كتاب الحدود من المحرر في الحديث - 02
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف –رحمه الله تعالى- في كتاب الحدود في باب حد الزنا:
"وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنه سمع عبد الله بن عباسٍ يقول: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو جالسٌ على منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله قد بعث محمدًا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أُنزل الله عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها، فرجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورجمنا بعده".
الرَّجم للزاني المُحصَن الذي وطِئ في نكاحٍ صحيح، وكذلك الزانية إذا كانت قد وُطِئت بنكاحٍ صحيح، وهما من الأحرار المكلفين حدهما الرَّجم بالحجارة، حتى يموتا، وتقدَّم في حديث ماعز أن النَّبي –عليه الصلاة والسلام- أمر برجمه فرُجِم، وفي قصة العسيف أمر بالمرأة فرُجِمت.
الرَّجم متفقٌ عليه ومجمعٌ عليه بين جميع علماء الإسلام، ولم يُخالف فيه إلا بعض المبتدعة من الخوارج، الذين لا يرون العمل إلا بما في كتاب الله، فحينما قالوا: بيننا وبينكم كتاب الله، إن الحكم إلا الله، ولا حكم إلا حكم الله، قال عليٌّ –رضي الله عنه-: كلمة حقٍّ أُريد بها باطل.
والسُّنَّة كالقرآن، إلا أن القرآن كلام الله بلفظه ومعناه، والسُّنَّة مما أُوحي إلى محمَّدٍ –عليه الصلاة والسلام- {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3، 4]، وإلا لم تكن بلفظها من عند الله –جلَّ وعلا-. المقصود أن السُّنَّة حُجَّة، وما جاء فيها حُجَّةٌ متفقٌ عليه بين جميع علماء الإسلام.
والرَّجم يزيد على ذلك أنه كان مما يُتلى في كتاب الله، وأنه في سورة النُّور، كما جاء في بعض الروايات، وأن عمر –رضي الله عنه- قال: "لولا أن يُقال: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي"، ولكن اتفق أهل العلم على أن آية الرَّجم (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيزٌ حكيم) قالوا: هذا مما نُسخ لفظه، وبقي حكمه، وهو نوعٌ من أنواع النسخ التي ذكرها أهل العلم، فآية الرَّجم كانت تُتلى وتُقرأ في كتاب الله، ونُسخ لفظها، وبقي حُكمها، وهذا مما أجمع عليه علماء الإسلام.
قال: "فكان مما أُنزل الله عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها" قول عمر -رضي الله تعالى عنه. "فرجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وتقدَّم أنه أمر برجم ماعز، وأمر برجم المرأة في قصة العَسيف، وأمر برجم الجُهنية، والغامِدية على ما سيأتي.
"فرجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجمنا بعده" فهذا مما يدل على أن الحكم مُحكم وليس بمنسوخ؛ لأن النسخ انتهى بوفاة النبي –عليه الصلاة والسلام-؛ لأن النسخ لا يكون إلا بنص، ولا نص بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام-، فقوله: "ورجمنا بعده" يعني: أن الحكم باقٍ إلى قيام الساعة.
"فأخشى إن طال بالناس زمانٌ أن يقول قائل: ما نجد الرَّجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضةٍ أنزلها الله، وإن الرَّجم في كتاب الله حقٌّ على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة" يعني: وُجِدت البينة بشهادة أربعة عدولٍ ثقات، يشهدون بأن فلانًا زنا بفلانة، لا يشكُّون ولا يتمارون في ذلك، ويصفون الزنا، بعض الناس قد يرى رجلٌ على امرأةٍ، فيشهد بذلك ولا يثبت بذلك الشهادة، وإنما لابد أن يكون يراه يُجامعها كما يُجامع الرجل زوجته، ولابد أن يكونوا أربعة، وهذا كله احتياط لأعراض المسلمين وحقوقهم؛ لأن الرَّجم ليس بالسهل، والجلد كذلك ليس بالسهل، فإذا نقصوا عن الأربعة ولو كانوا ثقات ثلاثة ثقات ورأوه بأعينهم فإن الحدّ لا يثبت بذلك، بل يُوصف هؤلاء الثلاثة بأنهم عند الله هو الكاذبون، إذا ما تمت البينة الأربعة، ومع ذلك يُجلدون حدّ القذف.
كل ذلك من باب الاحتياط للمسلمين؛ لأنه يتناول العرض، كما يتناول الأذى من جَلدٍ ورجم، فهذا يحتاج إلى بينةٍ تشهد عليهما بمثل الشمس، لا يتمارون ولا يترددون، والأصل براءة ذمة المسلم مما يُقذف به أو يُقال عنه، حتى يثبت ذلك بإقراره أربع مرات، أو يشهد عليه أربعة.
