كتاب الإيمان (33)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فيقول الحافظ ابن رجب في شرح حديث أبي سعيد، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ -أو: يَتَّبِعُ- بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ»".

قال -رَحِمَهُ اللهُ-: (بوَّب البخاري على أن الفرار من الفتن من الدين، وليس في الحديث إلا الإشعار بفضل من يفر بدينه من الفتن، لكن لما جعل الغنم خير مال المسلم في هذه الحال، دل على أن هذا الفعل من خصال الإسلام، والإسلام هو الدين)، (لكن لما جعل الغنم خير مال المسلم)، (خير مال) يعني أفضل أمواله، والفضل يترتب عليه أجر، والأجر لا شك أنه مرتبط بالدين. (خير مال المسلم في هذه الحال، دل على أن هذا الفعل من خصال الإسلام، والإسلام هو الدين).

قال: (وأصرح من دلالة هذا الحديث الذي خرَّجه في أول الجهاد من رواية الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد قال: قيل: يا رسول الله! أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله»، قالوا: ثم مَن؟ قال: «مؤمن في شِعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره». وليس في هذا الحديث ذكر الفتن)، الرابط بين الحديث والترجمة عند الحافظ ابن رجب -رَحِمَهُ اللهُ- فيه شيء من الغموض، يعني أصرح منه ما قاله غيره من الشراح أنه لما كان الفرار بالدين وقاية له وسببًا لتحصينه من الخلل صار دِينًا، صار هذا الفرار من الدين.

طالب: ..........

نعم. هذا بُين في الشروح الأخرى.

(وخرجه أبو داود، وعنده: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي المؤمنين أكمل إيمانًا؟ فذكره. وهذا فيه دلالة على أن الاعتزال عن الشر من الإيمان. وفي المسند وجامع الترمذي، عن طاوس، عن أم مالك البهزية قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «خير الناس في الفتنة: رجل معتزل في ماله، يعبد ربه، ويؤدي حقه، ورجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله». وروي عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرجه الحاكم. وروي عن طاوس مرسلاً. وخرَّج الحاكم أيضًا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «أظلتكم فتن كقطع الليل المظلم، أنجى الناس منها صاحب شاهقة يأكل من رِسل غنمها، ورجل من وراء الدروب آخذ بعنان فرسه يأكل من فيء سيفه». وقد وقفه بعضهم)، والحديث الأول حديث مالك: «ورجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله».

الآن الوقت وقت فتن على ما جاء في الحديث هنا، المسألة مفترضة في وقت فتن، وإذا كان الجهاد قائمًا كما هو في هذا الحديث: «ورجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله»، والراية متميزة، وهذا مجاهد ليعلي كلمة الله -جَلَّ وعَلا-، «ورجل آخذ بعنان فرسه»، خير الناس في الفتنة هذا وهذا، ما يدل على أنه يجاهد في زمن الفتنة. هل يتصور أن يقوم جهاد شرعي في زمن فتنة لا يدرى ما حقيقتها؟ أو أنه ينصر الحق ويجاهد لإعلاء كلمة الله ولو كان هناك فئات وطوائف وكذا يموجون في الفتن؟ لأنه مثل هذه الأمور، نعم «رجل معتزل في ماله يعبد ربه ويؤدي حقه» هذا ظاهر ما فيه إشكال.

لكن المسألة مفترضة في زمن فتنة، والفتنة قد لا يتبين المحق من المبطل فيها، لا يتبين لعموم الناس، أما بالنسبة لخواص الناس فما فيه شك أنهم من تروَّى من كتاب الله وسنة نبيه -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- ونظر إلى حقائق الأمور بالبصيرة الثاقبة قد يسلم من هذه الفتن، ويعصم منها. لكن «رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله» في زمن فتنة، وهنا يقول: «أنجى الناس منها صاحب شاهقة يأكل من رِسل غنمها، ورجل من وراء الدروب آخذ بعنان فرسه يأكل من فيء سيفه». يعني الجهاد في زمن الفتن هل المراد بها الفتن التي لا يتبين فيها الحق، أو الفتن التي يتبين فيها الحق؟ الفتن التي لا يتبين فيها الحق كيف يجاهد؟ لأنه قد يقتل من لا يستحق القتل. لكن التي يتبين فيها الحق؟ لا بد أن يكون محمولاً على هذا؛ لأنه إذا لم يتبين له الحق لا يجوز له أن يخوض غمار مثل هذه الفتن ويقتل أو يُقتل بهذه الذريعة.

