شرح الموطأ - كتاب الجمعة (1)

نعم.

أحسن الله إليك

كتاب الجمعة

باب العمل في غسل يوم الجمعة

عن مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم كغسل الجنابة" عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أنه قال: دخل رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد يوم الجمعة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب، فقال عمر: أية ساعة هذه؟ فقال: يا أمير المؤمنين انقلبت من السوق فسمعت النداء، فما زدت على أن توضأت، فقال عمر: والوضوء أيضًا، وقد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بالغسل عن مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» عن مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل».

قال مالك رحمه الله: من اغتسل يوم الجمعة أول نهاره وهو يريد بذلك غسل الجمعة، فإن ذلك الغسل لا يجزئ عنه حتى يغتسل في رواحه، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل» قال مالك -رحمه الله- ومن اغتسل يوم الجمعة معجلاً أو مؤخرا وهو ينوي بذلك غسل الجمعة فأصابه ما ينقض وضوءه فليس عليه إلا الوضوء وغسله ذلك مجزئ عنه فليس عليه إلا الوضوء وغسله ذلك مجزئ عنه.

يقول رحمه الله تعالى: كتاب الجمعة، سبق الحديث عنها وعن ضبطها، وأن الأكثر على أنها بضم الميم جمُعة وجاء فتحة جمَعة كهمزة ولمزة، وجاء تسكينها وبها قرأ الأعمش الجمْعة، وجاء كسرها جمِعة، على كل الحال الأقوى من هذه الأوجه هو الضم.