"وإن الرَّجم في كتاب الله حقٌّ على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبَّل" يعني: الحمل، إذا كانت امرأة ليست بذات زوج، فحملت، مِن أين يأتي مثل هذا الحمل؟ إلا من زنا، إلا إذا ادعت شبهة فإنه يُدرأ عنها الحد؛ لأن الفقهاء يقولون: يمكن أن تحمل المرأة باستعمالها لمناديل استُعملت في تنظيف محل الجماع أو ما أشبه ذلك، قالوا: قد تحمل، وأيضًا إذا وُطِئت بشبهة، وادعت هذه الشبهة، وظنت أنه زوجها، أو أنه ظن أنها هي زوجته فوطأها في مكانٍ لا يتبين فيه الأمر، فإن هذا يُدرأ به الحد، ويثبت فيه الولد، ولا يكون زنا؛ لأن الحدود تُدرأ بالشبهات.
"أو كان الحبَّل" ومالك يُثبت الحدّ بالحمل –رحمه الله-، وجمهور أهل العلم يُشددون في هذا ويقولون: لا يثبت الحدّ إلا بالبينة أو الاعتراف، لكن عمر –رضي الله عنه- لمَّا قال هذا الكلام بمحضرٍ من الصحابة ولا عارضوه، قالوا: لم يوجد له معارض فكان إجماعًا بينهم، وهذا يقوله كثيرٌ من أهل العلم في كثيرٍ من القضايا، لكن هل مثل هذا يُعد إجماعًا؟ الإجماع السكوتي عند أهل العلم ما هو مثل الإجماع اللفظي الذي يتفقون فيه على قضيةٍ واحدة يتفق فيه جميع علماء العصر المجتهدين إذا أجمعوا على ذلك لاشك أنه حُجَّة، لكن إذا تكلم واحد وسكت الباقون بعضهم قد يسكت للمصلحة الراجحة أو كذا، فإن مثل هذا وإن كان يُعطي قوة، لكنه مع ذلك لا يثبت به الإجماع.
وبعض أهل العلم يستدلون بمثل هذا لم يكن له معارض فكان إجماعًا، لكن فيه ما فيه بلا شك، مع أن كثيرًا من الإجماعات التي يدعيها بعض من ينقل الإجماع كالمنذري، والنووي، وابن عبد البَر ومجموعة ذكروا الإجماعات في مسائل اختُلف فيها، بل قد يكون بعضهم ذكر الخلاف بنفسه؛ ولذا قال الشوكاني: ودعاوى الإجماع التي يذكرها بعضهم تجعل طالب العلم لا يهاب الإجماع.
وعل كل حال إذا قيل مثل هذا الكلام لا شك أن الهيبة في قلب طالب العلم لابد أن تكون موجودة، وإن لم يكن حُجَّة قاطعة، لكن مع ذلك لو لم يكن إلا قول جمهور الأمة فإنه له هيبة.
وعلى كل حال المسألة مختلفٌ فيها، الجمهور لا يُثبتون الحدّ بالحمل، ومالك استدلالاً بقول عمر –رضي الله تعالى عنه- يقول: يثبت به الحد، وكلهم يجتمعون على أن المرأة إذا ادعت شبهة فإنها يُدرأ عنها الحد.
"أو الاعتراف" بأنه زنا أو زنت، والاعتراف لابد أن يكون أربع مرات، كما تقدَّم في حديث ماعز، فإذا كان كذلك فإنه يثبت به الحدّ، ويُجلد إن كان بكرًا، ويُرجم إن كان ثيبًا.
ثم قال: "وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «إِذا زنت أمة أحدكُم، فَتبين زنَاهَا، فليجلدها الحدّ وَلَا يثرِّب عَلَيْهَا، ثم إن زنت الثَّانية فليجلدها الحدّ ولا يُثَرّب عليها، ثمَّ إِن زنت الثَّالِثَة، فَتبين زنَاهَا، فليبعها وَلَو بِحَبلٍ من شعر» وَفِي رِوَايَة: «ثمَّ ليبعها فِي الرَّابِعَة» متفقٌ عليهما، واللفظ لمسلم".
"وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «إِذا زنت أمة أحدكُم، فَتبين زنَاهَا، فليجلدها الحدّ وَلَا يثرِّب عَلَيْهَا»" «إِذا زنت أمة أحدكُم» السيد يُقيم الحدّ على المملوك، وتقدَّم في حديث الأعمى أنه قتل أمته أم ولده التي تسب النَّبي –عليه الصلاة والسلام- وإلا فالأصل أن الحدود للسلطان، ولا يجوز لأحدٍ أن يفتات على السلطان ويُقيم الحدّ على أحد كائنًا من كان ولو كان على ولده أو زوجته لا يجوز له ذلك. وبعض الناس من شدة الغيرة قد يتصرف في وقتٍ يرى ولده أو ابنته على فاحشة أو شيءٍ من هذا ثُم يقتله، هذا لا يجوز بحال، القتل أعظم من الزنا، والزنا من عظائم الأمور، ولا شك أنه مُحرَّم في جميع الشرائع، لكنه من حق السلطان، وفي الحديث: الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله، فتقتلونه؟ قال: «نعم» وإلا صارت الأمور فوضى، كل من قتل إنسانًا قال: وجدته مع زوجتي، وجده مع زوجته، أو وجده مع ابنته، أو ما أشبه ذلك تكون الأمور فوضى، والجهة مُحددة، والمرجعية معروفة في الإسلام للسلطان ومن ينوب عنه.
