شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (077)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح للإمام زين الدين أحمد بن أحمد بن عبد اللطيف الزبيدي.
مع مطلع حلقتنا هذه يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.
المقدم: توقفنا عند هذا الحديث، قال:
"عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أي آية هي؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [سورة المائدة 3] فقال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قائم بعرفة، يوم جمعة."
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
راوي الحديث أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب، ثاني الخلفاء الراشدين، سبق التعريف به مع شرح أول حديث في الكتاب، وهذا الحديث تابع للترجمة السابقة، باب زيادة الإيمان ونقصانه، وقول الله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [سورة الكهف 13] {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [سورة المدثر 31] وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [سورة المائدة 3].
يقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: فإذا ترك شيئًا من الكمال فهو ناقص، هذه الترجمة السابقة، وسبق بيانها.
يقول ابن حجر: فإن قيل: كيف دلَّت هذه القصة على ترجمة الباب؟ أجيب من جهة أنها بيَّنت أن نزولها كان بعرفة، وكان ذلك في حجة الوداع التي هي آخر عهد البعثة حيث تمت الشريعة وأركانها، والله أعلم.
أولاً: الترجمة باب زيادة الإيمان ونقصانه، عرفنا ارتباط الآية بهذا الكلام بزيادة الإيمان ونقصانه؛ ولذا قال الإمام البخاري: فإذا ترك شيئًا من الكمال {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [سورة المائدة 3] إذا ترك شيئًا من الكمال فهو ناقص، إذًا ارتباط القصة وثيق؛ لأن القصة متعلقة بآية نُص عليها في الترجمة، هذا ارتباط وثيق، الحافظ ابن حجر يقول: فإن قيل: كيف دلت هذه القصة على ترجمة الباب؟ والمقصود زيادة الإيمان ونقصانه، يقول: أجيب من جهة أنها بينت أن نزولها كان بعرفة، وكان ذلك في حجة الوداع التي هي آخر عهد البعثة حيث تمت الشريعة وأركانها، يعني قبيل وفاته -عليه الصلاة والسلام-، ويقول العيني: أخرج هذا الحديث هاهنا لأنه في بيان سبب نزول الآية التي هي من جملة الترجمة، وهذا ما أشرت إليه آنفًا، أخرج الحديث هاهنا لأنه في بيان سبب نزول الآية، والآية مرتبطة بالترجمة، فالموافقة بين ما تُرجِم به وما تُرجِم له متطابقة.
وفي شرح ابن بطال قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [سورة المائدة 3] فيه حجة في زيادة الإيمان ونقصانه؛ لأن هذه الآية نزلت يوم عرفة، في حجة الوداع، يوم كملت الفرائض والسنن، واستقر الدين، وأراد الله قبض نبيه، فدلت هذه الآية أن كمال الدين إنما حصل بتمام الشريعة، فمن حافظ على التزامها فإيمانه أكمل من إيمان من قصَّر في ذلك وضيَّع؛ ولذلك قال البخاري، يعني في الترجمة: فإذا ترك شيئًا من الكمال فهو ناقص، وسبق بيان أن الدين بالنسبة لمن مات قبل كماله كامل بالنسبة له، بالنسبة لمن مات قبل كماله، قبل هذا اليوم، قبل يوم عرفة، قبل اكتمال الشرائع هو بالنسبة له كامل؛ لأن ترك بعض الشرائع إما أن يكون عن طوعه واختياره، بأن يعلم أنه مكلَّف بالأوامر كذا وكذا وكذا، ومكلف بالكف عن النواهي، عن بعض النواهي ويخالف، هذا إيمانه ناقص، لكن شخص مات قبل تحريم الخمر، وكان يشرب الخمر، نقول: إيمانه ناقص أو كامل؟ كامل بالنسبة له.
سائل: أحد المُسِنِّيْن لم يحج لظرف ما، أو عذر، ومات على ذلك، يكون إيمانه كاملاً؟
يعني ما كُلِّف بالحج؟
سائل: ما كُلِّف بالحج.
إذا ما كُلِّف بالحج إيمانه كامل بالنسبة له، المرأة في حال الحيض تترك الصلاة إيمانها كامل بالنسبة لها، قوله: إن رجلاً...
