شرح منظومة الزمزمي في علوم القرآن (02)

ترجمة الناظم:

الزمزمي ليس بالعالم المشهور الذي دونت ترجمته وفصلت، إنما يوجد كلام مختصر في "النور السافر"، وفي "شذرات الذهب"، وفي "الإعلام للزركلي"، في "معجم المؤلفين" كلام مقتضب، وترجم له في مقدمة الشرح، وبالإمكان تعريفه بسطرين أو ثلاثة، مجرد كشف يسير عن حياته.

قالوا في ترجمته: عبد العزيز بن علي بن عبد العزيز الشيرازي الأصل المكي، الشافعي المعروف بالزمزمي، لقبه: عز الدين، ولد سنة تسعمائة، له مؤلفات مختصرة؛ منها: هذه المنظومة الطيبة المباركة في علوم التفسير، ومنها أيضًا: فيض الجود على حديث شيبتني هود، ومنها: الفتح المبين في مدح شفيع المذنبين.

 اختلف في سنة وفاته؛ فالذي في "شذرات الذهب" و"معجم المؤلفين": توفي سنة ثلاثة وستين وتسعمائة، يعني: عن ثلاث وستين سنة، والذي في "الأعلام للزركلي" وبعض المصادر قالوا: إنه توفي سنة ستة وسبعين وتسعمائة.

وعلى كل حال، وإن لم يشهر ويذكر وتوصل في ترجمته إلا أن منظومته نافعة جدًّا، وإن لم تكن أصولها منه، لكنه نظم ما في النُقاية من ما يتعلق بعلوم القرآن، ونظمه جيد وجميل يستفاد منه، نعم.

القارئ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين والمستمعين، قال الناظم: حد علم التفسير:

عِلْمٌ بِهِ يُبْحَثُ عَنْ أَحـوالِ

 

كِتابِنا  مِنْ  جِهَةِ   الإِنْـزَالِ

ونَحْوِهِ، بالخَمْسِ والخَمْسِينا

 

قَـدْ حُصِرَتْ أَنواعُهُ   يَقينا

وقَدْ حَــوَتْهاُ سِـتَّةٌ عُقُودُ

 

وبَعـدَهـا خاتِمَـةٌ  تَعُودُ

وقَبْلَها لا بُـدَّ مِنْ مُقَـدِّمَةْ

 

بِبَعْضِ ما خُصِّصَ فيهِ مُعْلِمَةْ

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في حد علم التفسير؛ والحد: هو التعريف وجمعه حدود، والتعاريف يُعنى بها أهل العلم عناية فائقة، يحررونها ويجودونها ويذكرون القيود المدخلة والمخرجة؛ ليكون التعريف جامعًا مانعًا، ويذكرون المحترزات، فهم يضبطونها ويتقنونها.

والعناية بالحدود والتعاريف وجدت في المتأخرين أكثر، أما سلف هذه الأمة فلا يذكرونها إلا نادرًا؛ لأن المصطلحات لا يختلفون فيها، فمن يحتاج إلى تعريف الصلاة؟ عند المتقدمين لا يتعرضون لتعريفه، لا يتعرضون لتعريف الزكاة ولا الصوم؛ لأنها أمور عملية معروفة، وتعريف وحد بعض الأمور مما يزيد في غموضه وخفائه، أمور قد تكون، بعض الأمور تكون معروفة بين الناس، فإذا عُرفت ضاعت، لو بحثت في مصنفات المتقدمين ما وجدت تعاريف إلا القليل النادر الذي تختلف حقيقته الشرعية عن حقيقته العرفية يحتاجون إلى بيان شيء من هذا، وأما المتأخرون فجعلوا الحد ركنًا ركينًا، وأساس في التعريف في التعليم والتعلم والتأليف، فلا يتكلمون عن شيء إلا بعد تعريفه، ويقولون: إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والتصور لا يكون إلا بالحد، لكن قد يكون الشيء متصورًا، فمن يحتاج إلى معرفة الماء؟ من يحتاج؟ عرفوا الماء، عرفوه بأنه مركب من كذا وكذا، وذكروا أشياء جل الناس لا يعرفها، وعرفوا السماء، وعرفوا الأرض، وعرفوا الهواء وعرفوا، كل هذه لا تحتاج إلى تعريف. ولهم تقسيمات للحدود والرسوم لكن سلف هذه الأمة لا يُعنون بها، وإذا قامت الحاجة إلى تعليم شيء فلا بدّ من تعريفه، يعني كيف يتكلم عنه ويبحث عن حكمه وهو لا يعرف.

يقول في حد علم التفسير:

عِلْمٌ بِهِ يُبْحَثُ عَنْ أَحـوالِ

 

كِتابِنا  مِنْ  جِهَةِ   الإِنْـزَالِ

ونحوه.........................

 

................................

(علم به يبحث عن أحوال): علم التفسير وعلوم القرآن وأصول التفسير تطلق ويراد بها: علم واحد -على ما تقدم- نظير إطلاقات علوم الحديث. فهذا العلم (يبحث عن أحوال كتابنا)، ذكرنا بالأمس عند قوله: (ضمنتها علمًا هو التفسير)، أنه لا يريد بذلك التفسير التفصيلي للآيات، وإنما يريد ما يتعلق بالقرآن إجمالًا، نظير ما يبحث في أصول الفقه وعلوم الحديث من حيث الإجمال، فيبحث به عن الأحوال. وإذا أردنا أن ننظر علوم التفسير أو علوم القرآن مع التفصيل بعلوم أخرى قلنا: إن علوم القرآن بمنزلة علم النحو الذي يبحث فيه عن أحوال الكلمة وعوارضها، والتفسير نظير علم الصرف الذي يبحث فيه عن أجزاء الكلمة وحروفها، ولو أبعدنا قليلًا لقلنا: إن علم التفسير وعلوم القرآن نظير علم الطب؛ يبحث فيها عن أحوال المرض، مسببات المرض وعلاج المرض، والتفسير التفصيلي نظير علم التشريح، هكذا قالوا، والتنظير شبه مطابق.

قد يقول قائل: إن من التفسير ما هو إجمالي وليس بتفصيلي، فهل يدخل في علوم القرآن؟ التفسير الموضوعي مثلًا؛ تجمع آيات تبحث في موضوع واحد، فهل نقول: إن هذه تدخل في علوم القرآن أو في التفسير؟ ونقول: إن التفسير ينقسم إلى قسمين: تفسير موضوعي وتفسير تحليلي، أو نقول: تفسير إجمالي وتفسير تفصيلي؟ هذه مدخلة في التفسير نفسه لا في علم التفسير.

المقصود: أن علم التفسير وعلوم القرآن: علم يبحث به عن أحوال كتابنا الذي هو القرآن العزيز، من جهة نزوله.

