شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (042)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم: لا زال الحديث حول حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- في رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم-، أشرتم إلى شيء من معاني الحديث، ولعلنا نستكمل ما تبقى حوله -أحسن الله إليك-.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

في نهاية الحلقة السابقة، ذكرنا بعض الفوائد المستنبطة من الحديث، نقْلاً عن النووي في شرحه على أوائل الصحيح، يقول في آخرها: وفيه إشاعة العالِم الثناء على الفاضل من أصحابه إذا لم يَخْشَ فتنة بإعجاب ونحوه، لا بد من هذا القيد، فإذا خُشِيَت الفتنة خُشِي أن يتأثر هذا الشخص ويعجب بنفسه فالنهي ثابت عن المدح في الوجه، ويكون الغرض من هذا الثناء التنبيه على فضله لتُعلَم منزلته، ثم يعامل بمقتضاها؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمرَنا أن ننزِّل الناس منازلهم، فإذا عرفْنا منزلة هذا الشخص بثناء من يُوثَق بثنائه عليه استطعنا أن نعامله ونجعله في محلِّه المناسب، وكي يُرغَب في الاقتداء به والتخلُّق بأخلاقه.

والحديث خرَّجه الإمام البخاري في أربعة مواضع:

الموضع الأول: هنا في كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، قال: حدثنا محمد بن عبيد الله، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل أنه سمع أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- يقول... فذكره، تقدَّمَت مناسبته للباب، والباب للكتاب.

الموضع الثاني: في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي -رضي الله عنه-، قال: حدثنا يحيى بن بُكير، قال: حدثنا الليث عن عُقيل عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبي سعيد -رضي الله عنه-... فذكره، ومناسبته لمناقب عمر -رضي الله عنه- ظاهرة؛ لأنه نص في فضله ومَزِيَّتِه على غيره، ومناسبة الباب لكتاب الفضائل أيضًا لا تحتاج إلى بيان.

الموضع الثالث: في كتاب التعبير، باب القميص في المنام، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثني أبي –إبراهيمُ- عن صالح عن ابن شهاب قال: حدثني أبو أمامة بن سهل أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول... فذكره، ومناسبة الحديث لباب القميص ظاهرة لذكر القميص فيه، ومناسبة الباب للكتاب -لكتاب التعبير- ظاهرة أيضًا، وفيه تعبير هذه الرؤيا.

الموضع الرابع: في كتاب التعبير أيضًا، باب جَرِّ القميص في المنام، قال: حدثنا سعيد بن عمير، قال: حدثني الليث عن عقيل عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو أمامة بن سهل عن أبي سعيد فذكره، والمناسبة ظاهرة أيضًا.

أخرجه أيضًا مسلم في كتاب فضائل الصحابة، بابٌ من فضائل عمر -رضي الله عنه-، ولنعلم أن التبويب هذا ليس من الإمام مسلم إنما هو من النووي، وأخرجه أيضًا الترمذي والنسائي.

المقدم: قال -رحمه الله تعالى-:

"عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «دعه، فإن الحياء من الإيمان»."

يقول -رحمه الله-: "عن ابن عمر رضي الله عنهما" راوي الحديث عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي أبو عبد الرحمن، تقدمت ترجمته في الحديث الثامن في أول كتاب الإيمان.

الحديث ترجم الإمام البخاري عليه بقوله: "بابٌ الحياء من الإيمان" يقول العيني: وجْه المناسبة بين البابين أن في الباب الأول بيان تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، وهذا الباب أيضًا فيه من جملة ما يفضل به الإيمان، وهو الحياء الذي يحجب صاحبه عن أشياء منكرة عند الله تعالى وعند الخلق، يقول الكرماني: فإن قلت: قد عُلِم مما تقدم أن الحياء شعبة من الإيمان، فما فائدة التكرار؟ قلتُ: كان المقصود ثَمَّة بيان أمور الإيمان، يعني هناك بيان أمور الإيمان، وأنه من جملتها، أعني الحياء، فذكر ذلك بالتبعية وبالعَرَض، وذكر هنا بالقصد وبالذات، يقول: فإن قلتَ: فإذا كان الحياء بعض الإيمان فإذا انتفى الحياء انتفى بعض الإيمان، وإذا انتفى بعض الإيمان انتفت حقيقة الإيمان، فيَلزم أن الشخص إذا لم يستحي يكون غير مؤمن، يعني يكون كافرًا، قلتُ: المراد من الإيمان هنا الإيمان الكامل، والتقريب ظاهر «الحياء من الإيمان» (مِن) تبعيضية، فإذا كان الحياء بعض الإيمان يلزم على هذا أنه إذا انتفى الإيمان...

