل شهادته؟ بدليل قوله تعالى: {أَبَدًا} [سورة النــور 4] {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [سورة النــور 4-5] ويرتفع عنهم وصف الفسق فقط، أما ارتفاع الحد فلا خلاف في أنه لا يرتفع، بل يُجلَد الحد ولو تاب، حد القذف، يُجلَد الحد ولو تاب، وقبول الشهادة محل خلاف بين أهل العلم، فإذا تاب القاذف تقبل شهادته أو لا تقبل؟ قولان لأهل العلم، وأما ارتفاع وصف الفسق فمحل اتفاق أن الاستثناء يرجع إليه {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [سورة النــور 4-5] فليسوا بفاسقين، وإذا ارتفع عنهم الوصف بالفسق تقبل شهادتهم أو ما تقبل؟ هذه حجة من يقول بأنها تقبل الشهادة، فما دام ارتفع عنه وصف الفسق فما المانع من قبول شهادته؟ لكن القول الثاني يَستدل بقوله: {أَبَدًا} [سورة النــور 4] مع أن هذا التأبيد يمكن تخريجه على ما إذا كان لم يتب، أو قبل التوبة، أما استثناء الذين تابوا، وهذا تابع لكلام الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- أما استثناء الذين تابوا فإنما استثناهم من عقوبة الدنيا خاصة، ولهذا خصهم بما قبل القدرة، وعقوبة الآخرة تندفع بالتوبة قبل القدرة وبعدها.

السائل: أحسن الله إليك يا شيخ، الصواب في مسألة رجوع الاستثناء للجملة الوسطى هل هو داخل في الاستثناء أم خارج أم تابع للقرائن؟

الترجيح في مسألة الاستثناء أو الوصف المتعقِّب لجُمَل لا شك أنه تابع للقرائن، إذِ النصوص في ذلك لم تأتِ على وتيرة واحدة مطَّردة، كما ذكرنا في آية القذف، في آية القذف دَلَّت الأدلة الأخرى على أن الحد لا يسقط، لكن لو قال قائل: أعطِ بني تميم وقريش وهوازن، أو غلة هذا الوقف لقريش وبني تميم وهوازن، إلا الفساق منهم، هذا الاستثناء يرجع إلى مَن؟ إلى الجميع بلا خلاف، فالقرائن تدل على أن الواقف أراد أن يُخرِج الفساق، ولا فرق بين فساق بني تميم وفساق قريش وفساق هوازن، فلا شك أن القرائن ترجح في مثل هذا.

يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: وأما استثناء الذين تابوا فإنما استثناهم من عقوبة الدنيا خاصة، ولهذا خصهم بما قبل القدرة، وعقوبة الآخرة تندفع بالتوبة قبل القدرة وبعدها، ويدل على أن الحد يطهِّر الذنب قول ماعز للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني أصبت حدًّا فطهِّرْني" وكذلك قالت الغامدية، ولم ينكر عليهما النبي -عليه الصلاة والسلام- ذلك، فدل على أن الحدَّ طهارة لصاحبه.

ثم قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: ويدخل في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارته» العقوبات القدرية من الأمراض والأسقام والأحاديث في تكفير الذنوب بالمصائب كثيرة جدًّا، وهذه المصائب يحصل بها للنفوس من الألم نظير الألم الحاصل بإقامة الحد، وربما زاد على ذلك كثيرًا، وقد يقال في دخول هذه العقوبات القدرية بلفظ حديث عبادة نظر؛ لأنه قابَل من عوقب في الدنيا سِتر الله عليه، وهذه المصائب لا تنافي السِّتر، والله أعلم.

قوله: «ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم سَتَره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه» هذا المستور -كما قال الحافظ ابن رجب وغيره- له حالتان، إحداهما: أن يموت غير تائب فهذا في مشيئة الله، والثانية: أن يتوب من ذنبه، فقالت طائفة: إنه تحت المشيئة أيضًا، واستدلوا بالآية المذكورة، آية ماذا؟ حد الحرابة {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ} [سورة المائدة 34] وحديث عبادة؛ لأن حديث عبادة: «ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله» ويستوي في ذلك التائب وغير التائب، فهو إلى الله، والأكثرون على أن التائب من الذنب مغفور له، وأنه كمن لا ذنب له، كما قال تعالى: {إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [سورة الفرقان 70] وقال: {أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [سورة آل عمران 136] فيكون التائب حينئذٍ ممن شاء الله أن يغفر له. استدل ابن حزم بحديث عبادة على أن من أذنب ذنبًا فإن الأفضل له أن يأتي الإمام فيعترف عنده ليقيم عليه الحد حتى يكفَّر عنه، ولا يبقى تحت المشيئة في الخطر، وهذا مبني على قوله: إن التائب في المشيئة. ابن حزم يستدل بحديث الباب على أن من أذنب ذنبًا فإن الأفضل له أن يأتي الإمام فيعترف عنده، لا شك أن هذه هي العزيمة كما فعل ماعز والغامدية وغيرهما من الصحابة، كلهم جاؤوا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- تائبين معترفين ليطهرهم، فأقام عليهم -عليه الصلاة والسلام- الحد. حتى يكفَّر عنه ولا يبقى تحت المشيئة في الخطر وهذا مبني على قوله -يعني ابن حزم- إن التائب في المشيئة.

