شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (029)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم: توقفنا عند الحديث في قول المؤلف -رحمه الله-:

"وعنه -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار»."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فهذا الحديث هو السادس عشر من أحاديث المختصَر، والسادس عشر أيضًا من أحاديث الصحيح.

يقول -رحمه الله تعالى-:

"وعنه" أي عن أنس بن مالك راوي الحديث السابق، وترجم الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- على هذا الحديث بقوله: "باب حلاوة الإيمان" يقول ابن حجر: مقصود المصنِّف أن الحلاوة من ثمرات الإيمان؛ ولما قدَّم أن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الإيمان أردفه بما يوجِد ذلك.

يقول العيني -رحمه الله تعالى-: وجه المناسبة بين البابَين من حيث أن الباب الأول مشتمل على أن كمال الإيمان لا يكون إلا إذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحب إليه من سائر الخلق، وهذا الباب يبيِّن أن ذلك من جملة حلاوة الإيمان؛ لأن هذا الباب مشتمل على ثلاثة أشياء، والباب الذي قبله جزء من هذه الثلاثة، وهذا أقوى وجوه المناسبة، الارتباط بين هذا الباب والذي قبله، الباب السابق "حب الرسول -عليه الصلاة والسلام- من الإيمان" وهذا الباب "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" فمن صار بهذه المثابة مع بقية الثلاث وجد حلاوة الإيمان، والبحث كله في كتاب الإيمان، فالمناسبة ظاهرة.

قوله: «ثلاث» هو مبتدأ، والجملة بعده خبر، وجاز الابتداء بالنكرة لأن التنوين عِوَض عن كلمة وهي المضاف إليه، والتقدير: ثلاث خصال، ويجوز أن يكون صفة لموصوف محذوف تقديره: خصال ثلاث، فالمبتدأ على هذا خصال وهو نكرة، وجاز الابتداء به لأنها موصوفة.

«من كُنَّ» أي وُجِدْن وحصلن، فـ(كان) تامة هنا.

«وجد» أي أصاب، فلذلك اكتفى بمفعول واحد وهو قوله: «حلاوة الإيمان» وحلاوة الإيمان استلذاذه بالطاعات عند قوة النفس بالإيمان، وانشراح الصدر له بحيث يخالط لحمه ودمه، فيحتمل في أمر الدين المشقات، ويؤثر ذلك على أعراض الدنيا الفانية.

يقول أهل العلم: هل الذوق لحلاوة الإيمان محسوس أو معنوي؟ قال بكلٍّ قوم، ويشهد للأول قول بلال -رضي الله عنه- حين عُذِّب في الله إكراهًا على الكفر: "أحد أحد" فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان، وقوله عند موته حينما قال أهله: واكَرْبَاه، وهو يقول: واطرباه، غدًا ألقى الأحبة محمدًا وصحبه، فمزج -رضي الله عنه- مرارة الموت بحلاوة اللقاء، وهي حلاوة الإيمان، قال: وكل هذا يشهد للأول وهو أن الذوق محسوس، ما معنى محسوس؟ يعني هل معنى هذا أن حلاوة الإيمان تذاق مثل ما تذاق حلاوة التمر مثلاً؟ هل نقول: هذا وجه الحس في الحلاوة؟ أو نقول أنها يحس بها بمعنى أنه يتلذذ بها كما يتلذذ بأكل التمر مثلاً والشيء الحلو؟ المقصود الثاني، وحينئذٍ يقرب من المعنوي، فالقلب السليم من أمراض الغفلة والهوى يذوق طعم الإيمان بلا ريب، ويتنعم به كما يذوق السليم طعم العسل وغيره من ملذات الأطعمة، ويتنعم بها، ولا يذوق ذلك ويتنعم به إلا من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، من نفس وولد ووالد ومال وكل شيء.