طالب: ..........

على كل حال: «خير الناس في الفتنة»، «في الفتنة»، في الظرفية هذه يدل على أنه واقع فيها في الظرف هي محيطة به كغيره.

طالب: ..........

يعني فتنة في موطن، والجهاد في مكان لا فتنة فيه.

طالب: ..........

«ورجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله» يعني يتجنب هذا البلد التي تموج فيه الفتن، وينتقل إلى بلد آخر يسعى فيه إلى إعلاء كلمة الله، ولا يلزم أن يكون فيه فتن. فيه شيء؟

طالب: ..........

ماذا؟

طالب: ..........

لا، هذا واضح. نعم.

طالب: ..........

نعم. الآن فيه قتال في الأرض وبين المسلمين وفي بلاد المسلمين، لكن كثيرًا من الناس يدخل فيه على غير بينة، قد يقتل وقد يُقتل، ولا يدري من يَقتل ولا يدري فيما قُتل، وقد يقاتل أحيانًا على غير غاية، إنما وُجد في هذا المكان الذي فيه هذه الفتنة فاضطر إلى القتال؛ لأن الفتن إذا قامت وأظلت الناس لا شك أنه تعمى فيها البصائر.

طالب: ..........

نعم. وتبرأ ذمته بهذه الفتوى، يعني ممن تبرأ الذمة بتقليده.

طالب: ..........

نعم.

طالب: ..........

يعني أن الجهة منفكة، الفتنة في جهة والجهاد في جهة، وهذا واضح.

طالب: ..........

ماذا؟

طالب: ..........

لا العطف، الواو لا تقتضي الترتيب.

قال: (فهذه الروايات المقيدة بالفتن تقضي على الروايات المطلقة. وحديث أبي سعيد الذي خرَّجه البخاري هنا لم يُخرجه مسلم. وقد روي عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن، عن أبي سعيد، وهو وهمٌ. وروي عن يحيي بن سعيد، عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن نهار العبْدي، عن أبي سعيد، وذِكر نهارٍ في إسناده وهمٌ؛ قاله الدارقطني. فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «يوشك» تقريب منه للفتنة، وقد وقع ذلك في زمن عثمان كما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا من جملة أعلام نبوته -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-.

وإنما كان الغنم خير مال المسلم حينئذ؛ لأن المعتزل عن الناس بالغنم يأكل من لحومها ونتاجها، ويشرب من ألبانها، ويستمتع بأصوافها باللبس وغيره، وهي ترعى الكلأ في الجبال وترِد المياه، وهذه المنافع والمرافق لا توجد في غير الغنم)، يعني هي لا توجد في الإبل أو في البقر؟

طالب: ..........

ما هو؟

طالب: البقر.

ماذا فيها؟

طالب: ..........

ما يلبس منها، طيب غنم وبقر، يصير المعول على الغنم والبقر زيادة.

(وهذه المنافع والمرافق لا توجد في غير الغنم؛ ولهذا قال: «يتبع بها شعف الجبال» وهي رءوسها وأعاليها، فإنها تعصم مَن لجأ إليها من عدو. «ومواقع القطر»؛ لأنه يجد فيها الكلأ).

طالب: ..........

نعم.

طالب: ..........

لا هي أولى من غيرها لأنه جاء مدحها وجاء من اقتناها، وأما بالنسبة للإبل فالغلظة الفدادين أصحاب الإبل..