المقدم: ينتفي الحياء.

إذا انتفى الحياء...

المقدم: ينتفي بعض الإيمان.

ينتفي بعض الإيمان، هل البعضية هنا مثل بعضية أركان الإيمان، كما لو انتفى الإيمان باليوم الآخر، والإيمان باليوم الآخر من الإيمان؟ نقول: هذا مكمِّل وليس بركن من أركانه، بحيث يدور معه إذا انتفى انتفى، هذا مراده، فإن قلت: فإذا كان الحياء بعض الإيمان فإذا انتفى الحياء انتفى بعض الإيمان، وإذا انتفى بعض الإيمان انتفت حقيقته، فيلزم أن الشخص إذا لم يستحي يكون كافرًا، قلت: المراد من الإيمان هو الإيمان الكامل والتقريب ظاهر.

«مَرَّ على رجل» قال النووي: قال أهل اللغة: مَرَّ عليه ومَرَّ به يمُرُّ مَرًّا، أي: اجتاز، وفي مسلم: «مر برجل».

«من الأنصار» جمع ناصر، كصاحب وأصحاب، أو جمع نصير كشريف وأشراف، وتقدم التعريف بالأنصار.

«وهو يعظ أخاه» أي ينصح ويخوِّف أو يذكِّر، قال ابن حجر: كذا شرحوه، والأولى أن يُشرَح بما جاء عند المصنف في الأدب من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة عن ابن شهاب، ولفظه: يعاتِب آخاه في الحياء، يقول: إنك لتستحيي، حتى إنه ليقول: قد أضر بك يعني الحياء؛ لأن أولى ما يُفسَّر به الحديث...

المقدم: الألفاظ الأخرى.

نعم، ما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في ألفاظ قد تكون أوضح وأبسط، كما أن أولى ما يُفسَّر به القرآن القرآن، قد يأتي في موضع مجمَل ويأتي تفصيله وبيانه في موضع آخر، فيُفسَّر المجمل بالمبيَّن، وهنا السنة أولى ما تُفسَّر بالسنة كما ذكر الحافظ، يقول: كذا شرحوه، والأولى أن يُشرَح بما جاء عند المصنف في الأدب من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة عن ابن شهاب ولفظه... إلى آخره.

يقول ابن حجر: ويحتمل أن يكون جمَع له العِتاب والوعظ، فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر، لكن المَخْرَج مُتَّحِد، فالظاهر أنه من تصرُّف الراوي بحسب ما اعتقد أن كل لفظ منه ما يقوم مقام الآخر، وهذا جارٍ على جواز الرواية بالمعنى -كما هو معروف­-.

قال ابن حجر: ولم أعرف اسم هذين الرجلين الواعظ وأخيه، وجملة: «وهو يعظ أخاه» جملة حالية «في الحياء» أي بسبب الحياء، ففي سببية فكأن الرجل كان كثير الحياء، فكان ذلك يمنعه من استيفاء حقوقه فعاتَبَه أخوه على ذلك، فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: «دَعْهُ» أي اتركه على هذا الخلق السَنِيّ، والفعل (دَعْ) الأمر مستعمل بكثرة (دَعْهُ) «دَعْ ما يَريبك» ومثله المضارع (يدَعُ) بخلاف الماضي فقد أُمِيْت (وَدَعَ) فقد أُمِيْت، وفي الشواذ: {ما وَدَعَك ربك} أي تركك، وجاء المصدر أيضًا مستعملاً في حديث: «لينتهين أقوامًا عن وَدْعِهم الجمع» أي تركهم، وجاء في ضرورة الشعر قول أنس بن زنيم:

ليت شعري عن خليلي ما الذي
 

 

غاله في الوعد حتى وَدَعَه

 

 

أي تركه.

ثم زاده النبي -عليه الصلاة والسلام- في ذلك ترغيبًا، فقال: «فإن الحياء من الإيمان» فإذا كان الحياء يمنع صاحبه من استيفاء حق نفسه جَرَّ له ذلك تحصيل أجرِ ذلك الحق، يعني إذا تركه في الدنيا وجده موفورًا له يوم القيامة.