سائل: أحسن الله إليك ما يُعَدُّ نقصانًا؟
أين؟
سائل: المرأة.
لكنه ليس بطوعها واختيارها، هو نقصان بالنسبة لقدر ما يصلِّيه الرجال من أعداد الصلوات، لكن هذا أمر ليس بطوعها واختيارها؛ ولذا يختلف أهل العلم هل يُكتَب لها حال الحيض كما يُكتَب للمريض والمسافر من أجر فيما يعمله صحيحًا مقيمًا؟ يُكتَب أو لا يُكتَب؟ المسألة خلافية، وهو ما أشار إليها الشيخ، المسألة خلافية، مَن نظر إلى حديث النقصان: «ناقصات عقل ودين» وفُسِّر النقصان بتركها الصيام والصلاة، قال: الشارع عَرَف أنها تترك هذه الأمور قهرًا عنها وليس بطوعها واختيارها ومع ذلك سماه نقصان، إذًا لا يُكتَب لها؛ لأن الناقص لا يساوى بالكامل، أيضًا من أهل العلم من يرى أنها مثل المريض والمسافر في المعنى؛ لأنها ليس بطوعها واختيارها أن تصلي أو تصوم حال العذر؛ ولذا لو صلت أو صامت لم يصح منها لا صيام ولا صلاة، بل يحرمان منها، يحرم على الحائض أن تصوم، يحرم عليها أن تصلي، وحينئذٍ يكون ما دامت ممنوعة شرعًا، فلماذا لا يكون إيمانها كاملاً؟ وقد جاء في الحديث: «كَمُلَ من النساء...» يعني كمل من الرجال كثير، وكمل من النساء من نص عليه، مع قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ناقصات» لا شك أن الكمال كمال نسبي بالنسبة للنساء، وكمال الرجال بالنسبة للرجال وهكذا، لكن يبقى أنها غير مؤاخذة بتركها، وإن كان في الجملة نقصانًا.
سائل: شيخ أحسن الله إليك قول النبي -عليه الصلاة والسلام- لعائشة لما حاضت قال: «هذا أمر كتبه الله على بنات آدم» أيضًا ما يقال فيه مثل ما يقال هنا أنه أمر مكتوب عليها، يعني لا يد لها فيه؟
هذا بلا شك لا يد لها فيه، قال ذلك تسلية لها لما حاضت ورأت أنها بحيضها قد ينال حجها النقص كما نال صيامها وصلاتها، فهو يسليها -عليه الصلاة والسلام- بهذا.
قوله: "أن رجلاً من اليهود" هو كعب الأحبار كما في مسند مسدد، وتفسير الطبري، والأوسط للطبراني، وللمصنِّف في المغازي على ما سيأتي من طريق الثوري عن قيس بن مسلم: "أن ناسًا من اليهود" وهنا..
المقدم: "أن رجلاً من اليهود".
"أن رجلاً من اليهود" في المغازي "أن ناسًا من اليهود" وفي التفسير بلفظ: "قالت اليهود" ستأتي الإشارة إلى هذا -إن شاء الله تعالى-.
قال ابن حجر: فيحمل على أنهم كانوا حين سؤال كعب عن ذلك جماعة، يعني الحضور جماعة من اليهود، ناس من اليهود، اليهود هؤلاء الحضور، والذي سأل، تصدى للسؤال هو كعب، فباعتباره هو السائل أُفرِد "أن رجلاً" وباعتبار حضورهم وإقرارهم لسؤاله شاركوه، فتكلم كعب على لسانهم.
"من اليهود" في تهذيب اللغة للأزهري قال الليث: الهَوْد التوبة، الليث مَن هو؟ هو الليث بن المظفَّر، من أئمة اللغة، قال الليث: الهَوْد التوبة، قال الله -عز وجل-: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [سورة الأعراف 156] أي تبنا إليك، وكذلك قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وإبراهيم: والهُوْد: هم اليهود، هادوا يهودون هودًا، وسميت اليهود اشتقاقًا من هادوا، أي تابوا؛ لأن الهَوْد التوبة.