طالب: ..........

في الإبل مثلاً، مع أنه جاء أنها مفضولة بالنسبة للغنم.

يقول: («ومواقع القطر» لأنه يجد فيها الكلأ والماء فيشرب منها ويسقي غنمه وترعى غنمه من الكلأ. وفي مسند البزار، عن مِخول البَهزي سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «سيأتي على الناس زمان خير المال فيه غنم بين السجدتين»)!

طالب: عندي «بين مسجدين».

وهنا يقول: في مسند أبي يعلى «المسجدين».

(«غنم بين السجدتين»)، يعني مكان السجود، فيه هذا وفيه هذا.

 («تأكل من الشجر وترد الماء، يأكل صاحبها من رِسلها، ويشرب من ألبانها، ويلبس من أشعارها -أو قال: من أصوافها-، والفتن ترتكس بين جراثيم العرب»)، مع أن الحديث فيه ضعف.

 (وروي هذا المعنى عن عبادة بن الصامت من قوله. وواحد الجراثيم: جرثومة، وهي أصل الشيء)، جرثومة أصل الشيء، يعني ما يسمع الناس الجرثومة الآن التي هي أصل الوباء، جراثيم العرب أصولهم كما هو معلوم. أبو ثعلبة الخشني اسمه: جرثوم. يعني ما هو باسم، المتعارف عليه أنه اسم ما هو بطيب، ليس بحسن، لكنه على استعماله الأصل، وأنه أصل الشيء، ما يرون فيه شيئًا؛ ولذلك سموا به.

(وفي هذا دلالة على أن من خرج من الأمصار فإنه يخرج معه بزاد وما يُقتات منه)؛ لئلا يعرض نفسه إلى التهلكة، يهلك من الجوع أو من العطش، لا بد أن يحتاط لنفسه.

(وقوله: «يفر بدينه من الفتن»، يعني: يهرب؛ خشية على دينه من الوقوع في الفتن، فإن من خالط الفتن وأهل القتال على الملك لم يسلم دينه من الإثم، إما بقتل معصوم أو أخذ مال معصوم أو المساعدة على ذلك بقول ونحوه، وكذلك لو غلب على الناس من يدعوهم إلى الدخول في كفر أو معصية حسُن الفرار منه. وقد مدح الله من فر بدينه؛ خشية الفتنة عليه فقال -حكاية عن أصحاب الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف: 16]. وروى عروة، عن كُرز الخزاعي قال: سأل رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أعرابيٌّ: هل لهذا الإسلام من منتهى؟ قال: «من يرد الله به خيرًا من عرب أو عجم أدخله عليه»، قال: ثم ماذا؟ قال: «تقع فتن كالظلل»، قال: كلا يا نبي الله، قال: «بلى، والذي نفسي بيده لتعودون فيها أساود صُبًّا يضرب بعضكم رقاب بعض، وخير الناس يومئذ رجل يتقي ربه ويدع الناس من شره»).

 علق عليه بشيء؟

طالب: لا.

طيب، يجيء كلام ابن رجب.

(الأساود: جمع أسود، وهو أخبث الحيات وأعظمها. والصُّب: جمع صُبوب، على أن أصله: صُبُب كرسول ورسُل، ثم خُفف كرسْل، وذلك أن الأسود إذا أراد أن ينهش ارتفع ثم انصب على الملدوغ، ويُروى صُبيى على وزن حُبلى. وفي الصحيحين عن حذيفة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر له الفتن فقال له: فما تأمرني يا رسول الله، إن أدركني ذلك؟ فقال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، قال: فإن لم يكن جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك». وقد اعتزل جماعة من الصحابة في الفتن في البوادي.