(ونحوه): مما يذكر في العقود الستة: العقد الأول يقول: ما يرجع إلى النزول زمانًا ومكانًا، والنزول والإنزال والتنزيل بمعنى واحد، من جهة إنزاله هل هو: مكي وإلا مدني؟ سفري وإلا حضري؟ صيفي وإلا شتائي؟ ليلي وإلا نهاري؟ من جهة وقت إنزاله، ومن جهة مكان إنزاله، وكيفية النزول بأنواع الوحي مثلًا، وغير ذلك ممّا يتعلق بالقرآن من المسائل والأنواع التفصيلية التي نذكرها -إن شاء الله تعالى-.

ولذا قال:

................................

 

....  مِنْ  جِهَةِ   الإِنْـزَالِ

ونَحْوِهِ، بالخَمْسِ والخَمْسِينا

 

قَـدْ حُصِرَتْ أَنواعُهُ   يَقينا

لكن هل الحصر استقرائي شامل لا يقبل المزيد ولا النقص، أو هو قابل للمزيد والنقص؟ يعني: هل القسمة حاصرة إلى خمسة وخمسين أو أنه قابل للزيادة؟ هو تبع في ذلك النُقاية، والُنقاية ألفت للمبتدئين واقتصر فيها على بعض الأنواع دون بعض، وإلا فمؤلف النُقاية السيوطي ذكر في "التحبير" مائة ونوعين، قريب من الضعف مما ذكره هنا، وفي "الإتقان" قلت الأنواع، لكنها زادت على ما عندنا كثيرًا؛ لأنه ضم بعضها إلى بعض، وفي بعضها من التشابه ما يمكن ضمه إلى الآخر.

...... بالخَمْسِ والخَمْسِينا

 

قَـدْ حُصِرَتْ أَنواعُهُ   يَقينا

لماذا ما قال: بالخمسة والخمسين، أو خمسة وخمسين؟ هذا يؤيد كونه إذا قلت: جاء خمسة وخمسون رجلًا، ولو كانت نساء نقول: جاء خمس وخمسون امرأة، فهنا إذا كان التمييز نوعًا: للخمسة والخمسين نوعًا، لا بدّ أن نأتي بالتاء، إذا حذف التمييز جاز التذكير والتأنيث، و((من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال))، لو ذكر التمييز فهي أيام، فلا بدّ أن يقال: وأتبعه ستة أيام من شوال، ما دام التمييز غير مذكور يجوز التذكير والتأنيث.

ونحوه، بالخَمْسِ والخَمْسِينا

 

قَـدْ حُصِرَتْ أَنواعُهُ   يَقينا

وعرفنا ما في هذا الحصر من إمكان الزيادة، وقد وجدت الزيادة.

(حصرت أنواعه يقينًا)، يعني: أهم أنواعه مما يحتاجه الطالب المبتدئ.

(وقد حوتها)، أي: حوت هذه الأنواع.

وقد حوتها ستة عقود

 

................................

نظم هذه الأنواع كل مجموعة منها عشرة أو تزيد أو تنقص، كل مجموعة منها في عقد، مجموعة متشابهة جعلها في عقد واحد فصارت العقود ستة؛ وهي الأبواب التي تتفرع عنها الفصول، فالعقود بمثابة الأبواب، والأنواع الداخلة في هذه العقود بمثابة الفصول.

وقَدْ حَــوَتْهُا سِـتَّةٌ عُقُودُ

 

وبَعـدَهـا ....................

بعد هذه العقود الستة خاتمة.

(خاتمة تعود): ختم بها المنظومة.

(وقبلها)، يعني: قبل العقود الستة.

(لا بدّ من مقدمة): هذه خطة المنظومة التي جرى عليها الناظم، كل إنسان يريد أن يؤلف لا بدّ أن يضع بين يديه خطة يسير عليها، والبحوث التي يكلف بها الطلاب يكلف قبل ذلك الطالب بوضع خطة، ويذكر في الخطة تمهيدًا أو مقدمة، وأبوابًا وفصولاً وخاتمة، والآن رسم الخطة.

يقول:

وقَدْ حَــوَتْهاُ سِـتَّةٌ عُقُودُ

 

وبَعـدَهـا خاتِمَـةٌ  تَعُودُ

وقَبْلَها لا بُـدَّ مِنْ مُقَـدِّمَةْ

 

................................

فالمنظومة تشتمل على مقدمة، والأصل أن تكون المقدمة في صدر الكلام؛ إذ كيف تكون مقدمة وهي متأخرة عن بعضه؟ وهذا كلام يشكل، أحيانًا يكتب الإنسان صفحتين يبين فيه مزايا البحث وسبب الاختيار ثم يقول: ويشتمل هذا البحث على مقدمة وثلاثة أبواب وخمسة أبواب وخاتمة، طيب، والذي تقدم إيش يصير؟ مثل ما عندنا: (تبارك المنزل للفرقان) إلى آخره في تسعة أبيات قبل المقدمة، الأصل في المقدمة؛ وهي تقال بكسر الدال وفتحها؛ مقدِّمة ومقدَّمة، بفتح الدال وكسرها، مقدَّمة؛ لأن المؤلف قدمها بين يدي كتابه، ومن لازم التقديم أن يكون في الصدر، يعني: هل تستطيع إذا دخل خمسة ستة سبعة، ثم دخل شخص اسمه زيد مثلًا وقبله خمسة أشخاص، ثم دخل بعده مائة أن تقول مقدمهم زيد؟ قبله ستة أو سبعة أو عشرة، لا تستطيع أن تقول: مقدمهم زيد، إذًا كيف تكون مقدمة وهي قبلها تسعة أبيات؟

طيب، لو قلنا حكمًا لقلنا: إن الأبيات التسعة السابقة داخلة في هذه المقدمة وإن تقدمت عليها لفظًا، وهي غير داخلة، نعم، تقديم نعم، وهذه مقدمة تقديم ومقدمة، ما زال الإشكال؛ لأنه إذا قلنا مقدِّمة أنها تقدمت غيرها من الكلام، وإذا قلنا: إنها مقدَّمة قلنا: إنها قدمت على غيرها من الكلام، نعم، وإلا يلزم عليها الدور، نعم، يعني: المقدمات للكتب ألا يكون المفترض أن تتقدم الكتاب؟ مثلما نظرنا: لو افترضنا أنه الآن دخل مائة شخص، دخل الأول والثاني والثالث والتاسع والعاشر، ثم دخل زيد، ثم دخل بعده تسعون، تستطيع أن تقول: دخل مائة شخص يتقدمهم زيد أو مقدمهم زيد؟ ما تستطيع، نعم.

طالب: ......

نعم.

طالب: ......

يعني: تمهيد أو مدخل إلى المقدمة، على كل حال هذا من التحايل؛ وإلا لا بدّ أن نغير في لفظ المقدمة، وإلا إذا لحظنا إلى أن لفظها من التقديم، وهي مقدمة بين يدي الكتاب أو البحث لا بدّ من التصرف فيها.

مقدمة للعلم، وما قبلها؟ مقدمة للمتن، والمتن إيش هو ما هو بعلم؟

الطالب:........