باب العمل في غسل يوم الجمُعة وأنه كغسل الجنابة، يقول: حدثني يحيى عن مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي صالح ذكوان السمان عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجمعة» من اغتسل يوم الجمعة مَن للعموم يشمل الذكور والإناث والأحرار والعبيد «من اغتسل يوم الجمعة» يشمل بعمومه الذكور والإناث والأحرار والعبيد، لكن الجمُعة لا تلزم الإناث قولاً واحدًا والعبيد عند الأكثر، فإذا قلنا بلزوم الغسل عليهم وهم لا يريدون الحضور هذا جار على قول من يقول: إن الغسل ليوم الجمعة، أما من يقول: إن الغسل لصلاة الجمعة غير لازم فلا يدخلون هنا في النص، فيكون من العام الذي أريد به الخصوص، من العام الذي أريد به الخصوص «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة» أي كغسل الجنابة، يعني على هيئته وصفته كصفة غسل الجنابة وهيئته «ثم راح في الساعة الأولى» راح: الرواح يقابل الغدو، «غَدوة في سبيل الله أو روحة» ومقتضى ذلك أن يكون في أول النهار أو بعد الزوال، إذا قابلناه بالغدو تمسك الإمام مالك بهذا اللفظ بحقيقة الرواح، وأنه مقابل للغدو، وقرر أن الذهاب إلى الجمعة إنما يكون بعد الزوال، وهذه الساعات الخمسة المذكورة في هذا الحديث ساعات لطيفة تكون بعد الزوال، المقصود أن الوعد المذكور لمن جاء بعد الزوال عنده؛ لأنه تمسك بحقيقة الرواح وأنه مقابل للغدو جمع من أهل العلم أبو حنيفة والشافعي، يقولون: يبدأ الذهاب إلى صلاة الجمعة، يعني تبدأ هذه الساعات من طلوع الشمس وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وقال الشافعي: ولو بكّر إليها بعد الفجر وقبل طلوع الشمس لكان حسنًا، وعرفنا رأي الإمام مالك أن التهجير والرواح يكون بعد الزوال، وذكر الأثرم قيل لأحمد بن حنبل -كان مالك يقول: لا ينبغي التهجير يوم الجمعة باكرًا- قال: هذا خلاف حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان ابن حبيب وهو من المالكية ينكر قول الإمام مالك هذا ويميل إلى القول الأول، ويقول: إنه مصادم للنصوص مصادم الحديث، يعني مخالف مخالفة ظاهرة للحديث، وهذا تشديد من ابن حبيب على إمامه وإن كان الراجح هو قول الجمهور، وهو أن الساعات المذكورة في هذا الحديث تبدأ من أول النهار، والنهار على خلاف فيه بالنسبة للصيام لا خلاف في أنه يبدأ من طلوع الفجر، وأما بالنسبة لبقية الأحكام فهو يبدأ عند أكثر أهل العلم من طلوع الشمس وهذا منه؛ لأنه يقابل الليل، والليل ما تكون فيه آيته القمر، والنهار ما تكون فيه آيته الشمس، فهو مقابل له، قول الإمام مالك بالنسبة لمن ابتلي بالكسل والخمول ينفع، لكن ماذا عما لو دخل الإمام قبل الزوال؟ متى تكون هذه الساعات؟ يعني ينفك من هذا القول أنه لا يجوز قبل الزوال عند الإمام مالك، يعني يمكن الانفكاك منه لكن ساعات لطيفة، تقدر بِكَم؟ يعني الإمام مالك -رحمه الله- تمسك بحقيقة الرواح، وتجوز -رحمه الله تعالى- في الساعات، تجوز في الساعات، وقد أنكر الأزهري وهو من أئمة اللغة على من زعم أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال، أنكر على من لا يرى أو من زعم أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال، ونقل أن العرب تقول: راح في جميع الأوقات، بمعنى ذهب، وأن راح بإزاء ذهب، وهو إمام من أئمة اللغة، ثم راح في الساعة الأولى، وقلنا: إن الساعة الأولى تكون من بعد طلوع الشمس، وهذا عمدة من يتمسك بالتوقيت الغروبي، أما بالنسبة لمن تمسك بالتوقيت الزوالي الساعات تبدأ من بعد الزوال عنده ولا ارتباط للتوقيت بهذا؛ لأنا لو ربطنا التوقيت بهذا الساعات عندهم ليست الساعات الفلكية التي مقدرة بمدد محددة، لا، إنما يقصد بها قدر من الزمان غير محدد قد تطول وقد تقصر تحدثا ساعة يحتمل أن يكون ثلاث ساعات ويحتمل أن يكون ربع ساعة، يعني مقدار من الزمان، لكن لو قلنا: إنه ساعات بعد الزوال، وساعات المراد بها الفلكية الصلاة تكون في هذا الوقت مثلاً بعد المغرب، يعني الساعة الخامسة، قرب أذان المغرب، وهذا لا ارتباط له بالساعات الفلكية التي عليها العمل الآن، هذه الساعات اصطلاحية، «ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب» تصدّق ببدنة، والبدنة المراد بها البعير ذكرًا كان أو أنثى، والهاء فيها للوحدة لا للتأنيث، وكذا في باقي ما ذكر؛ بقرة، دجاجة، للوحدة، وحكى ابن التين عن مالك أنه كان يتعجب ممن يخص البدنة بالأنثى، الإمام مالك كان يتعجب ممن يخص البدنة بالأنثى، طيب، لو نذر؛ لأن منهم من يقول: إن البدنة كما تطلق على الإبل تطلق على البقر وتطلق أيضًا على ما يقوم مقامها من الغنم من السبع، يعني هل تختص البدنة بالإبل؟ كما جزم بذلك الأزهري وفي الصحاح للجوهري: البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة، طيب إذا نحرت بالرياض ماذا تسمى؟ يعني ما تسمى بدنة، يعني هل هذا خاص بما إذا كانت مهداة للحرم أو لزمت الحاج جبرانًا لما ارتكبه، أو شكرًا لما يسر له، يعني الناقة إذا كانت في غير مكة تسمى بدنة أم لا تسمى؟ في صدقة الإبل ما فيها بدنة، في الصحاح: البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة، وقال إمام الحرمين: البدنة من الإبل ثم الشرع يقيم مقامها بقرة أو سبعًا من الغنم، وتظهر ثمرة الخلاف إذا قال: لله علي بدنة، إذا نحر بقرة في الرياض أو نحر ناقة أو نحر بقرة بمكة يجزئ أم لا يجزئ؟ لكن هل تسمى بدنة وهي منحورة بالرياض؟ على كلام صاحب الصحاح ولو كانت من الإبل ما تسمى بدنة، لا بد أن تكون من الإبل أو البقر على أن تنحر بمكة، إذا نحر سبعًا من الشياه بالرياض أو بمكة لا شك أن السبع تقوم مقام البدنة، السبع تقوم مقامها والبقرة تقوم مقامها، لكن هل وفّى بنذره إذا نحر بقرة؟ الرجوع إلى نية الناذر هو قول مالك، والجمهور على أن الأيمان والنذور مبنية على الأعراف، فإذا كانت يطلق عليها بدنة بالعرف انتهى الإشكال؛ لأن الأيمان والنذور ليست خاصة بأهل العلم الذين يدركون الحقائق الشرعية، لا ينذر عامي ما يدري ما المراد بالبدنة في الشرع، لكن البدنة عنده واضحة مستعملة عنده، فمبناه على العرف عند الجمهور.