وقال الإمام أحمد: إذا كانت الفتنة فلا بأس أن يعتزل الرجل حيث شاء، فأما إذا لم يكن فتنة فالأمصار خير. فأما سكنى البوادي على وجه العبادة وطلب السياحة والعزلة فمنهي عنه، كما في الترمذي وصحيح الحاكم، عن أبي هريرة قال: مر رجل من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بشعب فيه عُيينة من ماء عذب فأعجبه طيبه وحسنه، فقال: لو اعتزلت الناس وأقمت في هذا الشِّعب ولا أفعل حتى أستأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاستأمره، فقال: «لا تفعل، فإن مُقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في أهله ستين عامًا». وخرج الإمام أحمد نحوه من حديث أبي أمامة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة»، وذكر باقيه بمعناه.

 وخرج أبو داود من حديث أبي أمامة أن رجلاً قال: يا رسول الله! ائذن لي بالسياحة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله». وفي المسند عن أبي سعيد، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «عليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام». وفي مراسيل طاوس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا رهبانية في الإسلام ولا سياحة».

وفي المعنى مراسيل أخر متعددة. قال الإمام أحمد: ليست السياحة من الإسلام في شيء ولا من فِعل النبيين ولا الصالحين. والسياحة على هذا الوجه قد فعلها طوائف ممن يُنسب إلى عبادة واجتهاد بغير علم، ومنهم من رجع لما عرف ذلك. وقد كان في زمن ابن مسعود جماعة من المتعبدين خرجوا إلى ظاهر الكوفة، وبنوا مسجدًا يتعبدون فيه، منهم: عمرو بن عتبة، ومفضل العجلي، فخرج إليهم ابن مسعود وردَّهم على الكوفة وهدم مسجدهم، وقال: إما أن تكونوا أهدى من أصحاب محمد أو تكونوا متمسكين بذنَب الضلالة. وإسناده هذا صحيح عن الشعبي أنه حكى ذلك.

وقد رأى عبد الله بن غالب الحداني رجلاً في فلاة يأتيه رزقه لا يدري من أين يأتيه، فقال له: إن هذه الأمة لم تؤمر بهذا، إنما أمرتَ بالجمعة والجماعة وعيادة المرضى وتشييع الجنائز، فقبل منه، وانتقل من ساعته إلى قرية فيها هذا كله. خرَّج حكايته ابن أبي الدنيا. وروي نحو هذه الحكاية أيضًا عن أبي غالب صاحب أبي أمامة الباهلي. خرجها حميد بن زنجويه. وكذلك سكنى البوادي لتنمية المواشي والأموال، كما جرى لثعلبة في ماله فمذموم أيضًا)، (كما جرى لثعلبة في ماله فمذموم أيضًا).

 لكن هل صح خبر ثعلبة؟ ليس بصحيح، خبر باطل، الذي فيه أنه استأذن النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- في خروجه إلى ماله، ويدخل للصلوات، ثم انشغل عن الصلوات فصار يصلي هناك، ثم صار يدخل الجمعة فانشغل عنها، ثم أُشرب قلبه حب المال فصار يبخل بالزكاة المفروضة... إلى آخر ما في الخبر المعروف. لكن الخبر ضعيف عند أهل العلم، وثعلبة كما قال جمع من أهل العلم: بدري، يقولون: وفيه أُنزل قوله -جَلَّ وعَلا-: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75] الآية.

(وفي سنن ابن ماجه، عن أبي هريرة مرفوعًا: «ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصَّبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين فيتعذر عليه الكلأ فيرتفع، ثم تجيء الجمعة فلا يشهدها وتجيء الجمعة فلا يشهدها حتى يُطبع على قلبه»)، فيه ثالثة: «تجيء جمعة ثالثة»، عندك ثنتان أم ثلاث؟

طالب: ثنتين.

نعم. «وتجيء الجمعة فلا يشهدها» في السنن كررها ثلاثًا؛ لأنه في الحديث: «من ترك ثلاث جمع متواليات طبع الله على قلبه».

