شرح مقدمة سنن ابن ماجه (09)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال -رحمه الله تعالى-:
باب: في الإيمان
تكلمنا في الترجمة والحديث الأول حديث الشعب، وهناك طريق أخرى أو أكثر من طريق لهذا الحديث عن أبي هريرة.
قال -رحمه الله-: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو خالد الأحمر عن ابن عجلان ح وحدثنا عمرو بن رافع قال: حدثنا جرير عن سهيل جميعاً عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحوه" والحديث مخرج في الصحيحين، ومر الكلام فيه.
ثم بعد ذلك قال: "حدثنا سهل بن أبي سهل ومحمد بن عبد الله بن يزيد قالا: حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يعظ أخاه في الحياء، فقال: ((إن الحياء شعبة من الإيمان))" في بعض الروايات في الصحيح: ((دعه، فإن الحياء لا يأتي إلا بخير)).
هذا الرجل الذي يعظ أخاه في الحياء، ويرى أن الحياء أثر في حياته، فلا يقدم على كثير مما ينفعه بسبب الحياء، يحجم عن بعض الأشياء فيتضرر بتركها، سواءً كان الضرر في دينه أو في دنياه؛ لأن بعض الناس يستحيي على حد زعمه، أو على حد زعم أخيه كما هنا، هذا يعظ أخاه يقول: لا تستحي خفف من هذا الحياء لتعيش مع الناس، والمراد بهذا الحياء الحياء العرفي الذي هو في الحقيقة خجل، وهذا الخجل مذموم؛ لأنه يعوق عن تحصيل ما ينفع، سواءً كان من أمور الدين، فيجعل الإنسان لا يتعلم العلم، ولا يتعلم العلم مستحيي ولا مستكبر، ويمنعه عن الإنكار، يمنعه عن أداء النصيحة لإخوانه التي أمر الله بها، يمنعه عن مزاولة بعض أمور دنياه التي يتضرر بتركها، فهذا الخجل مذموم بلا شك، وأما الحياء الشرعي الذي هو مانعٌ لما وكافٌ عما يذم به الإنسان، عما يذم به سواءً كان شرعاً أو عرفاً، فالحياء خير كله، وشعبة من الإيمان، فإذا كان هذا الحياء يكفه عما منعه الله منه، أو يكفه عما يشينه بين الناس فهذا شرعي، وأما إذا كان يمنعه من مزاولة ما أمر به، أو مزاولة ما ينفعه في أمور دينه أو دنياه فإن هذا مذموم.
فقال: ((إن الحياء شعبة من الإيمان)) وهذا يدل عليه الحديث السابق، حديث أبي هريرة: ((والحياء شعبة من الإيمان)) وأيضاً ما جاء في الرواية الأخرى: ((دعه، فإن الحياء لا يأتي إلا بخير)) فالحياء بلا شك ممدوح، وأما الحياء العرفي الذي يسميه الناس حياء وهو في الحقيقة ليس بحياء إنما هو عجز ومهانة وذل، هذا لا ينفع، هذا يضر صاحبه؛ لأنه يكفه عما أمر به شرعاً، أو يكفه عما ينفعه في أمور دنياه، فكثير من الناس يخجل، وهذا الوصف حقيقة قد تنظر إلى بعض الناس وتجده وتظنه من أشد الناس حياءً، وهو في الحقيقة على العكس تماماً يزاول ما حرم الله عليه هذا لا يستحي، ولو كان يخجل، وبعض الناس العكس تظنه لا يستحيي وهو في الحقيقة على درجة بالغة من الحياء، يعني على سبيل المثال من كبار الأدباء والكتاب مثلاً أحمد أمين مثلاً يُظن به وهو من كبار الكتاب وكبار الأدباء وله منزلة رفيعة عند قومه، منزلة كبيرة، يقول: إنه في بعض الأوقات لا يطلب الماء ليشرب خشية أن ينكب عليه من الحياء، وإذا أعطي الشاي لم يقبله خشية من ذلك، وقد يجلس في المجلس الساعات لا يستأذن ليقضي حاجته، كله من الحياء والخجل، وأعرف بعض الناس يتخرج في الجامعة ويتوظف وهو لا يستطيع أن يسلم على الإمام وهو في المحراب، لا بد أن ينصرف الإمام عن مكانه ثم يسلم عليه، لا يستطيع أن يتقدم أمام الناس، فهل مثل هذا ينفع؟ هل مثل هذا حياء شرعي؟ هذا ليس بشرعي، هذا خجل ويذم عليه، فمثل هذا كيف يتقدم بين يدي الناس ليعظهم وينفعهم وينصحهم، ويؤدي ما أوجب الله عليه من باب الأمر والنهي؟ هذا لا يستطيع أن يفعل شيئاً.
وعلى كل حال الحياء يحتاج إلى إعادة نظر؛ لأن مفهومه عند كثير من الناس ليس بصحيح، بعض الناس يفسر الحياء على طبعه الذي جبل عليه، وإن كان ضد الحياء، وتجد بعض الناس يستحيي من أشياء لا يستحيا منها، ويقدم على أشياء في غاية القبح، ويُظن هذا أنه هو الحياء، لا هذا الكلام ليس بصحيح، ولا شك أن الناس سعيهم شتى، فبعض الناس لا يستطيع أن يعارض أحد في أبسط الأمور من أمور الدنيا، لا يستطيع أن يعارضه، لكنه إذا ارتكب شيئاً مما حرم الله عليه عارضه بكل قوة، ولم يتردد في معارضته والإنكار عليه، وأما أمور الدنيا فيقول: أمرها سهل، يعني ما نحتاج إلى أن نكون جبهة معارضة في كل شيء، يعني بعض الناس يمرر هذه الأشياء بهذه الأشياء، يعني يجعل كلامه مقبول في أمور الدين لأنه لا يعارض الناس في أمور دنياهم، وهذا طيب إذا لم يترتب عليه ترك محظور، وبعض الناس العكس يقول: لكم دينكم ولي دين، الدين بكيفه، للبيت رب يحميه، لكن إذا اعترضنا في أمور دنيانا لا بد من أن نقف في وجهه، واهتمامات الناس لا شك أنها تختلف باختلاف على قدر تمسكهم بهذا الدين ومعرفتهم به.
ثم قال -رحمه الله تعالى-: "حدثنا سويد بن سعيد قال: حدثنا علي بن مسهر عن الأعمش ح وحدثنا علي بن ميمون الرقي" نحتاج أن نكرر الكلام في هذه الحاء المفردة التي يكتبها أهل العلم بين الأسانيد، في أثناء الأسانيد كما هنا، وأنها حاء التحويل عند الأكثر من إسناد إلى آخر، من أجل الاختصار، يستعملها مسلم كثيراً، وأبو داود يستعملها كثيراً، النسائي ابن ماجه، يستعملونها بكثرة، البخاري يستعملها بقلة، ومع ذلك يختلف موضعها عند البخاري عن موضعها في غيره، فالبخاري كثيراً ما يستعملها إذا انتهى الإسناد يأتي بالإسناد كاملاً، ثم يذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- ويقول: ح وحدثنا فلان، هذه الحاء على هذا الاصطلاح لا قيمة لها، ولذا يستظهر بعضهم أن الحاء هنا معناها الحديث، يعني اقرأ الحديث الآتي، أو أصلها خاء التي هي رمز المؤلف، يعني رجع الإسناد إلى المؤلف، وإلا من حيث ما قرروه في الحاء التي بها تختصر الأسانيد، ويذكر من الإسناد الأول إلى المدار الملتقى فيختصر نصفه، وتفيدنا هذه الحاء كثيراً لا تنطبق على استعمال البخاري في غالب أحواله.
