شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (006)

وعلقمة يقول: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يقول، ولا يمنع اكتفاء الأئمة المصنفين بطريقٍ واحد، وترك غيره من الطرق إذا قامت به الحجة، وإلا فأين ذهبت الأحاديث التي يحفظها الأئمة؟ منهم من يحفظ سبعمائة ألف حديث، هذه طرق، منهم من يحفظ ستمائة ألف حديث، هذه أيضًا طرق، الحديث الواحد ربما يُروَى من مائة طريق فيسمى أحاديث، هذه الطرق أين ذهبت؟ لو بحثنا عنها في دواوين الإسلام الموجودة ما وجدنا منها إلا الشيء القليل، الأُمَّة بمجموعها معصومة من أن تُخِلَّ بشيء من دينها، فإذا ثبت الحديث عند بعضهم اكتفوا به، فلا يمنع أن يكون قد سمعه عن عمر جمعٌ غفير، واكتفوا بنقل علقمة؛ لأنه مما تثبت به الحجة، ويقوم عليه الأمر.

عرف بهذا أيضًا غلط من زعم أن التعدد شرط لصحة الحديث أو شرط للبخاري في صحيحه كما يومئ إليه كلام الحاكم، وهو مذكور عن البيهقي، ويقرره ابن العربي والكرماني الشارح وغيرهم، ولهذا يقول الصنعاني في نظم النخبة لما ذكر العزيز:

وليس شرطًا للصحيح فاعلمِ

 

 

وقيل: شرطٌ وهو قول الحاكمِ

 

وفي بعض النسخ من نظم النخبة قال:

وليس شرطًا للصحيح فاعلمِ

 

 

وقد رمي من قال بالتوهمِ

 

هذا الحديث فردٌ مطلق، لا يروى عن النبي -عليه الصلاة والسلام- بسندٍ صحيح إلا عن عمر، ولا عن عمر إلا عن طريق علقمة بن وقاص إلى آخر الطبقات الأربع، فكيف يقول من يقول أن تعدد الرواة شرط لصحة الخبر؟! وأول حديث في صحيح البخاري ينقض هذا الشرط ويبطله، وآخر حديثٍ كذلك حديث أبي هريرة: «كلمتان خفيفتان على اللسان»... إلى آخره، مثل حديث «الأعمال بالنيات» سواء بسواء، فرد في أربع طبقات، وفي الخامسة انتشر، مثل حديث الأعمال بالنيات وكأنهما سيقا للرد على هذه الدعوى، وغير ذلك من غرائب الصحيح. المقصود أن كون الحديث فرد لا يروى إلى من طريق واحد لا يقدح فيه، فهذا الحديث مما تُلُقِّيَ بالقبول، وقال شيخ الإسلام وغيره بقطعية هذا اللفظ، وقد تواتر عن الأئمة النقل في تعظيم قدْر هذا الحديث، فقيل: ليس في أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث، واتفق عبد الرحمن بن مهدي والشافعي وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو داود والترمذي والدارقطني وحمزة الكناني على أنه ثلث الإسلام، ومنهم من قال: ربعه، وقال ابن مهدي: يدخل في ثلاثين بابًا من العلم، وقال الشافعي: يدخل في سبعين بابًا وقال ابن مهدي أيضًا: ينبغي أن يُجعَل هذا الحديث رأس كل باب، لذا يقول الشاعر:

عمدة الدين عندنا كلماتٌ
اترك المشبَّهات وازهد ودع ما

 

 

مسندات من قول خير البرية
ليس يعنيك واعملن بنية

 

هذه الأحاديث الأربعة يدور عليها الإسلام فيما قرره أهل العلم، وجه البيهقي كونه ثلث العلم بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة بل أرجحها؛ لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها، ولذا ورد في الحديث: «نية المؤمن خيرٌ من عمله» والحديث فيه كلام لأهل العلم، بل هو مضعَّف عند جمعٍ منهم، ولو ثبت لا شك أن العمل بدون نية مرجوح بالنسبة للنية بدون عمل؛ لأن كثيرًا من الناس ينوي الخير ولا يستطيعه يثبت له أجره، لكن إذا عمل الخير بدون نية لا أجر له كما هو معروف.