(وخرَّجه الخلال من حديث جابر بمعناه أيضًا. وخرج حميد بن زنجويه من رواية ابن لهيعة: حدثنا عمر مولى غَفرة أنه سمع ثعلبة بن أبي مالك الأنصاري يقول: قال حارثة بن النعمان: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يخرج الرجل في حاشية القرية»)، «حاشية القرية» يعني ما قرب منها («في غنيمة يشهد الصلوات ويؤوب إلى أهله، حتى إذا أكل ما حوله وتعذَّرت عليه الأرض قال: لو ارتفعت إلى رَدعة هي أعفى كلأ من هذه، فيرتفع حتى لا يشهد من الصلوات إلا الجمعة، حتى إذا أكل ما حوله وتعذرت عليه الأرض قال: لو ارتفعتُ إلى ردعة هي أعفى كلأً من هذه، فيرتفع حتى لا يشهد جمعة ولا يدري متى الجمعة حتى يطبع الله على قلبه». وخرجه الإمام أحمد بمعناه).

 وهذه الأحاديث تدل على أن ما جاء في حديث الباب: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بهاش عف الجبال»، مشروط بشهود الجمعة؛ لئلا يطبع على قلبه.

(وفي سنن أبي داود والترمذي وغيرهما، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من سكن البادية جفا»)، وفي بعض الألفاظ: «من بدا جفا». («من سكن البادية جفا»، وقال ابن مسعود في الذي يعود أعرابيًّا بعد هجرته: إنه ملعون على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم-)، (يعود أعرابيًّا بعد هجرته) يعني يرجع أعرابيًّا، ليس يعوده يزوره إذا مرض؟ لا، يرجع.

(وفي الصحيحين أن سلمة بن الأكوع قال: أذن لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في البُدو. وفي رواية للبخاري أن سلمة لما قُتل عثمان خرج إلى الربذة فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليال نزل المدينة. وفي المسند أن سلمة قدم المدينة فقيل له: ارتددت عن هجرتك يا سلمة؟ فقال: مَعاذ الله، إني في إذن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ابدوا يا أسلم، فتنسَّموا الرياح واسكنوا الشعاب»، فقالوا: يا رسول الله! إنا نخاف أن يضرنا ذلك في هجرتنا، فقال: «أنتم مهاجرون حيث ما كنتم».

وفي الطبراني، عن ابن عمر أنه قيل له: يا أبا عبد الرحمن! قد أعشبت القفار فلو ابتعت أعنزًا فتنزهت تصح)، (فلو ابتعت أعنزًا فتنزهت تصح) لا شك أن سكن البوادي أصح من سكن الحواضر؛ لأن الأجواء في الحواضر ما تسلم من أوبئة من اجتماع الناس وكثرتهم وأيضًا كثرة فضلاتهم وأشباه ذلك، بخلاف البراري والقفار.

(فلو ابتعت أعنزًا فتنزهت فتصح، فقال: لم يؤذن لأحد منا في البداء غير أسلم. وأسلم: هي قبيلة سلمة بن الأكوع. وقد ترخص كثير من الصحابة من المهاجرين وغيرهم في سكنى البادية، كسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد، فإنهما لزما منزلهما بالعقيق فلم يكونا يأتيان المدينة في جمعة ولا غيرها حتى لحقا بالله -عز وجل-. خرجه ابن أبي الدنيا في كتاب العزلة. وكان أبو هريرة ينزل بالشجرة وهي ذو الحليفة. وفي صحيح البخاري، عن عطاء قال: ذهبت مع عبيد بن عمير إلى عائشة وهي مجاورة بثبير فقالت لنا: انقطعت الهجرة منذ فتح الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم- مكة. وفي رواية له قال: فسألنا عن الهجرة، فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية. وهذا يُشعر بأنها إنما كانت تبدو؛ لاعتقادها انقطاع الهجرة بالفتح. وكان أنس بن مالك يسكن بقصره بالزاوية خارج البصرة، وكان ربما شهد الجمعة، وربما لم يشهدها)، لكن الذي يتخذ له مقرًّا أو استراحة أو مكانًا في فلاة فيه ما يغنيه عن الدخول إلى البلد، ولا يترك جمعًا ولا جماعات، وينفع بقدر استطاعته، وينتفع أيضًا، هذا لا شك أنه لا يدخل في نصوص وعيد من بدا، من بدا جفاء يترتب عليه تضييع الواجبات، أما مع القيام بالواجبات لا سيما إذا خشي على دينه فإنه لا يدخل في هذا.