طيب، وما تقدمها

علم به يبحث عن أحوال

 

كتابنا من جهة الإنزال

 هذا علم وإلا ما هو بعلم؟

على كل حال، هو لا بدّ من التجوز في مثل هذا، لا بدّ من التجوز في مثل هذا الكلام.

وقَبْلَها لا بُـدَّ مِنْ مُقَـدِّمَةْ

 

...............................

عرفنا أنها تقال: بكسر الدال وفتحها.

..............................

 

بِبَعْضِ ما خُصِّصَ فيهِ مُعْلِمَةْ

هذه المقدمة (ببعض ما خصص فيه معلمة)، تخبرك هذه المقدمة، أو يخبرك المؤلف من خلال هذه المقدمة ببعض ما في الكتاب، تكون ملخصًا أو فيها إشارة إلى موضوع الكتاب، وأبواب الكتاب، ومسائل الكتاب على سبيل الإجمال.

طالب: ........

مقدمة الفصل ما في فصل.

طالب: ........

أين؟

طالب: ........

وقد حوتها.

طالب: ........

الأنواع الخمسة والخمسين.

ونحوه بالخمس والخمسينا

 

قد حصرت أنواعه يقينًا

وقد حوتها ستة عقود

 

وبعدها خاتمة تعود

وقبلها...........

 

 

هو قوله: (وقبلها) ترى فيه شيئًا من الحل للإشكال، يعني: مثلما قلنا في قول الحافظ العراقي: "من بعد حمد الله ذي الآلاء"، قلنا: إنه متقدم حكمًا، وهنا قوله: (وقبلها لا بد)، قلنا: يمكن أن يقال: إنه متقدم حكمًا، لكن إذا انحل الإشكال فيما بين أيدينا ما ينحل في سائر البحوث التي على هذه الطريقة، يذكر له صفحتين وثلاث في تمهيد يبين فيه سبب اختيار الموضوع ثم يقول مقدمة، لكن نعود مرة ثانية إلى خطط البحوث، وأنها كان هذا يعني بـ.. فدع الجدوى منه قليلة، ويعوقنا هذا الشيء، لكن نقتصر.

إذا جئنا إلى البحوث وقال: مقدمة يُذكر فيها سبب اختيار الموضوع، وخطة البحث، ثم يفصل الخطة، ويقول: مقدمة، الخطة تشتمل على مقدمة، دار مرة ثانية، فلا بدّ من أن تضبط الألفاظ، لا بدّ  من ضبط الألفاظ.

وقبلها لا بد من مقدمة

 

ببعض ما خصص فيه معلمة

يعني: المقدمات ينبغي أن تشتمل على المصطلحات المستعملة في الكتاب؛ لأن كثير من المؤلفين لهم اصطلاحات في كتبهم، لهم اصطلاحات في كتبهم، لا بدّ من بيانها في المقدمات؛ وإلا فالطالب يقرأ فهم هذه الاصطلاحات له أثر في فهم الكتاب، وتمر والطالب ما يدري عن شيء. يعني: الفقهاء حينما استعملوا بعض الحروف للخلاف، بعض الحروف استعملوها للخلاف قالوا: لولا الخلاف القوي وحتى للمتوسط وإلا الضعيف وما تبين في مقدمات الكتب، استعملوها ولا بينوها في مقدمات كل كتاب، الطالب يقرأ الكتاب وهو ما يدري، في كتاب اسمه "مغني ذوي الأفهام عن الكتب الكثيرة بالأحكام"، هذا استعمل رموز في الكتاب لا تحل إلا من خلال الاطلاع على المقدمة، إذا جاء صدّر الحكم باسم فاعل، فيريد فلانًا خلاف فلان، وفلان إذا صدره بالمضارع فيريد فلانًا، إذا صدره بكذا يريد فلانًا، وله رموز وحروف، هذه لا بدّ من معرفتها والاطلاع عليها، الحافظ العراقي بين في مقدمة الألفية اصطلاحه:

فحيث جاء الفعل والضمير

 

لواحد ومن له مستور

كقال أو أطلقت لفظة الشيخ

 

ما أريد إلا ابن الصلاح مبهمًا

وإن يكن لاثنين نحو التزما

 

.................................

هذه اصطلاحات بينها المؤلف في مقدمة النظم، وهنا: (ببعض ما خصص فيه معلمًا)، هل يريد أن يبين اصطلاحًا، أو يريد أن يبحث في هذه المقدمة بعض ما خصص بحثه في هذا العلم؟ (ببعض ما خصص فيه)، يعني: في هذا العلم، (معلمة) ومخبرة.

 ولذا، عرف القرآن، وعرف السورة، وعرف الآية، وحكم ترجمة القرآن، وحكم روايته بالمعنى، وحكم تفسيره بالرأي وبالأثر، هذه أمور متعلقة بالقرآن، وهي تبحث في هذا العلم، واشتملت عليها المقدمة؛ ولذا قال:

وقبلها لا بد من مقدمة

 

ببعض ما خصص فيه معلمة

وإلا في الأصل أن هذه البحوث من أهم أنواع علوم القرآن، فقد يقول قائل: لماذا لا تكون المقدمة هي الباب الأول أو العقد الأول؛ لأن فيها مباحث مهمة جدًّا؟، لكنه قال:

وقبلها لا بد من مقدمة

 

ببعض ما خصص فيه معلمة

يعني: أنه استعمل المقدمة لمسائل من أهم مسائل هذا العلم المفترض أن تبحث في باب مستقل أو عقد مستقل؛ لأنها من أهم ما يبحث في هذا العلم، لأنها في تعريف القرآن، وإعجاز القرآن، تعريف السورة، تعريف الآية، ترجمة القرآن، قراءة القرآن بغير العربية، رواية القرآن بالمعنى، هذه مسائل من أهم المهمات، من عضل المسائل، فهذه موضوع الباب الأول وهذا هو الأصل؛ لأن الباب عندهم، الأبواب عندهم إنما تجعل للمسائل الكبرى، يليها ما تحويه الفصول، أما المقدمات في الغالب فلا يدخل فيها في صلب البحث أو صلب الكتاب، على كل حال على هذا رتبه.

قال -رحمه الله-: (مقدمة)، قال: (فذاك)، الإشارة تعود إلى كتابنا، علم به يبحث عن أحوال كتابنا، (فذاك) يعني: كتابنا.

فذاك ما على محمد نزل

 

ومنه الإعجاز بسورة حصل

(فذاك ما على محمد نزل)، يعني: المنزل على النبي -عليه الصلاة والسلام-، القرآن: هو -على ما تقدم أيضًا- الفرقان المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- لا على غيره من الأنبياء، فيخرج بذلك ما نزل على غير محمد -عليه الصلاة والسلام-؛ كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف موسى وصحف إبراهيم وغير ذلك من الكتب التي الإيمان بها ركن من أركان الإيمان، لكن البحث هذا خاص بالقرآن المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا يشمل الكتب السماوية الأخرى.