«ومن راح في الساعة الثانية» «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة» استنبط بعضهم من ذلك الحث على ما يكون سببًا للغسل في يوم الجمعة ويخرجون عليه حديث «من غسّل واغتسل» يعني تسبب صار سببًا في غسل غيره، فكأنه غسل وباشر غسله، «ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن» يعني له قرنان، «ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة» بفتح الدال ويجوز الكسر «فكأنما قرب دجاجة» بفتح الدال ويجوز الكسر دَجاجة ودِجاجة، منهم من يقول: إن الأعلى للأعلى والأسفل للأسفل، ما معنى هذا؟ دَجاجة بالفتح الديك ودِجاجة بالكسر للأسفل الذي هو الأنثى من الدجاج، ويطردون هذا الأعلى للأعلى في كثير من الكلام والأسفل للأسفل المايح والماتح، ما الفرق بينهما؟ الماتح والمايح بالتاء الفوقانية وبالياء التحتانية، الأعلى للأعلى والأسفل للأسفل، الماتح في أعلى البئر والمايح في أسفله، على كل حال هذه فروق عندهم موجودة ومنهم من يقول بالفتح من الحيوان وبالكسر إذا أطلق على الإنسان، «ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة» فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة، خرج الإمام على المصلين، الدخول والخروج أمور نسبية، الأصل أنه دخل الإمام لكن الدخول والخروج أمور نسبية خرج بمعنى ظهر عليهم أقبل عليهم «حضرت الملائكة يستمعون الذكر» الذي تتضمنه الخطبة، فخطبة الجمعة ينبغي أن تشتمل على الأذكار، كما أنها تشتمل على المواعظ كخطبة العيد، يشهدن الخير ودعوة المسلمين، استنبط منه الماوردي أن التبكير لا يستحب للإمام إذا خرج الإمام على هذا، مفاد هذا الحديث أن خروج الإمام بعد الساعة الخامسة، فعلى هذا لا يستحب للإمام أن يبكر، إنما يأتي ليصعد المنبر كفعله -عليه الصلاة والسلام-، قال ابن حجر وما قاله غير ظاهر لإمكان أن يجمع الأمرين بأن يبكر، يجلس في المسجد في أي مكان من المسجد في الساعة الأولى؛ ليكون كأنما قرب بدنة أو في الثانية أو في الثالثة حسب التيسير، ثم إذا جاء وقت الخطبة رقي المنبر وخطب، يقول: وما قاله غير ظاهر؛ لإمكان أن يجمع الأمرين بأن يبكر ولا يخرج من المكان المعد له في الجامع، إلا إذا حضر الوقت، لكن الإمام لا شك أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يحفظ عنه أنه بكّر لصلاة الجمعة، إنما يأتي ليخطب فيصعد المنبر الجمعة والعيد وما أشبه ذلك في الوقت، فالإمام الذي يقتدي به -عليه الصلاة والسلام-، ويستدل بمثل هذا الحديث ولا يمنع من الحضور مبكرًا إلى الجمعة إلا مثل هذه النصوص يكتب له إن شاء الله تعالى، يكتب له ذلك إذا أراد الاقتداء؛ لأن العمل بالسنة أفضل من تحصيل ما وُعد به في مثل هذه النصوص، الاقتداء به -عليه الصلاة والسلام- النبي -عليه الصلاة والسلام- له حالة يقتدي به جميع الناس، حالة لم تقترن بوصف، أما إذا اقترنت الحالة بوصف فإنه يقتدي به من يشاركه في هذا الوصف، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- هو الأسوة والقدوة، لكن له وصفه والإمامة فيقتدي به الإمام، ويبقى عموم الناس يخصهم من النصوص الأخرى مثلما عندنا، لكن إذا كان الإمام فرحًا مبسوطًا أنه غير مطالب بالحضور إلى الجمعة مبكرًا يحصل له الأجر أم لا يحصل؟ مبسوط يعني يتصور شخص كفيف يقول: الحمد على العمى؛ لأنه ما يلزمنا بجهاد ولا غيره، هذا يحصل له أجر؟ مثل هذا نعم لو قال، الإنسان عليه أن يوطن نفسه على امتثال الأوامر واجتناب النواهي وفعل الجميع ما يطلبه الشارع، يعني فرق بين من يتمنى الشهادة وهو صادق مثل هذا تحصل له الشهادة، وبين شخص معذور ليس مطالبًا بجهاد وهو فرح بهذا العذر، شتان والله المستعان. مسألة وهي تحية المسجد بالنسبة للإمام إذا دخل النبي -عليه الصلاة والسلام- ثبت عنه أنه قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» ولم يحفظ عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه صلى، أمر من جلس «صليت ركعتين» قال: لا، قال: «قم فصل ركعتين وتجوّز فيهما» والإمام يخطب، لكن ما حفظ عنه أنه صلى تحية المسجد، بل مجرد ما يدخل المسجد يوم الجمعة يرقى المنبر، يصعد المنبر ليخطب، وفي حكمه الأئمة.