المغاربة يقولون: إن هذه الحاء معناها الحديث، اختصار لكلمة الحديث، والأكثر على أنها حاء التحويل، وتقرأ مفردة هكذا: حاء ويمر، يعني بسرعة حاء وحدثنا، وشخص يقرأ في كتب المصطلح وعجز أن ينطق بها، عجز أن ينطق كلمة حاء ويمر؛ لأنها تكتب هكذا، وهذه الحاء تكتب حاء ويمر، ويش معنا حاء ويمر؟ ظنها كلمة واحدة، يعني يمر في الكلام، يدرج في الكلام ولا يقف عندها.
"وحدثنا علي بن ميمون الرقي قال: حدثنا سعيد بن مسلمة عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من خردل من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان))" وهذا الحديث بحروفه في مسلم، هذا مخرج في مسلم، ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من خردل من كبر)) والكبر شأنه عظيم، وإذا كان المراد به الكبر الذي ينطوي عليه قلوب كثير من الناس فهذا في غاية الخطورة، ولذا قال بعضهم: إن المراد بالكبر هنا الكبر عن الإيمان، فيتكبر فلا يؤمن؛ لأن الوعيد شديد، لا يدخل الجنة، وإن كان المراد به الكبر الذي جاء الشرع بتحريمه فالمراد بقوله: ((لا يدخل الجنة)) يعني مع أول الناس، مع أول الداخلين إن عوقب على هذا الكبر، والكبر خصلة ذميمة وقبيحة، وعائق في طريق المسلم الموصل إلى الله -جل وعلا- من العوائق، وفي طريق طالب العلم عن تحصيل العلم {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} [(146) سورة الأعراف] فالذي يتكبر ويوجد في قلبه هذا الكبر لا شك أنه يصرف عن آيات الله التي هي القرآن، ولذا دافع بعضهم عن شيخ الإسلام ابن تيمية بهذا، بعض من ترجم لشيخ الإسلام نظراً لقوة أسلوبه وردوده على المخالفين، وفي كل مجال يكون قوله حاضر بقوة يظن أن هذا ناشئ عن كبر، ذُكر هذا، ذكر هذا بعض من ترجم له، ودافع عنه من دافع، قال: لا يمكن أن يكون هذا العلم العظيم لا سيما بعلوم القرآن، وآيات الكتاب على طرف لسانه، وأسلة بنانه، كيف ييسر له هذا القرآن، وفي قلبه شيء من الكبر، والله -جل وعلا- يقول: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} [(146) سورة الأعراف] فالكبر خصلة ذميمة وعائق من أعظم العوائق في الطريق الموصل إلى الله -جل وعلا-، وفي الطريق المحصل للعلم الشرعي.
((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من خردل من كبر)) ذرة من خردل، الذرة يقولون: مائة ذرة تعادل حبة، والخردل شيء لا يرى بالعين المجردة، إنما يرى إذا فتحت النافذة، وسطعت الشمس والإنسان في ظلام يرى هذا الخردل، يعني ما يدخل مع النافذة من الشمس يكون فيها أشياء تتحرك، يقولون: هذا هو الخردل، المقصود أن في هذا تقليل ومبالغة في تقليل شأن هذه الذرة، وهي ذرة من خردل، يعني صغير من صغير، بل أصغر من أصغر، وهذا لا شك أنه يدل على خطورة الكبر، وسئل النبي -عليه الصلاة والسلام- لما قال مثل هذا الكلام، وجاء في ذم الكبر ما جاء قال بعضهم: إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((إن الله -جل وعلا- جميل يحب الجمال، ولكن الكبر بطر الحق، وغمط الناس)) يعني رد الحق، يرد الحق، يتكبر ويتعصب لرأيه، ويغمط الناس، حقوقهم ويترفع عليهم، ويحتقرهم، هذا هو الكبر -نسأل الله العافية-، والنفس والقلب يحتاج إلى معالجة دائمة، وإلا لو غفل عنه لو وجد فيه هذه الأمراض، فأمراض القلوب كثيرة، وهي بحاجة إلى متابعة علاج، متابعة مستمرة في العلاج، فالإنسان يحتاج إلى أن يعالج قلبه من أجل الإخلاص؛ لأن النية شرود، يخطر له أدنى شيء فيجترفه عن نيته، والإنسان يدخل في صلاته ثم يعتريه ما يعتريه لمحة خطفة، ثم ينساق ورائها، ويترك الصلاة، وإن كان في جسده يصلي، فعلى الإنسان أن يتحسس قلبه، ويراجع نفسه باستمرار، هذا بالنسبة للإخلاص، وأيضاً الكبر عليه أن يستحضر مثل هذه النصوص، فلا يترفع على الناس، ولا يتعالى عليهم، ولو كان من أغنى الناس، ولو كان من أعلم الناس مع أن الذي يتكبر على الناس العلم الذي ينطوي عليه فيه نظر؛ لأن العلم لا شك أنه هو الذي يعرف الإنسان بربه ويعلمه ويعرفه بنفسه، وإذا عرف ربه وعرف نفسه تبرأ من هذا الشين والعيب الذي يراوده، وأيضاً على الإنسان أن يراقب قلبه في مسألة العجب، بعض الناس قد يكون في مجلس أو في مكان فيبدو منه شيء يعجب به الحاضرون، ثم يعجب بنفسه، والعجب آفة أيضاً من أشد الآفات التي تقضي على الحسنات.
والعجب فاحذره إن العجب مجترفٌ |
| أعمال صاحبه في سيله العرمِ |
فعلى الإنسان أن يراجع نفسه باستمرار، ويتعاهد هذه النفس التي بين جنبيه، فمثل هذا لا يدخل الجنة -نسأل الله السلامة والعافية-، فإن كان متكبراً عن الإيمان فالحديث على ظاهره لا يدخلها ألبتة، وإن كان في قلبه شيء من الإيمان، وفي قلبه شيء من احتقار الناس، والكبر الذي جاء تعريفه في الحديث، فإن هذا لا يدخل الجنة مع أول الداخلين إن عوقب، إن عوقب لا يدخلها مع أول الناس، لكن لا بد أن يعاقب على..، هذا إن عوقب بل يعاقب على قدر ما في نفسه ومعصية من المعاصي يعذب عليها، ثم يكون مآله إلى الجنة إن كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان على ما في الجملة الأخرى.
((ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)) يعني هذا مقابل ذاك، فالذي يقابل الكبر الإيمان، والإيمان لا شك أنه يعالج القلوب من تلك الأمراض وتلك الأدواء ((ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)) إن كان المراد به أصل الإيمان، وأنه في قلبه أصل الإيمان، وقد فرط في الواجبات أو في بعض الواجبات، وارتكب بعض المحرمات، وفي قلبه أصل الإيمان، وفي قلبه مثقال حبة أو أكثر، فمثل هذا لا يدخل النار دخول الكفار، بمعنى أنه لا يخلد فيها، وإن دخلها ليعاقب على ما ترك من واجبات، أو يعاقب على ما فعل من محظورات؛ لأن الدخول يطلق ويراد به مجرد الدخول، وإن حصل بعده الخروج، ويطلق ويراد..، وهذا الأول هو دخول المسلمين أصحاب الكبائر، يدخلون النار ليعذبوا فيها بقدر جرائمهم، ثم يخرجون منها، ومآلهم إلى الجنة ومن أهل الجنة؛ لأن العبرة بالمآل، والدخول الثاني دخول الخلود الذي هو دخول الكفار، فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فإن هذا لا يدخل النار دخول الكفار، ولا يعني هذا أن مجرد الإيمان والتصديق كافٍ عن غيره في عدم دخول النار بالكلية، وأن العمل لا يشترط، بل العمل شرط لصحة الإيمان، والمراد بذلك جنسه كما قرر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، وسلف هذه الأمة كلهم على أن الإيمان قول وفعل وعمل، قول واعتقاد، قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان.
وسئل الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- عن من يقول: الإيمان قول وعمل، وكأنه عرف من حال هذا السائل ما عرف فقال: هذا أخبث قول، يريد بالعمل، القول الذي هو النطق، والعمل عمل اللسان لا عمل الجوارح، أو عمل القلب دون عمل الجوارح، فكأنه عرف من حال هذا السائل وهم يعرف بعضهم بعضاً.
قال -رحمه الله-: "حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أنبأنا معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا خلص الله المؤمنين من النار وأمنوا))" يعني دخلوا الجنة، الأمن إنما تكون بمجاوزة الصراط ودخول الجنة ((فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا)) يكون له حق عليه، له دين عليه، يجادله ويحاوره؛ ليحصل على دينه وعلى حقه ((فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا أشد مجادلة من المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار)) يجادلون الله -جل وعلا-، ويحاورونه ويطلبون منه، يطلبون منه أن يخلص إخوانهم من النار التي خلصهم منها.
((أشد مجادلة من المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار، قال: يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويحجون معنا فأدخلتهم النار!)) الله -جل وعلا- ليس بظلام للعبيد، أدخلهم النار بسبب ما عملت أيديهم، ما كسبت أيديهم، بحسب ما كسبت أيديهم، تركوا الواجبات، تركوا بعض الواجبات، ارتكبوا بعض المحرمات التي توعد عليها بدخول النار فأدخلهم، فأدخلتهم النار، وإن كانوا يصلون ويصومون ويحجون، لكنهم أدخلوا النار بسبب الذنوب والمعاصي والكبائر التي اقترفوها غير هذه الأعمال، قد يكونوا يسرقون، قد يكون بعضهم يشرب الخمر، بعضهم يزني -نسأل الله السلامة والعافية- بعضهم يرابي، بعضهم قاطع لرحمه، بعضهم عاق لوالديه، كل هذه -نسأل الله العافية- توعد عليها فاعلها.
((فأدخلتهم النار! فقال: اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم)) يعني يشفعهم الله -جل وعلا- فيهم، يقبل شفاعتهم فيهم، ويكون هؤلاء ممن رضي قوله وعمله، والله -جل وعلا- يأذن لهم فيها، ويقبل منهم هذه الشفاعة، فيقول: ((أذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم، فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم لا تأكل النار صورهم)) يعني النار لا تأكل مواضع السجود، مواضع السجود لا تأكلها النار، ومنها الوجه الذي يعرف به الإنسان ((لا تأكل النار صورهم، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى كعبيه)) يعني ومنهم من هو أكثر، ومنهم من هو دون بحسب جرائمهم التي ارتكبوها ((فيخرجونهم، فيقولون: ربنا أخرجنا من قد أمرتنا، ثم يقول: أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان)) وزن دينار من الإيمان، يعني ومن مقتضى الإيمان يعني ما هو مجرد ما وقر في القلب فقط ليقال: إن العمل ليس بشرط، إنما الإيمان مجموع القول والاعتقاد والعمل.
((أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان، ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار، ثم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل)) وهذا فضل الله -جل وعلا- حيث يعفو ويصفح، ويخرج هؤلاء من النار، والنار شأنها عظيم، وحرها لا يطاق ولا يستطاع، والنار التي نوقد عليها في الدنيا إنما هي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم -نسأل الله السلامة والعافية-، والتسعة والستون جزءاً حرها كل واحد منها حرها كحر النار، وجاء في بعض الأخبار أن من أهل النار من لو خرج إلى نار الدنيا لنام فيها، والواحد منا لا يستطيع أن ينام بدون مكيف، بل إذا كان التكييف فيه خلل لا يستطيع أن ينام، وقبل سنين كان الكهرباء غير منتظم، ورمضان في وقت الحر في الصيف، فإذا طفئ الكهرب في النهار ذهب الناس يبحثون عن..، من مسجد إلى مسجد لعلهم يجدون مسجد فيه كهرباء، وبعضهم يغسل ثيابه وفراشه بالماء، ويتخذ كافة الاحتياطات، هذا من الجو فقط بدون نار، كيف لو قرب من نار الدنيا؟ فكيف بنار الآخرة؟! فعلى الإنسان أن يحتاط لنفسه، ويقدم ما يخلصه من هذه النار.
"قال أبو سعيد: فمن لم يصدق هذا فليقرأ: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [(40) سورة النساء]" لأنه لو أدخل من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان النار دخول خلود لو أدخله دخول خلود لكان ظالماً له، أين ذهب مثقال هذه الذرة والله -جل وعلا- لا يظلم مثقال ذرة؟ {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [(40) سورة النساء].
فالسيئات مفردات، السيئة سيئة، والحسنة بعشر أمثالها، ومع ذلك بعض أهل الخيبة والحرمان والخسران تفوق آحادهم عشراتهم، وترجح كفة سيئاتهم على كفة الحسنات، ومثل هؤلاء لا شك أنهم مغبونون.