يقول ابن حجر: وفيه تلميح إلى قصة المريض والصحيح؛ لأن المريض يجد طعم العسل مُرًّا، والصحيح يذوق حلاوته على ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئًا نقص ذوقه بقدر ذلك، فكانت هذه الاستعارة من أوضح ما يقوِّي استدلال المصنف على الزيادة والنقص، المصنِّف يشير بهذا الحديث ومثله في هذا الباب وفي الأبواب السابقة واللاحقة إلى أن الإيمان يزيد وينقص، ودلالة هذا الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه ما ذكره ابن حجر، يقول: وفيه تلميح إلى قصة المريض والصحيح؛ لأن المريض يجد طعم العسل مُرًّا، والصحيح يذوق حلاوته على ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئًا ما نقص ذوقه بقدر ذلك، وهنا كلما نقص حب الله وحب رسوله ونقصت بقية الخصال الثلاث بقدر هذا النقص ينقص الإيمان، فكانت هذه الاستعارة من أوضح ما يقوِّي استدلال المصنف على الزيادة والنقص.

«أن يكون الله» عز وجل «ورسوله» -صلى الله عليه وسلم- «أحب إليه» بإفراد الضمير في (أحب) لأنه أفعل تفضيل، وهذا إذا اتصل بـ(من) أُفرد دائمًا و(أحب) خبر (يكون) فهو منصوب، وجملة «أن يكون» بدل من ثلاث «أن يكون» بدل من ثلاث، يعني بدل بعض من كل، وما عطف عليها من بقية الأقسام أو الخصال الثلاث هي المتممة لهذا البعض، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: إحداها كون الله ورسوله... إلى آخره.

يقول البيضاوي: المراد بالحب هنا الحب العقلي الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفس كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه، ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله، بمقتضى الطبع يعاف الدواء، وبمقتضى العقل يهوى التناول؛ لأنه يرجو الشفاء بسبب هذا الدواء؛ لأن الغالب أن الأدوية غير لذة الأطعمة، الأدوية غالبًا ليس فيها لذة كالأطعمة، فبطبعه ينفر عن الدواء، وبعقله يهوى تناوله؛ لأنه يرجو أن يكون سببًا للشفاء. فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح عاجل، أو خلاص آجل، والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك تمرَّن على الائتمار بأمره، بحيث يصير هواه تبعًا له، ويلتذ بذلك التذاذًا عقليًّا، إذ الالتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك، وهذا ظاهر، الإنسان لا يحس بالمشقة إذا تلذذ العقل والقلب، تجد مَن تعوَّد على طول القيام لا يتبرَّم، ولا يمَل من طول القيام في الصلاة، تجد الإنسان يقرأ البقرة وهو واقف، النبي -عليه الصلاة والسلام- قام حتى تفطرت قدماه، ومع ذلكم يقول: «أرحنا بالصلاة» هو يرتاح بها، ويتلذذ بها، بينما تجد من استولت الغفلة على قلبه تجده ينظر في الساعة، والصلاة أحيانًا تكون خمس دقائق كأنها خمس ساعات عنده من ثقلها، وكثيرًا ما يشتكي الناس الأئمة لتطويلهم، لكن إذا نظرت إلى صلوات كثير من الأئمة وجدتهم يخففون، لكن القلوب غافلة، وعلى هذا الذي يتعامل في الصلاة، مع الصلاة هو القلب، فالذي قلبه سليم يتلذذ بطاعة الله -سبحانه وتعالى-، الرسول -عليه الصلاة والسلام- افتتح الصلاة بالبقرة، ثم النساء، ثم آل عمران بركعة واحدة، بينما لو قرئت مائة آية لتبرَّم الناس، ونوى الانفراد كثير منهم، ورُفع بهذا الإمام، وتناوله الناس بألسنتهم. وعبَّر الشارع عن هذه الحالة بالحلاوة؛ لأنها أظهر اللذائذ المحسوسة.

قال -أي البيضاوي-: وإنما جعل هذه الأمور الثلاثة عنوانًا لكمال الإيمان؛ لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله تعالى، وأنه لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسائط، وأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- هو الذي يبيِّن مراد ربه؛ اقتضى ذلك بكليَّته، أن يتجه إليه بكليَّته، فلا يُحِب إلا ما يُحِب، ولا يُحِب من يُحِب إلا من أجله، لا يُحِب إلا ما يُحِبه الله، ولا يُحِب شيئًا إلا من أجل الله، وأن يتيقن أن جملة ما وعد وأوعد حق يقينًا، ويخيل إليه الموعود كالواقع، فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، وأن العودة إلى الكفر إلقاءٌ في النار، انتهى كلامه ملخصًا. يحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، يستحضر في قلبه أن مجالس الذكر رياض الجنة، فيتلذذ بالجلوس فيها، ويهوْن عليه ارتيادها من بُعْد، وتحمل المشاق من أجلها؛ لأنه يذهب إلى أي شيء؟ إلى رياض الجنة، والله المستعان.