فإذا كان الحياء يمنع صاحبه من استيفاء حق نفسه جرَّ له ذلك تحصيل أجر ذلك الحق، لاسيما إذا كان المتروك له مستحقًّا، قال ابن قتيبة: معناه أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان، فسمي إيمانًا كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه.

قال ابن حجر: والظاهر أن الناهي ما كان يَعرِف أن الحياء من مكمِّلات الإيمان؛ فلهذا وقع التأكيد، التأكيد بماذا؟ «دعه، فإن الحياء لا يأتي إلا بخير».

فلهذا وقع التأكيد، وقد يكون التأكيد من جهة أن القضية في نفسها مما يُهتَم به، وإن لم يكن هناك منكر، يقول الراغب: الحياء انقباض النفس عن القبيح، وهو من خصائص الإنسان ليَرتدِع عن ارتكاب كل ما يشتهي، فلا يكون كالبهيمة، قال الحليمي: حقيقة الحياء خوف الذم بنسبة الشر إليه، وقال غيره: إن كان في محرم فهو واجب، يعني إن جرَّه الحياء إلى ترك محرم فهذا الحياء يكون حينئذٍ واجبًا، وإن كان في مكروه فهو مندوب، وإن كان في مباح فهو العرفي، وهو المراد بقوله: «الحياء لا يأتي إلا بخير» يعني ولو كان في الأمور العادية، ولو كان في الأمور المباحة.

الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- بيَّن أن الحياء نوعان، أحدهما: غريزي، يقول -رحمه الله-: وهو خلُق يَمْنَحه الله العبد، ويجبله عليه، فيكفه عن ارتكاب القبائح والرذائل، ويحثه على فعل الجميل، وهو من أعلى مواهب الله للعبد، خلُق يجبل الله الإنسان عليه، وهو خلُق يحبه الله، فهذا من الإيمان باعتبار أنه يؤثر ما يؤثِّره الإيمان من فعل الجميل، والكف عن القبيح، وربما ارتقى صاحبه بعده إلى درجة الإيمان، فهو وسيلة إليه، كما قال عمر: "من استحيى اختفى، ومن اختفى اتَّقى، ومن اتَّقى وُقي" قال بعض التابعين: تركت الذنوب حياء أربعين سنة، ثم أدركني الورَع، وقال ابن سمعون: رأيت المعاصي نذالة، فتركتها مروءة، فاستحالت ديانة، لكن لا ينبغي أن يُسترسَل في مثل هذا الكلام، فلا يقول: اترك الذنوب حياء من الناس، ثم يجره هذا الحياء إلى أن يكون ديانة وورعًا، لا، مثل ما تقدم في مبحث الإخلاص أنهم طلبوا العلم لغير الله، ثم بعد ذلك...

المقدم: أبى الله إلا أن يكون له.

أبى الله إلا أن يكون له، ما نعتمد على مثل هذه الأقوال ولا نجتهد في تصحيح النية، أو نترك الأعمال والذنوب حياء من الناس، ثم نقول: يأتي بعد ذلك الدين والورع، لا، لأنك ما تدري هل يأتي أو لا يأتي؟! ما تدري هل تخترمك المنية قبل ذلك أم لا؟ والله المستعان.

النوع الثاني يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: أن يكون مكتَسبًا، إما من مقام الإيمان كحياء العبد من مقامه بين يدي الله يوم القيامة، فيوجِب له ذلك الاستعداد للقائه، أو من مقام الإحسان كحياء العبد من اطلاع الله عليه وقربه منه، فهذا من أعلى خصال الإيمان، وفي حديثٍ مرسَل: «استحي من الله كما تستحيي من رجلين من صالحي عشيرتك لا يفارقانك» وروي موصول أيضًا، لكنه ضعيف، موصوله ومرسَله، وسئل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن كشف العورة خاليًا، فقال: «الله أحق أن يُستحيا منه» وفي حديث ابن مسعود المرفوع: «الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبِلَى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء» خرَّجه الترمذي وغيره، وسبقَت الإشارة إليه وإلى تضعيفه.

وخرَّج البخاري في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} [سورة هود 5] أنها نزلت في قوم كانوا يجامعون نساءهم، ويتخلَّون فيستحيون من الله تعالى، فنزلت الآية.