وقال الزجاج: قال المفسرون في قوله -عز وجل-: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [سورة الأعراف 156] أي تبنا إليك، وأما قوله -عز وجل-: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [سورة الأنعام 146] فمعناه دخلوا في اليهودية، لا يعني بالضرورة الذين تابوا، معناه الذين دخلوا في اليهودية حُرِّم عليهم ما ذُكر، وفي الحديث: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه» معناه أنهما يعلمانه اليهودية، ويدخلانه فيه.
وقال الفراء في قول الله تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [سورة البقرة 111] قال: يريد يهودًا، فحُذِفَت الياء الزائدة، ورُجِع إلى الفعل من اليهودية، وهي في قراءة أُبَي: {إلا من كان يهوديًا أو نصرانيًا} قال: ويجوز أن يجعل هُوْدًا جمعًا واحده هائد، وهُوْد مثل جائل وعائط من النُّوْق، والجمع جُوْل وعُوْط، وجمع اليهودي: يهُوْد، كما يقال في جمع المجوسي: مجوس، وفي جمع العجمي والعربي: عرب وعجم.
وقال الكرماني: اليهود علَم قوم موسى -عليه السلام-، ويهود معرفة أُدخِل عليها لام التعريف، وسموا به اشتقاقًا من هادوا أي مالوا، إما من عبادة العجل، أو من دين موسى، أو من هاد إذا رجع من خير إلى شر، ومن شر إلى خير؛ لكثرة انتقالهم من مذاهبهم، هم لا يثبتون على حال.
وقيل: لأنهم كانوا يتهودون، أي يتحركون عند قراءة التوراة؛ ولذا يَنتقِد بعض أهل العلم هذه الحركة التي تصدر من بعض القراء.
المقدم: هزهزة الرأس والجسم؟
نعم، كأنها مأخوذة من صنيع اليهود، يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة.
وقيل: معرَّب من يهوذا بن يعقوب بالذال المعجمة، ثم نسب إليه فقيل: يهودي، ثم حُذفت الياء في الجمع فقيل: يهود، وكل جمع منسوب إلى جنس الفرق بينه وبين واحده بالياء وعدمها، نحو: رومي وروم.
"قال له: يا أمير المؤمنين" أي قال اليهودي لعمر -رضي الله عنه-: "يا أمير المؤمنين" وهو أول من لقب بذلك من الخلفاء، وكان أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- يقال له: خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا اللقب إذا أطلق أمير المؤمنين، إذا أطلق يراد به الإمام الأعظم، لكن إذا قُيِّد أمير المؤمنين في الحديث، أمير المؤمنين في التفسير، أمير كذا في باب كذا.
سائل: السرية.
نعم، أمير السرية.
المقصود أنه مع التقييد لا بأس به، كما قالوا عن شعبة وسفيان وجمع من الحفاظ قالوا له، قالوا لكل واحد منهم: أمير المؤمنين في الحديث.
"آية" مبتدأ، وسوَّغ الابتداء به مع تنكيره وصْفه؛ بقوله: "في كتابكم تقرؤونها" والخبر "لو علينا معشر اليهود نزلت" أي لو نزلت علينا، فـ(لو) داخلة على فعل محذوف يفسره المذكور؛ كقوله تعالى: {لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ} [سورة الإسراء 100] لأنها لا تدخل إلا على فعل، ومعشر نُصِب على الاختصاص، لو علينا أخص معشر اليهود، فهو منصوب على الاختصاص، أو بفعل محذوف، أي أعني معشر اليهود، والمعشر: الجماعة الذين شأنهم واحد.
"لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا" أي لعظَّمناه، وجعلناه عيدًا لنا في كل سنة؛ لِعِظَم ما حصل فيه من إكمال الدين، والعيد: فعل من العَوْد، يعني: وزنه، وزن عيد فعل من العَوْد، وإنما سمي به لأنه يعود في كل عام.
قال الزمخشري: في قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا} [سورة المائدة 114] قيل: العيد: هو السرور العائد؛ ولذلك يقال: يوم عيد، كأن معناه يكون لنا سرورًا وفرحًا، هذه مستعملة، في أيام الفرح يقال: عيد، حضور فلان عيد، وهذا يقصد به المعنى اللغوي، ووجود الفرح والسرور على سبيل التجوُّز، وإلا فالأعياد في الشرع محددة، على ما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى-.