ثم بعد هذا قال -رحمه الله-: "حدثنا علي بن محمد قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا حماد بن نجيح" وكان ثقة "عن أبي عمران الجوني عن جندب بن عبد الله قال: "كنا مع النبي -عليه الصلاة والسلام- ونحن فتيان حزاورة" يعني جمع حزور أو حزَور، ضبط على الوجهين، والمراد به الغلام الفتي الذي اشتد وقوي، واشتد صلبه "ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن" تعلموا الإيمان ووقر في قلوبهم، وخالطت بشاشته قلوبهم "ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً" يعني جاء القرآن على قلوب مؤمنة، ورد القرآن على قلوب مؤمنة فازدادوا به إيماناً، لكن من تعلم القرآن قبل الإيمان مثلاً يتصور وإلا ما يتصور؟ تعلم القرآن قبل أن يؤمن، يعني مثل طريقة من يدرس الدين لنقضه مثلاً كالمستشرقين تعلموا القرآن وتعلموا السنة، وتعلموا بقية فنون المعرفة الإسلامية، وهدفهم إفساد الدين على أهله، فتعلموا من القرآن قبل أن يؤمنوا، ثم بعد ذلك أداهم هذا التعلم في بعض الحالات إلى الإيمان، فيكونون على هذا عكس ما كان عليه الصحابة، تعلموا القرآن قبل الإيمان، ثم جاءهم الإيمان، ودخولهم في الإيمان في هذه الحالة وهذه الصورة عن قناعة، لكنه يختلف عن حال من تعلم الإيمان قبل القرآن، فثبته القرآن، ولذا يقول: "فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً" لأن القرآن إذا تليت آياته على المؤمن زادته إيماناً، على القلب المؤمن تزيده إيماناً {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [(45) سورة ق] فالذي ينتفع {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [(55) سورة الذاريات].
هذا الأصل أن المؤمن ينتفع ويزداد بالقرآن، ويزداد بالمواعظ، ويزداد بالتذكير إيماناً، لكن مفهوم هذه الآيات أن غير المؤمن لا ينتفع بالقرآن، وهذا غالب وكثير، لكن مع ذلك قد ينتفع، فكم من شخص سمع القرآن فآمن بسبب سماعه القرآن {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي} [(9) سورة الإسراء] فعلى الإنسان المسلم لا سيما طالب العلم الذي من الله عليه بالإيمان والاتباع والاقتداء والحرص على السنة أن يتعلم من القرآن والسنة ما يزداد به إيماناً، وأن يقرأ القرآن على الوجه المأمور به؛ لأن هو الذي تترتب عليه آثاره، فإذا قرأ القرآن على الوجه المأمور به بالتدبر والترتيل، وقصد التقرب إلى الله -جل وعلا-، وقصد الانتفاع بالقرآن فإنه لا شك أنه يستفيد فائدة عظيمة، شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- يقول: قراءة القرآن على الوجه المأمور به تفيد الإنسان، وتفيد قلبه من الإيمان وتزيده إيماناً وطمأنينة وراحة ويقين، كل هذا ما لا يدركه إلا من عاناه وعرفه وعمل به، وابن القيم -رحمه الله تعالى- يقول:
فتدبر القرآن إن رمت الهدى |
| فالعلم تحت تدبر القرآنِ |
فعلى الإنسان الذي وقر الإيمان في قلبه وصدق إيمانه، واتبع ما أمر به، واجتنب ما نهي عنه، أن يعنى بهذا الكتاب، بهذا القرآن الذي فيه شفاء لأمراض القلوب والأبدان.
يقول: "ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً".
قال بعد ذلك: "حدثنا علي بن محمد قال: حدثنا محمد بن فضيل قال: حدثنا علي بن نزار عن أبيه" علي بن نزار الأسدي مضعف عند أهل العلم، وأبوه كذلك نزار بن حيان مضعف "عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((صنفان من هذه الأمة ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية))" ((صنفان من هذه الأمة ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية)).
المرجئة: هم الذين لا يرون العمل داخل في مسمى الإيمان، ولا شك أن فيهم الغلاة الذين يرون أن الإيمان هو مجرد المعرفة كقول جهم، وأن إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل، وهؤلاء دخولهم في مثل هذا الخبر دخولاً أولياً، إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل والمعرفة تكفي، ومن لازم قولهم أن إبليس مؤمن كامل الإيمان مثل إيمان جبريل؛ لأنه يعرف الرب -جل وعلا-، وأقسم بعزته، وطلب منه النظرة فدل على أنه يعرف الله -جل وعلا-، ولو كانت المعرفة كافية لكفت إبليس، وكذلك فرعون، وقد ألف بعضهم في إيمان فرعون، بعض الغلاة غلاة الصوفية ألف في إيمان فرعون، ولا شك أن هذا ضلال مبين -نسأل الله العافية- محادة لما جاء عن الله، مناقضة لصريح القرآن، ومع هذا يزعمون أن إبليس مؤمن، وأن فرعون مؤمن، وألفوا في إيمان فرعون رسالة معروفة، فضلاً عن إيمان أبي طالب، أو أبوي النبي -عليه الصلاة والسلام-، يعني هذه سهلة بالنسبة لادعاء إيمان إبليس، أو إيمان فرعون، أن أبا طالب يقول في لاميته، لا ما هو في اللامية، يقول:
ولقد علمت بأن دين محمد |
| من خير أديان البرية دينا |
هي نونية.
المقصود أن أبا طالب يعرف أن هذا الدين أفضل الأديان، ومع ذلك خُذل في آخر الأمر لتعلقه بديانة الآباء والأجداد، ولمضرة جلساء السوء، قال: هو على ملة عبد المطلب، فمات على الكفر، ونزل في قصته: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} [(56) سورة القصص] أما إيمان أبي طالب فكتب فيه من كتب، إيمان فرعون كتب فيه من كتب، ومقتضى قول الجهمية أن إبليس مؤمن؛ لأنه يعرف الله -جل وعلا-، وأما من يرى أن للأعمال أثر في دخول الجنة وعدم دخول النار أو العكس في ترك الأعمال، يعني منها واجبات ويعذب عليها، ويؤجر عليها، يؤجر على فعلها، ويعذب على فعلها والعكس في النواهي إلا أنها ليست بشرط لتحقق حصول الإيمان، يعني ليست جزء من الإيمان، ليست ركن من الإيمان، هؤلاء هم من يقال لهم..، من يسمون مرجئة الفقهاء، يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان، وإن أوجبوا الواجبات، وحرموا المحرمات خلافاً لجهم وأتباعه، هؤلاء هم مرجئة الفقهاء، وأهل السنة قاطبة يثبتون الأعمال، وأنها لا بد منها في مسمى الإيمان، وأن حصولها شرط يعني جنس العمل كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لئلا يقول قائل: إنه يلزم عليه أن يكون مذهب أهل السنة ومذهب الخوارج سواء؛ لأننا إذا اشترطنا جميع الأعمال في الإيمان وقلنا: شرط صحة، قلنا: إنه يخرج من هذا الإيمان بخروج شرطه وهو العمل الواجب، فيخرج منه بترك واجب أو بفعل محرم، وهذا قول الخوارج الذين يكفرون بارتكاب الكبيرة، أما أهل السنة فلا يقولون بهذا، إنما جنس العمل، يعني ما يدعي دعوى لا برهان عليها، يقول: إنه مؤمن وليس لديه عمل، لا يقبل هذا، فالعمل شرط لصحة الإيمان عند أهل السنة والجماعة، والأئمة الثلاثة كلهم على هذا، وأما رأي الحنفية فهو معروف أن الواجبات واجبات، ويأثم بتركها، والمحرمات محرمات، ويأثم بفعلها، لكنها ليست شرطاً لتحقق أصل الإيمان.
طالب:.......
لا لا ما في، تناقض هذا، تناقض، القدر الكمال القدر الزائد على الواجب، القدر الزائد على الواجب الكمال، إنما شرط الصحة له أثره في انتفاء المشروط بانتفاء جملته.
