شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك (01)

إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأمينه على وحيه وصفيه من بريته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

ففي هذه الليالي التي نرجو أن تكون مباركة نافعة -إن شاء الله تعالى-، نتعرض باختصار لشرح كتاب المناسك من كتاب زاد المستقنع في اختصار المقنع، الذي ألف أصله الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي ثم الدمشقي المتوفى يوم عيد الفطر سنة (620)، ومختصره لشرف الدين أبي النجاء موسى بن أحمد بن موسى الحجاوي، المتوفى في الثاني عشر من ربيع الأول سنة (960)، ولست بحاجة إلى أن أعرف بالكتابين أو بمؤلفيهما، فالكتابان كتابان معروفان مشهوران عند أهل العلم، تعرض لشرحهما جمع من أهل العلم، وليس لي مما سألقيه وأذكره لكم إلا الجمع من كلام أهل العلم سواء المتقدمين منهم والمعاصرين، تحريت فيه الإيجاز والوضوح لضيق الوقت، معتنياً بمذهب الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-، مشيراً إلى غيره من المذاهب المعتبرة عند أهل العلم، تابعاً فيه للدليل حسب جهدي واستطاعتي، فإن أصبت فمن الله -سبحانه وتعالى-، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان.

ففي البداية يقول -رحمه الله تعالى-:

كتاب المناسك" الكتاب: مصدر كتب يكتب كتاباً وكتابةً وكتباً، يقول أهل العلم: وهو من المصادر السيالة أي التي تحدث شيئاً فشيئاً، لأن الكَتْب لا يحصل دفعة واحدة مثل القيام مثلاً إنما الكتابة والكتب والكتاب إنما يحصل شيئاً فشيئاً، وأصل المادة التي هي الكَتْب الجمع، وهذا مر عليكم مراراً في تعريف كتاب الطهارة، كتاب الصلاة، كتاب الزكاة، كتاب الصيام، لكن لا مانع من التذكير به، أصل الكتب الجمع، كما يقال: تكتب بنو فلان إذا اجتمعوا، ومنه قيل لجماعة الخيل: كتيبة، وفي المقامات الحريرية:

وكاتبين وما خطت أناملهم حرفاً

 

ولا قرؤوا ما خُط في الكتبِ

إيش معنى هذا الكلام؟ هؤلاء كاتبون لكنهم لا يقرؤون ولا يكتبون.

............ما خطت أناملهم حرفاً

 

ولا قرؤوا ما خُط في الكتبِ

هذا من ألغاز الحريري، يريد بذلك الخرازين؛ لأنهم يجمعون بين صفائح الجلود بالخرز فيكتبونها بالأسيار، كما قال الشاعر، وإن كان البيت فيه ما فيه، لكن هو شاهد لما نحن فيه، وهم لا يتورعون في ذكر الشواهد وإن كان فيها ما فيها، يقول:

لا تأمنن...........................

 

...................................

ولعلنا نترك اسم القبيلة.

......................... خلوت به
ج

 

على قلوصك واكتبها بأسيارِ
ج

على كل حال أصل المادة الجمع، والمراد بالكتاب هنا المكتوب، مصدر يراد به اسم المفعول، الجامع لمسائل المناسك، والمراد بالمناسك هنا الحج والعمرة، فالمناسك جمع منسَك ومنسِك بفتح السين وكسرها، فبالفتح مصدر، وبالكسر اسم لموضع العبادة، ويقال للعابد: ناسك، والتنسك التعبد، تنسك فلان أي تعبد.

وغلب إطلاق المناسك على متعبدات الحج لكثرة أنواعها، والنسيكة هي الذبيحة، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [(162-163) سورة الأنعام] وعبر المؤلف -رحمه الله تعالى- بالمناسك ليشمل كلامه الحج والعمرة، وإن جاء في تعبير كثير من المؤلفين بالحج، ترجموا الباب أو الكتاب بالحج، من اقتصر عليه صار تعبيره قاصراً؛ لأنه لا يحتاج إلى العطف عطف العمرة إليه، ومن عطف عليه العمرة طول بغير طائل، إذ المناسك تشمل الحج والعمرة، والاختصار مطلوب ما لم يكن مخلاً، سم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:

كتاب المناسك:

العمرة والحج واجبان على المسلم الحر المكلف القادر في عمره مرة، على الفور، فإن زال الرق والجنون والصبا في الجج بعرفة وفي العمرة قبل طوافها صح فرضاً، وفعلهما من الصبي والعبد نفلاً، والقادر من أمكنه الركوب، ووجد زاداً وراحلة صالحين لمثله، بعد قضاء الواجبات والنفقات الشرعية والحوائج الأصلية.

يكفي.

يقول -رحمه الله تعالى-: "الحج والعمرة واجبان" الحج بفتح الحاء في الأشهر عكس شهر ذي الحجة، فالشهر بكسر الحاء، والركن بفتحها، الأشهر فتح الحاء، وإن قرئ في السبع: حِج، وعلى كل حال هما لغتان حَج وحِج، لكن الأشهر هو الفتح، والشهر الأشهر فيه الكسر ذي الحِجة، عكس القعدة الشهر الذي قبله فهو بالفتح.