...................................

 

ومنه الإعجاز بسورة حصل

 (ومنه الإعجاز بسورة حصل)، (الإعجاز): يعني: اكتفى في تعريف القرآن بأنه المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي حصل به الإعجاز، نزل على محمد -عليه الصلاة والسلام- ليبلغ به أمة اشتهرت بالفصاحة والبلاغة، وحصل التحدي بالقرآن المعجز في ألفاظه ومعانيه وأحكامه وحكمه وأسراره، فهو معجز من كل وجه. الإعجاز يعني يمكن به تمييز القرآن عن غيره؟

طالب: ........

المنزل على محمد يخرج الكتب السماوية المنزلة على غيره -عليه الصلاة والسلام-، لكن هل يخرج السنة؟

طالب:........

ما يخرج السنة؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- ما ينطق عن الهوى، {إن هو إلا وحي يوحى}[النجم:4]، وفي قضايا كثيرة يُسأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن شيء فينزل جبريل –عليه السلام- بالوحي مما ليس في القرآن بل من السنة، فالقيد الأول يخرج الكتب السابقة.

والثاني: (ومنه الإعجاز بسورة حصل)، يخرج الحديث النبوي والحديث القدسي، يخرج الحديث القدسي المضاف إلى الله -جل وعلا- منزل على رسوله -عليه الصلاة والسلام- من غير القرآن، ومن باب أولى يخرج الحديث النبوي.

(ومنه الإعجاز بسورة حصل)، الإعجاز بسورة، الله -جل وعلا- تحدى المشركين أن يأتوا بمثله فلم يستطيعوا، تحداهم أن يأتوا بعشر سور فلم يستطيعوا، تحداهم أن يأتوا بسورة ولو كانت أقصر السور، يعني: عجزت العرب {ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا}[الإسراء: 88]، عجزوا عن أن يأتوا بكلام يماثل سورة الكوثر التي هي أخصر السور وأقصر السور، فهل تحداهم بآية؟

طالب:........

لا، لم يتحداهم بآية، لماذا؟ لأنها قد تكون الآية كلمة واحدة والعرب ينطقون بكلمة، نطقوا بكلمة واحدة، بجملة يوجد نظيرها في القرآن، يعني: العرب لا يعجزون أن ينطقوا بكلمة معجزة، مثل: {مدهامتان}[الرحمن:64] مثلًا، ومثل قوله -جل وعلا-: {ثم نظر}[المدثر:21] يعني: هل العرب يعجزون أن يقولوا: ثم نظر؟ يعني: ما قيلت هذه قبل القرآن؟ لكن ومع ذلك مع كون ما تحداهم بآية هذه الآية في موضعها معجزة، لا يقوم مقامها غيرها، في مقامها وإن لم يحصل التحدي بها، وبإمكانك لو كان من غير كلام الله -جل وعلا- تشيل {مدهامتان} تأتي بغيرها ما يمكن أن تؤدي المعنى الذي أدته في هذا الموضع، وقل مثل هذا في: {ثم نظر}، فالإعجاز حاصل على كل حال، وعجزوا مع أنهم أرباب البلاغة وأصحاب الفصاحة، يعني: كلامهم أفصح الناس وعجزوا، مع أن الله -جل وعلا- أقدرهم على هذه الفصاحة والبلاغة لكنهم أذعنوا وعجزوا، وصرحوا بعجزهم، ولا يقال في مثل هذا مثل ما يقوله المعتزلة: إنهم قادرون على ذلك لكن الله -جل وعلا- صرفهم عن ذلك، وإلا لو صرفوا عن ذلك ما كان تحديًا، لقلنا: إنه بإمكانهم أن يأتوا بمثله لكنهم عجزوا بالصرفة كما يقولون. المعري له كتاب اسمه "الفصول والغايات"، كتاب مواعظ، قالوا عنه:  إنه في بداية الأمر قال في اسمه: إنه الفصول والغايات في معارضة الآيات، وهو رمي بالزندقة الرجل، وعنده من عظائم الأمور ما عنده، ثم غُير اسم الكتاب إلى "الفصول والرايات في مواعظ البريات"، لكن من قرأ هذا الكتاب عرف قيمة الكتاب، ومؤلف الكتاب، وعرف حقيقة العجز البشري، لو اجتمع العرب كلهم على معارضته ما استطاعوا. ومسيلمة الكذاب ذكر عنه شيئًا يعارض به القرآن فأتى بالمضحكات، أتى بالعجائب المضحكات.

(ومنه الإعجاز بسورة حصل)، وأقل السور ثلاث آيات، سورة الكوثر، فيحصل التحدي بثلاث آيات، أو بقدرها من الآيات الطويلة.

(والسورة الطائفة المترجمة)، هذا تعريف للسورة، وهي مأخوذة من السُور، سور البلد؛ لإحاطتها بجميع الآيات المذكورة تحتها، أو من السؤر: وهو البقية، فهذه السورة بقية من القرآن دون سائره، وعلى كل حال (السورة الطائفة المترجمة)، مترجمة إيش مترجمة؟ يعني: لها ترجمة، لها عنوان، ترجمة؛ سورة الفاتحة، سورة البقرة، وبعضهم كالحجاج مثلًا -والحجاج رغم ما أثر عنه من ظلم ومخالفات، إلا أن له عناية فائقة بالقرآن-، له عناية بالقرآن، يقول الحجاج ويؤثر عن بعض السلف: "إنه لا يجوز أن تقول سورة البقرة، إنما تقول: السورة التي يذكر فيها البقرة"، لماذا؟ لكي تتم المطابقة بين الترجمة وما ترجم عليه، إذا قلت: سورة البقرة، ماذا تشكل قصة البقرة من سورة البقرة؟ آيات، يعني: واحد على خمسين من السورة، فكيف يترجم بهذه النسبة على السورة بكاملها؟ لا بدّ أن نقول: التي تذكر فيها البقرة، هذا ما ذهب إليه من قال بهذا القول، لكن هذا القول مردود؛ لأن التعبير بسورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة كذا وسورة كذا... جاء بالأحاديث الصحيحة عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، والبخاري أورد من الردود على هذا القول ما أورد، ومن ذلك حديث ابن مسعود –رضي الله عنه- حينما رمى الجمرة ووقف طويلًا، وقال: "هاهنا وقف من أنزلت عليه سورة البقرة"، والنصوص بهذا كثيرة جدًّا، فالقول الأول لا اعتبار به، وعلى هذا فيجوز أن نقول سورة البقرة.

 والسور جاء في أسمائها أحاديث، فمن هذه الأسماء ما هو توقيفي، ومنها ما هو اجتهادي، نظرًا إلى محتوى السورة، فمثلًا: سورة التوبة توقيفي، لكن سورة الفاضحة مثلًا توقيفي وإلا اجتهادي؟ اجتهادي؛ نظرًا لأنها فضحت المنافقين، فسماها بعض السلف الفاضحة.