المرجئة والقدرية، القدرية يعني الناس في القدر طرفان ووسط، فيهم القدرية المثبتة المغرقة في الإثبات، وفيهم القدرية النفاة، فالقدرية المغرقة في الإثبات هم الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبور على جميع تصرفاته، وأن تصرفات المكلف مثل ورق الشجر في مهب الريح، لا علاقة له بها، هؤلاء الجبرية، الإنسان مجبور على أن يفعل ما يفعل، ولا اختيار له ولا قدرة ولا مشيئة ولا إرادة ألبتة، وإنما يتصرف مثل ورق الشجر في مهب الريح {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى} [(17) سورة الأنفال] فيرون أن الإنسان مجبور، ولو لم يكن مجبوراً لكان له إرادة وحرية واختيار، فيكون خالقاً لفعله لو لم يكن مجبوراً، ويقابلهم القدرية النفاة الذين ينفون القدر، وأن الأمر أنف، وأن الإنسان يخلق فعل نفسه، فأثبتوا خالقاً مع الله -جل وعلا-؛ ولذا سموا مجوس هذه الأمة، وأهل السنة وسط بين هؤلاء الغلاة، سواءً كانوا غلاة في النفي أو غلاة في الإثبات، فيثبتون للمخلوق قدرة وإرادة ومشيئة، لكنها تابعة لإرادة الله ومشيئته {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ} [(29) سورة التكوير] فأثبت لهم مشيئة، لكنها تابعة لمشيئة الله -جل وعلا-، لا يستقل بشيء لا يريده الله، فهؤلاء المثبتة الغلاة في الإثبات الذين هم الجبرية، أو نفاة القدر الغلاة في نفيه وهم القدرية، وهل الأولى بالاسم النافي أو المثبت القدرية؟ هل الأولى بهذه التسمية (قدرية) من ينفي القدر أو من يبالغ في إثبات القدر؟ نعم؟
طالب:.......
هذا الأصل، المبالغة في الإثبات أولى بالتسمية، لكن هذا الاسم أطلقه أهل العلم على المبالغ في النفي، في نفي القدر، وأن الأمر أنف، وأن الإنسان يستقل بفعله، وأنه يخلق فعله.
مذهب أهل السنة وسط بين القدرية وبين الجبرية، فيرون أن الإنسان له قدرة ومشيئة وإرادة تابعة لمشيئة الله -سبحانه وتعالى-، وأما قول الله -جل وعلا-: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [(17) سورة الأنفال] أثبت له الرمي ونفاه عنه، فالمراد بالنفي المنفي {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [(17) سورة الأنفال] يعني الإصابة، إصابة الغرض {إِذْ رَمَيْتَ} [(17) سورة الأنفال] الذي هو الحذف أثبته له، فالمخلوق يحذف، لكن المنفي عنه الإصابة، الله -جل وعلا- هو الذي يجعلك تصيب الغرض، وأما أنت منك فعل السبب الذي هو الرمي، فما أصبت إذ حذفت ورميت، ولكن الله -جل وعلا- هو الذي أصاب الغرض، فأثبت له الفعل، لكنه لم يثبته له على سبيل الاستقلال، وله مشيئة تابعة لمشيئة الله -جل وعلا-، وله إرادة تابعة لإرادته، ولو كان مجبوراً، كما تقول الجبرية على أفعاله لكان تعذيبه ظلماً من الله -جل وعلا-، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، إذ كيف يعذب على شيء لا اختيار له فيه؟! كمن يعذب شخص لأنه طويل أو قصير! هذا مقتضى قول الجبرية، وأما القدرية فأثبتوا خالقاً مع الله -جل وعلا-، والله -جل وعلا- يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [(96) سورة الصافات] فالله -جل وعلا- خالق الإنسان وخالق عمله، القدرية النفاة يثبتون خالق مع الله -جل وعلا-، وأنه يستقل بفعله، وعلى كل حال هما في الضلال سواء -نسأل الله العافية-، لا هؤلاء ولا هؤلاء، والقول الوسط هو قول أهل السنة والجماعة، والحديث ضعيف.
طالب:.......
في مسألة الاستطاعة وإلا غيره؟
طالب:.......
أولاً: القدرية هؤلاء أهل القدر، القول بنفي القدر انتشر في المعتزلة، فهم قدرية، وانتشر أيضاً في الروافض قدرية؛ لأنهم معتزلة في هذا الباب، وأما الأشاعرة فهم يشابهون الجبرية من مسألة الاستطاعة، يقولون: الاستطاعة لا توجد عند المكلف إلا مقترنة بالفعل، وإلا قبله ليس لديه استطاعة، فقولهم قريب من الجبرية، وبعض الأشاعرة جبرية، بعض الأشاعرة مغرقون في الجبر كالرازي في تفسيره يقرر الجبر، ويستدل له، ويورد الشبهات عليه.
ثم بعد هذا قال -رحمه الله تعالى-:
"حدثنا علي بن محمد قال: حدثنا وكيع عن كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر عن عمر" عن عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب "قال: كنا جلوساً عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاء" نعم؟
طالب:.......
هاه؟
طالب:.......
إيه ما قرأته؟
طالب:.......
اتفضل.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللسامعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً يا رب العالمين.
قال الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني المعروف بابن ماجه -رحمه الله تعالى-:
حدثنا علي بن محمد قال: حدثنا وكيع عن كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر عن عمر قال: كنا جلوساً عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاء رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد شعر الرأس، لا يُرى عليه أثر سفر، ولا يعرفه منا أحد، قال: فجلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، ثم قال: يا محمد ما الإسلام؟ قال: ((شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)) فقال: صدقت فعجبنا منه يسأله ويصدقه، ثم قال: يا محمد ما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)) قال: صدقت، فعجبنا منه يسأله ويصدقه، ثم قال: يا محمد ما الإحسان؟ قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إن لا تراه فإنه يراك)) قال: فمتى الساعة؟ قال: ((ما المسئول عنها بأعلم من السائل)) قال: فما أمارتها؟ قال: ((أن تلد الأمة ربتها)) قال وكيع: يعني تلد العجم العرب ((وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البناء)) قال: ثم قال: فلقيني النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ثلاث فقال: ((أتدري من الرجل؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((ذاك جبريل، أتاكم يعلمكم معالم دينكم)).
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا إسماعيل بن علية عن أبي حيان عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً بارزاً للناس فأتاه رجل فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وتؤمن بالبعث الآخر)) قال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: ((أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان)) قال: يا رسول الله ما الإحسان؟ قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إن لا تراه فإنه يراك)) قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: ((ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها فذلك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء الغنم في البنيان فذلك من أشراطها، في خمس لا يعلمهن إلا الله)) فتلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [(34) سورة لقمان].
حدثنا سهل بن أبي سهل ومحمد بن إسماعيل قالا: حدثنا عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهروي قال: حدثنا علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الإيمان معرفة بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان)) قال أبو الصلت: "لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لبرئ".