والحج في اللغة: القصد إلى المعظم، أو كثرة القصد إليه هذا في الأصل، في اللغة القصد إلى المعظم أو كثرة القصد إليه، يقول الجوهري: ثم تعورف استعماله في القصد إلى مكة للنسك.

والحج في الشرع -في الاصطلاح-: قصد مكة لأداء النسك في زمن مخصوص تقرباً إلى الله -سبحانه وتعالى-، فالتعريف الشرعي له ارتباط وثيق بالتعريف اللغوي، الشرع يستعمل اللفظ في معناه اللغوي ويزيد عليه بعض القيود، كما نص على ذلك شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-.

ولا ينقل اللفظ اللغوي إلى الاستعمال الشرعي بحيث لا يكون هناك رابطة بين المعنيين الشرعي واللغوي، فالحج في اللغة القصد إلى المعظم، وهنا قصد مكة، وهي معظمة، لكن لأي شيء؟ زيد قيد أو قيود، إنما كان هذا القصد لأداء النسك، الذي هو نسك الحج، في زمن مخصوص على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى-، تقرباً إلى الله -سبحانه وتعالى-.

والعمرة في اللغة: الزيارة، يقال: اعتمره إذا زاره، وقيل: إنها مشتقة من عمارة المسجد الحرام، مأخوذة من عمارة المسجد الحرام، فالعمار يعمرون المسجد الحرام بالتردد إليه لأداء هذا النسك.

واصطلاحاً: زيارة البيت الحرام لعمل مخصوص وهو الطواف والسعي تقرباً إلى الله -سبحانه وتعالى-، الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- يضيف إلى التعاريف الشرعية للعبادات كلها لفظ التعبد لله -عز وجل-، فيقول مثلاً في الحج: التعبد لله -عز وجل- بأداء النسك على ما جاء في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، على كل حال هي عبارة جيدة، لكن إذا قلنا بالحد المعروف عند أهل العلم وأضفنا إليه تقرباً إلى الله -عز وجل- انتهى الإشكال، كل عبارة يفهم منها المقصود فإنها تكفي إذا كانت على سنن الحدود عند أهل العلم بأن تكون جامعة مانعة، على أن تعريف العبادات وغيرها من الأمور المعروفة لدى الخاص والعام المستفيض ذكرها ليس من عادة سلف هذه الأمة وأئمتها، لا تجد الأئمة الكبار يتعرضون لتعريف الصلاة مثلاً أو لتعريف الزكاة، أو لتعريف الحج أو غيرها من العبادات المعروفة عند الناس كلهم، فهي معروفة لدى الخاص والعام، لكن احتيج إليها، احتيج إلى مثل هذه التعاريف لما سلك الناس بالتأليف مسالك الترتيب، فهم يرتبون العلوم، بل تجدهم لا يجيزون ذكر الحكم حتى يتم التعريف على مرادهم، والأصل في هذه الحدود مأخوذة من المنطق، واعتنى بها أهل العلم وتعارفوا عليها، وصارت اصطلاح لهم، وعلى كل حال لا مانع من ذكر تعريف الشيء وإن كان معروفاً، اللهم إلا إن كان تعريفه مما يزيده غموضاً، فتعريف الأرض مثلاً، تعريف السماء، تعريف الماء، كل هذه مما يزيدها غموضاً، فتعريف مثل هذه المعروفات لا طائل تحته.

يقول -رحمه الله-:

"الحج والعمرة واجبان" أما وجوب الحج فلا خلاف فيه، بل هو ركن من أركان الإسلام ومبانيه العظام، ودعائمه الخمس التي بني عليها، قال تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [(97) سورة آل عمران] بل كونه ركن من أركان الإسلام معلوم بالضرورة من الدين، فمن جحد وجوبه كفر إجماعاً، من اعترف به ولم يحج مع الاستطاعة فعلى خطر عظيم، نسأل الله السلامة والعافية، اختلفوا في تكفير من تركه مع اعترافه بوجوبه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان: "اتفق المسلمون على أن من لم يأتِ بالشهادتين فهو كافر، وأما الأعمال الأربعة التي هي الصلاة والزكاة والصيام والحج فاختلفوا في تكفير تاركها، والقول بكفر من ترك واحدة منها، رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحاب مالك، فتارك أحد هذه الأركان مع قدرته على فعله لا شك أنه على خطر عظيم، فقد بني الإسلام على هذه الأركان، وكل بناء ترك بعض أركانه يوشك أن يتهدم، والقول المرجح عند جمهور العلماء أنه لا يكفر إلا من تكر الصلاة على خلاف بينهم في حكم تاركها أيضاً، وقد نقل اتفاق الصحابة -رضي الله عنهم- على كفر تاركها وإن كان معترفاً بوجوبها، وجاء في الحج من النصوص التي تدل على خطر من تركه فهو على خطر عظيم، جاء فيه نصوص مرفوعة وموقوفة، وإن كان بعضها لا يسلم من مقال، لكن يكفينا أنه ركن من أركان الإسلام، وأن الله -سبحانه وتعالى- قال في أية الوجوب: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [(97) سورة آل عمران].