قال ابن رجب: والصحيح أن التائب توبة نصوحًا مغفورٌ له جزمًا، لكن المؤمن يَتَّهم توبته، التوبة إذا توافرت شروطها ترتبت آثارها بوعد الله -سبحانه وتعالى-، ووعد نبيه -عليه الصلاة والسلام-، لكن هل يستطيع مؤمن أن يجزم بأن هذه الشروط توافرت على مراد الله؟ على المؤمن أن يَتَّهم توبته، ولا يجزم بصحتها ولا بقبولها، بل عليه أن يجمع بين هذه التوبة وهي من الإحسان الخوف والوجل، فالمؤمن التقي تكون حاله كحال السلف جمعوا بين الإحسان والخوف، ولا يكون كحال من فرَّط، وجمع بين الإساءة والأمن، فعلى المؤمن أن يَتَّهم توبته، ولا يجزم بصحتها ولا بقبولها، وعلى هذا لا يزال خائفًا من ذنبه وجلاً. جمهور العلماء على أن مَن تاب من ذنب الأفضل أن يَسْتُر على نفسه، ولا يُقِر به عند أحد، ولا يفضح نفسه، يستر الله عليه ويصبح يفضح نفسه، لا يجوز له ذلك، ولا يُقِر به عند أحد، بل يتوب منه فيما بينه وبين الله -عز وجل-، روي ذلك عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وغيرهم، ونص عليه الشافعي، ومن أصحابه وأصحابنا، يعني الحنابلة، من قال: إن كان غير معروف بين الناس بالفجور فكذلك، وإن كان معلنًا بالفجور مشتهرًا به فالأولى أن يُقِر بذنبه عند الإمام ليطهره منه؛ لماذا؟ ليكون تقديمه نفسه برهان صدق على صحة توبته، وإلا فما الذي يمنعه بعد هذه التوبة أن يعود وقد عُرف بالعَوْد، وقد لا يوفَّق للتوبة النصوح، فإذا قدَّم نفسه للحد، وأقيم عليه طهره الله -سبحانه وتعالى- من هذا الذنب، على ما جاء في حديث الباب.

هنا مسألة، وهي أن من وُلِّيَ هذا الأمر من الحسبة وقَبَض على أحد متلبِّس بذنب في معصية توجِب حدًّا أو تعزيرًا، هل الأفضل له أن يَسْتُر فيدخل في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة»؟ أو الأفضل له أن يقدِّمه ليطهَّر من هذه المعصية التي ارتكبها؟ ينبغي أن نستصحب ما قاله أهل العلم في المسألة السابقة، وأنه يفرَّق بين من كان معروفًا بين الناس بالفجور، من يتظاهر به، وله سوابق، مثل هذا إذا سُتِر عليه متى يرتدع؟! بل لا بد أن يُطهَّر مثل هذا؛ ليرتدع بنفسه، ويرتدع غيره، تكون رَدْعًا له ولأمثاله، لكن إذا حصلت هفوة أو زلة من شخص مرة واحدة فسُتِر عليه فلا بأس، صرح بذلك الإمام مالك وغيره، لا شك أن من بارز بالمعاصي، وأعلن الفجور، وتكرر منه مرارًا ولم يرعوِ ولم ينزجر لا بد أن يوقف عند حدِّه، لا بد أن يُرفَع إلى الجهات ليُؤطَر على الحق مثل هذا، ولا ينبغي أن يُستَر عليه؛ لأن مثل هذا إشاعة للفاحشة، وتوسيع لدائرتها، كل من قُبِض عليه في جناية يُستَر عليه هذا ليس بصحيح، إذًا ما الفائدة من شرعية الحدود؟! لماذا شرعت الحدود؟ شُرِعَت لردع هؤلاء الجناة والمخالفين، فمثل هؤلاء لا بد أن تقام عليهم الحدود، ولا بد أن يطهروا، ويطهر المجتمع من أمثالهم، لكن إذا كان الشخص حصلت منه هفوة أو زلة وليست من عادته، فسُتر عليه دخل الساتر في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة» والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.

مستمعي الكرام، انتهت حلقة هذا الأسبوع من برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح، حتى نلقاكم بإذنه تعالى في حلقة الأسبوع القادم وأنتم على خير، نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.