وحدثني عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه كان يقول: «غُسل الجمعة واجب» يقول الجمهور: المراد بالوجوب هنا تأكد الاستحباب، تأكد الطلب، كما تقول: حقك واجب علي، أي: مُتأكد، وعرفنا -فيما مضى- ما يوجد من اختلاف بين الحقائق الشرعية والحقائق العرفية، وأنه لو قال شخص: ما رأيت جملاً أصفر، بناء على أن الأصفر لون معروف عنده يطبقه على ألوان الجِمال عليه ما وجد، يعني هل تجد جملاً أصفر بمثل صفرة الذهب مثلاً؟ أو اللون الأصفر المتعارف عليه الآن، يعني اختلاف حقيقة عرفية مع حقيقة شرعية أو إطلاق شرعي اختلاف عرفي عرف خاص عند أهل العلم مع ما جاء في بعض النصوص، لو تقول للمنكرات التي ذكرها الله جل وعلا في سورة الإسراء وعقبها بقوله          الإسراء: ٣٨ يعني لو تقول: إن هذه مكروهات، تُسأل عن واحد منها تقول: مكروه، والمكروه استقر في أذهان الناس أنه لا يعاقب فاعله، أو تقول: محرمات، بل كبائر موبقات، فالإطلاق الشرعي لا شك أنه هو الأصل لكن إذا اختلف مع الحقيقة التي تعارف عليها الناس؛ ولذلك ينبغي أن تكون الاصطلاحات العرفية عرفًا خاصًّا عند أهل العلم، موافقة لما جاء في النصوص، هذا الأصل، لكن تتابع الناس على هذا واعتمده الأئمة أهل العلم والعمل والاقتداء ثم بعد ذلك استقر في أذهان الناس أن المكروه لا يعاقب عليه فاعله، حتى الأئمة المتقدمين من ورعهم تجدهم يفتون بمقتضى النصوص ثم يبينونها، والإمام أحمد والإمام مالك حفظ عنهم أنه يحب كذا، أحب كذا، وهو من الواجبات وما خرج عن كونه محبوب بأنه واجب، لكن هل معنى أنه يحبه أنه لا يأثم بتركه؟ ومثله لو قال: يعجبني أو لا يعجبني كذا، أو أكره كذا، يريدون بذلك كراهة التحريم، فالكراهة أعم من أن تكون للتحريم أو للتنزيه، فهنا الوجوب هنا يراد به تأكد الاستحباب كما تقول: حقك متأكد علي، لكن الآن الصارف يطلب للأمر بلفظ الأمر أو للأمر المعبر عنه بمقتضاه؟ الآن اللفظ الشرعي واجب، هل نحتاج إلى صارف هنا أو نحتاج إلى تعريف الوجوب في لغة العرب؟ لكن لو جاء: افعلوا كذا، نحتاج إلى صارف كما «من أتى الجمعة فليغتسل» نحتاج إلى صارف، لتوجيه اللفظ هذا واجب نحتاج إلى أن نبحث في معنى الوجوب في لغة العرب، ما نحتاج إلى صارف هنا، فالوجوب في لغة العرب أعم من أن يكون الحتم اللازم، وأن يكون المتأكِّد على كل محتلم، أي: بالغ، وإنما ذكر الاحتلام؛ لأنه البلوغ أغلب ما يكون به، أغلب ما يكون البلوغ بالاحتلام، كما أنه بالنسبة للنساء أغلب ما يكون البلوغ بالحيض؛ ولذا جاء: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» يعني بالغة بلغت سن المحيض، يقول ابن عبد البر -رحمه الله-: لا أعلم أحدًا أوجب غسل الجمعة فرضا إلا أهل الظاهر، فإنهم أوجبوه وجعلوا تاركه عمدًا عاصيًا لله جل وعلا، وهم مع ذلك يجيزون صلاة الجمعة، يعني الصلاة صحيحة مع الإثم الصلاة، نظير ذلك من صلى دون ستر للعاتق «لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء» يجب ستر العاتق، لكن هل وجوبه وجوب اشتراط مثل العورة؟ لا، يأثم وصلاته صحيحة، وهنا الغسل ما هو بوجوبه وجوب اشتراط مثل غسل الجنابة، يعني يأثم وصلاته صحيحة، وهناك من لم يستر العاتق يأثم وصلاته صحيحة، وجماهير أهل العلم على أنه سنة مؤكدة؛ لحديث: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل» وأيضًا فعل عثمان رضي الله عنه كما سيأتي، وإقرار عمر رضي الله عنه وهذا سيأتي إن شاء الله تعالى.

ابن حجر في فتح الباري نقل إيجابه نقلاً عن ابن المنذر عن أبي هريرة وعمار وهو قول أهل الظاهر وإحدى الروايتين عن أحمد إذا قال العالم: لا أعلم مخالفًا، أو لا أعلم في المسألة خلافًا، وأطلق أو استثنى، لكن إذا أطلق قال: لا أعلم خلافًا في هذه المسألة، لا أعلم قائلاً بخلاف كذا، أو لا أعلم قائلاً بكذا يعد إجماعًا أما لا؟ يعني على حسب علمه، هو نفى علمه في المسألة لا يعني أنه ينفي نفيًا مطلقً.ا الإمام مالك رحمه الله في الموطأ على ما سيأتي إن شاء الله يقول: لا أعلم قائلاً برد اليمين، مع أن قضاة عصره ابن أبي ليلى وابن شبرمة يقولون برد اليمين، والإمام الشافعي له مثل ذلك في الزكاة, زكاة البقر، هذا كثير عند أهل العلم على حسب علمهم، ينفون على حسب علمهم.