جاء في الترمذي من حديث الحارث وهو الأعور عن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً، وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [(97) سورة آل عمران] يقول الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وعلى كل حال في إسناده الحارث الأعور وهو ضعيف، وهلال بن عبد الله الراوي عنه مجهول، فالحديث ضعيف، في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بني الإسلام على خمس: شهادة إلا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان))، وروى مسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((بني الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج)) فقال رجل: الحج وصيام رمضان، قال: "لا، صيام رمضان والحج" هكذا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا سبقت الإشارة إليه في الحديث على الصيام، وتقديمه على الحج أو العكس، وعلى كل حال لا مانع من التذكير بشيء من ذلك.

في المتفق عليه: ((الحج وصوم رمضان)) في صحيح مسلم عن ابن عمر المخرج واحد قال: ((وصيام رمضان والحج)) فقال رجل: الحج وصيام رمضان، قال: "لا، صيام رمضان والحج" هكذا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هذا قد يستشكله بعض الناس، كيف يقول ابن عمر فيما ثبت عنه وصح عنه في الصحيحين وغيرهما بتقديم الحج على الصيام، ثم يرد على من نبهه إلى تقديم الحج على الصيام، قال: لا صيام رمضان والحج، واختلف العلماء في إنكار ابن عمر -رضي الله عنهما- على الرجل الذي قدم الحج على الصيام مع أن ابن عمر رواه كذلك، يقول النووي في شرح مسلم: الأظهر -والله أعلم- أنه يحتمل أن ابن عمر سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- مرتين، مرة بتقديم الحج ومرة بتقديم الصوم، فرواه أيضاً على الوجهين في وقتين، لم رد على الرجل قال: لا صيام رمضان والحج ما نسي الرواية الأخرى، لكنه أراد أن يؤدب هذا الرجل الذي رد عليه وهو لا يعرف السبب.

رواه على الوجهين في وقتين، فلما رد عليه الرجل وقدم الحج، قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: لا ترد عليّ ما لا علم لك به، ولا تعترض بما لا تعرفه، ولا تقدح فيما لا تحققه، بل هو بتقديم الصوم هكذا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليس في هذا نفي لسماعه على الوجه الآخر، لكن إذا تدخل الشخص فيما لا يعنيه فلا بد من تأديبه بمثل هذا الأسلوب.

يقول الشراح: يحتمل أيضاً أن ابن عمر كان سمعه مرتين بالوجهين كما ذكرنا ثم لما رد عليه الرجل نسي الوجه الذي رده فأنكره، هذا احتمال، احتمال أن يكون إنكاره على الرجل من باب التأديب وألا يتسرع أحد برد ما لا علم له به، ويحتمل أيضاً أن ابن عمر نسي الوجه الأول الذي ذكره سابقاً، تبعاً لاختلاف هاتين الروايتين عن ابن عمر، جاء ترتيب الأركان في كتب أهل العلم على هذين الوجهين، فمنهم من قدم الصوم وهو الأكثر، ومنهم من قدم الحج كالبخاري قدم الحج على الصيام، وغيره قدموا الصيام على الحج، ولكل وجه، جاء من النصوص التشديد في ترك الحج ما جاء، فلذا قدم الحج على الصوم، وأكثر الرواة على تقديم الصيام على الحج، ولذا اعتمده جمهور أهل العلم ممن صنف في الحديث والفقه.

وأما العمرة فاختار المؤلف وجوبها وهو المذهب عند الحنابلة وفاقاً للجديد من قول الشافعي، يقول الإمام البخاري في صحيحه: "باب: وجوب العمرة وفضلها" وقال ابن عمر -تابع كلام البخاري-: وقال ابن عمر رضي لله عنهما: ليس أحد إلا وعليه حجة وعمرة، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: إنها لقرينتها في كتاب الله -عز وجل-: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} [(196) سورة البقرة] يقول ابن حجر في فتح الباري: جزم المصنف بوجوب العمرة وهو متابع في ذلك للمشهور عن الشافعي وأحمد وغيرهما من أهل الأثر، والمشهور عن المالكية أن العمرة تطوع وهو قول الحنفية، ابن حجر يقول: هو متابع في ذلك للمشهور عن الشافعي وأحمد، هذا الكلام فيه نظر؛ لأن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- أحد الأئمة المجتهدين، بل هو من كبار الفقهاء، من نظر في صحيحه في تراجمه وفي دقة نظره، ودقة استنباطه، وقارن بين أقواله وبين أقوال أهل العلم وجده من نمط الشافعي وأحمد ومالك وسفيان وإسحاق وغيرهم، فليس بمقلد -رحمه الله تعالى-.