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"حدثنا علي بن محمد قال: حدثنا وكيع عن كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر عن عمر قال: كنا جلوساً عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاء رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد شعر الرأس" وفي رواية: "شديد سواد الشعر" فيشمل شعر الرأس واللحية "لا يرى عليه أثر سفر" شديد بياض الثياب، ثيابه نظيفة "لا يرى عليه أثر سفر، ولا يعرفه منا أحد" يعني مبالغة في التعمية؛ لتنصرف الهمم إلى هذا؛ لأنه لو جاء بشكل عادي رجل معروف وسأل هذه الأسئلة يمكن بعض الناس يتشاغل ولا ينتبه، لكن هذه الأمور مجتمعة: شديد بياض الثياب، وشخص غير معروف، وشديد سواد الشعر، يعني ليس عليه غبار، وليس فيه شيء يدل على التعب، أو ولا يرى عليه أثر سفر، ثيابه نظيفة، ورأسه أسود، ولا يرى عليه أثر سفر، ولا يعرفه أحد، كل هذه الأمور مجتمعة تجذب الحاضر؛ لأن يلقي بسمعه، ويحضر ذهنه لما يقال وما يجاب به.
"ولا يعرفه منا أحد، قال: فجلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسند ركبته إلى ركبته، ووضع يديه على فخذيه" أسند ركبته إلى ركبة النبي -عليه الصلاة والسلام-، فبعض الروايات بالتثنية ركبتيه إلى ركبتيه؛ لأن المفرد هنا فأسند ركبته إلى ركبته يطلق ويراد به الجنس، فيشمل الركبتين، ويطلق ويراد به الفرد الركبة الواحدة، وإذا قلنا: إنه ركبة واحدة معناه أنه جلس بجانبه لا بين يديه، وإذا قلنا: إن المراد جنس الركبة، ويراد به الركبتين جميعاً فيكون أمامه، بدليل ما سيأتي بعد "وضع يديه على فخذيه".
في الحديث الصحيح: ((لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء)) وفي الرواية الأخرى: ((ليس على عاتقيه منه شيء)) فعلى الرواية الأولى لو وضع شيئاً يسيراً على أحد العاتقين كفى، والثانية لا بد أن يضع على العاتقين ما يسترهما، فيطلق المفرد ويراد به الجنس فيشمل الاثنين في الركبتين، وفي العاتقين هنا.
"ووضع يديه على فخذيه" هذا الجائي على فخذيه يعني على فخذي نفسه، وهذا من تمام الأدب، ومن الشراح من يقول: وضع يديه على فخذيه، يعني فخذي النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهذا فيه مبالغة في التعمية، ليس هذا من الأدب، الأدب أن يضع يديه على فخذي نفسه، لكن ما دام وضع يديه على فخذي النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لئلا يخطر على بال الإنسان أنه ملك من الملائكة، مبالغة في التعمية كما قال بعض الشراح.
ثم قال: "يا محمد" ناداه باسمه، ومعلوم أن نداء النبي -عليه الصلاة والسلام- باسمه يا محمد جفاء، وقد أنكر على الأعراب {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [(4) سورة الحجرات] يقولون: يا محمد، يا محمد، أُنكر عليهم، وهذا الإنكار لا يتجه إلى الملائكة، ولذا قال: يا محمد، وهذا أيضاً فيه مبالغة في التعمية.
"ما الإسلام؟" قال، لما سأله عن الإسلام، يعني الأصل في تعريف الشيء وحده بما يكون جامعاً مانعاً، وقد يعرف الشيء بأقسامه الحاصرة التي لا يخرج عنها.
"ما الإسلام؟" فأجابه بالأركان، ما قال: الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، هذا تعريف جامع مانع على طريقة الحدود والتعاريف.
جواب النبي -عليه الصلاة والسلام- أجابه بالأركان التي إذا اجتمعت كمل بها الإسلام "قال: ((شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله))" هذا الركن الأول، ولا يدخل الإنسان في الإسلام إلا أن يتلفظ بالشهادتين، إلا بعد أن يتلفظ بالشهادتين ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولون أو يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله)) هذا هو الركن الأول بشقيه، والركن الثاني: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، هذه أركانه الخمسة الذي جاء الحديث المتفق عليه من حديث عبد الله بن عمر: ((بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)) هذا في الصحيحين، في مسلم: ((صوم رمضان والحج)) فهذه الأركان قد يعرف الشيء بأركانه وأجزائه التي لا يقوم إلا بها، ومقتضى كون الشيء ركن أنه جزء الماهية، ولا تتم هذه الماهية إلا به، كأركان الصلاة مثلاً، لو ترك ركناً من أركانها تصح وإلا تبطل؟ نعم؟ تبطل الصلاة، ماذا عما لو ترك ركناً من أركان الإسلام؟ أما بالنسبة للشهادتين فلا خلاف في كونه لا يدخل في الإسلام إلا بهما، من ترك الشهادتين ليس بمسلم إجماعاً، وأما بالنسبة لإقام الصلاة، فالأدلة تدل على أنه يكفر بتركها ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) ((بين العبد -أو قال: المرء- وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة)) وهذا هو المفتى به أن ترك الصلاة كفر، وأما بقية الأركان العملية الثلاثة الباقية فالكفر بترك واحد منها محل خلاف بين أهل العلم معروف عن بعض أصحاب مالك، ورواية عند الحنابلة أنه يكفر بترك أي ركن من أركان الإسلام، وهذا مقتضى الركنية، ولكن المأثور عن الصحابة أنهم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، فالقول المرجح عند جمهور أهل العلم أنه لا يكفر إلا بترك الصلاة.
"قال: صدقت" السائل يقول: صدقت "قال: فعجبنا منه يسأله ويصدقه" الأصل في السائل أن يكون غير عالم وغير عارف، بل جاهل بما يسأل عنه، فكونه يسأله ويصدقه هذا محل عجب، ولذا عجب منه الصحابة أن يسأله ويصدقه.
"ثم قال: يا محمد ما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر، والقدر خيره وشره))" فأجابه بأركانه الستة، كما أجابه بأركان الإسلام.
((تؤمن بالله)) يعني تقر وتعترف وتعتقد بربوبيته وإلهيته، وما ورد عنه من أسمائه وصفاته، وتأتمر بأوامره، وتنتهي عن نواهيه، وأنه هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت، وأنه هو المعبود بحق، وأنه لا يجوز صرف شيء من أنواع العبادة لغيره.
((وملائكته)) وما جاء في وصفهم مما في كتاب الله، وصح في سنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- تؤمن بالرسل كلهم، لا بد من الإيمان بهم، فمن كفر بواحد منهم سواءً كان في الملائكة ممن سمي، أو بالرسل والأنبياء ممن ذكر اسمه وعرف كفر بجميعهم.
"((واليوم الآخر)) الذي هو البعث بعد الموت ((والقدر خيره وشره)) قال: صدقت، فعجبنا منه يسأله ويصدقه، ثم قال: يا محمد ما الإحسان؟" يعني مراتب الدين الإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان، فالإسلام أوسع الدوائر، يطلق على ما لا يطلق عليه الإيمان وهو الإحسان، ثم يليه الإيمان، ثم المرتبة الأخيرة هي مرتبة الإحسان التي لا تحصل لكل أحد، ولو كان مسلماً، ولو كان مؤمناً؛ لأنه يلزم منها ملازمة المراقبة لله -جل وعلا-، وأن يكون الرب -جل وعلا- نصب عيني العابد في جميع عباداته.