وكان الصدِّيق يقول: "استحيوا من الله، فإني أذهب إلى الغائط فأظل متقنِّعًا بثوبي حياءً من ربي -عز وجل-" وكان أبو موسى إذا اغتسل في بيت مظلم لا يقيم صُلْبَه حياءً من الله -عز وجل-، وقال بعض السلف: "خَف الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه على قدر قربه منك".

يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: وقد يتولَّد الحياء من الله من مطالعة النِّعَم، فيستحيي العبد من الله أن يستعين بنعمته على معاصيه، فهذا كله من أعلى خصال الإيمان. يتولَّد الحياء من الله من مطالعة النِّعَم، يستحيي المسلم من ربه -عز وجل- الذي أغدق عليه النِّعَم، فعلى المسلم أن يشكر هذه النِّعَم، فيستعمل هذه النِّعَم فيما يرضي الله -سبحانه وتعالى-، ويوصله إلى جناته، ويخلِّصه من عقابه.

الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- خرَّج الحديث في موضعين، على كل حال مباحث الحياء كثيرة جدًّا ومتشعبة، مضى أكثرها فيما تقدم.

المقدم: في الحديث السابق.

نعم، الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- خرَّج الحديث في موضعين:

الأول: هنا في كتاب الإيمان، بابٌ الحياء من الإيمان، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن النبي -عليه الصلاة والسلام- مَرَّ... فذكره، تقدم ذكر المناسبة، وهذا الإسناد ابن شهاب عن سالم عن أبيه هو أصح الأسانيد عند الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى-، يقول الحافظ العراقي:

وجزَم ابن حنبل بالزهري
­

 

عن سالم أي عن أبيه البَرِّ

 

لما ذكر العراقي أصح الأسانيد، وذكر أنه أصحَّها عند الإمام البخاري: مالك عن نافع عن ابن عمر، ثنَّى بقوله:

وجزم ابن حنبل بالزهري
­

 

عن سالم أي عن أبيه البَرِّ

 

فهذا سند يُعَد من أصح الأسانيد -كما هو معروف-.

الموضع الثاني: في كتاب الأدب، بابُ الحياء، قال -رحمه الله تعالى-: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، قال: حدثنا ابن شهاب عن سالم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: مَرَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنك لتستحيي حتى كأنه يقول: قد أضر بك، تقدمت الإشارة إلى هذا الموضع في كلام الحافظ.

وروى الحديث أيضًا مسلم في كتاب الإيمان، بابُ: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها، وفضيلة الحياء، وكونه من الإيمان، ومعروف أن التبويب ليس من الإمام مسلم، لكن يُذكَر من أجل أن يَسهُل الوقوف على الحديث، في تخريج الأحاديث يُذكَر الكتاب والباب سواء كان من وضع المؤلِّف كما في البخاري وغيره من الكتب، أو من وضع من جاء بعده لتسهيل الوصول إلى الحديث، وتيسير الوقوف عليه كما في صحيح مسلم.

السائل: أحسن الله إليكم يا شيخ، في قول الحافظ ابن رجب في أنواع الحياء أن أحدهما: خُلُق يمنحه الله للعبد، فإذا كان في بعض العباد منحة من الله، وبعض العباد يجاهد نفسه على هذه الأخلاق الفاضلة، فهل هذا وهذا بمنزلة واحدة في الأجر؟ أحسن الله إليكم.

الأخلاق والشمائل والصفات كلها منها ما هو غريزي، ومنها ما هو مكتسَب، الغريزي منحة من الله -سبحانه وتعالى-، وهي متفاوتة هذه المنح من شخص إلى آخر، لكن من كان نصيبه أقل من هذه الشمائل والصفات الحميدة، من كان نصيبه من الغريزي أقل وجاهد نفسه، وتخلَّق بالخُلُق الحميد، وإن وجد صعوبة في هذه المجاهدة فلا شك أنه يؤجر على اتصافه بهذا الوصف، وإن كان خلاف ما جُبِل عليه كما أنه يُؤْجَر على أجر المجاهدة، فالذي يأتي إلى العبادة وهي شاقة عليه لا شك أنه يُؤْجَر أجر العبادة، ويؤجر أجر المجاهدة، والذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق له أجران، أجر القراءة وأجر المشقة، وإن كان من جُبل على ما يحبه الله -سبحانه وتعالى- كما في قصة الأشج، مثل هذا هذه منحة وموهبة من الله -سبحانه وتعالى- ينبغي أن تقابَل بالشكر واللهَج بالثناء على الله -سبحانه وتعالى- وذكره، فكل من الممنوح والممنوع؛ على الممنوح أن يستعمل هذه النعمة فيما يرضي الله -سبحانه وتعالى-، ومن مُنِع وحُرِم من هذه النعمة عليه أن يجاهد، وأن يتطبَّع ويتخلَّق بالخُلُق المطلوب شرعًا، وحينئذٍ يثبت له الأجران -إن شاء الله تعالى-.