يقول: وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله قال: دخل رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد يوم الجمعة، وهذا الرجل هو عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال ابن عبد البر: لا أعلم في هذا خلافًا، يعني ما قيل في تفسير المبهم بغير عثمان رضي الله عنه، وعمر بن الخطاب يخطب، فقال عمر: أية ساعة هذه؟ يعني الاستفهام هذا هل يريد عمر رضي الله عنه حقيقة المعرفة في الزمن؟ أو يريد الإنكار والتوبيخ؟ لا شك أنه يريد الإنكار والتوبيخ، فقال: يا أمير المؤمنين، بدليل الجواب: قال: يا أمير المؤمنين انقلبت –رجعت- من السوق فسمعت النداء، فما زدت على أن توضأت، سمعت النداء المراد بالنداء الأول أم الثاني؟ الثاني لأن الأول لم يكن موجودًا حينئذٍ؛ لأن الذي بدأه عثمان رضي الله عنه فما زدت على أن توضأت، أي: لم أشتغل بغير هذا، سمعت النداء توضأت وجئت مباشرة ما تأخرت، فقال عمر -وهذا إنكار آخر-: والوضوء أيضا؟! يعني تقتصر على الوضوء أيضًا، هذا إنكار منه، وقد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بالغسل، أي يؤكد فيه، فعمر ما أمر بأن يرجع فيغتسل فدل على أن هذا الأمر وهذا التأكيد إنما هو على جهة الاستحباب الذي لا يأثم فيه التارك. روى أشهب عن مالك أن الصحابة كانوا يكرهون ترك العمل يوم الجمعة، يكرهون ترك العمل يوم الجمعة، عثمان رضي الله عنه ذهب إلى السوق في يوم الجمعة، ولما سمع المؤذن مر وتوضأ وجاء إلى المسجد، فروى أشهب عن مالك أن الصحابة كانوا يكرهون ترك العمل يوم الجمعة على نحو تعظيم اليهود السبت والنصارى الأحد، لكن هذا الكلام محجوج بأي شيء؟ من راح في الساعة الأولى، من راح في الساعة الثانية، من راح في الساعة الأولى لن يذهب إلى السوق، معروف هذا، لكن من يتعبد بترك العمل يوم الجمعة -تعبد بتركه- يكون حينئذٍ أشبه اليهود والنصارى، لكن من يرى أن العمل يوم الجمعة مباح ويفعل ما حُث عليه وأمر به، لكن لو ترك العمل يوم الجمعة وما راح للمسجد، نام، يلام؟ يلام بقدر تفريطه بالسُّنة وإلا ما يلام على أنه ترك العمل لمشابهة اليهود والنصارى، أو انشغل بعبادة أخرى من قراءة أو تأليف أو تعليم ونحو ذلك.

وحدثني عن مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» أي: بالغ، وهذا الحديث في الصحيحين من طريق مالك بواسطة عبد الله بن يوسف في البخاري، وحدثني عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل» واللام لام الأمر، وعرفت أقوال أهل العلم في حكمه، وأن جماهير أهل العلم على أنه مُتأكِّد الاستحباب وليس بواجب، خلافًا لأهل الظاهر وصرفه عن الوجوب إلى التأكد قوله: والغسل أفضل، ومن الصوارف إقرار عمر رضي الله عنه عثمان وعدم أمره بالغسل.

مالك رحمه الله تعالى مر بنا أنه لا يكترث في تقديم المرسل على الموصول، وفي تقديم الموقوف على المرفوع؛ لأن همه أن يجمع هذا العلم ليفاد منه وإلا الترتيب فيه شيء من التقديم والتأخير، وأنتم تعرفون أنه من أوائل المصنفات، ومعلوم أن من يتصدى لعمل أي شيء في البداية لا بد أن يقع منه ما يقع، يبدأ الشيء يسيرًا، يبدأ قليلاً ثم يزاد عليه، يبدأ ضعيفًا ثم يقوى، وأنتم تعرفون أن التصنيف فن ما كان موجودًا في عصر الصحابة ولا أوائل التابعين، ثم وجد يعني على قدر يسير، وهكذا في أمور الحياة كلها، تبدأ الأمور شيئًا فشيئًا حتى تتطور وسائر العلوم على هذا، والا من يقارن الموطأ بإتقان الإمام البخاري الذي جاء بعده بثمانين سنة. قال مالك: من اغتسل يوم الجمعة أول نهاره، وهو يريد بذلك غسل الجمعة، من اغتسل يوم الجمعة أول نهاره ويريد بذلك غسل الجمعة فإن ذلك الغسل لا يجزي عنه، لا يكفي حتى يغتسل لرواحه؛ لأن بعض الناس لا سيما مع شدة البرد مثلاً يقول: إذا صليت الصبح أو إذا أردت النوم بعد صلاة الصبح أو بعد طلوع الشمس وانتشارها يغتسل ويتهيأ ويتنظف لصلاة الجمعة، ثم ينام، فإذا أراد الخروج له، خروجه مناسب؛ لأن الخروج بعد الاغتسال في الشتاء نعم مؤذٍ، وقد يكون ضارًّا إذا لم يحتاط الإنسان، فإذا اغتسل في أول النهار ثم نام، تأهب للصلاة ثم نام، فإذا جاء وقت العادة توضأ الوضوء وذهب للصلاة، هذا اغتسل للجمعة؟! كلام الإمام مالك -رحمه الله تعالى- يقول: من اغتسل يوم الجمعة أول نهاره وهو يريد بذلك غسل الجمعة، فإن ذلك الغسل لا يجدي عنه حتى يغتسل لرواحه يكون الغسل للرواح إلى الجمعة؛ وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في حديث ابن عمر: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل» فعلّق الغسل على المجيء للجمعة، فيفيد أن شرطه اتصاله بالذهاب، وقد وافق مالكا على ذلك الليث والأوزاعي، وقال الجمهور: يجزئ من بعد الفجر؛ لأنه يحقق الهدف من شرعية الغسل بلا شك، والأفضل تأخيره والإجزاء لا إشكال فيه وهو قول الجمهور، وذلكم للتنصيص على اليوم يوم الجمعة: «من غتسل يوم الجمعة» وهذه المسألة فرع عن مسألة أخرى وهي أن الغسل هل هو للصلاة أو لليوم؟ في كثير من النصوص يوم أو بعد العصر قيل بهذا يجزئ إذا كان لليوم، يجزئ ولو بعد الفراغ من الصلاة، النصوص جاءت تعلقه باليوم يوم الجمعة، المسألة خلافية بين أهل العلم: هل الغسل للجمعة أو ليوم الجمعة من أجل صلاة الجمعة؟ هناك فرق دقيق بين أن نقول: الغسل لصلاة الجمعة، أو نقول: الغسل ليوم الجمعة من أجل صلاة الجمعة، نفقة الحامل البائن يقول الفقهاء: والنفقة للحمل نفسه لا لها من أجله، وهذه من أعقد عبارات الفقهاء، ما معنى للحمل نفسه لا لها من أجله؟ يعني ما يشتري إلا حليبًا، النفقة للحمل نفسه لا لها من أجله، لو قدرنا أن الحمل يتضرر بالبرد مثلاً ما يشتري لها ملابس.