لا يقول أي قائل: إنه وجد أو أنه فعل ما فعل وقتل، لا يجوز له ذلك، وإلا فما فائدة إقامة السلطان؟ ما فائدة الولاية؟ إلا لإقامة الحدود، وإقامة الشعائر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إلى غير ذلك مما هو منوطٌ بالسلطان.
«إِذا زنت أمة أحدكُم» الأمة الرقيق خاصة، أما الأحرار فلا، فمرجعهم إلى السلطان، إلى ولي الأمر الذي هو مكلَّفٌ بذلك من قِبل الله -جلَّ وعلا-.
«إِذا زنت أمة أحدكُم، فَتبين زنَاهَا» ما هو مجرد شك، لابد من اليقين. «فليجلدها الحد» وحدُّها نصف ما على الحرَّة من العذاب، يعني: خمسون جلدة، حدُّها خمسون جلدة؛ لأن الحرَّة مائة في حال البكر، والرَّجم في حال الثيبوبَة، ولكن الرَّجم لا يتبعض، فلا يُقال: يُرجم نصفها، لا، تجلد خمسين جلدة؛ لأن الجلد هو الذي يتبعض.
«فليجلدها الحدّ، وَلَا يثرِّب عَلَيْهَا» لا يُعنفها، ولا يُعيرها يا فاعلة، يا تاركة، يا زانية، يا كذا وكذا، لا، لا يجوز له ذلك؛ لأن هذا تعزيرٌ زائد على ما فرضه الله –جلَّ وعلا- وزيادةٌ فيما حدَّه الشارع، فلا يجوز التعنيف؛ لأنه زيادة على الحد، والحدّ قد حصل، ولا بد أن يجلدها «فليجلدها الحدّ وَلَا يثرِّب عَلَيْهَا» لا يُعنفها، ولا يُعيرها.
«ثم إن زنت الثَّانية» ولابد أن تكون مثل الأولى بعد التبين والتحقق والتأكد. «فليجلدها الحدّ، ولا يُثَرّب عليها» كما تقدَّم، «ثمَّ إِن زنت الثَّالِثَة، فَتبين زنَاهَا، فليبعها وَلَو بِحَبلٍ من شعر» قال بإحدى رواياته: «ولو بضفير» الضفير: الحبل المجدول المضفور كقرون للمرأة، يعني: من شعر يُضفر؛ ليكون حبلاً قويًّا. «فليبعها وَلَو بِحَبلٍ من شعر»، "وَفِي رِوَايَةٍ: «ثمَّ ليبعها فِي الرَّابِعَة»" يعني: هل الأمر بالبيع بعد الثالثة أو بعد الرابعة؟ روايتان، وكلاهما صحيح، الأولى متفقٌ عليها، والثانية كذلك الاختلاف من الرواة هل قال: «فليبعها» بعد الثالثة أو بعد الرابعة؟
وعلى كل حال الأمر ببيعها «فليبعها وَلَو بِحَبلٍ من شعر» الأمر الأصل فيه الوجوب، وقال بعضهم، بل كثيرٌ من أهل العلم يرون أنه أمر استحباب.
البيع هل يحل الإشكال؟ إذا كانت جارية استمرأت هذا العمل هذه الفاحشة، فكونها تنتقل من بيتٍ إلى آخر هو من جهة ألا يُتهم الرجل المالك بالدياثة؛ لأن الأصل أن الأمة تُوطأ، يطؤها بعد استبرائها، فإذا زنت ورجع إليها ووطِئها بعد الاستبراء، ثم زنت، ثم تكرر منها مرارًا كأنه إقرارٌ للخبث، وهذه هي الدياثة، فتُباع ولو بثمنٍ يسير تافه حبل بعدما كانت قيمتها مرتفعة نزلت قيمتها إلى هذا القدر التافه.
وهذا يُبين أن الاستقامة والالتزام بشرع الله مصدر العز، وبه تتبين قيمة المسلم، وإذا أخلَّ بذلك بحسب ما يرتكبه تنزل قيمته إلى أن يصل بيعه بحبل، واليد تُفدى بنصف الدية بخمسمائة دينار تُفدى، والسارق تُقطع يده بربع دينار أو ثلاثة دراهم، ما الذي أنزل اليد هذه من خمسمائة دينار إلى ربع دينار؟ الخيانة، اعترض بعضهم:
يدٌ بِخَمْسِ مِئِين عَسجدٍ فُديت |
| ما بالها تُقطع في ربع دينارِ |
فجاء الرد:
عزّ الأمانة أغلاها وأرخصها |
| ذُلّ الخيانة فافهم حكمةَ الباري |
هذه تُباع بحبل بعد أن كانت بقيم مرتفعة –ومنافعها- يعني الأمة في البيوت منفعتها عظيمة، لكن إذا خانت هانت خلاص ما تساوي شيئًا.