المقدم: هل يفهم من هذا -أحسن الله إليكم- أيضًا أن من حاول منع من به الحياء، وحاول تدريبه على ترك بعض طباع الحياء أنه يُنهى عن هذا، ويقال أنك أخطأت في حقه؟

«الحياء لا يأتي إلا بخير» «والحياء من الإيمان» لكن الناس قد يَخْلِطُون فلا يفرِّقون بين معنى الحياء الشرعي الذي يَمنَع المتصف به من ارتكاب ما يكرهه الله ويمنع منه، وبين الحياء العرفي الذي هو بمعنى الخجل، فمثل هذا الخجل قد يكون مذمومًا، وتقدمت الإشارة إليه سابقًا أن ما يسميه الناس حياء، ويمنعه من ارتكاب بعض الواجبات، من إنكار المنكر، من دعوة الناس إلى الخير، قد يمنعه الحياء من إمامة الناس، هذا ليس بحياء حقيقة، وإنما هو خجل، وهو خلق مذموم.

السائل: أحسن الله إليكم في قول الحافظ: وقد يتولَّد الحياء من الله من مطالعة النِّعَم، فيستحيي العبد من الله أن يستعين بنعمته على معاصيه، لو استعان العبد بنِعَم الله على معصية الله، هل يقال: إن هذا العبد معدوم الحياء؟ عفا الله عنكم.

الحياء خصلة من خصال الإيمان، وقد يتجزَّأ، فإذا كان لا يستعمل هذه النِّعَم إلا في معاصي الله قد يتَّجِه ما ذكرت، إذا كانت نعمة البصر عنده ونعمة السمع لا يستعمل هاتين النعمتين إلا فيما يغضب الله -سبحانه وتعالى-، قد يتجه أنه منزوع الحياء، إذا كان يستعمل هاتين النعمتين فيما يرضي الله، وفيما يغضب الله هذا من الذين خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا، يوجد معه الحياء أحيانًا، ويفقده أحيانًا، فهذا خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا.

المقدم: أحسن الله إليكم الحياء بالنسبة للمرأة هل يكون أولى أن يكون أكثر من الرجل أو هذا فقط مما تعارف عليه الناس؟

المرأة باعتبار أنها مطالَبة بالسِّتِر، ولزوم بيتها؛ لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [سورة الأحزاب 33] قد يُفهَم من عموم النصوص أن المرأة أولى بالحياء من الرجال؛ لأن الرجل مأمور بالاجتماع بالناس، والاختلاط بهم، وأداء الصلاة مع الجماعات وغير ذلك، فقد تكون المرأة باعتبار أنها مطالَبة بخفض صوتها، كما ذكر أهل العلم في التلبية وغيرها، وهي أيضًا مطالَبة بالقرار في بيتها، فيتولَّد من هذا المنع من عمومات الشرع أنها مطالبة بالحياء أكثر من غيرها، وإذا استَحضَرْنا أن المراد بالحياء ما يَكُف عن المحرمات فإنها مطالبة كالرجل على حد سواء إلا أنها باعتبار أنها مأمورة بالانعزال عن الرجال وعن الاختلاط بهم مأمورة بالقرار في بيتها، والرجل مأمور بالمخالطة، قد تكون المرأة أحوج إلى الحياء العرفي من الرجل، لا أقول: الحياء الشرعي هي أحوج إلى الحياء العرفي من الرجل، وإلا فالمرأة كالرجل مطالبة بأن تغيِّر المنكر فيما تقدر عليه، مطالبة بأن تَعِظ الناس وتوجههم بقدر طاقتها، وبقدر إمكاناتها بين النساء، وما أشبه ذلك، فالنساء شقائق الرجال من هذه الحيثية، وإذا أردنا بالحياء الحياء العرفي لا شك أن المرأة أولى به من الرجال، والله المستعان.

المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.

أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. لي بكم لقاء -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة وأنتم على خير، حتى ذلكم الحين أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.