على كل المسألة وفائدة الخلاف في المسألة تراجعونها في كتب الفقه، لكن أنا أريد أن أقرر أن هناك فرقًا بين أن يكون الغسل لصلاة الجمعة، على هذا من اغتسل لصلاة الجمعة ثم أحدث يعيد أم لا يعيد؟ يعيد إذا قلنا لصلاة الجمعة، لا بد أن يعيد ولو أحدث وهو في الخطبة مثلا وخرج لا بد يغتسل لصلاة الجمعة، وإذا قلنا للجمعة -ليوم الجمعة، من أجل صلاة الجمعة- وبهذا تلتئم النصوص يكون إذا اغتسل لأول النهار ولم يكن هناك فرصة لأن يكون هناك تغير في تهيؤه للصلاة في أكمل هيئة وأنظف حال فإنه يجزئ، ما المانع؟

هذا قول لبعض أهل العلم، هذا قول بعد القول لأنك ما تستعيذ إلا انتهيت من القراءة هذا قول، ويدل عليه النص بعد إذا أردنا أن نجري النصوص كما هي، إذا انتهت وطبقت المصحف قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يعني يا أخي الحكم الشرعية تشم شمًّا يا إخوان من النصوص، هل من صلى العصر وفاته الغسل لصلاة الجمعة نقول له: اغتسل؟ معروف أنه من أجل هذا الاجتماع، من أجل هذا العيد، عيد المسلمين الذي يتحرى النبي -عليه الصلاة والسلام- ليتنظف ويتطيب ويحث على ذلك ويلبس أحسن ثيابه هذا المقصود.

قال مالك: ومن اغتسل يوم الجمعة يعني سواء كان معجلاً أو مؤخرًا ذاهبا قبل الزوال أو بعده؛ لأن المدار على الرواح قبل الزوال أو بعده وهو ينوي بذلك غسل الجمعة، الجملة حالية وهي قيد فأصابه ما ينقض وضوءه من نواقض الوضوء فليس عليه إلا الوضوء، وغسله ذلك مجزئ عنه؛ لأن لو ربطناه بالصلاة قلنا: ما يجزئ.

أحسن الله إليك.

باب ما جاء في الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب:

عن مالك، عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا قلت لصاحبك: أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت». عن مالك، عن ابن شهاب، عن ثعلبة بن أبي مالك القُرظي أنه أخبره أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، يصلون يوم الجمعة، حتى يخرج عمر، فإذا خرج عمر، وجلس على المنبر، وأذن المؤذنون قال ثعلبة: جلسنا نتحدث، فإذا سكت المؤذنون وقام عمر يخطب، أنصتنا، فلم يتكلم منا أحد. قال ابن شهاب رحمه الله: فخروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام. عن مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن مالك بن أبي عامر، أن عثمان بن عفان -رضي الله تعالى عنه- كان يقول في خطبته، قل ما يدع ذلك إذا خطب: إذا قام الإمام يخطب يوم الجمعة فاستمعوا وأنصتوا، فإن للمنصت، الذي لا يسمع، من الحظ، مثل ما للمنصت السامع، فإذا قامت الصلاة فاعدلوا الصفوف، وحاذوا بالمناكب، فإن اعتدال الصفوف من تمام الصلاة. ثم لا يكبر، حتى يأتيه رجال قد وكلهم بتسوية الصفوف، فيخبرونه أن قد استوت، فيكبر.

عن مالك عن نافع، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رأى رجلين يتحدثان والإمام يخطب يوم الجمعة فحصبهما أن اصمتا.