فالإمام البخاري -رحمه الله تعالى- لا يتابع أحداً، وصحيحه وما تضمنه من اختيارات يدور فيها مع النص، يخالف فيها الأئمة أو بعضهم دليل على ذلك.

وسبق في الفتح الجزء الأول هذا الكلام في الجزء الثالث الكلام السابق وهذا في الثالث صفحة (597) سبق في الجزء الأول صفحة (243) من الفتح زلة من الحافظ حيث قال: إن جميع ما يورده البخاري من تفسير الغريب إنما ينقله عن أهل الفن كأبي عبيدة والنضر بن شميل والفراء وغيرهم هذا مقبول لا بأس به؛ لأن اللغة إنما تكون بالتلقي لا بالاستنباط.

يقول: وأما المباحث الفقيه فغالبها مستمدة له من الشافعي وأبي عبيد، وهذا الذي في الكلام وهو أن الإمام البخاري مجتهد، لا يقلد أحد لا الشافعي ولا أحمد ولا أبا عبيد، وأعظم من ذلك قوله: وأما المسائل الكلامية فأكثرها من الكرابيسسي وابن كلاب ونحوهم، هذه زلة وهفوة من الحافظ -رحمه الله-، البخاري مجتهد في الأحكام كما تقدم، كما أنه على معتقد أهل السنة والجماعة كما يظهر ذلك جلياً لمن قرأ الصحيح في مسائل الإيمان والتوحيد وغيرها، من أراد أن يعرف الفرق بين مذهب الإمام البخاري وبين ابن كلاب والكرابيسي وغيرهما فليقرأ في درء تعارض العقل والنقل في الجزء الأول صفحة (270) إلى (76) يعرف الفرق بين الإمام البخاري وبين هؤلاء.

طالب:.......

إذا عرفنا هذا فمن أدلة الوجوب يعني وجوب العمرة قوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث عائشة -رضي الله عنها- لما سئل -عليه الصلاة والسلام- على النساء جهاد؟ قال: ((نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة)) وهو حديث صحيح، مخرج في المسند بسند صحيح، وأصله في الصحيح، في البخاري، أصله في البخاري، وفي المسند وسنن أبي داود والترمذي من حديث أبي رزين العقيلي: أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، قال: ((حج عن أبيك واعتمر)) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الشافعي: لا أعلم في إيجاب العمرة أجود منه، ((حج عن أبيك واعتمر)).

استدل ابن عباس -رضي الله عنهما- بقوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} [(196) سورة البقرة] كما سبق في كلام الإمام البخاري تعليقاً، وهو موصول في الأم للإمام الشافعي، أما قوله: ((حج عن أبيك واعتمر)) في حديث أبي رزين هذا لا يمكن الجواب عنه إذا أمكن الجواب عن قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} [(196) سورة البقرة] لأن الأمر بالإتمام لا يعني الأمر بالابتداء، حديث جابر المرفوع المخرج عند ابن عدي والبيهقي: ((الحج والعمرة فريضتان)) يستدل به من يقول بوجوب العمرة لكنه حديث ضعيف، يقول ابن عدي: هو غير محفوظ، وله طرق، لكن لا ينجبر بعضها ببعض لشدة ضعفها، استدل من يقول بعدم الوجوب الحنفية والمالكية بما أخرجه الترمذي عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن العمرة أواجبة هي؟ قال: ((لا وأن تعتمروا هو أفضل)) لكن في إسناده الحجاج بن أرطأة وهو مدلس وقد عنعنه الترمذي -رحمه الله تعالى- في بعض النسخ صححه، قال المنذري: في تصحيحه نظر، وقال والبيهقي: رفعه الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف، ولذا ضعفه الألباني في ضعيف الترمذي، وعلى كل حال تصحيح الترمذي -رحمه الله تعالى- لا يعتد به جمهور العلماء؛ لأنه متساهل في التصحيح، نعم هو يصحح بالمجموع مجموع الطرق والشواهد التي يذكرها بقوله: وفي الباب، لكن إذا لم يوجد للخبر شاهد وصححه الإمام الترمذي، وفيه الضعف الظاهر دل ذلك عل أنه متساهل كما هنا، ولذا قال الذهبي وغيره: جمهور العلماء لا يتعدون بتصحيح الترمذي؛ لأنه متساهل، منهم من يعتد بتصحيح الترمذي، وهم جمع من أهل العلم، بل بالغ الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله تعالى- فزعم أن تصحيح الترمذي معتبر، وتصحيحه توثيق لرجاله، على هذا يكون الحجاج هنا ابن أرطأة ثقة عند الترمذي ومن يقلد الترمذي كأحمد شاكر، لكن الشيخ أحمد شاكر واسع الخطو جداً متساهل في التصحيح كما أنه متساهل في توثيق الرواة، وفي حاشيته على الترمذي ما يزيد على عشرين راوياً وثقهم وجمهور العلماء على تضعيفهم، وعلى كل حال الحديث ضعيف.