المقدم: من خلال النسخة الموجودة والتي نصحنا الإخوة المستمعين أن يتابعوا معنا الطبعة أشرتم في البداية إلى ضرورة الرجوع إلى الأصل، وإضافة الآية ليستقيم المعنى، هناك كتب في البداية رقم (1) ولم يكتب باب  في هذه النسخة هذا الترقيم هل هو يغني عن الأبواب أم أن هذه النسخة ليس فيها باب؟

الأصل ما فيه، في رواية أبي ذر والأصيلي ما فيه، لكن في الروايات الأخرى توجد كلمة باب، فلعله اعتمد على رواية أبي ذر.

المقدم: في آخر الحديث مكتوب أطرافه ثم ذكر ترقيمًا، ما المقصود بأطراف الحديث هنا؟

يعني وروده في صحيح البخاري في المواضع بالأرقام المذكورة.

المقدم: الحديث لم يروه إلا عمر -رضي الله عنه- كما ذكرتم، ومع ذلك هناك اختلاف في بعض ألفاظ الحديث، هل يعني هذا أنه سمعه أكثر من مرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؟

قد يكون مرَدّ هذا الاختلاف إلى من رواه من بعد يحيى بن سعيد، قد يكون مرَدّ هذا الاختلاف في الألفاظ يرجع إلى من رواه بعد يحيى بن سعيد؛ لأنه عنه انتشر، والرواية بالمعنى عند أهل العلم جائزة بشروطها، رواية الحديث بالمعنى تجوز عند أهل العلم عند جمهور العلماء بشروطها: أن يكون الراوي عالمًا بمدلولات الألفاظ وما يحيل المعاني، أما إذا لم يكن كذلك فإنه لا يجوز له أن يروي بالمعنى، بل يجب عليه أن يأتي بلفظ الحديث.

إن رأيتم قبل الدخول في المفردات أن نشير إلى أن أحد وجهي التقسيم محذوف في الحديث، وهو وارد وثابت من رواية البخاري عن الحميدي، أحد وجهي التقسيم، ما معنى هذا؟ الحديث: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» الوجه الأول من أوجه التقسيم: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» وهذه محذوفة في هذا الموضع ومذكورة في مواضع أخرى، إنما ذُكِر الوجه الثاني من أوجه التقسيم، والذي يغلب على الظن أن الحذف من الإمام نفسه من البخاري، من الإمام البخاري نفسه.

المقدم: وهو موجود في الأصل بهذا اللفظ؟

في الأصل موجود بهذا اللفظ، محذوف في الأصل، محذوف في الأصل في الموضع الأول هنا، لكن في مواضع لاحقة موجود، فلماذا حذفه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-؟ الذي يغلب على الظن أن الحذف من الإمام البخاري؛ لأنه ثابت من رواية الحميدي، فالسبب في ذلك أن الوجه الأول من أوجه التقسيم الذي حذفه البخاري يوحي بالتزكية، وأن الإمام البخاري قصد ­-ولو من بُعد- بتأليفه هذا الكتاب الهجرة إلى الله ورسوله، وإنما أراد أو قصد حذف هذه الجملة مجانبة للتزكية التي لا يناسب ذكرها في هذا المقام، وذلك أن الجملة المحذوفة تُشعِر بالقربة المحضة، والجملة المبقاة تحتمل التردد بين أن يكون ما قصده الحصر بالقربة أو لا؟ وكان مذهب الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- جواز اختصار الحديث، وهو قول كثير من العلماء شريطة ألا يتعلق المذكور بالمحذوف، يعني لا يحتاج إلى المحذوف لبيان المذكور، شريطة أن لا يتعلق المذكور بالمحذوف، وأن يكون الراوي في منزلة بحيث لا يُتَّهَم بالتقصير وعدم الضبط إذا حذف أو الزيادة في الخبر إذا رواه تامًّا.

والإمام البخاري منزلته أكبر من أن يُتَّهَم بأنه حذف أو لم يضبط أو لم يتقن أو أخلَّ بشيء من الحديث أما إذا كانت منزلة الراوي الذي اختصر الحديث بحيث لو سُمِع مرةً تامًا ومرةً ناقصًا يتهم بأنه لم يضبط الحديث بل أخل ببعضه إذا رواه ناقصًا، أو زاد فيه من عنده مما لم يثبت، بل وهِم فيه فيما إذا رواه تامًّا، ومنزلة الإمام -رحمه الله تعالى- تربو على ذلك.