عن مالك أنه بلغه أن رجلاً عطس يوم الجمعة والإمام يخطب، فشمته إنسان إلى جنبه، فسأل عن ذلك سعيد بن المسيب، فنهاه عن ذلك، وقال: لا تعد. وحدثني عن مالك رحمه الله، أنه سأل ابن شهاب عن الكلام يوم الجمعة، إذا نزل الإمام عن المنبر، قبل أن يكبر، فقال ابن شهاب رحمه الله: لا بأس بذلك.

يقول رحمه الله تعالى: باب ما جاء في الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، يشير بهذا إلى الرد على من جعل وجوب الإنصات من خروج الإمام يعني قبل الخطبة، مجرد ما يخرج الإمام ويرى الإمام يلزمه الإنصات، بهذا يقول ابن عباس وابن عمر وأبو حنيفة، وقال غيرهم: الإنصات من أجل سماع الخطبة كما قال: باب ما جاء في الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، ثم استدل على ذلك بأدلة قال: حدثني يحيى عن مالك عن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان عن الأعرج عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال «إذا قلت لصاحبك» الذي تخاطبه أو جليسك «أنصت» أي: اسكت عن الكلام واستمع الخطبة، وهذا أمر بمعروف والحال أن الإمام يخطب يوم الجمعة «فقد لغوت» بالواو يقول النضر بن شميل -وهو من أئمة اللغة، وله في غريب الحديث كتاب عليه المعول عند أهل العلم في الغريب، حتى قال بعضهم: إن اعتماد البخاري في غريب الحديث والقرآن في صحيحه عليه وعلى أبي عبيد النضر- يقول: معنى لغوت: خبت من الأجر، وقيل: بطلت جمعتك، وقيل: صارت جمعتك ظهرًا، في حديث رواه أبو داود بن خزيمة عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا «من لغا وتخطى رقاب الناس كانت صلاته ظهرًا» فالقدر الزائد من الأجر التفاوت بين أجر صلاة الجمعة وصلاة الظهر يفوته، وهذا إذا كان في مثل الأمر بالمعروف، فكيف إذا كان بغيره من لغو الكلام الذي لا فائدة فيه فضلاً عن أن يكون من الكلام المحرم أو الهمز والغمز والعبث الذي لا قيمة له، والشاهد قوله: «والإمام يخطب».

وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي -حليف الأنصار- أنه أخبره أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب أيام خلافته يصلون يوم الجمعة النوافل، حتى يخرج عمر يعني: حتى يدخل المسجد يخرج عليهم، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون قال ثعلبة: جلسنا نتحدث، يعني: فيما ينفع، فإذا سكت المؤذنون فرغوا من أذانهم، وقام عمر يخطب أنصتنا فلم يتكلم منا أحد. ذكر الإمام مالك هذا الخبر تقوية لما اختاره في الترجمة أن الممنوع من الكلام حال الخطبة، قال ابن شهاب: فخروج الإمام يقطع الصلاة، أي يقطع  الشروع فيها لا أن من كبر للصلاة قبل دخول الإمام ثم دخل الإمام يقطعها، لا، لا يعني هذا أنها تبطل إنما خروج الإمام يقطع الشروع في الصلاة، وكلامه يقطع الكلام لوجوب الإنصات.

وحدثني عن مالك عن أبي النضر سالم بن أبي أمية مولى عمر بن عبيد الله التيمي عن مالك بن أبي عامر الأصبحي -جد الإمام مالك، المصنف رحم الله الجميع- أن عثمان بن عفان كان يقول في خطبته -قلما يدع يترك ذلك إذا خطب-: إذا قام الإمام يخطب يوم الجمعة فاستمعوا وأنصتوا، استمعوا وأنصتوا يعني وإن لم تسمع لنحو صمم أو بعد، المقصود استمعوا وأنصتوا؛ لأن الكلام ليس ضرره قاصرًا على متكلم، نعم قد يكون الإنسان الذي لا يفهم إما لصمم أو لكونه لا يعرف اللغة التي فيها الخطبة أعجميًّا مثلاً، يقول: أنا لا أفهم شيئًا، أتكلم، تؤثر على غيرك، أنت تؤثر على غيرك؛ ولذا يؤمر بالإنصات ولو كان لا يفهم ولو كان أصم، فإن للمنصت الذي لا يسمع إما لصمم أو بعد من الحظ، من النصيب، من الأجر مثل ما للمنصت السامع. فإذا قام للصلاة فاعدلوا الصفوف يعني: سووها، يعني: أقيموا صفوفكم وحاذوا بالمناكب، لا بد من المحاذاة بالبدن كله بالمناكب والأقدام، وبعض الناس إذا وجد فرجة شغل هذه الفرجة بمد القدمين هذا ليس بحل، هذا ليست مساواة وليس محاذاة، إذا فرج بين قدميه تبتعد المناكب، لا تتم المحاذاة إلا بالأمرين معا، بعض الناس يحرص على إلزاق الكعب بالكعب لا بأس هذا سنة كانوا يفعلونه، لكن يخل بغيره، يقول: وحاذوا بالمناكب، وعرفنا المنكب هذا مجتمع العضد مع الكتف، فإن اعتدال الصفوف من تمام الصلاة، وهذا أمر متفق عليه، والآثار فيه كثيرة، قال ابن عبد البر: وتسوية النبي -صلى الله عليه وسلم- الصفوف وأمره بذلك في الصحيحين وغيرهما مستفيض، والجمهور على أن ذلك سنة وليس بشرط؛ لأن الصلاة ما فيها إشكال ولو وجدت الفرج المنهي عنها. ثم لا يكبر عثمان -رضي الله عنه- حتى يأتيه رجال قد وكلهم بالتخفيف والتشديد بتسوية الصفوف، فيخبرونه أنها قد استوت، أن قد استوت الصفوف، وحينئذٍ يكبر يعني بعد حضورهم، لا يعني هذا أنه يكل إليهم تسوية الصفوف ثم يكبر ويتركهم، لا، إنما ينتظر حتى يحضروا ليدركوا معه تكبيرة الإحرام.