«مما سواهما» لم يقل: ممن سواهما؛ ليعم من يعقل ومن لا يعقل. يقول النووي: فيه دليل على أنه لا بأس بمثل هذه التثنية، وأما قوله -صلى الله عليه وسلم- للذي خطب وقال: "ومن يعصهما فقد غوى": «بئس الخطيب أنت» فليس من هذا النوع؛ لأن المراد في الخطب الإيضاح لا الرموز والإشارات، وأما هنا فالمراد الإيجاز في اللفظ ليُحفَظ، ومما يدل على هذا الحديث الصحيح في سنن أبي داود وغيره: «من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه» قال ابن حجر: اعتُرِض بأن هذا إنما ورد أيضًا في حديث خطبة النكاح، وأُجِيب بأن المقصود في خطبة النكاح أيضًا الإيجاز فلا نقض، بخلاف الخطب التي يقصد منها توجيه الناس وإرشادهم على اختلاف مستوياتهم، فيُطلب فيها البسط والإيضاح، أما خطبة النكاح فلا يُقصَد منها التوجيه والإرشاد.

يقول ابن حجر: وثَمَّ أجوبة أخرى، منها: دعوى الترجيح، فيكون خبر المنع أولى لأنه عام، والآخر يحتمل الخصوصية؛ ولأنه ناقل، يعني عن الأصل، والآخر مبني على الأصل؛ ولأنه قول والآخر فعل، ويُرَدُّ بأن احتمال التخصيص في القول أيضًا حاصل لكل قول ليس فيه صيغة عموم أصلاً.

ومنها دعوى أنه من الخصائص، فيَمتنِع من غير النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يَمتنِع منه؛ لأن غيره إذا جَمَع أوهم إطلاق التسوية بخلافه هو -عليه الصلاة والسلام-، فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك، وإلى هذا مال ابن عبد السلام.

ومنها دعوى التفرقة بوجه آخر، وهو أن كلامه -صلى الله عليه وسلم- هنا جملة واحدة، فلا يحسن إقامة الظاهر فيها مقام المضمَر، وكلام الذي خطب جملتان لا يُكرَه إقامة الظاهر فيهما مقام المضمَر.

تُعقِّب هذا بأنه لا يلزم من كونه لا يُكرَه إقامة الظاهر فيهما مقام المضمر أن يُكرَه إقامة المضمر أيضًا فيهما مقام الظاهر، فما وجه الرد على الخطيب مع أنه -عليه الصلاة والسلام- جمَع كما تقدم؟ يُجاب بأن قصة الخطيب ليس فيها صيغة عموم، بل هي واقعة عين، فيحتمل أن يكون في ذلك المجلس من يُخشى عليه توهم التسوية -كما تقدم-.

على كل حال الأجوبة لأهل العلم كثيرة جدًّا عن التعارض في هذا الحديث، وما جاء في معناه من جَمْع ضمير النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإضافته إلى ضمير الله -سبحانه وتعالى-، وبين قوله -عليه الصلاة والسلام- للخطيب حينما قال: "ومن يعصهما" «بئس الخطيب أنت» أو «خطيب القوم أنت» منها ما تقدم، ومن أظهرها أن الخطب تحتاج إلى شيء من البسط والتوضيح؛ لأنها تُلقَى على العموم، بخلاف مثل هذه المناسبات التي يكون الجَمْع فيها قليل.

ومنها كونه خاص بالنبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يُتصوَّر منه توهُّم المشاركة مع الله -سبحانه وتعالى- بخلاف غيره، ومنها أن قصة الخطيب واقعة عين -كما قال بعضهم- فيحتمل أن يكون في ذلك المجلس الذي سمع هذه الخطبة من يُخشَى عليه توهُّم التسوية -كما تقدم-.