مفردات الحديث: "إنما" أداة حصر، وإفادتها للحصر بالمنطوق وضعًا حقيقيًا خلافًا لمن زعم أنها تفيده بالمفهوم عُرْفًا لا وضعًا مجازًا لا حقيقة، وهي بمثابة الاستثناء بعد النفي كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة التحريم 7] وقوله: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة الصافات 39]، فكون الآية جاءت مرةً {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة التحريم 7]، ومرةً {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة الصافات 39]، دلَّ على أن: "إنما" بمثابة ما وإلا، وكقوله: {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ} [سورة التغابن 12]، مع قوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ} [سورة العنكبوت 19]، فهي مثل ما وإلا، مثل الإثبات بعد النفي سواء بسواء.

ويستفاد الحصر أيضًا من جهة ثانية في الخبر، وهي تعريف جزئي الجملة «إنما الأعمال بالنيات» فـ (أل) في الأعمال للاستغراق، أي جميع الأعمال بالنيات، وهو من مقابلة الجمع بالجمع، الأعمال والنيات، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادًا، أي كل عمل بنية كل عمل لا بد له من نية، كما في قولهم: ركب القوم دوابهم، المقصود أن جميع القوم ركبوا دابة واحدة؟ أو ركبوها على التعاقب ركبوا واحدة ثم ركبوا واحدة؟ لا، كل واحد ركب واحدة، وهذا ما يقتضيه مقابلة الجمع بالجمع.

و"الأعمال" أي جميع الأعمال البدنية، قليلها وكثيرها، فرضها ونفلها، الصادرة من المكلفين صحيحة أو مجزئة إذا كانت مصاحبة للنيات. يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- في شرح البخاري: الفعلُ: من الناس من يقول: هو مرادفٌ للعمل، ومنهم من يقوله: هو أعم من العمل، فمن هؤلاء من قال: الفعل يدخل فيه القول وعمل الجوارح، والعمل لا يدخل فيه القول عند الإطلاق، ويشهد لهذا قول عُبَيْد بن عمير: ليس الإيمان بالتمني ولكن الإيمان قولٌ يُفعَل وعملٌ يُعمَل، يعني القول يدخل في الفعل ولا يدخل في العمل على هذا، خرَّجه الخلال.

ومنهم من قال: العمل ما يحتاج إلى علاج ومشقة، والفعل أعم من ذلك، ومنهم من قال: العمل ما يحصل منه تأثير في المعمول، كعمل الطين آجُرًّا، والفعل أعم من ذلك، كل هذا من كلام الحفاظ ابن رجب -رحمه الله- وما يليه أيضًا، ومنهم من قال: العمل أشرف من الفعل، فلا يطلق العمل إلا على ما فيه شرفٌ ورفعة بخلاف الفعل، فإن مقلوب عَمِل لَمَع، ومعناه ظهر وأشرف، وهذا فيه نظر، يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: وهذا فيه نظر، لماذا؟ يقول: فإن عمل السيئات يسمى أعمالاً، كما قال تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [سورة النساء 123] وقال: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} [سورة غافر 40]، ولو قيل عكس هذا لكان متوجهًا، فإن الله تعالى إنما يضيف إلى نفسه الفعل كقوله تعالى: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [سورة إبراهيم 45]، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [سورة الفجر 6]، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [سورة الفيل 1] {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} [سورة الحـج 18]، وإنما أضاف العمل إلى يديه كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [سورة يــس 71]، وليس المراد هنا الصفة الذاتية بغير إشكال، وإلا استوى خلق الأنعام وخلق آدم -عليه السلام-، واشتق سبحانه لنفسه أسماء من الفعل دون العمل، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [سورة هود 107].

ثم قال ابن رجب -رحمه الله تعالى- في موضع آخر من شرحه للبخاري: إن العمل يتناول القول، ويعتبر له النية، وأخرج أو صرَّح أبو عبيد القاسم بن سلام، النسخة المطبوعة من شرح ابن رجب، فيها خرَّج وصوابها صرَّح. صرَّح أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الطلاق له بدخول القول في العمل، وأن الأقوال تدخل في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الأعمال بالنيات» وأبو عبيد محله من معرفة لغة العرب المحل الذي لا يجهله عالم، هذا كلام ابن رجب -رحمة الله عليه-.