بعض العلماء يقول: هل يُخبَر المشتري بأنها زانية، وتكرر زناها أو لا يُخبَر؟ قال بعضهم: هذا من التثريب، وبيان العيب تثريب إذا قيل: إنها زانية هذا قدر زائد على الحد، فيكون تثريبًا عليها.
وبعضهم يقول: لابد من إخبار المشتري؛ لأن عدم إخباره غشٌّ له، وفي الحديث إشارة إلى ذلك، وهو أنها لن تصل قيمتها إلى الحبل إلا إذا أُخبِر بالعيب، إذا لم يُخبَر بالعيب سوف تُباع بقيمةٍ مرتفعة، فقوله: «فليبعها وَلَو بِحَبلٍ من شعر» دليلٌ على أنه يُخبِر بالعيب أولاً: نصحًا للمشتري، والثاني: بإشارة الحديث أنه لن تصل قيمتها إلى هذا الحدّ التافه إلا إذا أُخبِر المشتري أنها زانية.
ويتكلم أهل العلم والشُّراح على الحرة إذا زنت ذات الزوج لا شك أن الأمر في هذا عظيم، وحدُّها أعظم، وهو الرَّجم؛ لأنها مُحصنة وحُرة، فهل يلزم الزوج مُفارقتها؟ قالوا: من الحديث «الأمة تُوطأ، والحرة تُوطأ» إذًا لا يلزم المفارقة تُستَبرأ بحيضة، وإذا تابت وظهرت توبتها «فَالتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ، كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ».
دَعونا من كون المسلم مجبولًا على الغيرة على المحارم، هذا الأصل فيه -هذه مسألة ثانية-، لكن الكلام في الحكم.. في الحكم الشرعي هل يلزم مفارقتها بمجرد الزنا، قالوا: من هذا الحديث يُؤخذ أنه لا يلزم مفارقتها؛ لأن الأمة تُوطأ والحرة تُوطأ، والعِرض واحد.
لكن لا شك أن زنا الحرة أعظم من زنا الأمة، فقالوا أخذًا من هذا الحديث أنه لا يُفارقها بمجرد الزنا، لكن يلزمه استبراؤها، وإذا تكرر منها ذلك كما قيل في الأمة يُقال في الحرة، ومن باب أولى قد يُوصف بالدياثة، والدياثة أمرها عظيم، جاء فيها اللعن والوعيد الشديد.
قلنا في مسألة الأمة: إذا أراد بيعها ليُخبِر أو لا يُخبِر؟ من أهل العلم من يقول: يُخبِر، ودلالة الحديث قد يؤخذ منها أنه يُخبِر؛ لأنها لن تصل قيمتها إلى هذا المبلغ التافه إلا إذا أُخبِر المشتري، ومنهم من يقول: لا يُخبِر؛ لأن الإخبار تعنيف وتثريب، وزيادة على الحد، وجاء الحديث «فليجلدها الحدّ، وَلَا يثرِّب عَلَيْهَا»، وعلى كل حال الستر مطلوب، ولكن هل هذا من الغش من يبيع أمة وهي متصفة بالزنا المُتكرر ويسكت؟ ويُسأل عن الحرة شخص عنده بنت حصل منها أن قارفت شيئًا من هذه القاذورات، وحصل منها زنا مثلاً وهي بنت تُخطَب، هل يُخبَر الخاطب أم لا يُخبَر؟ هل يُخبَر من باب النصيحة أو لا يُخبَر؛ لأن الأمر شنيع بحيث لو عَلِم فيما بعد ساءت أحواله، وضاقت به الدنيا بما رحُبت، فهل يُقال: إنه من باب النصيحة أن يُخبَر؟
في الموطأ سأل رجلٌ عمر بن الخطاب، فقال: إن أختي قارفت، وهي الآن مخطوبة أأُخبِرالخاطب؟ قال: "لو أخبرته لأوجعتك ضربًا". وهذا حاسم من كلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وإلا فالأمر صعب «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» يتصور الإنسان –لا سمح الله، نعوذ بالله من أن نُبتلى بمثل هذه الأمور- يتصور الإنسان أنه خطب واحدة وزُوِّج بزانية ولا أُخبِر بذلك ثُم عَلِم فيما بعد، الأمر عظيم، يعني إذا كانت السِّلع تُرد بالعيوب فهذا من أعظم العيوب، لكن الذي يُسهل الأمر أن «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ، كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ».
ووقعت حادثة وسُئل عنها قال السائل –السائل امرأة- قالت: إنها تزوجت، ثُم طُلِّقت، فصارت ثيبًا تلعب وحصل منها أكثر من مرة، ثُم تزوجت بشخصٍ حسُنت أحوالها معه ورغبت فيه، ورغب فيها ومشت أمورهم، فأنبها ضميرها تقول: كيف أغش هذا الرجل الصالح؟ كيف لا أُخبره؟ لكن الأثر عظيم، ليس بالسهل، فصارت تُلمِّح ما تُصرِّح من وراء الوراء، فقال: إن كنتِ قد قارفتِ فأنتِ طالق، فهي تسأل عن هذا الطلاق، هل يقع أو لا يقع؟ عُلِّق على شرطٍ موجود.