طالب: ..........

ماذا؟

طالب: في عهد الصحابة ..........

هم اعتزلوا لما وجدت الفتن بين المسلمين من مقتل عثمان إلى ما حصل بين علي وأهل الشام، لا شك أن هذه فتن، والإنسان لا يدري هل يتخلص من هذه الفتن ولا يستطيع، وإذا أُقحم في مواقع الفتن ومواقع الهرج والقتل، فلا مفر ولا محيد ولا مناص إما أن يُقتل أو أن يقتل.

(وقد نص أحمد على كراهة المُقام بقرية لا يقام فيها الجمعة وإن أقيمت فيها الجماعة. وقد يُحمل ذلك على من كان بمصرٍ جامع يُجمع فيه، ثم تركه وأقام بمكان لا جمعة فيه. وفي كلامه إيماء إليه أيضًا. وقد يُحمل كلامه على كراهة التنزيه دون التحريم. فأما المُقام بقرية لا جمعة فيها ولا جماعة فمكروه. قال أبو الدرداء لمعدان بن أبي طلحة: أين تنزل؟ فقال: بقرية دون حمص، فقال له: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا يُؤذَّن ولا يقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإن الذئب يأكل القاصية». خرجه النسائي. وغيره وخرجه أحمد وأبو داود مختصرًا. وفي رواية لأحمد: «فعليك بالمدائن ويحك يا معدان».

وفي المسند أيضًا، عن معاذ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأخذ الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة والمساجد»)، يعني إذا لم يوجد السبب ولم توجد الفتن فإنه لا يجوز له أن يعتزل الناس ويكون سببًا ذلك في كسله عن صلاة الجماعة والذهاب إلى المساجد حيث ينادى بها، وقد يتناول ذلك الجمع، فمثل هذا لا يجوز.

(فنهى عن سكنى الشعاب -وهي البوادي- وأمر بسكنى الأماكن التي فيها عامة الناس ومساجدهم وجماعتهم. وقد روي عن قتادة أنه فسر الشعاب في هذا الحديث بشعاب الأهواء المضلة المخالفة لطريق الهدي المستقيم)، «في شعب من الشعاب يفر بدينه» هذا وإن كانت الأهواء تتشعب بأربابها ويمكن أخذ اللفظ «الشعاب» من تشعب الآراء والأهواء هذا ممكن على بُعد، لكن الظاهر من اللفظ أن المراد به البراري والقفار. (خرجه أبو موسى المديني عنه بإسناده. وفي هذا بُعد، وإنما فُسر بهذا المعنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه»، فإن الأوزاعي فسره بالبدعة)، «فارق الجماعة» من العمل بالسنة والالتزام بالسنة إلى الدخول في حيز البدعة (فإن الأوزاعي فسره بالبدعة يخرج إليها الرجل من الجماعة. فأما الخروج إلى البادية أحيانًا للتنزه ونحوه في أوقات الربيع وما أشبهه، فقد ورد فيه رخصة).

 يعني النزهة المباحة لا شيء فيها، وكثير من المسلمين مع الأسف الشديد حتى من خواصهم يقضون إجازاتهم في بلاد لا تسلم من المنكرات الظاهرة التي لا يمكن إنكارها، إذا كان في بلد كفر أو في بلد ليس فيه من أهل الحسبة من يقوم بهذه الشعيرة، والناس متروكون بحسب أهوائهم، مثل هذا لا شك أن فيه خطر على الدين.