روى ابن ماجه عن طلحة بن عبيد الله أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((الحج جهاد، والعمرة تتطوع)) وإسناده ضعيف جداً، عمر بن قيس المكي المعروف بسندل متروك، والراوي عنه الحسن بن يحيى الخشني ضعيف، المفهوم من كلام شيخ الاسم ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: أن العمرة واجبة على الآفاقي دون المكي، ما وجه التفريق بين الآفاقي والمكي؟ النصوص التي تأمر بالحج تأمر الجميع، النصوص التي تأمر بالعمرة تأمر الجميع، ما وجه التخصيص عند شيخ الإسلام؟ نعم؟

طالب:..........

العمرة الزيارة، والزيارة تتصور ممن يقدم على المزور، نعم؟ يعني يقدم ويرجع، ولذا لما سمع الأعرابي قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [(1-2) سورة التكاثر] استدل بها على البعث، قال: بعث القوم ورب الكعبة؛ لأنه الزائر لا بد له أن يرجع، لكن هل مثل هذا يخصص مثل قوله -عليه الصلاة والسلام- ((حج عن أبيك واعتمر)) نعم النص جاء في آفاقي، لكن العبرة باللفظ نعم إذا تعارضت النصوص وأمكن حمل بعضها على بعض ولو بالتخصيص يقال به، لكن هنا في نص يعارض اللهم إلا أن تعريف العمرة في الأصل الزيارة، فالراجح وجوب العمرة في العمر مرة واحدة، وكون العمرة لم تذكر مع الحج في حديث الدعائم والأركان لا يعني عدم الوجوب، وكون العمرة واجبة لا يعني وجوبها مثل وجوب الحج يأثم بتركها لكن لم يترك ركناً من أركان الإسلام كما لو ترك الحج.

فالواجبات متفاوتة كما هو معلوم، إذا عرفنا هذا فالحج إنما شرع لحكم عظيمة، وأهداف سامية، فقد شرع الله الحكيم العليم لعبادة أن يجتمعوا في العبادات التي أمروا بها، هناك الاجتماعات المتتابعة في اليوم أكثر من مرة كالصلوات الخمس، وفي الأسبوع كالجمعة، وفي السنة إما مرة كالحج أو مرتين كالعيدين وهكذا،

فالإسلام يحرص على الاجتماع والتآلف لما في ذلك من التعارف والتوادد، والتآلف والتناصر، والتساند، وعقد أواصر المحبة والإخاء، وتبادل النصائح والتوجيهات، وتبادل الآراء، بما يعود عليهم بالمصلحة في دينهم ودنياهم، فالحج إن صح التعبير -وهذا يتداوله كثير من الكتاب المعاصرين- يقولون: أعظم مؤتمر ومجتمع إسلامي، لا شك أن تشريع الحج من محاسن الشريعة الإسلامية الكفيلة بمصالح المجتمع، فالذي في أقصى الأرض من جهة الغرب كيف يتسنى له أن يلتقي بمن هو في أقصى الشرق مثلاً لو لم يشرع الحج؟! وكثير من الرواة يثبت أهل العلم سماعهم من بعض وإن تباعدة الأقطار إذا لم يعرف أو لم ينقل أن فلاناً من الرواة لم يحج، يستدلون على الانقطاع بتباعد الأقطار إذا نص على أنه لم يحج، لكن إذا حج احتمال أنه لقيه في الحج وسمع منه.

سبقت الإشارة في شرح كتاب الصيام إلى تنوع العبادات، العبادات متنوعة، منها البدنية المحضة كالصلاة، ومنها المالية المحضة كالزكاة، ومنها المركبة منهما كالحج، وعرفنا الحكمة من هذا التنوع، حتى يتم الامتحان على وجهه، يتبين الكسول من غيره، يتبين الشحيح من الجواد، ربما سهل على بعض الناس بذل المال دون النفس، وبعض الناس بعكس ذلك، يصعب عليه بذل المال، ويسهل عليه خوض المعارك الضارية وهكذا، فجاءت العبادات متنوعة ليتم امتحان المكلفين بهذه الأنواع اللازمة حتى يعرف من يتمثل تعبد لله -سبحانه وتعالى- ومن يتمثل تبعاً لهواه، فإذا وافقت العبادة الهوى امتثل وإلا تخلف امتثاله، وذكرنا فيما تقدم أن لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- رسالة في تنوع العبادات، هذا في العبادات الواجبة فالتنوع لا بد منه في الواجبات، لكن بعض الناس يفتح له في بعض العبادات دون بعض، ويسهل عليه بعضها دون بعض، التنوع مطلوب، لكن إذا كانت نفسه لا تنقاد إلى بعض العبادات من المستحبات لا الواجبات، الواجبات لا خيار فيها، يصعب عليه أن يصوم النوافل، ويسهل عليه أن يقرأ القرآن ويتدبره، يصعب عليه الحج، ويسهل عليه أن يعلم العلم، نقول: إلزم ما يسر لك؛ لأنه في هذه الحالة يكون عطاؤه أكثر، ونفعه أعظم، مع مجاهدة النفس من أجل تذليلها لعمل ما يرضي الله -سبحانه وتعالى- من سائر العبادات، بعض الناس مثلاً في رمضان، بعض الناس جالس في المسجد يقرأ لا يستطيع أن يقدم لغيره شيئاً، وبعض الناس ما شاء الله صائم ولا يثني رجله، يساعد هذا، ويفعل مع هذا، ويفطر هذا، ويذهب إلى المسجد الفلاني يعظ الناس فيه ويتكلم ويفيدهم بما عنده من العلم، وبعض الناس راكد، فتح عليه باب البقاء في المسجد والمكث فيه، وتلاوة القرآن، وأغلق عنه كثير من الأبواب لا يستطيعها إلا بمشقة شديدة، وكل على خير، العبرة بالواجبات، الواجبات لا مندوحة لأحد ولا خيار لأحد فيها لا بد من الإتيان بها، مع القدرة والاستطاعة، أما مع العجز فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