وعلى كل حال ما هو بهذا أصل مسألتنا، الأصل أن الستر مطلوب «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»، والمسألة عظيمة في حق الخاطب أو المشتري بالنسبة للأمة، فالمسألة اجتهادية، ولكن قول عمر يقطع مثل هذا التردد، وتبقى الأمور على الستر، ونسأل الله أن يستر على المسلمين، وأن يقيهم هذه الشرور، وهذه القاذورات، وأن يكف بأس الذين كفروا وأدخلوا علينا هذه الأجهزة التي صارت سببًا في تساهل كثيرٍ من الناس في هذا الشأن.
"متفقٌ عليهما، واللفظ لمسلم".
"وعن أبي عبد الرحمن قال: خطب عليٌّ -رضي الله تعالى- عنه فقال: يا أيها الناس: أقيموا على أرقائكم الحدّ من أحصن منهم، ومن لم يحصن، فإن أمةً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثة عهدٍ بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أَحْسَنت»، وَفِي لفظٍ: «اتركها حَتَّى تماثل»".
"وعن أبي عبد الرحمن قال: خطب عليٌّ -رضي الله تعالى- عنه فقال: يا أيها الناس: أقيموا على أرقائكم الحد" السيد يُقيم على رقيقه الحدّ سواءً كان عبدًا أو أمة، وهذا تابع لِما تقدَّم من إقامة الحدّ من السيد على الرقيق بدأً بقصة الأعمى، ثُم حديث «إِذا زنت أمة أحدكُم»، ثُم هذا الحديث حديث علي "أقيموا على أرقائكم الحدّ من أحصن منهم، ومن لم يحصن" يُقام الحدّ عليه؛ لأن الرقيق حدُّه لا يختلف؛ لأن عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، والذي على المحصنات مائة جلدة إذًا الحدّ خمسون جلدة محصنًا كان أو غير محصن.
"فإن أمةً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثة عهدٍ بنفاس" المقطوع به أن النَّبي –عليه الصلاة والسلام- قد زوج هذه الأمة من عبد، ولا يُتصور أنه يطؤها –عليه الصلاة والسلام- ثُم تزني؛ لأن عِرضه محفوظ بحفظ الله –جلَّ وعلا-، والله– جلَّ وعلا- يقول: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] مثل هذه لا تكون تحته –عليه الصلاة والسلام- تحت مِلكه، لكن لا يلزم من ذلك أن يكون ممن يطؤها، بل تكون مُزوَّجة؛ لأنها "حديثة عهدٍ بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها"؛ لأن النُّفساء بعد خروج الدم بكثرة تضعف، فإذا جُلِدت قد يكون عليها خطر "فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أَحْسَنت»، وَفِي لفظٍ: «اتركها حَتَّى تماثل»" يعني: تعود صحتها إليها بعد أن يقف خروج الدم وتخرج من النِّفاس فتستعيد قوتها.
"وعن عمران بن حصين –رضي الله عنه- أن امرأةً من جهينة أتت نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وهي حُبلى من الزنا، قالت: يا نبي الله أصبت حدًّا فأقمه علي؟ فدعا نبي الله- صلى الله عليه وسلم- وليها فقال: «أحسن إِلَيْهَا، فَإِذا وضعت فائتني بهَا» ففعل، فأمر بها نبي الله -صلى الله عليه وسلم-فشُكت عليها ثيابها، ثُم أمر بها فرُجِمت، ثُم صلى عليها، فقال له عمر -رضي الله عنه-: تُصلي عليها يا نبي الله، وقد زنت؟! فقال له: «لقد تابت تَوْبَة لَو قسمت بَين سبعين من أهل الْمَدِينَة لوسعتهم، وَهل وجدت تَوْبَةً أفضل من أَن جَادَتْ بِنَفسِهَا لله؟» رواهما مسلم".
"أن امرأةً من جهينة أتت نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وهي حُبلى من الزنا" نسأل الله العافية "قالت: يا نبي الله أصبت حدًّا فأقمه علي؟ فدعا نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وليها فقال: «أحسن إِلَيْهَا»" هي اعترفت، وإذا جمعنا النصوص كلها وضممنا بعضها إلى بعض قلنا: إنها اعترفت الاعتراف المطلوب في هذا الباب، كما حصل في حديث جابر.
«أحسن إِلَيْهَا» لأنه سوف يُقام عليها الحدّ، فلا يجتمع إقامة الحدّ مع الإساءة، الحدّ لو بلغ السلطان، والحدود إذا بلغت السلطان كما في الخبر، فإن عفا فلا عفا الله عنه، فلا يجوز العفو عن الحدّ بعد أن بلغ السلطان.