(فأما الخروج إلى البادية أحيانًا للتنزه ونحوه في أوقات الربيع وما أشبهه فقد ورد فيه رخصة، ففي سنن أبي داود عن المقدام بن شريح عن أبيه أنه سأل عائشة: هل كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يبدو؟ فقالت: نعم إلى هذه التلاع، ولقد بدا مرة فأُتي بناقة مخرمة فقال: «اركبيها يا عائشة وارفقي، فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نُزع منه إلا شانه». وخرج مسلم آخر الحديث دون أوله)، يعني هذا أصل في الرحلات للنزهة والخروج للبراري من أجل الاستمتاع بالمناظر الجميلة، ومن أجل الاستجمام والاستعانة بذلك على طاعة الله، وبعضهم يقول: إن هذا ضياع للوقت، والشيخ الفلاني ما عُرف أنه طلع في نزهة ولا في رحلة ولا يسمونه كشتة ولا شيء، وينقلون عن بعض الكبار أنه ما فعل هذا، لكن العبرة بفعله -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: (هل كان النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يبدو؟ فقالت: نعم إلى هذه التلاع)، نعم.

طالب: ..........

ما هو؟

طالب: ..........

نعم، ما دون السفر، حتى السفر للنزهة ما فيه شيء، أجازوه وأباحوا فيه الترخص، ولو لم يكن سفر طاعة، لكن لا يكون سفر معصية، وما فيه سفر من هذه الأسفار يسلم من المعصية، أول ما تبدأ بها المطارات فيها المنكرات وفيها، حتى وسائل الركوب من الطائرات وغيرها فيها ما فيها، فيها أشياء.

طالب: ..........

ماذا؟

طالب: ..........

واللهِ ما فيه شك أنه إذا كان ثَم منكر ولا يمكن إنكاره، فهذا لا شك أنه ممنوع شرعًا، لكن قد يصل إلى التحريم، وقد لا يصل على حسب قوة المنكر وضعف الإنكار وعدم القدرة عليه. لكن بعضهم يقول: أنا أنكر بقلبي، أنا أرى المنكرات، لكن أنكر بقلبي. هنا أنت من الذي جعلك تعرض نفسك لهذا المنكر؟ هل هناك حاجة؟ هل هناك ضرورة تدعو إلى ذلك؟ أم مجرد النزهة لا تقاوم الأثر الناتج عن هذه الأسفار.

طالب: ..........

يسافرون بالزوجة والبنات ويعرضونهم للفتن وتبرج ويختلطون بالناس، وقد يقيم في بلاد الكفار، ويدرسون عيالهم مع عيالهم، وزوجته تختلط بنسائهم وتأخذ من عاداتهم وأعرافهم، خطر عظيم.

طالب: ..........

على كل حال المسألة خطيرة جدًّا، وشواهد الأحوال تدل على أن الإنسان يعرض نفسه للخطر، وكم من أناس ارتدوا سواء كانوا بأنفسهم أو بأولادهم فيما بعد أن درس في مدارس الكفار، فالمسألة مزلق خطير.

طالب: ..........

الأصل إذا كان مسجد هناك مسجد فحيث ينادى بها، وإذا لم يكن ثَم مسجد، فإقامة الجماعة في أي مكان كافٍ.

طالب: ..........

بهذا الجهة؟

طالب: ..........

أين؟

طالب: ..........

ما فيه إشكال إذا كان لا يسمع النداء ما فيه إشكال، لكن الجمعة لا يجوز يتركها.

طالب: ..........

هذا استدراج نعم. مثل ما مثل النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- الشبهات الراعي يرعى حول الحمى، الراعي قريب من البلد، لكن ينتهي الربيع، وينتقل إلى ما وراءه، ثم ينتهي ثم ينتقل، ثم يجد نفسه لا يستطيع أن يصلي مع الناس لا جمعة ولا جماعة.

طالب: ..........

أين؟ ما هو مسافر هو؟

طالب: ..........