أهل العلم يذكرون في كتب فقه وقواعد المفاضلة بين العبادات الشاقة والعبادات السهلة وأيهما أفضل من يأتي العبادة وهي شاقة عليه ومن يأتيها وهي سهلة على نفسه محببة إلى قلبه؟ فبعض العلماء يفضل إتيان العبادة مع المشقة على إتيانها مع الراحة، وبعضهم بالعكس، وهو الصواب، إتيان العبادة مع الراحة كون الإنسان إذا جاءت الصلاة لا تأتي الصلاة إلا وهو مشتاق إليها، ويشتاق إلى قيام الليل، ويقوم ويتلذذ به وبمناجاة ربه لا شك أنه أفضل ممن يشق عليه القيام، وإن كان لمن يشق عليه الأجر مضاعف، أجر العمل وأجر المشقة، كما جاء فيمن يقرأ القرآن وهو عليه شاق، يتتعتع فيه له أجران، لكن الذي يقرأه وهو سهل عليه يضبطه ويتقنه مثل هذا مع السفرة الكرام البررة وهذا أفضل بلا شك، يؤتى الإنسان أجر العمل وأجر المشقة، لكن أين أجر المشقة من الوعد الثاني؟ وهذا مطرد في العبادات كلها.

يقول -رحمه الله تعالى-:

"الحج العمرة واجبان على المسلم الحر، المكلف، القادر في عمره مرة على الفور" قوله: "على المسلم" يخرج الكافر، قوله: "مسلم" يخرج الكافر، فالكافر لا يجب عليه الحج، الكافر مخاطب بفروع الشريعة، ومنها الحج على الأصح من قولي العلماء، فكيف يقول المؤلف: واجبان على مسلم؟ مفهوم العبارة أن الحج لا يجب على الكافر، والمرجح عند أهل العلم أن الكافر مخاطب بفروع الشريعة، ومنها الصلاة والزكاة والحج وغيرها من شرائع الإسلام، نعم العبادات لا تصح من الكافر؛ لأن الإسلام شرط لصحة كل عبادة، لقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ} [(54) سورة التوبة] قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [(23) سورة الفرقان] العبادات لا تصح ولا تقبل من الكافر، فلا يطالب بها حال كفره؛ لتخلف الشرط الذي هو الإسلام، كما أنه لا يؤمر بقضائها إذا أسلم، إذاً ما فائدة كونه مخاطباً بفروع الشريعة؟

طالب:.......

نعم زيادة الإثم في الآخرة {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [(42-44) سورة المدثر] فقوله: "على المسلم" عرفنا أنه يخرج الكافر، هل العبارة هنا دقيقة أو ليست دقيقة؟ يعني كون الكافر لا يصح منه الحج هل يعني هذا أنه لا يجب عليه؟ لأن قوله: "على المسلم" جار ومجرور متعلق بقوله؟ نعم؟ واجبان، معنى هذا يجب الحج والعمرة على المسلم، مفهوم العبارة أنه لا يجب على الكافر، وعرفنا أن الكافر مخاطب بالفروع فكيف نقول: مخاطب بالفروع وهو يقول: لا يجب على الكافر؟ عبارة أنه لا يجب على الكفار نعم لا يصح من الكافر صحيح أما لا يجب فهو واجب عليه كغيره من شرائع الإسلام من فروع الشريعة.

الإسلام شرط لصحة الحج، من أهل العلم من يقول: الكافر مخاطب بترك المنهيات دون فعل المأمورات ويوافق     قول من يقول بعدم خطابهم مطلقاً هنا؛ لأن الحج مأمور، وليس بمنهي عنه، فليس بمخاطب به لتخلف الشرط، وعلى كل حال بحث هذه المسألة له موضع أخر، وهنا تكفي الإشارة.