"فقال: «أحسن إِلَيْهَا، فَإِذا وضعت فائتني بهَا» ففعل" وليها "فأمر بها نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فشُكت عليها ثيابها" يعني: شُدت؛ لئلا تنكشف إذا أُقيم عليها الحدّ تحركت وانكشفت ثيابها، والمرأة عورة، فتُشد عليها ثيابها.
"ثُم أمر بها فرُجِمت، ثُم صلى عليها" والمرأة كما يقول عامة أهل العلم: تُرجَم قاعدة، والرجل قائمًا، ومنهم من يقول: كلهم يُرجمون قعودًا.
"فرُجِمت، ثُم صَلَّى عليها" الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وفي روايةٍ "ثُم صُلِّي عليها".
"ثُم صَلَّى عليها" والذي يُرجح هذه الرواية "صَلَّى عليها" قول عمر –رضي الله عنه- "فقال له عمر: تُصلي عليها يا نبي الله، وقد زنت؟!" استغرب عمر زانية تُرجَم ويُصلَّى عليها لاسيما الإمام وعلية القوم هذه يعني تقوية لها، لكنها تابت جواب النَّبي –عليه الصلاة والسلام- "وقد زنت؟! فقال له: «لقد تابت تَوْبَة لَو قسمت بَين سبعين من أهل الْمَدِينَة لوسعتهم»" هل هناك أعظم من القتل، وقدمت نفسها للقتل، فهذا دليلٌ قاطعٌ على صدق توبتها "«لقد تابت تَوْبَة لَو قسمت بَين سبعين من أهل الْمَدِينَة لوسعتهم، وَهل وجدت تَوْبَةً أفضل من أَن جَادَتْ بِنَفسِهَا لله؟» رواهما مسلم".
وفي بعض الأحاديث «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ».
هذه امرأةٌ من جهينة، وفي معنى القصة وقريبٌ منها حتى في اللفظ أن المرأة غامدية هذه قصة الجُهنية، وفي معناها وقريبٌ منها حتى بالألفاظ قصة الغامدية، مما جعل بعض أهل العلم يقول: هما قصتان هذه امرأة وهذه امرأة، وبعضهم يقول: هي قصةٌ واحدة. لكن هذه جُهنية وهذه غامدية؟ فقالوا: غامد بطنٌ من جهينة هكذا قال بعضهم: غامد بطنٌ من جهينة، لماذا؟ من أجل أن تكون القصة واحدة؛ لأن الألفاظ قريبة من بعض.
"عمران بن حصين" راوي الحديث من خيار الصحابة وأجلائهم معروف، ولَمَّا مرض كانت الملائكة تُسلِّم عليه عيانًا مباشرةً يدخلون يُسلمون عليه، فاكتوى –رضي الله عنه- فانقطع التسليم، ثُم ندم فرجع التسليم، هذه فائدة متعلقة بالراوي.
"وعن عبد الله بن عمر قال: إن اليهود جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأةً زنيا، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة فِي شَأْن الرَّجْم؟»" كأنه تبين له –عليه الصلاة والسلام- أنهما مُحصنان. "فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة فِي شَأْن الرَّجْم؟»" وهو مأمور –عليه الصلاة والسلام- أن يحكم بما أنزل الله، فلماذا أحالهم على كتابهم؟ لعلمه– عليه الصلاة والسلام- أن ما في كتابهم مطابق لِما عندنا، ففيه الرَّجم.
"فقالوا: نفضحهم ويجلدون" بعض الراويات "أنهم تُسود وجوههم ويُطاف بهم" هذه الفضيحة عندهم. "نفضحهم ويجلدون، قال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم. إن فيها الرجم" يعني: في التوراة.
"فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم" وهو رجل يُقال له: ابن صوريا.
"فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها" هذا شأنهم وطبعهم في التحريف بالقول والفعل.
"فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرُجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة" يعني: الحب الذي بينهما جعله يصل إلى هذا الحدّ يُرجَم ويقيها بنفسه من الحجارة. "فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة".
المقصود أن أهل الكتاب إذا كانوا أهل ذمة فإنهم تُقام عليهم الحدود التي هي مُحرَّمةٌ عليهم؛ ولذلك ما أقام الرسول –عليه الصلاة والسلام- الحدّ إلا بعد أن تأكد من وجود الرَّجم في التوراة. "فرُجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة. متفقٌ عليه، واللفظ للبخاري".
"وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: رجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً من أسلم" وهو ماعز بن مالك الأسلمي، "ورجلاً من اليهود" في القصة السابقة القريبة "وامرأةً" الجُهنية، وامرأةً من اليهود أيضًا، والقصص أكثر من هذا، المجموع قالوا: بلغ خمس قصص "رواه مسلم".
"وعن ابن إسحاق، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف، عن سعيد بن سعد بن عبادة، قال: كان بين أبياتنا رويجلٌ ضعيف" "رويجل" تصغير رجل. الحديث من رواية ابن إسحاق، وابن إسحاق القول الوسط فيه من أقوال أهل العلم: أنه إذا صرَّح بالتحديث فحديثه من قبيل الحسن، والحسن يُحتج به.