والسورة الطائفة المترجمة

 

ثلاث آي لأقلها سمة

ثلاث آيات سورة الكوثر، ثلاث آيات: {إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر * إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر:1-3]، ثلاث آيات، لكن هل التعداد كونها ثلاثًا على اعتبار أن البسملة آية منها أو على غير ذلك؟

طالب: ........

على غير اعتبار أن البسملة آية منها، ومن أهل العلم من يرى أن البسملة آية من كل سورة من سور القرآن، ومنهم: من يرى أنها ليست بآية، ولا في سورة واحدة في سور القرآن، ومنهم: من يرى أنها آية واحدة نزلت للفصل بين السور، فالشافعي يرى أن البسملة آية من سورة الفاتحة، ومنهم: من يرى أنها آية من كل سورة من سور القرآن بما في ذلك الكوثر، فتكون أربع آيات على هذا، لكنهم يجمعون على أنها ليست بآية في أول سورة التوبة، وأنها بعض آية في سورة النمل، هذا محل إجماع والخلاف فيما عدا ذلك، فهل هي مائة وثلاث عشرة آية، أو آية واحدة، أو ليست بآية أصلًا؟ والخلاف معروف بين أهل العلم، ومن أقوى الأدلة الإجماع في الطرفين، كل من الطرفين ينقل إجماع، ويعتمد ويستند على إجماع، فالذي يقول هي آية بم يستدل؟ يقول: أجمع الصحابة على كتابتها في المصحف، ولولا أنها آية ما جرؤوا على أن يدخلوها في المصحف، والذين يقولون: إنها ليست بآية استدلوا بالإجماع على أنها لو كانت آية لما جاز الاختلاف فيها، يعني: لو خالف شخص في حرف من القرآن المجمع عليه وإيش يصير مآله؟ يكفر عند أهل العلم؛ لأن القرآن مصون من الزيادة والنقصان، والذي يقول: إنها آية نزلت للفصل بين السور، وهذا المرجح عند شيخ الإسلام وجمع من أهل العلم يخرج من الإجماعين، وكأن هذا أقوى الأقوال.

والسورة الطائفة المترجمة

 

ثلاث آي لأقلها سمة

(والآية الطائفة المفصولة)، الآية: الأصل أنها العلامة، والآيات لبدايتها ونهايتها علامات، فلا تمتزج بغيرها.

والآية الطائفة المفصولة

 

من كلمات منه والمفضولة

من كلمات منه آية مفصولة عن غيرها عن ما تقدمها وما تأخر عنها، فهي مميزة الأول والآخر، لكن قد يكون التمييز ظاهرًا لكل أحد، وقد يخفى على بعض الناس إذا تعلقت الآية الثانية بالأولى؛ تعلق الصفة بالموصوف، تعلق الجار والمجرور بمتعلقه، {لعلكم تتفكرون * في الدنيا والآخرة..} [البقرة:219-220]، نعم، وآخر آية النور: {يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال..}[النور:36-37]، قد يخفى انفصال الآية وانفكاكه عما قبلها على بعض الناس لا سيما وأن الكتابة في السابق قد لا يتميز فيها، وجد في بعض المصاحف مدرجة كذا بدون فواصل.

والآية الطائفة المفصولة

 

من كلمات منه..

(من كلمات): وقد تكون الآية كلمة واحدة كما قلنا في {مدهامتان}، أو من كلمتين: {ثم نظر}، ومنها ما هو أكثر من ذلك.

(والمفضولة منه):

هذا سؤال يقول: التعريف المشتهر للحديث القدسي: هو كلام معناه من الله سبحانه وتعالى ولفظه من النبي -صلى الله عليه وسلم-، أليس في هذا مدخل للأشاعرة الذين يقولون بالكلام النفسي لله -سبحانه وتعالى-؟

أولًا: القرآن قبل ذلك كله يطلق ويراد به اسم المفعول المقروء المتلو، ويطلق ويراد به القراءة، المقروء والقراءة، فالمقروء هو القرآن، والقراءة يقال لها: قرآن، كما قال الشاعر في عثمان -رضي الله عنه-:

ضحوا بأشمط عنوان السجود به

 

يقطع الليل تسبيحًا وقرآنًا

يعني: قراءة.

 هذا القرآن المنزل على محمد -عليه الصلاة والسلام- المعجز -الذي سبق الحديث عن إعجازه- علاقته بالكلام النفسي الذي يقوله الأشعرية؛ أولًا: الله -جل وعلا- كما هو معتقد أهل السنة والجماعة يتكلم بحرف وصوت مسموع، وجاءت النصوص على أن جبريل –عليه السلام- يسمع كلام الله مسموعًا، والله -جل وعلا- يتكلم متى شاء إذا شاء، فكلامه وإن كان قديم النوع إلا أنه متجدد الآحاد، أفراده متجددة يتكلم متى شاء إذا شاء، وعند الأشاعرة الذين يقولون بالكلام النفسي، يقولون: كلامه واحد، تكلم في الأزل ولم يتكلم بعد ذلك وكلامه واحد، هذا الكلام الواحد إن عبر عنه بالعربية صار قرآنًا، وإن عبر عنه بالعبرانية صار توراة، وبالسريانية يصير إنجيلاً، إذن الشرائع متطابقة، جميع الأحكام التي جاءت في التوراة على هذا الكلام هي جميع الأحكام من غير زيادة ولا نقصان جاءت في الإنجيل، إذن هي جميع الأحكام التي جاءت في القرآن ولا فرق، يعني: في التوراة سورة تبت إلا أنها بالعبرانية، وفي الإنجيل سورة تبت إلا أنها بالسريانية، يعني على كلامهم، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لما نزلت عليه سورة اقرأ في الغار وذهب -عليه الصلاة والسلام- بها ترجف بوادره أو يرجف فؤاده -عليه الصلاة والسلام-، ثم التقى بورقة بن نوفل، وقرأ عليه ما أنزل عليه، وشهد له بالرسالة، وكان ورقة -كما في الحديث الصحيح- قد قرأ الكتب السابقة من التوراة والإنجيل، وكان يترجم هذه الكتب، يقرأ الكتاب العربي فيترجم هذه الكتب السابقة من العبرانية والسريانية إلى العربية، لما قرأ عليه سورة اقرأ، النبي -عليه الصلاة والسلام- قرأها بالعربية وهو يعرف العبرانية والسريانية، ويعرف التوراة والإنجيل، ويترجمها من لغة إلى لغة، هل قال: هذا موجود عند من تقدمك من الرسل؟ هل سورة اقرأ موجودة في التوراة وموجودة في الإنجيل باللغات الأخرى؟ قال: "هذا الناموس الذي أنزل على موسى"، يعني: جبريل –عليه السلام-.