وحدثني عن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر رأى رجلين يتحدثان والإمام يخطب يوم الجمعة، فحصبهما أن اصمتا، يعني رماهما بالحصباء، صغار الحصى، أن اصمتا ولم يتكلم ما قال: اصمتا، إنما رماهما بالحصباء، وبفعله هذا كأنه قال لهما: اصمتا، فأنكر عليهما بذلك بالفعل ولم ينكر عليهما بالقول؛ لأنه ممنوع، قال الباجي: مقتضى مذهب مالك ألا يشير إليهما ولا بالإشارة؛ لأن الإشارة مفهمة حكمها حكم الكلام الحصب أعظم من مجرد المس «من مس الحصى فقد لغا» فكونه يأخذ الحصباء ويرمي بها هذا المتحدث أشد من مجرد المس؛ ولهذا هذا اجتهاد من ابن عمر لا يوافَق عليه رضي الله عنه وأرضاه.

لكن ما الحل؟ إذا وجد أناسًا يتكلمون وأشغلوا الناس عن الخطبة، يكلم الإمام، لا مانع من أن يكلم الإمام والإمام يكلم هؤلاء، على كل حال يفعل الأحوط، لا يفعل مما هو مقتضى المصلحة فيترتب عليه مفسدة أعظم، لو لزم عليه أن يتخطى رقاب الناس من أن يكلم الإمام لا يكون النهي عن الكلام مربوطًا بالخطبة، والإمام يخطب يعني: بين الخطبتين، لا مانع من الكلام إن شاء الله، هذا عليه مسائل كثيرة، من يسمع الإمام يقرأ بالمكبر وهو خارج المسجد يلزمه الإنصات أم لا يلزمه؟ لأن بعض الناس يحرص على تطبيق السنة، لكنه لا يفقه كيف يطبق هذه السنة؟ يرتكب أمورًا قد تخل بصلاة جاره من أجل تحصيل سنة، الإشارة لها حكم العبارة مفهمة عندهم.

وحدثني عن مالك أنه بلغه أن رجلاً عَطَسَ من باب ضرب ونصر، يختلف هذا الباب عن الثاني؟ في الماضي لا يختلف ضرب ونصر، لكن الاختلاف في المضارع هل نقول يعطس من باب ضرب يضرب أو يعطُس من باب نصر ينصُر؟ هذه أفعال بل هي أمثلة ستة يقيسون عليها الأفعال، وما أدري أنتم تعرفون صرفًا أم لا تعرفون؟ أن رجلاً عطس يوم الجمعة والإمام يخطب فشمته إنسان إلى جنبه، فسأل عن ذلك سعيد بن المسيب فنهاه عن ذلك، وقال: لا تعد، قال ابن عبد البر: إنما قال سعيد ذلك للسائل بعد السلام؛ لأنه سأله والإمام يخطب، هل أجابه والإمام يخطب أو بعد السلام؟ يقول ابن عبر البر: إنما قال سعيد ذلك للسائل بعد السلام من الصلاة، وقد منعه كرد السلام، منع التشميت كرد السلام، أكثر أهل المدينة ومالك وأبو حنيفة والشافعي في القديم، مذهب أحمد المنع لا يرد السلام ولا يشمت عاطس ولا شيء، وقال في الجديد: تشميت العاطس ورد السلام، أو يشمت العاطس ويرد السلام وإن كان الخطيب يخطب؛ لأن هذه فروض، رد العاطس عنده واجب مثل رد السلام، لكن يكره أن يسلم عليه أحد يعني يقول: لا تسلم؛ لئلا توقع صاحبك في الحرج إن لم يرد عليك ترك واجب وإن رد عليك ارتكب محظور فأنت لا تسلم عليه.

وحدثني عن مالك أنه سأل ابن شهاب عن الكلام يوم الجمعة إذا نزل الإمام عن المنبر قبل أن يكبر، فقال ابن شهاب: لا بأس بذلك، أي: يجوز الكلام بعد الفراغ من الخطبة التي أمر بالاستماع إليها، وهذا يؤيد ما ترجم به الإمام مالك رحمه الله.

 

والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.