"كان بين أبياتنا رويجلٌ ضعيف مخدجٌ" يعني: ناقص الخِلقة، لكن عقله موجود.
"فلم يرع الحي إلا وهو على أمةٍ من إمائهم" يعني: ما كانوا يتوقعون أن هذا يحصل منه مثل هذا العمل، فلمَّا أُخبِروا راعهم الأمر، يعني قال الناس: هذا حصل من هذا الضعيف، فكيف بالأقوياء الأشداء؟! لكن المسألة في عهد الصحابة -رضوان الله عليهم-.
"فلم يرع الحي إلا وهو على أمةٍ من إمائهم" استغربوا استغرابًا شديدًا. "إلا وهو على أمةٍ من إمائهم يخبث بها" يعني: يزني بها، والزنا خُبث، والزاني خبيث، والزانية خبيثة.
"يخبث بها، قال: فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان ذلك الرجل مسلمًا" الضعيف الرويجل مسلم. "فقال: «اضربوهُ حَدَّه» يعني: مائة جلدة. "قالوا يا رسول الله: إنه أضعف مما تحسب لو ضربناه مائةً قد قتلناه" طيب لو كان مُحصنًا يُرجم أم ما يُرجَم؟ رويجل ضعيف لو جُلِد مات، فكيف بالرَّجم؟! الرَّجم مآله إلى الموت ولو كان من أشد الناس وأقواهم.
"قالوا يا رسول الله: إنه أضعف مما تحسب لو ضربناه مائةً قد قتلناه، فقال: «خذوا له عثكالاً فيه مائة شمراخ» العثكال: القنو من النخل إذا كان ليس عليه تمر، «فيه مائة شمراخ» هل يلزم عدها لابد أن تكون مائة ولو صارت خمسين نُحضر اثنين؟ يقول: «فيه مائة شمراخ» الظاهر نعم. «ثُم اضْرِبُوهُ ضَرْبَة وَاحِدَة» هل يلزم أن تُباشر المائة الشمراخ بدنه أو يُضرب هكذا وكيفما اتفق؟ المائة لابد أن تكون موجودة؛ لأنه وصف لهذا العثكال أنه فيه مائة شمراخ، والمائة الشمراخ تقوم مقام المائة جلدة.
"«ثُم اضْرِبُوهُ ضَرْبَة وَاحِدَة» قال: فَفَعَلُوا بِهِ" مثل هذا الحيلة التي تقي هذا الرويجل من الموت يُتوصل بها إلى إقامة الحدّ على وجهٍ لا ضرر فيه يزيد على الحد؛ لأن حدَّه الجلد، فلو ضُرِب مائة قُتِل.
"رواه أحمد، وابن ماجه والنسائي، والطبراني وإسناده جيد، لكن فيه اختلاف" من حيث الوصل والإرسال رُويَّ موصولاً "وقد رُويَّ مرسلاً"، والمتأخرون على أن الحديث إذا رُويَّ موصولاً ورُويَّ مرسلاً فالحكم للوصل عند المتأخرين، والمتقدمون يحكمون لِما تؤيده القرائن، وهنا قلنا: إنه من رواية ابن إسحاق، وكلام العلماء في ابن إسحاق طويل، لكن القول الوسط فيه أنه إذا صرَّح بالتحديث فإن حديثه من قبيل الحسن.
"وعن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «من وجدتموه وَقع عَلَى بَهِيمَة فَاقْتُلُوهُ، واقتلوا الْبَهِيمَة، وَمن وجدتموه يعْمل عمل قوم لوط فَاقْتُلُوا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ»" هذا الحديث مروي عن ابن عباس، وجاء مُفرقًا الجملة الأولى في حديث، والجملة الثانية في حديث، وحكم العلماء على الجملة الأولى بحكم، وعلى الجملة الثانية بحكم. «من وجدتموه وَقع عَلَى بَهِيمَة فَاقْتُلُوهُ، واقتلوا الْبَهِيمَة، وَمن وجدتموه يعْمل عمل قوم لوط فَاقْتُلُوا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ»
«من وجدتموه وَقع عَلَى بَهِيمَة» لا شك أن هذه فاحشة؛ لأنه تعدٍّ على ما أحل الله «فَاقْتُلُوهُ» بمقتضى هذا الحديث أنه يُقتل، ولكن الجمهور على عدم ثبوت هذا الحديث، ويُعزَّر ولا يصل إلى حد التعزير، وأما قتل البهيمة، فقال به بعضهم؛ لئلا يقول من يراها: هذه التي حصل فيها ما حصل، فتُذكِّر الناس بالفاحشة، وبعضهم يقول: إن لحمها يتأثر بما حصل لها فلا تؤكل، فلا يجوز قتلها وحينئذٍ تُتلف.