فببداهة العقول لا يمكن أن يقول قائل: إن الأحكام الموجودة في القرآن بما في ذلك ما اقتضته الحاجة المتأخرة؛ لأن من القرآن ما نزل بسبب واقعة، يعني: قصة الظهار مثلًا في هلال بن أمية، أو قصة اللعان في عويمر العجلاني مثلًا، هل يقال: إن هذه القصة حصلت لليهود والنصارى بلغاتهم؟ هل يمكن أن يقول هذا عاقل؟ يمكن أن يقال هذا؟ فهذا قول باطل، ففي التوراة ما يخصها من الأحكام، وفي الإنجيل ما يخصه، وفي كتابنا ما يخصه، ويستقل كتابنا بالإعجاز والحفظ، فكتابنا محفوظ تكفل الله بحفظه، تكفل الله بحفظه إلى قيام الساعة إلى أن يرفع، وكتبهم استحفظوا عليها فلم يحفظوها.

وهناك قصة ليحيى بن أكثم القاضي مع يهودي دعاه إلى الإسلام، يحيى بن أكثم القاضي دعا اليهودي إلى الإسلام فرفض، وغاب سنة كاملة، ثم حضر على رأس الحول وأعلن إسلامه، فسأله يحيى بن أكثم عن السبب؟ وقال: "إنه في هذه المدة نَسخ نُسخًا من التوراة، وحرف وقدم وأخر وزاد ونقص وباعها على اليهود في سوق الوراقين عندهم، فتخطفوها واعتمدوها، ثم بعد ذلك نَسخ نُسخًا من الإنجيل، وقدم فيها وأخر وزاد ونقص وعرضها على النصارى في سوق الوراقين، وفعلوا بها مثل ما فعل اليهود، صارت عمدًا عندهم، ثم عمد إلى القرآن فنسخ منه نسخ، وزاد شيئًا يسيرًا، ونقص شيئًا لا يدركه إلا النظر الثاقب، فعرضها في سوق الوراقين، فكل واحد يطلع على المصحف يرميه في وجهه، يقول: "عرفت بهذا أن هذا الدين المحفوظ، هذا الذي لا يمكن أن يتلاعب به المرتزقة مثل التوراة والإنجيل"، لما ذكر هذا ليحيى بن أكثم، ويحيى بن  أكثم حج في تلك السنة، وذكر القصة لسفيان بن عيينة قال: "يا أخي، هذا منصوص عليه في القرآن: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}[الحجر:9]"، تولى الله حفظه فلا سلطان لأحد عليه، وفي الكتب الأخرى بما استحفظوا ولم يحفظوا.

أقول: وجوه الرد عليهم كثيرة، ونكتفي بهذا.

والآية الطائفة المفصولة

 

من كلمات منه والمفضولة

منه على القول به كتَبّت

 

والفاضل الذ منه فيه أتت

(الذ) من أيش؟

طالب:........

الشيخ: أيوه.

 (من كلمات منه)، يعني: من القرآن، (والمفضولة) يعني: منه الفاضلة والمفضولة.

(على القول به)، يعني: هل في القرآن فاضل ومفضول؟ قالوا: نعم، في القرآن فاضل ومفضول، المتكلم هو الله -جل وعلا- بالجميع؛ لكن نظرًا لموضوع الكلام يتفاوت، فالآيات أو السور التي تتحدث عن الله -جل وعلا- أفضل من الآيات التي تتحدث في الأحكام، والآيات التي تتحدث في العقائد مثلًا أفضل من الأحكام وهكذا، وفضلًا عن كونها تتحدث السورة مثلًا في قصة رجل كافر كـ "تبّت"، وجاء في فضل {قل هو الله أحد}، سورة الإخلاص وأنها تعدل ثلث القرآن، وجاء في فضل آية الكرسي، وجاء في فضل الفاتحة، وغير ذلك من السور والآيات التي جاءت بها النصوص، ولا يعني هذا تنقص بعض السور أو قلة الأجر في قراءتها، سورة "تبّت" في كل حرف عشر حسنات كغيرها من السور؛ لكن هل تعدل ثلث القرآن مثل {قل هو الله أحد}؟ لا، ويقال في مثل هذا الخلاف مثلما يقال في التفضيل بين الأنبياء، الله -جل وعلا- يقول: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض}[البقرة: 253]، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((لا تفضلوا بين الأنبياء..))، ((لا تفضلوني على موسى..))، ((لا تخيروا بين الأنبياء..))، ((لا تفضلوني على يونس بن متى))، متى يقال مثل هذا؟ متى يمنع التفضيل سواء كان في الآيات أو بين الرسل؟

إذا أدى هذا التفضيل إلى التنقص، إذا تنقص المفضول يمنع، لا تفضل بين الآيات؛ لأن بعض الناس لا سيما من بعض الفرق المبتدعة لا يقرأ سورة تبّت، ما يقرؤونها، لماذا؟ لأنها تتحدث في أبي لهب، وهو عم النبي -عليه الصلاة والسلام- ومن آل بيته وعمه، ((عم الرجل صنو أبيه))، وهذه إهانة للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن نتكلم في عمه، هذا عندهم-نسأل الله السلامة والعافية-، فإذا أدى هذا إلى التنقص فيمنع التفضيل.

(والمفضولة)،

والآية الطائفة المفصولة

 

من كلمات منه..

 من القرآن، (والمفضولة منه) على القول به كتبّت، (والمفضولة منه) على القول به على القول بأن فيه فاضل ومفضول، انتهى.

 (والمفضولة منه)، أي: من القرآن على القول به بجواز التفضيل، به كتبّت.

(والفاضل الذ)، يقال في (الذ) لا سيما في الشعر، يقال الذي الذ تحذف الياء، قول ابن مالك في ألفيته، من يستحضر بيتًا؟:

صغ من مصوغ منه للتعجب

 

أفعل تفضيل وأب اللذ أبي

فتحذف الياء للنظم.

(والفاضل الذ منه فيه أتت)، منه: من القرآن، فيه: أي: في الله -جل وعلا-، أتت. العربي.

بغير لفظ العربي تحرم

 

قراءة وأن به يترجم

 (بغير اللفظ العربي)، هل تجوز قراءة القرآن بغير العربية؟

(بغير لفظ العربي تحرم *** قراءة..)، تحرم قراءة القرآن بغير العربية، لكن هل يمكن قراءة القرآن بغير العربية؟ عموم الترجمة لأي كلام، هل هناك ترجمة حرفية؟ ممكنة وإلا غير ممكنة؟ لا، دعنا من كونها؛ لكن هل هي ممكنة وإلا غير متصورة؟ بمعنى: أنك لو أتيت بكلام عربي؛ مقطوعة شعرية، وإلا حديث، وإلا قصة، وأعطيتها شخصًا يترجمها إلى الإنجليزية أو إلى الفرنسية، انتهت الترجمة وألغيت الكلام العربي الأول لا تطلع عليه الطرف الثالث، فتقول للطرف الثالث: أعده إلى العربية، ترجمه إلى العربية، هل يتطابق الكلام الثالث مع الأول؟

إذًا: الترجمة الحرفية ممكنة وإلا مستحيلة؟

طالب: مستحيلة.