"قال: ما الإحسان؟ قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))" يعني إذا لم تصل إلى هذه المرتبة التي تعبد الله كأنك تراه، وهذا من قوة إيمانك ويقينك وإذعانك وتصديقك بما جاء عن الله -جل وعلا-، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، يعني إن لم يكن ذاك فلا بد أن تكون على استحضار أنه يراك، فلا تفعل ما لا يرضيه.
"قال: فمتى الساعة؟ قال: ((ما المسئول عنها بأعلم من السائل))" يشترك في جهلها كل أحد غير الله -جل وعلا-، يشترك في عدم معرفة الساعة كل أحد {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ} [(63) سورة الأحزاب] ولا يدري أحد متى الساعة، لا يدري أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا أي مخلوق يعرف متى تقوم الساعة؟ والله -جل وعلا- كاد أن يخفيها عمن؟ عن نفسه، أما إخفائها عن غيره فهذا حاصل {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} [(187) سورة الأعراف] يعني فجأة، وبعضهم أخذ من هذه الكلمة بغتة أن الساعة تقوم سنة ألف وأربعمائة وسبعة، على حساب الجمل، صحيح على حساب الجمل ألف وأربعمائة وسبعة، الباء بكم؟ اثنين، والغين بعدد معين، والتاء والهاء كلها مجموعها ألف وأربعمائة وسبعة، الذي يعرف حساب الجمل يطبق هذا، وهذا قول ليس بصحيح، هذا القول ليس بصحيح؛ لأن النصوص القطعية دلت على أنه لا يعلمها إلا الله -جل وعلا-، وأن زمنها لم يحدد.
"قال: فمتى الساعة؟ قال: ((ما المسئول عنها بأعلم من السائل؟)) قال: فما أمارتها؟" يعني علامتها "فما أمارتها" يعني علامتها، جاء بشيء من العلامات "قال: ((أن تلد الأمة ربتها))" وقالوا في هذا: إنه يكثر السبي حتى أن الإنسان يكون له سبايا كثيرة، فيطأهن ويلدن، فتكون هذه البنت التي ولدت من السيد هي سيدة أمها، وهذا قال به جمع من الشراح، لكن السبي موجود في عصر النبي -عليه الصلاة والسلام- نعم، موجود في عصر النبي -عليه الصلاة والسلام- بسبب الجهاد والغزو يسبى النساء ويوطأن بهذا السبي ويحصل..، وهذا حاصل في زمنه -عليه الصلاة والسلام-، فليس من أمارات الساعة، ويقال: إن كثرة هذا هو من الذي من علامات الساعة، وإن وجد أصله في زمن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ومنهم من يقول: إن المراد به أنه يكثر العقوق بين الناس، وأن منزلة البنت من أمها بمنزلة السيدة من أمتها، وهذا حاصل في الوقت الحاضر، حاصل من بعض البنات يتسلطن على أمهاتهن، احتقرن أمهاتهن، وأمرن أمهاتهن، وزجرن أمهاتهن بسبب إيش؟ التفاوت بين البنات والأمهات في التعليم، تجد البنت تقول: أنا جامعية وأمها أمية، هذه مشغولة بدروسها أو بعملها إن كانت عاملة، والأم عاطلة المسكينة ما عندها شيء، فتأمرها البنت وتنهاها وتسخرها لخدمتها كأنها خادمة، وهذه السيادة ليست حقيقية وإنما هي حكمية، ما دام تأمر فتأتمر الأم، وتنهى فتنتهي فكأن البنت هي السيدة، وهذا مع الأسف حاصل، وهذا من مساوئ التعليم على الوجه الذي تؤدى به الآن، ولو كان التعليم مما يبتغى به وجه الله -جل وعلا-، وطلب من أبوابه وعن أهله ما حصل مثل هذا الخلل، لكان التعليم يربي الناس على بر الوالدين، واحترام الوالدين {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} [(23) سورة الإسراء] فضلاً عن كونها تقول: اصنعي كذا، أو اصنعي كذا، افعلي كذا، وهذا مع الأسف حاصل في البيوت، حاصل، تترفع عليها لأنها عاملة والأم عاطلة المسكينة، وأيضاً يذكي مثل هذه الأمور ما يكتب في الصحف، أو يلقى في وسائل الإعلام أن العاملة شيء، والعاطلة شيء آخر، بينهما بون شاسع، ومع الأسف أن الأم التي تربي أولادها تسمى عاطلة، وإذا خرجت لتربي أولاد الناس تسمى عاملة، وكل هذا قلب للموازين، وخلط في المفاهيم، وإلا وظيفة الأم الأصلية تربية الأولاد، وتنشئتهم على الدين، وأطرهم على الحق بدلاً من أن تكون مسكينة مأمورة منهية، تكون هي الآمرة وهي الناهية، والحديث يدل على قرب قيام الساعة؛ لأن هذا الأمر حاصل وواقع.
"قال وكيع: يعني تلد العجم العرب" هذا تفسير من وكيع، أن الأمة تلد ربتها؛ لأن الأم أعجمية والبنت عربية، لكن ليس بالضرورة أن يكون بهذه المثابة مثابة البنت من أمها بمثابة السيدة من أمتها، اللهم إلا إذا شاع بين الناس الفخر بالأنساب، وازدراء من لا نسب له، إذا وجد مثل هذا يطبق عليه الحديث، وينزل عليه، ويكون تفسيره صحيح؛ لأن من قبائل العرب من يزدري بعض الأعاجم، وهذا موجود، وهذه خصلة مذمومة، الناس كلهم لآدم، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، إذا كانت البنت تنظر إلى أمها على أنها أعجمية وهي بنت عربي، وأنها بمنزلة الرقيق من السيدة هذا ممكن تطبيقه، وهذا نوع من أو من جنس ما ذكرناه بالنسبة للتعليم والتفاوت في التعليم.
((وأن ترى الحفاة العراة)) أصحاب البادية أصحاب الإبل والغنم العالة، العالة على الناس الذين لا يحسنون شيئاً، عالة على غيرهم، رعاء الشاء يتطاولون في البناء، وهذا واقع، ووقوعه لا يحتاج إلى تدليل، وللبادية أحياء كبيرة في كثير من المدن، واختلطوا بالحاضرة وطاولوهم في البنيان فضلاً عن أن يكون هذا البنيان سكن يعني دورين ثلاثة يتطاولون أنا أطول، أنا أفخم، أنا أفعل، أنا أترك، فكيف إذا كان البنيان بعشرات الأدوار، بل بمئات الأدوار كما هو موجود الآن، يتطاولون في البناء.