يقول ابن حجر: ومن محاسن الأجوبة في الجمع بين حديث الباب وقصة الخطيب أن تثنية الضمير هنا للإيماء إلى أن المعتبَر هو المجموع المركَّب من المحبتين، هذه دقيقة، أن تثنية الضمير هنا للإيماء إلى أن المعتبَر هو المجموع المركَّب من المحبَّتين، لا كل واحدة منهما فإنها وحدها لاغية إذا لم ترتبط بالأخرى، فمن يدعي حب الله مثلاً ولا يحب رسوله لا ينفعه ذلك، ويشير إليه قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [سورة آل عمران 31] فأوقع متابعته مكتنفة بين قُطْرَي محبة العباد ومحبة الله تعالى للعباد، هنا {تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [سورة آل عمران 31] يقول: فأوقع متابعته مكتنفة بين قُطْرَي محبة العباد ومحبة الله تعالى العباد، وأما أمر الخطيب بالإفراد فلأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية، يعني إذا عصى الإنسان الله -سبحانه وتعالى- عليه إثم هذه المعصية، وإذا أطاع النبي -عليه الصلاة والسلام- له أجر هذه الطاعة والعكس، بينما إذا لم يحب الله -سبحانه وتعالى- أو لم يحب الرسول -عليه الصلاة والسلام- ما نفعته محبة الثاني، لكن معصيته للرسول في أمر من الأمور لا يلغي عليه امتثاله لطاعة الله -سبحانه وتعالى- لأمر آخر، هذا وجه التفريق هنا، بخلاف ما لو كانت المعصية للرسول -عليه الصلاة والسلام- بأمر مكفِّر، أو المعصية لله -سبحانه وتعالى- بأمر مكفِّر ولو أطاع الرسول في غير ذلك، هذا أمر خارج عن هذا التقسيم.

يقول: وأما أمر الخطيب بالإفراد فلأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم، ويشير إليه قوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [سورة النساء 59] فأعاد أطيعوا في الرسول ولم يعده في أولي الأمر؛ لأنهم لا استقلال لهم في الطاعة كاستقلال الرسول -عليه الصلاة والسلام-، لا شك أن طاعة أولي الأمر تابعة لطاعة الرسول -عليه الصلاة والسلام-. ومن محبة الله ورسوله -عليه الصلاة والسلام- أن يحب المتلبس بها المرء حال كونه لا يحبه إلا لله تعالى، فالحب في الله من ثمرات الحب لله.

قال يحيى بن معاذ: حقيقة الحب في الله ألا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء، يعني حقيقة المحبة الخالصة لله لا تزيد مع الصفاء، ولا تنقص مع الجفاء، ولو امتَحن الإنسان نفسه في حبه وبغضه للأشخاص لوجدها في الغالب إلا من شاء الله دائرة على المصالح الخاصة به، وهذا الضابط قاله كثير من السلف ألا تزيد مع الصفاء، ولا تنقص مع الجفاء، مع أنه لا ينافي أن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها؛ لأن الجِبِلَّة غير المحبة الشرعية، قد يسيء إليك الإنسان وهو من أزهد الناس وأورعهم، نعم أنت مجبول على أن تبغضه لإساءته عليك، لكنك مطالب بأن تحبه في الله.

«وأن يكره أن يعود» أي يكره العَوْد في الكفر «كما يكره أن يقذف» أي مثل كراهيته القذف «في النار» يقول القسطلاني: وهذا نتيجة دخول نور الإيمان في القلب بحيث يختلط باللحم والدم واستكشافه عن محاسن الإسلام، وقبح الكفر وشَيْنه، فإن قلت: لِمَ عُدِّي العَوْد بـ(في) ولَمْ يُعدَّ بـ(إلى) كما هو المشهور، عاد في كذا، يعود في الكفر، ما قال: يعود إلى الكفر؟ أجاب ابن حجر كالكرماني: بأنه ضُمِّن معنى الاستقرار، ضُمِّن معنى العَوْد الاستقرار، أن يعود يعني يستقر في الكفر، كأنه قال: أن يعود مستقرًّا فيه، ومثله قوله تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا} [سورة الأعراف 89] وتعقبه العيني بأنه تعسُّف، وإنما (في) هنا بمعنى: (إلى) كما في قوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [سورة الأعراف 88] أي: تصيرون إلى مِلَّتنا.