وقوله: "لاتخذنا" جواب (لو) وقيل: جواب قسم مقدَّر.
"قال عمر -رضي الله عنه-: أي آية؟" أي: هي، فالخبر محذوف، قال كعب: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [سورة المائدة 3] أي أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام والعقائد والآداب وغيرها، {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [سورة المائدة 3] أي بذلك، أي: بكمال أمر الدين؛ لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام، أي الكمال والتمام أقوى؟ إذا قيل: هذا كامل وهذا تام أيهما أبلغ؟ الكمال أم التمام؟
المقدم: إذا استخدم اللفظان في الآية؟
الإكمال للدين، والإتمام للنعمة، والدين خاص بالذي لا يَقبَل الزيادة والنقصان.
المقدم: فيكون الكمال أولى.
وأما تمام النعمة بما في ذلك النعم الدنيوية والدينية النعم الدنيوية قابلة للزيادة، إذًا الكمال أبلغ من التمام، جاء بالنسبة للدين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [سورة المائدة 3] إذًا لا يحتاج إلى مزيد، كامل، {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [سورة المائدة 3] النعم منها الدينية وهذا أيضًا لا تقبل الزيادة، ومنها الدنيوية وهي قابلة للزيادة.
سائل: الحديث يا شيخ أحسن الله إليك...
سم.
سائل: «فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» ألا يكون هنا الإتمام وهو في العبادات؟
نعم فأتموا؛ لكنه مع التمام ما يسلم شيء من النقص؛ لأن من أدرك الصلاة كاملة أكمل ممن أدرك بعض الصلاة، {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [سورة المائدة 3] بمعنى اخترته لكم من بين الأديان، وآذنتكم بأنه هو الدين المرتضى وحده.
يقول الكرماني: فإن قلت: هل فرق بين أن يقال: أي آية وأن يقال: ما تلك الآية؟ السؤال ما هو؟ "أي آية؟" يعني لو قال: ما تلك الآية؟ يختلف؟ يقول الكرماني: نعم، السؤال بـ(أي) إنما هو عما يميِّز أحد المتشاركات، وبـ(ما) عن الحقيقة، والغرض هاهنا طلب تعيين تلك الآية وتمييزها عن سائر الآيات التي في الكتاب مقروءة.
"قال عمر -رضي الله عنه-: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه" وفي رواية: "أُنزِلَت فيه" "على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قائم بعرفة، يوم جمعة" يقول الكرماني: معناه إننا ما أهملناه، ولا خفي علينا زمان نزولها، ولا مكان نزولها، وضبطنا جميع ما يتعلق بها حتى صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- وموضعه في زمان النزول، وهو كونه -عليه الصلاة والسلام- قائمًا حينئذٍ، وهو في غاية الضبط.
يقول عمر رضي الله عنه: "قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو قائم بعرفة، يوم جمعة" يعني بالتفصيل، فدل على أنهم ضبطوا المكان والزمان، وذكروا ما يلابس القصة من وصف النبي -عليه الصلاة والسلام-، مما يدل على أنهم في غاية الضبط.
فإن قلت: عرفة والجمعة يدلان على الزمان، وعمر يقول: "قد عرفنا ذلك اليوم والمكان" فقوله: "عرفة والجمعة".
المقدم: للزمان فقط.
للزمان فقط.
المقدم: لكن فيها بيان المكان.
من أي وجه؟
المقدم: كونه في عرفة، عرفة المكان.
عرفة المكان أو عرفات المكان؟
المقدم: لكن لن يخطب في عرفة إلا في مكان عرفات.
يعني بطريق التنصيص أو الالتزام؟
المقدم: لا، بالالتزام.
الالتزام غير، لكن الجواب طابق أو ما طابق؟ الزمان والمكان، الزمان كذا، والمكان كذا، هذا إذا أردنا المطابقة.