"قال: ثم قال: فلقيني النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ثلاث" في الحديث الصحيح أيضاً في الرواية الأخرى: "فلبثنا ملياً" وفي بعضها: "فلبثنا طويلاً"، "فلقيني النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ثلاث، فقال: أتدري من الرجل؟ قلت: الله ورسوله أعلم" هكذا ينبغي أن يرد العلم، وأن يوكل العلم إلى الله -جل وعلا-، ورسوله في حال حياته، أما بعد وفاته فالعلم يرد إلى الله -جل وعلا-.
"الله ورسوله أعلم، قال: ((ذاك جبريل أتاكم يعلمكم معالم دينكم))" فالدين بشموله للإسلام والإيمان والإحسان، يعني جميع أبواب الدين، ولذا نفهم حديث: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) يعني يفقهه ويعلمه ويفهمه الدين بجميع أبوابه، لا مجرد الأحكام الذي هو الفقه العرفي، بل هو الفقه في الدين في جميع أبوابه، وأما كون جبريل جاء على صورة رجل فكثيراً ما يجيء على صورة إنسان، وأكثر ما يأتي على صورة دحية الكلبي، وأما الخلاف في الزائد من خلقته هل هو أفني أو بحسب ما يراه الرائي أو أزيل ثم يعود؟ هذه المسائل الخوض فيها لا قيمة له؛ لأن بعضهم يقول: وين الزائد جبريل يسد الأفق؟ ستمائة جناح، فأين الزائد من خلقه؟ هل هو فني؟ هل هو أزيل ثم يعود؟ هل هو موجود، لكن الرائي لا يرى، ما يرى إلا صورة إنسان؟ مثل هذه البحوث لا تنفع طالب العلم.
ثم بعد ذلك قال: "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا إسماعيل بن علية عن أبي حيان عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً بارزاً للناس" يعني ظاهراً للعيان "فأتاه رجل فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: ((إن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه وتؤمن بالبعث))" واللقاء هو اليوم الآخر المنصوص عليه في الحديث السابق، وهو البعث على قول بعض الشراح، ويكون عطف: ((وتؤمن بالبعث الآخر)) من باب عطف الشيء على نفسه للتأكيد، ومنهم من يقول: إن تؤمن بلقائه يعني رؤيته يوم القيامة، تؤمن برؤية الله -جل وعلا- يوم القيامة.
"قال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: ((أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً))" هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ((وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان)) وفي الرواية الأخرى: ((وتحج)) حج البيت "قال: يا رسول الله ما الإحسان؟ قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إن لا تراه فإنه يراك)) قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: ((ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها))" يعني عن علاماتها، قال: "((إذا ولدت الأمة ربتها فذلك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء الغنم في البنيان فذلك من أشراطها، في خمس))" يعني في ضمن مجموعة هي خمس "((لا يعلمهن إلا الله -جل وعلا-)) فتلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آخر سورة لقمان: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [(34) سورة لقمان]".
{إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [(34) سورة لقمان] فلم يطلع عليه أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل.
{وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [(34) سورة لقمان] لا يدرون متى ينزل؟ ومتى يحجب؟ وما يدرون ما كمية ما ينزل ولا كيفيته؟ فالله أعلم به، ينزل الغيث وليس لأحد دور في تنزيله.
{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [(34) سورة لقمان] فلا يعلم أحد من البشر ما في الرحم حتى يطلع عليه الملك، فيخرج عن دائرة الغيب.
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [(34) سورة لقمان] وكثير من الناس الآن واقعهم كأنهم يدعون علم ماذا يكسب غداً؟ يعني بعد تجارة الأسهم يعني بكل بساطة يرفع السماعة: يا فلان ساهم في كذا ترى غداً دبل، أو بعد أسبوع العشرة مائة {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [(34) سورة لقمان] ويش صارت النتائج؟ صارت النتائج عكسية، وهذه عقوبة من الله -جل وعلا-؛ لتساهل الناس في هذه الأمور، وادعاء علم الغيب -نسأل الله السلامة والعافية-، ضرب من الكهانة.
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [(34) سورة لقمان] الإنسان ما يدري أين تقبض روحه؟
يذكر أنه في عهد سليمان جاء ملك الموت وحضر جلسة من مجالسه، فصار ينظر إلى شخص ويعجب، فقال له سليمان: أراك تنظر في هذا الشخص فتتعجب منه، قال: جئت لقبض روحه في الهند، وهو موجود عندك الآن، فشعر الرجل بأنه هو المقصود بقبض الروح، فطلب من سليمان أن يجعل الريح تحمله إلى أرض الهند، فحملته إلى أرض الهند، فإذا بملك الموت ينتظره، فتعجب ملك الموت أنه تقبض روحه بالهند وموجود هنا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
"هذا مقتضى كلامه في المقدمة، لكن الواقع قد يكون في كثير من الأحيان عكس ذلك؛ لأنه قد يذكر الرواية التي فيها مقال، ثم يصححها، ويعلها بالرواية التي تليها، مما يكون أصح منها، فلست على حد سبري للكتاب ليس له طريقة مستمرة، وإن كان الاستقراء غير تام، لكن يبقى أنه لا يمكن أن يحكم بأنه يقدم الصحيح أو الأصح.
الحديث فيه كلام، وأدلته على الإجماع كثيرة تنتهض لأن الإجماع حجة، ولا تجتمع أمتي على ضلالة، هذا مقبول عند جمع من أهل العلم، ويستدلون به على ثبوت حجية الإجماع.
يقول: هل الأمة هنا محددة بزمن كالثلاثة القرون الأولى أم هنا غير ذلك؟
لا، ليس بزمن محدد، بل الأمة أمة الإجابة إلى قيام الساعة.
إذا كتبت الآيات متتابعة على هيئة كتابتها في المصحف صارت كأنها ورقة من المصحف، فلها حكمه، وإذا كتب على طريقة مخالفة لطريقة المصحف فلا تأخذ حكمها.
على كل حال طرق التخريج معروفة عند أهل العلم، فالحديث يخرج من مضانه الأصلية التي تروي الأحاديث بالأسانيد، إما عن طريق الصحابي، وهذه طريقة من الطرق، وفي هذا تحفة الأشراف كتاب نافع في هذا الباب، وكذلك المسانيد تنفع إذا كان الصحابي معروفاً يُبحث عنه عن طريق صحابيه في هذه الكتب، أما إذا كان الصحابي غير معروف وعرف طرفه وأوله، فهناك كتب أيضاً ألفت على أطراف وهي مرتبة على حروف التهجي الجامع الكبير الجامع الصغير، وغيرها من الكتب على هذه الطريقة.
إذا لم يُعرف أول الحديث ولا صحابيه، فبالإمكان أن يعرف عن طريق كلمة غريبة فيه، ويستفاد في هذا الباب من كتاب المعجم المفهرس، أو موضوع الحديث، ويستفاد في هذا من فهارس الكتب المرتبة على الأبواب والموضوعات، وكتاب مفتاح كنوز السنة أيضاً ينفع في هذا، وإذا كان الحديث له صفة خاصة يرجع فيه إلى هذه الكتب التي تبحث في هذه الصفة، كأن يكون فيه علة فيبحث في كتب العلل، يكون مرسل فيبحث في كتب المراسيل وهكذا، ثم يجمع طرق الحديث وينظر في أسانيدها، ويحكم عليها بعد ذلك.