قلت: كلام الكرماني وابن حجر جارٍ على تضمين الفعل، وكلام العيني جارٍ على تضمين الحرف، وكلاهما سائغ عند الأكثر، وإن كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يرجح تضمين الفعل دون الحرف. كلام ابن حجر والكرماني ضَمَّن العَوْد معنى الاستقرار، وساغ حينئذٍ التعدية بـ(في)، العيني ضَمَّن (في) معنى (إلى) ولذا قال: إنما (في) هنا بمعنى: (إلى). وعلى كل حال سواء ضَمَّنا الفعل أو الحرف كلاهما سائغ عند أكثر أهل العلم؛ لكن شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- يميل إلى أن تضمين الفعل أولى من تضمين الحرف، وعلى هذا يكون المرجَّح قول ابن حجر والكرماني.

زاد أبو نعيم في المستخرَج: «بعد أن أنقذه الله منه» وكذا هو في طريق أخرى للمصنف ستأتي الإشارة إليها -إن شاء الله تعالى­-.

قال ابن حجر: الإنقاذ أعم من أن يكون بالعصمة منه ابتداء بأن يولد على الإسلام، ويستمر أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، كما وقع لكثير من الصحابة، وعلى الأول فيُحمَل قوله «يعود» على معنى الصيرورة، بخلاف الثاني فإن العَوْد فيه على ظاهره، يعود إذا كان كافرًا ثم أسلم العَوْد ظاهر يعني يرجع إلى ما كان عليه قبل إسلامه، وإذا كان ممن ولد في الإسلام، ونشأ بين المسلمين فيكون معنى عَوْده للكفر صيرورته إلى الكفر، نسأل الله العافية والسلامة.

ترجم الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- في كتابه العظيم "كتاب التوحيد" بقوله: باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} [سورة البقرة 165] وقوله: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ} [سورة التوبة 24] ثم ذكر حديث أنس في تقديم محبة النبي -عليه الصلاة والسلام- على كل أحد -الحديث السابق- ثم ذكر حديث الباب.

مراد الشيخ -رحمه الله تعالى- بهذا الباب أن يبين أن المحبة نوع من أنواع العبادة، وأن من أحب مع الله غيره فقد أشرك بالله الشرك الأكبر المُخْرِج من الملة، كما كان عليه المشركون الذين قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} [سورة البقرة 165] والمحبة -كما قال أهل العلم- تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: محبة العبودية، وهذه يجب أن تكون خالصة لله -عز وجل-، وهي التي يكون معها ذل للمحبوب، وهذه لا يجوز صرفها لغير الله كغيرها من أنواع العبادة، فلا تجوز محبة غير الله محبة عبودية يصحبها ذل وخضوع وطاعة للمحبوب، وفي هذه المحبة يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-:

وعبادة الرحمن غاية حبه
وعليهما فلك العبادة دائرٌ
ومداره بالأمر أمر رسوله

 

مع ذل عابده هما قطبانِ
ما دار حتى قامت القطبانِ
لا بالهوى والنفس والشيطانِ

 

القسم الثاني: محبة ليس بمحبة عبودية ولا خضوع ولا ذل، بل هي محبة طبيعية كمحبة الإنسان للطعام، أو محبة إجلال كمحبة الولد لوالده، أو إشفاق كمحبة الوالد لولده، أو مؤاخاة ومصاحبة وموادَّة كمحبة الزملاء والشركاء وغير ذلك، وهذه الأقسام ليست من أنواع العبادة؛ لأنها ليس فيها ذل ولا خضوع، ثم ذكر الشيخ محمد -رحمه الله تعالى- قول ابن عباس -رضي الله عنه-: من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تُنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك -يقول ابن عباس- وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا، رواه ابن جرير، وقال في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [سورة البقرة 166] قال: المَوَدَّة.

على كل حال هذا باب عظيم، يجب على المسلم أن يزِنَ نفسه به؛ ولهذا يسميه بعضهم: بباب الامتحان، فكلٌّ يدَّعي الإيمان، وكلٌّ يدَّعي الزهد والورع، ولكن الميزان ما ذكر في هذا الباب، والله المستعان.

اللهم صل على محمد.

المقدم: أحسن الله إليكم.

إذًا مستمعينا الكرام، انتهى المقصود من هذه الحلقة، نستكمل ما تبقى من هذا الحديث -بإذن الله تعالى- في حلقة الأسبوع القادم، وأنتم على خير.

مستمعي الكرام، كان معنا في هذه الحلقة صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. شكر الله له، شكرًا لكم أنتم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.