إيه؛ لأنه ينظر إلى معنى من المعاني يسبق ذهنه إليه، وقد يحرف في المعنى المترجم؛ لعدم فهمه لمعاني العربية، نعم، فإذا أريدت إعادته إلى الأصل ما استطاع؛ لأن اللفظة الواحدة في العربية لها عدة معاني في الترجمة، يقول في قوله: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة:187]. كيف يترجم إلى غير العربية هذه؟ يمكن تترجم لغير العربية بحروفه؟ يعني: هل معنى الترجمة أنك تأتي إلى هن "الهاء" وتضع مكانها أيش؟ أتش H))، ثم بعد ذلك نفس الحروف، حروف مقطعة باعتبار حروف مقطعة، وإلا كلمة بكلمة؟ كلمة بكلمة ما أحد يترجم حرفًا بحرف، تترجم كلمة بكلمة، والكلمة تحتمل أكثر من معنى، فهو يسبق ويهجم إلى ذهنه أول المعاني، فإذا أريد إعادة الكلام إلى العربية يسبق إلى ذهن المترجم كلمة قد لا تكون هي المرادة، فقال المترجم في قوله -جل وعلا-: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن}[البقرة:187]. قال: أنت بنطلون لها وهي بنطلون لك، يمكن هذا؟ نقول: الترجمة الحرفية مستحيلة، فلا يبقى إلا ترجمة المعاني، وترجمة المعاني، القراءة بترجمة المعاني لا سيما بالتعبد بالقراءة، وترتيب الآثار عليها، وتصحيح العبادات بها لا تمكن؛ لأنها لا يمكن الترجمة إلا بتجاوز مرحلتين: قراءة معنى، وبغير العربية؛ ولذا يحرمون أيضًا قراءة القرآن بالمعنى. إذا أجازوا رواية السنة رواية الحديث بالمعنى، إذا أجاز الجمهور ذلك وتجويزه للحاجة، والحاجة والضرورة داعية إلى ذلك وكتب السنة شاهدة بذلك، القصة الواحدة تذكر على أوجه وعلى ألفاظ مختلفة لكن المعنى والمحتوى واحد، وجماهير أهل العلم على جواز الرواية بالمعنى، لكن إذا قلنا مثل هذا في الحديث، هل يمكن أن نقول مثل هذا الكلام في القرآن المنزل المتعبد بلفظه؟ لا يمكن؛ ولذا يحرم ترجمته؛ لأنها نوع أو فرع عن قراءته بالمعنى، فإذا كانت قراءته بالمعنى لا تجوز، فقراءته بغير العربية من باب أولى.

وما أدري أنا المسألة مسألة استظهار، يعني: هل يمكن الترجمة الحرفية؟ ممكنة وإلا غير ممكنة؟ يقولون: إن الترجمة الحرفية حرام، وترجمة المعنى جائزة، وأجازوها وترجموا المعاني، أنا أقول: من الأصل الترجمة الحرفية مستحيلة، يعني: اللي ما له مرادف، اللي ما له مرادف يمكن، لكن الألفاظ التي لها مرادف ما يمكن؛ لأن المترجم يسبق إلى ذهنه معنى قد لا يسبق إلى المترجم الثاني الذي يريد إعادته إلى العربية.

بغير لفظ العربي تحرم

 

قراءة وأن به يترجم

يعني: الأمور المتعبد بها لا يجوز قراءتها بغير العربية؛ كالقراءة في الصلاة، أذكار الصلاة؛ التكبير التسبيح وغير ذلك مما يقال، التشهد في الصلاة، لا بدّ من أن يقال بالعربية، لا بدّ أن يكون بالعربية، ومنهم من يقول: إذا لم يستطع تعلم العربية فيأتي به بلغته  أحسن من لا شيء، لكن هذه ألفاظ متعبدة. خطبة الجمعة، لا يجوز أن تكون بغير العربية، نعم، للخطيب أن يترجم بعض الجمل أو بعض الكلام، وإن كان هذا بعد نهاية الصلاة كان أولى، المقصود أن العبادات توقيفية؛ ولذا قال:

بغير لفظ العربي تحرم

 

قراءة وأن به يترجم

وهذه فتنة وقعت قبل سبعين أو ثمانين سنة، وألف فيها مصنفات كثيرة، وردود من أطراف متعددة في حول ترجمة معاني القرآن الكريم، لكن الآن استقر على الجواز، وترجم ونفع الله به نفعًا عظيمًا.

 (كذاك بالمعنى)، يعني: تحرم قراءته كذلك بالمعنى.

كذاكَ بالمَعْنَى وأَنْ يُفَسَّرا

 

بالرأَيِ لا تَأْوِيْلَهُ فَحَرِّرَ

 التفسير بالرأي حرام، والتأويل جائز، الفرق بينهما أنك إذا افترضت المسألة في شخصين: شخص لا علاقة له بالقرآن، ولا علاقة له بتفسير القرآن، ولا قرأ عن أئمة سلف هذه الأمة، ولا عن أئمتها فيما يتعلق بالقرآن، شخص خام، ما يعرف من القرآن شيئًا، فتعطيه آية أو سورة تقول: فسر، ما عنده شيء يعتمد عليه ولا يركن إليه، هذا تفسيره بالرأي، لكن لو افترضت أن شخصًا له عناية بالقرآن فائقة، وقرأ من التفاسير ما يؤهله لأن يرجح بين الأقوال، وصار رأيه في فهم هذه الآية يختلف عن فهم ابن كثير وابن جرير والقرطبي وغيره من المفسرين، وجاء برأي تحتمله العربية والسياق يقتضيه أو يدل عليه، ولو لم يوجد له سلف بين، لكن هذا الشخص له عناية، له دراية ودربة في تفسير القرآن؛ لأن فهم النصوص يحتاج إلى دربة، يعني: الآن عندك أحاديث كثيرة إذا أردت شرحها وبيان معانيها يعوزك إعوازًا شديدًا، يعني: حديث في مسند الإمام أحمد –رحمه الله- ما شرح أبدًا، أو في مسند الطيالسي وما تعرض له الشراح وأنت ما تدري أيش معناه، أنت يخفى عليك ليش؟ لأن مالك عناية بالسنة، ولا قرأت في كتب السنة، لكن الذي له خبرة ودراية وعناية ويعرف كيف يتصرف أهل العلم في فهم السنة تكون له الملكة في شرح السنة، وقل مثل هذا في القرآن، شخص له عناية بالقرآن ويلوح له من معنى الآية ما لم يلح لأكثر المفسرين قبله، ((رب مبلغ أوعى من سامع))، هذا ينطبق عليه، ولا نقول مثلما يقول بعض الكتاب: القرآن بالعربية وهم رجال عن رجال، ونفهم مثلما يفهمون، نقول: ليس بصحيح، كيف تفهم وما فهمنا؟ أنت لو أن ولدك أصيب بمرض واحتاج إلى عملية فأحضرت السكين! قالوا: مجنون هذا، إيش علاقتك بالطب؟ ونحن نقول: أنت مجنون لا علاقة لك بالتفسير، أما الشخص الذي له خبرة ودربة، الطبيب لو جاءه حالة ما مرت عليه قبل ذلك نقول له: لا تتصرف، لكنه طيب مشهود له بالخبرة وعانى من الحالات التي هي نظائر هذه الحالة، أو قريب منها، لا بدّ أن يتصرف، ففرق بين أن يأتي شخص لا علاقة له ولا خبرة ولا دربة، ولا يعرف من القرآن شيئًا، ويأتي يفسر القرآن، ومع الأسف الشديد أنه يوجد من يهجم على الآيات وعلى السنة فيفسر، وجاء ذم التفسير بالرأي، وإذا كان أهل العلم يحتاطون في تفسير السنة وشرحها؛ فلأن يحتاطوا في تفسير القرآن من باب أولى؛ لأن الذي يفسر القرآن يدعي أن هذا مراد الله من كلامه، فأنت قَولته وحملته من المعنى ما لم يحتمل، حملت هذا الكلام من المعنى ما لا يحتمل.