وعمِل بعض أهل العلم بالحديث بشقيه فقال: يُقتل من وقع على البهيمة، ويُقتل من عمِل عمل قوم لوط، وأما الجملة الثانية «وَمن وجدتموه يعْمل عمل قوم لوط فَاقْتُلُوا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ» حصل القتل للوطي من يعمل عمل قوم لوط في عهد أبي بكر، وفي عهد علي، والصحابة كأنهم أو جمهورهم يقولون: بأنه يُقتل، لكن ما وسيلة القتل؟ منهم من قال: يُحرَّق بالنار، ومنهم من يقول: يُلقى من مكانٍ شاهق ويُتبع بالحجارة، ومنهم من يقول: يُقتل بالسيف على أي حال، وعند الشافعية والحنابلة أن حدَّه حدّ من عمِل عمل قوم لوط حدُّ الزَّاني، وفي كتب الحنابلة وحدُّ لوطيٍ كزانٍ بمعنى أنه: يُجلد إذا كان بكرًا، ويُرجَم إذا كان ثيبًا، ولا شك أن هذه من أعظم الفواحش التي عُذِبت بها أمةٌ كاملة بأبشع أنواع العذاب «فَاقْتُلُوا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ»
"رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وأبو يعلى الموصلي، وإسناده صحيح" هذا حكم المؤلف أن إسناده صحيح، لكن ما يلزم من صحة السند صحة المتن؛ لاشتماله على عِلة.
أولاً: قوله: "إسناده صحيح" وفيه ابن إسحاق تَجوُّز؛ لأن ابن إسحاق ليس من رجال الصحيح. "فإن (عكرمة) روى له البخاري" وفي البخاري احتجاجًا عكرمة مع ابن مرزوقٍ وغير ترجمة، يعني: من الرواة المتكلَّم فيهم، فإن عكرمة تكلَّم فيه أهل العلم، لكنه روى له البخاري.
"وعمرو" يعني: ابن أبي عمرو "من رجال الصحيحين، وقد أُعل بما فيه نظر" الإعلال من قِبل أهل العلم الذين قالوا: إن القتل أعظم من هذه الجريمة، لكن لو ثبت الخبر فما لأحدٍ كلام، ليس لأحدٍ كلام مع ثبوت الخبر، لكن الحديث من رواية ابن إسحاق، وكلام أهل العلم في ابن إسحاق طويل، قال الإمام مالك في ابن إسحاق: "دجالٌ من الدجاجلة" لكن لم يُوافَق الإمام مالك على هذا الحكم القاسي عليه، وإنما توسطوا في أمره؛ لأن منهم من وثقه مطلقًا، ومنهم من ضعَّفه، فتوسطوا في أمره، وقالوا: إن حديثه من قبيل الحسن إذا صرَّح بالتحديث؛ لأنه موصوف بالتدليس.
قال."وروى النسائي أوله" يعني: «من وجدتموه وَقع عَلَى بَهِيمَة» وروى "ابن ماجه آخره" «وَمن وجدتموه يعْمل عمل قوم لوط...» إلى آخره.
طالب.........
لا، ابن إسحاق في الحديث الذي قبله.
طالب.........
ابن إسحاق في الحديث الذي قبله ما هو في هذا الحديث.
طالب.........
لا، هو الإعلال إعلالٌ للمتن لا إعلالٌ للسند؛ ولذا اختلف الصحابة في حكم من يعمل عمل قوم لوط، ولكن أمره شنيع، ومجرد الاستبشاع لا ينفي الحكم، والموازنة بين ما جاء في النص مع حقيقة الأمر والواقع غير واردة، فإذا صح الخبر فلا كلام لأحد، ولكن الكلام بالنسبة للحديث أُعِل متنه، يقول المؤلف: "بما فيه نظر" لكن مَن أعله؟ من الأئمة الكبار أعلوا متنه، وإعلاله بابن إسحاق وَهمٌ مني، فإن ابن إسحاق راوٍ للحديث الذي قبله، فالحديث عن عمرو بن أبي عمرو، وهو من رجال الصحيحين، عن عكرمة، وهو من رجال البخاري، وفيه كلام لأهل العلم، عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهم-.
السند ظاهره الصحة، ولكن مع ذلك وُجِد فيه عِلة، والعلماء يُعلون بما لا يظهر لآحاد الناس، الأئمة الحُفاظ الكبار قد يُعلون حديثًا -وهو الأصل أن المُعل يكون ظاهره الصحة- بأمرٍ خفيٍّ دقيقٍ غامض يخفى على كثيرٍ من المتعلمين، وقد يُعله ولا يُبين العلة، وقد لا يستطيع بيان العلة، وسُئلوا: ما علته؟ قال: يكفي أن أقول لك: معلول، طيب نحتاج إلى دليل، قال: اذهب إلى فلان واسأله ماذا يقول لك؟ نفس الشيء يقول لك: معلول، وفلان يقول لك: معلول، فالأئمة الكبار لا يتفقون على مثل هذا من غير برهان، لكن العلل خفية غامضة قد لا يُستطاع التعبير عنها.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
"