 على المسلم الحر ضده العبد والمبعض فلا يجب عليهما الحج؛ لأنهما لا مال لهما، ومن شرط وجوب الحج الاستطاعة، فالذي لا مال له غير مستطيع؛ ولأن الحج يفوت على سيده منافعه، قد يقول قائل: إذا بذل المال للعبد يجب عليه وإلا ما يجب؟ ما هو المسألة مسألة مال قال سيده: هذا مال، نقول: يلزمه ويجب عليه؟ سيده مالك لمنافعه تنازل عنه لمدة أسبوع يروح يحج ويرجع، في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- الآتي ((من حج ثم عتق فعليه حجة أخرى)) يعني من حج وهو عبد ثم عتق فعليه حجة أخرى، ((ومن حج وهو صغير ثم بلغ فعليه حجة أخرى)) مخرج عند ابن خزيمة والحاكم والبيهقي، إلا أنهم اختلفوا في رفعه ووقفه، لكن قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: إسناده صحيح، صححه الألباني في الإرواء مرفوعاً وموقوفاً، فعلى هذا إذا ألزم بحجة أخرى دل على أن الحجة الأولى غير لازمة له، وحينئذٍ لا يجب عليه أن يحج، إذا ألزم العبد متى عتق، والصغير متى بلغ بحجة أخرى دل على أن الحجة الأولى غير لازمة، لكن لو حج حال رقه صح حجه وإن لم يجزئه، لا بد من الإتيان بحجة أخرى إذا عتق، ومثله الصغير على ما سيأتي.

قوله: "المكلف" البالغ العاقل، فالصغير لا يلزمه الحج، لكن لو حج فحجه صحيح، وأما المجنون فلا يلزمه الحج أيضاً؛ لأنه غير مكلف، لو حج يصح حجه وإلا ما يصح؟ المجنون لا يصح، نعم لأنه لا يتصور منه عقل الحج لحديث: ((رفع القلم عن ثلاثة)) منهم المجنون والصغير والنائم "القادر" القدرة هي الاستطاعة التي ذكرها الله -سبحانه وتعالى- في آية عمران: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [(97) سورة آل عمران] فقيد الوجوب بالاستطاعة، وسيأتي تفسير القدرة، فعندنا من الشروط الإسلام والحرية والتكليف والقدرة، فالإسلام والعقل شرطان للوجوب والصحة، على ما ذكره المؤلف، الإسلام والعقل شرطان للوجوب والصحة، والبلوغ وكمال الحرية شرطان للوجوب والإجزاء دون الصحة، فالصغير والعبد إذا حج يصح منهما الحج، لكنه لا يجزئ، يصح الحج منهما لكنه لا يجزئ، والاستطاعة شرط للوجوب دون الإجزاء، لو حج غير المستطيع حج غير المستطيع حجه صحيح وإلا لا؟ صحيح، مجزئ وإلا غير مجزئ؟ مجزئ نعم لكنه لا يجب عليه، إذا حج الكافر حجه غير صحيح، إذا حج المجنون حجه غير صحيح، إذا حج الصغير حجه صحيح، لكن لا يجزئ، إذا حج العبد حجه صحيح لكنه لا يجزئ، إذا حج غير المستطيع فحجه صحيح مجزئ، لكنه لا يطالب به حال العجز.

قوله: "في عمره مرة" أي واحدة، وهذا بالإجماع، لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا)) خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كثر في الأخير زيادة في صيغة الصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- وإدخال الآل معه، تجد كثير ممن ينتسب إلى العلم يقول: صلى الله عليه وآله وسلم، أولاً: امتثال الأمر يتم بالصلاة والسلام عليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [(56) سورة الأحزاب] والأمر بالصلاة على الآل إنما هو في التشهد خاصة، وسمعتها مراراً من أهل العلم سواء كانت في الإذاعة أو في محاضرات أو في غيرها يقول: صلى الله عليه وآله وسلم، ومعروف أن هذا شعار لبعض أهل البدع، فإذا أردت أن تصلي على الآل صل على الصحب؛ لينتفي هذا الشعار، إذا صليت على الصحب انتفى هذا، انتفت المشابهة، وأما الأمر بالصلاة على آله -عليه الصلاة والسلام- ففي التشهد، وفي غيره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [(56) سورة الأحزاب] يصلى على آله وعلى صحبه تبعاً له، ولا يصلى عليهم استقلالاً، وهذا استطراد لكني سمعته مراراً في الأيام الأخيرة هذه، في الإذاعة وفي غيرها، في مقدمة صديق في شرح مختصر البخاري ذكر أن السبب في ترك الصلاة على الآل مع وجوبها كالصلاة عليه -عليه الصلاة والسلام- أن سببه أن أئمة الحديث إنما صنفوا كتبهم في زمن يكثر في النصب، يعني معاداة أهل البيت، فكانوا يتركون الصلاة على الآل تقية، هكذا قال عن أهل الحديث قاطبة الذين لا يقولون: صلى الله عليه وآله وسلم، لا تجد في منصف من مصنفات أهل الحديث من يقول: صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: سبب ذلك التقية؛ لأن أكثر الدول التي تعاقبت الأموية والعباسية كلهم يناوئون أهل البيت، وإن كان العباسيون من أهل البيت، لكنه يقول: إن كون العباسيين لا يعترفون لأهل البيت بحقهم مع أنهم من أهل البيت، يقول: من باب قوله: "اقتلني ومالكاً واقتل مالكاً معي" يعني لا تصلي على الآل الذين هم في عرف بعض الناس علي وذرية علي، يقول: لا تصلّ عليهم، وإن كان الناهي هذا من العباسيين داخل في الآل، هذا ما أشار إليه صديق -رحمه الله تعالى-، وتبع في ذلك الصنعاني، الصنعاني أشار إلى شيء من هذا في حواشي شرح العمدة، لكن ليس الأمر كذلك، الأمر ليس كذلك، الصلاة عليه -عليه الصلاة والسلام- إنما يتم الامتثال بإفراده -عليه الصلاة والسلام- دون الآل والصحب، لكن إذا صلي على الآل والصحب تبعاً له فهو خير، وإفراد الآل دون الصحب لا شك أن فيه رائحة تشيع، كما إن إفراد الصحب دون الآل فيه رائحة نصب، فمن أراد أن يصلي على الآل يصلي على الصحب والعكس، والأمر بقوله: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد)) هذا في التشهد، وإن فرق بعضهم حتى في التشهد بين الصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- فأوجبها دون الصلاة على الآل، لكن هذا تفريق بغير دليل، تفريق بين ما جاء الشرع بالجمع بينه وبين نظيره، على كل حال هذا استطراد سببه تداول هذه...، تداول إفراد الآل بالصلاة دون الصحب.