يقول: وقد اختلف الناس لو حلف لا يعمل عملاً أو لا يفعل فعلاً، فقال: قولاً هل يحنث أو لا؟ وكذا لو حلف ليفعلن أو ليعملن هل يبر بالقول أم لا؟ وقد حكى القاضي أبو يعلى في ذلك اختلافًا بين الفقهاء، وذكر في كتب الأيمان له أنه لا يبَرّ ولا يحنث، لكن هل سبب ذلك أن القول لا يدخل في العمل، أو سببه أمرٌ آخر وهو أن الأيمان والنذور مردها إلى الأعراف؟ نسمع ما يقوله الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: وأخذه من رواية أبي طالب وأخذه يعني القاضي أبا يعلى أخذ ما ذكره من رواية أبي طالب عن أحمد في رجلٍ طلَّق امرأته طلقةً واحدة ونوى ثلاثًا، قال بعضهم: له نيته، ويُحتج بقوله: «الأعمال بالنيات» قال أحمد: ما يشبَّه هذا بالعمل، إنما هذا لفظ المرجئة يقولون: القول هو عمل، لا يُحكَم عليه بالنية، ولا هو من العمل، الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- إنما ألمح إلى أمرٍ مهم، وهو أن تفسير العمل بالقول أو القول بالعمل هو قول المرجئة؛ لأن من المرجئة من يقول من يوافق السلف على أن الإيمان قولٌ وعمل، الإيمان اعتقاد وعمل، فيجزم بأن أو يفسر العمل هنا بالقول، فلا يخرج عن مذهب المرجئة، والإمام أحمد -رحمه الله تعالى- إنما يريد بهذا الكلام الرد على من يفسر العمل في قول السلف في معنى الإيمان بالقول، وأن القول عمل ويكفي في مسمى الإيمان.

يقول: إنما هذا لفظ المرجئة يقولون: القول هو عمل لا يحكم عليه بالنية، ولا هو من العمل. هذا كلام الإمام -رحمه الله تعالى-، قال ابن رجب: وهذا ظاهرٌ في إنكار ­تسمية القول عملاً بكل حال، وأنه لا يدخل تحت قوله: «الأعمال بالنيات» يقول: وكذلك ذكر أبو بكرٍ عبد العزيز بن جعفر في كتاب السنة، قال ابن رجب: وهذا على إطلاقه لا يصح، فإن كنايات الطلاق كلها أقوال، ويعتبر لها النية، وكذلك ألفاظ الأيمان والنذور أقوال ويعتبر لها أيضًا النية، وألفاظ عقود البيع والنكاح وغيرها أقوال وتؤثِّر فيها النية عند أحمد، كما تؤثِّر النية في بطلان نكاح التحليل، وعقود التحيل على الربا، وقد نص أحمد -رحمه الله- على أنَّ من أعتق أمته وجعل عتقها صداقها أنه يعتبر له النية، فإن أراد نكاحها بذلك وعتقها انعقدا بهذا القول، فأرجعه إلى النية، وكذلك ألفاظ الكفر المحتملة تصير بالنية كفرًا، واستدل القاضي أبو يعلى على عدم الحنث بذلك بأن الأيمان يُرجَع فيها إلى العرف، والقول لا يسمى عملاً في العرف، نعم جمهور العلماء يردون الأيمان والنذور إلى الأعراف، فمن حلف لا يمس دابةً مثلاً ووضع يده على ظهرها ومس شعرها يحنث؛ لأنه عرفًا يعد قد مس هذه الدابة، وإن كان الشعر في حكم المنفصل، لكن العرف يجعل هذا العمل يُحَنِّثه؛ لأنه مس الدابة عرفًا وإن كان الشعر في حكم المنفصل.