يقول: فإن قلت: عرفة والجمعة يدلان على الزمان فما الذي يدل على مكان النزول؟ قلت: إما أن يقال: عُرِفَ من عرفة أيضًا، إما لأن زمان الوقوف بعرفة إنما هو في عرفات، أو وإما لأن عرفة قد تطلق على عرفات أيضًا، فيراد هاهنا كلا المعنيين على مذهب من جوَّز إعمال اللفظ المشترك في معنييه كالشافعي وغيره، لكن إذا تكلم الإنسان بكلمة وهذه الكلمة لها أكثر من معنى هل نقول: إن الإنسان يريد هذه المعاني في آن واحد؟ هل نقول: إن عمر -رضي الله عنه- يقصد بيان الزمان والمكان في آن واحد؟
المقدم: يعني ليس مستبعَدًا لأنه نص بقوله: "أنا أعرف المكان والزمان" فهل يستبعد هذا؟
استعمال اللفظ الواحد في معنييه الجمهور لا يرتضونه، بينما عند الشافعي ومن يقلده يجوز استعمال المشترَك في معنييه، يعني إذا قلت: رأيت عينًا، وأنت أمام عين جارية وقطعة من الذهب، هل أنت حينما تقول: رأيت عينًا تريد الأمرين معًا أو تريد أحدهما؟
المقدم: لا، واحد فقط.
هذا الأصل أنك تريد واحدًا، فيراد هاهنا كلا المعنيين على مذهب من جوَّز إعمال اللفظ المشترَك في معنييه كالشافعي وغيره، أو يقال: الآن لو صوَّتَّ لشخص: يا محمد، فالتفت أكثر من واحد، هل نقول: أنك قصدت كل هؤلاء الذين التفتوا؟
المقدم: قصدت واحدًا.
مَن يجوِّز استعمال اللفظ المشترَك اللفظ مشترَك بين هؤلاء كلهم، واضح؟
المقدم: صحيح واضح.
أو يقال: إنما قال: عرفنا المكان ولم نتعرَّض لتعيينه، لكن تعيينه من قوله: بعرفة ظاهر، بطريق الالتزام أقل استدلال، من الوضوح بمكان أن يُستدَل على كونه بعرفة، قائم بعرفة، ماذا أكثر من هذا الوضوح؟ وإن كان الأصل في المكان عرفات، لكن يُستدَل باليوم على المكان، وقوله: بعرفة يتعلق إما بقائم، وإما بـ(نزلت) وعرفة غير مصروف للعلمية والتأنيث.
"يوم جمعة" وفي رواية أبي ذر وأبي الوقت، كثيرًا ما يقولون: في رواية أبوي ذر والوقت؛ لأنه عند التثنية والجمع إنما يثنى ويجمع ماذا؟ صدر الجملة، إنما هو المضاف، صدر التركيب.
يقول: "يوم جمعة" وفي رواية أبي ذر وأبي الوقت، ونسخة لابن عساكر: "يوم الجمعة" الجمعة، قال القسطلاني: وإنما لم يمنع من الصرف يوم جمعة، منعنا يوم عرفة "في يوم عرفةَ"، "قائمٌ بعرفةَ".
المقدم: يوم جمعةٍ.
"يوم جمعةٍ".
يقول القسطلاني: وإنما لم يمنع من الصرف على الأَولى، يدل على أنه يجوز منعه لكنه خلاف الأَولى.
كما في عرفة لأن الجمعة صفة أو غير صفة، وليس علَمًا، ولو كانت علَمًا لامتنع صرفها، وهي بفتح الميم وضمها وإسكانها، الجمعة، فتضم الميم فيقال: جمُعة في قراءة الأكثر، وتسكن فيقال: جمْعة قراءة الأعمش، وقرئ في الشواذ: جُمِعة، وفتحت الميم كهمزة ولمزة، جُمَعة، فالمتحرك جُمَعة بمعنى الفاعل كضحكة بمعنى ضاحك، والمسكن بمعنى المفعول كضُحْكة، يعني مضحوكًا عليه، وهذه قاعدة كلية، فالمعنى إما جامع للناس أو مجموع له، والله المستعان.
المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.
لعلنا نكتفي بهذا ونستكمل -بإذن الله- ما تبقى في حلقة قادمة.
مستمعي الكرام، سوف نستكمل معكم ما تبقى من ألفاظ هذا الحديث في الحلقة القادمة -بإذن الله-.
نترككم في رعاية الله وحفظه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.