الصنعاني عاش في بيئة التشيع فيها كثير، وتأثر بالبيئة، ولا شك أن البيئة مؤثرة في الشخص شاء أم أبى، من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر، لا بد أن يتأثر الشخص ببيئته ولو فتشنا على أنفسنا وجدنا أننا تأثرنا بأشياء سواء شعرنا بها أو لم نشعر هي موجودة متداولة في بيئتنا، فكون الصنعاني تأثر والشوكاني يتأثر، وصديق له نهم بتقليد هذين، وإن كان في الجملة من أهل التحقيق، ومن أهل العلم، وعلى مذهب أهل السنة والجماعة في الجملة، حتى في باب الصحابة وما يعتقد تجاه أهل البيت ليس عنده شيء من الغلو ولا التشيع، لكن هو في الغالب يحذو حذو الشوكاني والصنعاني.

حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا)) فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم)) ثم قال: ((ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم  بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)) رواه مسلم وأحمد والنسائي وغيره، وفي المسند والسنن عن ابن عباس أن الأقرع بن حابس سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟ قال: ((بل مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع)) وهو مخرج في السنن والمسند إلا إن أوجبه الإنسان على نفسه.

قوله: "على الفور" لحديث: ((تعجلوا إلى الحج -يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وصححه من حديث ابن عباس، وكون الحج على الفور هو قول أبي حنفية ومالك مع أحمد، وبه قال أكثر العلماء، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وجمع غفير من أهل العلم، قال الشافعية وبعض المالكية هو على التراخي قياساً على الصلاة؛ لأن الصلاة يجوز تأخيرها عن أول وقتها إلى أثنائه بل إلى آخره، والعمر قالوا: هو وقت الحج، يجوز أن يؤخر الحج على قول هؤلاء -يعني الشافعية وبعض المالكية- إلى أثناء العمر أو أخره، مع أنه لا بد أن يعزم على الحج كما أنه عليه أن يعزم على أداء الصلاة في وقتها ولو أخرها عن أول وقتها، الشافعية وبعض المالكية الذين قالوا: إن الحج على التراخي من أقوى ما يستدلون به أن الحج إنما فرض في السنة السادسة بقوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} [(196) سورة البقرة] ولم يحج النبي -عليه الصلاة والسلام- إلا في السنة العاشرة، تأخر أربع سنوات دل على أنه على التراخي، الذين قالوا: إنه على الفور قالوا: إن الحج الصواب فيه إنما فرض في السنة التاسعة، ولم يفرضه الله -سبحانه وتعالى- قبل ذلك؛ لأن فرضه إنما كان بقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [(97) سورة آل عمران] وهذه إنما نزلت في سنة الوفود سنة تسع التي نزل فيها صدر سورة آل عمران، كونه -عليه الصلاة والسلام- لم يحج سنة تسع، بل أمر أبا بكر أن يحج بالناس لئلا يرى المشركين يطوفون بالبيت وهم عراة، فأراد النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يطهر البيت من المشركين، وألا يرى هذه المناظر القبيحة.

يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: "بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر نؤذن بمنى ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان" مخرج في الصحيحين وغيرهما، وكان هذا في حجة أبي بكر سنة تسع من الهجرة، فكونه أخر الحج من سنة تسع إلى عشر لهذه العلة، فلا يدل على أن الحج على التراخي.

 

اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"