يقول: ولهذا يعطف القول على العمل كثيرًا، فيدل على تغايرهما عرفًا واستعمالاً، قال ابن رجب: ومن الناس من قال: القول يدخل في مسمى الفعل ولا يدخل في مسمى العمل وهذا الذي ذكره ابن خشاب النحوي وغيره، يقول: وقد ورد تسمية القول فعلاً في القرآن في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [سورة الأنعام 112] ما فعلوه وهو قول، وأما التروك، انتهى كلام الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-. وأما التروك فهي وإن كانت فعل كف لكن لا يطلق عليها لفظ العمل عرفًا، وإن جاء استعمالاً، قد قال بعض الصحابة:

لئن قعدنا والنبي يعملُ

 

فذاك منا العمل المضلِّلُ

 

فسمَّى قعودهم وتركهم العمل مشاركة للنبي -صلى الله عليه وسلم- عملاً مُضلِّلاً، لكن قد يورد على هذا الصيام وهو ترك المفطرات، ترك المفطرات الصيام بهذا الاعتبار ترك، فكيف تشترط له النية؟ الصيام تركٌ للمفطرات إمساكٌ عن هذه المفطرات الأكل والشرب والجماع، ولا بد له من نية؛ لأنه عبادة، فيشكل على قولهم إن التروك لا تحتاج إلى نية؛ لأنها ليست بعمل، والصيام وأنه يشترط له النية، ولا صيام لمن لم يبيت النية من الليل كما هو معروف، وهذا في صيام الفرض، أما في صيام النفل فإنه يجزئ ولو كانت من نهار، وعلى كل حال الترك والعزم على عدم الفعل فعل، ولو لم يكن إلا فعل القلب، ولذا يؤجر من ترك المعاصي قصدًا، أما من تركها لأنها لم تخطر على باله فإنه لا يؤجر على ذلك، أما من خطرت على باله المعصية وتركها فإنه يؤجر على تركها بلا نزاع، فقولهم أن التروك ليست بعمل فلا تحتاج إلى نيات فلا تدخل في الحديث هذا ليس على إطلاقه، لكن من قصد ترك المعصية بعد أن خطرت على باله، أو قصد فعل الطاعة فإنه يؤجر على هذا القصد.

وأما النية وهي عمل القلب فلا يتناولها الحديث، النية عمل، عمل القلب لا يتناولها الحديث لماذا؟ الأصل أنها ما دامت عمل أن يتناولها الحديث، لكن الحديث لا يتناول النية؛ لئلا يلزم التسلسل؛ لأن النية إذا احتاجت إلى نية فالنية التي قبلها تحتاج إلى نية، والنية التي قبلها تحتاج إلى نية وهكذا، وهذا ما يسمى بالتسلسل في الماضي، فيمنعه كثيرٌ من أهل العلم، لكن التسلسل في المستقبل لا إشكال فيه وصحيح، ولذا الشكر نعمة يحتاج إلى شكر، والشكر الثاني نعمة يحتاج إلى شكر وهكذا، ولذا لم يمنعوا تسلسل الشكر بخلاف تسلسل النية.

المقدم: الإمام أحمد قوله لما قال: بأن العمل هو القول أو القول هو العمل، أن هذا قول المرجئة، هل يمكن أن نقول أو نوضح كلام أحمد أن مقصود الإمام أحمد بأن القول هو العمل أو العمل هو القول أو المرجئة إذا قصروه على ذلك ولم يدخلوا فيه أعمال الجوارح؛ لأنه أشكل على بعض الناس؛ لأن أهل السنة يقولون أيضًا القول هو من العمل كما قرر أبو عبيد وغيره في كتاب الإيمان؟

الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- هو بصدد الرد على المرجئة، وتشديده في هذه المسألة للرد على هذه الفرقة المبتدعة الذين يقصرون تفسير العمل بالقول، وأن العمل لا يشمل إلا عمل اللسان فقط، والإمام أحمد -رحمه الله تعالى- حينما ينفي هذا لا يريد أن القول لا يدخل في مسمى العمل، وإنما ينكر على هذه الفرقة جعل العمل بإزاء القول تمامًا، بحيث لا يشمل العمل أمورًا أخرى من أعمال الجوارح غير اللسان، وإلا معروف عند أهل العلم قاطبة أن حركة اللسان عمل، واللسان جزء من البدن، وأيضًا عمل اليدين عمل، عمل الرجلين عمل، وعمل سائر الجوارح عمل، وعمل القلب عمل؛ لأنه جزءٌ من الإنسان وجزءٌ من البدن، فالعمل أشمل من القول، وأشمل من عمل القلب، وأشمل من عمل الجوارح، بحيث يضمها كلها.