ولذا جاء الذم الشديد لمن قال بالقرآن برأيه، وقد يتجه الذم على من قال بالقرآن برأيه ولو أصاب، كمن حكم بين اثنين بجهل فهو في النار ولو أصاب الحكم.

تفسير الآية من طالب علم له عناية، لكن ما هي بعناية كافية تؤهله لأن يجزم، له عناية بالتفسير أو مجموعة من طلاب العلم -من متوسطي الطلاب- معهم القرآن يتدارسونه؛ فما معنى هذه الآية، وما معنى.. لو قال بعضهم: لعل المراد كذا، ولعل المراد كذا، ولم يقطعوا بشيء، وراجعوا على ذلك الكتب، ووافق تفسير أحدهم لجيء بصيغة الترجي، فالأمر فيه سعة من غير جزم، وكذلك في السنة.

ولذا في حديث السبعين الألف الذين يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب، قاله النبي -عليه الصلاة والسلام- ودخل، تركهم، فباتوا يدوكون؛ لعلهم كذا، لعلهم كذا، لعلهم كذا، فلما خرج النبي -عليه الصلاة والسلام- أخبروه وما ثرب عليهم ولا خطأهم، لماذا؟ لأنهم لم يجزموا، فالإتيان بحرف الترجي ممن له شيء من الخبرة، وله شيء من المعرفة، ما هو بإنسان خالي جاي لا علاقة له بالقرآن أو بالسنة وهو يقول: لعل، فمثل هذا إذا ترجى -إذا جاء بحرف الترجي-، وقال: لعل المراد كذا، يحتمل منه ولا يثرب عليه، على ألا يجزم ولا يقطع حتى يراجع كلام أهل العلم وما قاله سلف هذه الأمة عن كتاب الله.

(لا تأويله فحررا).

التأويل وأن يفسر بالرأي، يعني: من غير اعتماد على تفسير القرآن بالقرآن ولا بالسنة ولا بأقوال الصحابة والتابعين ولا بلغة العرب، فمن التفسير: ما يعرفه العرب من لغتهم، ومنه ما يعرف بالقرآن في موضع آخر إذا ضمت آية إلى أخرى تبين المراد منه، ومنها ما يعرف معناه بالسنة؛ لأن السنة تبين القرآن وتفسره، ومنها ما يعرف بما يروى عن الصحابة الذين عاصروا التنزيل وعايشوا الرسول -عليه الصلاة والسلام-. إيه، لكن هل اكتشف قطعًا أو ظنًّا؟ لأن هناك نظريات، وسارع بعض الناس في تنزيل بعض الآيات عليها ثم اكتشف غيرها، مثل هذا لا يجوز اقترانه بالقرآن؛ لأنه يعرضه للنفي والإثبات، لكن إذا وجد أمر قطعي، يعني: أدركته الحواس، فمثل هذا لا شك أنه مما يخبر الله -جل وعلا-، أو مما أخبر الله -جل وعلا- بكتابه عنه وحصل على أرض الواقع.

 (لا تأويله) التفسير: من الفسر، وهو الكشف والتوضيح والبيان، والتأويل: يطلق ويراد به التفسير، وكثيرًا ما يقول ابن جرير الطبري: "القول في تأويل قول الله -جل وعلا- كذا"، ويريد بذلك التفسير، ويطلق ويراد به ما يؤول إليه الكلام، يعني: حقيقة الكلام، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يكثر من الاستغفار والتسبيح يتأول القرآن، يتأول سورة النصر، كما قالت عائشة -رضي الله عنها-. ومنه حمل القرآن على المعنى المرجوح، هذا تأويل، الراجح ظاهر والمرجوح مؤول، والذي لا يحتمل نص، فالنص ما فيه إشكال، الآية التي لا تحتمل لا بدّ أن تفسر نصًا، الآية المحتملة لمعنى راجح ومعنى مرجوح، الراجح هو الظاهر، وهو عليه المعول عند أهل العلم، لكن قد يمنع من إرادة هذا الظاهر مانع فيلجأ حينئذ إلى الاحتمال المرجوح، وهو التأويل.

والتأويل مركب ارتكبه المبتدعة لإثبات ما أرادوا ونفي ما لم يريدوا، إثبات ما أرادوا إثباته ونفي ما أرادوا نفيه من غير دليل يقتضيه، أما إذا قام الدليل على منع إرادة الظاهر فلا بدّ من أن يرتكب التأويل.

(لا تأويله فحررا)، يعني: عند اقتضاء الحاجة إليه.

طالب: ...........

 

لا، متى نسلك هذا المسلك؟ إذا وجد ما يمنع من احتمال الراجح، إذا وجد ما يمنع من احتمال من الراجح؟ مثلًا: {لا تحزن إن الله معنا}[التوبة:40]، الاحتمال الراجح في استعمال العرب لهذا اللفظ (معهم) بينهم، مختلط بينهم بذاته، معهم مختلطة به، لكن الاحتمال المرجوح: أنه معهم بحفظه ورعايته وعنايته المعية الخاصة، نعم، هذا احتمال مرجوح منع منه أدلة تمنع من الحلول والمخالطة والممازجة، لا، المهم قول مرجوح لهم وإلا في لغة العرب، المعنى في لغة العرب اللفظ يحتمل معنيين؛ لكن هذا راجح، وهذا مرجوح، الأصل أن نعمل بالراجح باستمرار، في كل شيء تعمل بالراجح؛ لكن إذا كان هذا الراجح يوجد نصوص تمنعه من إرادته تلجأ إلى المعنى الثاني وهو مقبول في لغة العرب، ما تأتي بلفظ مبتكر لا سلف لك به  وتقول: احتمال مرجوح، لا.

"