ما هو مسافر هنا، نعم، لكن هل السفر هو الذي اضطر نفسه إلى هذا السفر بالتدريج، السفر ما هو بقصد عنده ولا أصل.

قال -رَحِمَهُ اللهُ-: (وورد النهي عنه، ففي المسند عن عقبة بن عامر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «هلاك أمتي في اللبن» قيل: يا رسول الله! وما اللبن؟ قال: «تحبون اللبن وتدعون الجماعات والجمع وتبدون»)، أكثر مُقام من يقيم من أهل الحاضرة في البادية ولو إقامة جزئية من أجل اللبن، يتخذ من الإبل ما يتخذ ويخرج من أجل شرب لبنها، ويخرج أصحابه معه ويترددون على هذه الإبل، وقد تفوتهم صلواتهم في طريقهم إليها.

 المقصود أن التساهل بالجمعة والجماعات شأنه عظيم، وأيضًا تعريض النفس للفتن أشد، فإذا وُجدت هذه الفتن وُجد المبرر، وإذا لم توجد هذه الفتن فإن لزوم الجمعة والجماعات هي الأصل.

(قال: «هلاك أمتي في اللبن» قيل: يا رسول الله ما اللبن؟ قال: «تحبون اللبن وتدعون الجماعات والجمعة وتبدون»، قال: وفي إسناده ابن لهيعة. وإن صح فيُحمل على إطالة المقام بالبادية مدة أيام كثرة اللبن كلها، وهي مدة طويلة يدَعون فيها الجمع والجماعات. وعن أبي عبد الله الجدلي قال: فضل أهل الأمصار على أهل القرى كفضل الرجال على النساء، وفضل أهل القرى على أهل الكفور كفضل الأحياء على الأموات، وسكان الكفور كسكان القبور، وإن اللبن والعُشب ليأكلان إيمان العبد كما تأكل النار الحطب)، مخرج عندك؟

طالب: لا.

هو أثر وليس بحديث. يقول: (خرجه حميد بن زنجويه، وروى بإسناده عن مكحول معنى أوله. ونص أحمد -في رواية مهنا- على كراهية الخروج إلى البادية لشرب اللبن ونحوه تنزهًا لما به من ترك الجماعة، إلا أن يخرج لعلة، يعني: أنه إذا خرج تداويًا لعلة به جاز، كما أذن النبي -صلى الله عليه وسلم- للعرنيين لما اجتووا المدينة أن يخرجوا إلى البادية ليشربوا من ألبان الإبل وأبوالها)، يعني شخص مثلاً وُصف له علاج، والعلاج لا يستطيع أن يزاوله بين الناس وبمسجدهم ومعهم، إنما يعتزل لمدة شهر، قيل له: تأكل الثوم لمدة شهر مثلاً، فيخرج إلى البادية ويجلس فيها لمدة شهر ويتعالج بهذا، إلا ما منع من قربان المسجد في هذه الحالة، أو كان هناك استراحة يجلس فيها ويتعالج، هذا لا بأس؛ لأن هذه حاجة.

طالب: ..........

ما بين ماذا؟

طالب: ..........

ماذا فيه؟

(ونص أحمد -في رواية مهنا- على كراهية الخروج إلى البادية لشرب اللبن ونحوه تنزهًا لما به من ترك الجماعة، إلا أن يخرج لعلة، يعني: أنه إذا خرج تداويًا لعلة به جاز، كما أذن النبي -صلى الله عليه وسلم- للعرنيين لما اجتووا المدينة أن يخرجوا إلى البادية ليشربوا من ألبان الإبل وأبوالها. قال أبو بكر الأثرم: النهي عن التبدي محمول على سكنى البادية والإقامة بها، فأما التبدي ساعة أو يومًا ونحوه فجائز. انتهى.

 وقد كان السلف كثير منهم يخرج إلى البادية أيام الثمار واللبن. قال الجُريري: كان الناس يَبدون ها هنا في الثمار -ثمار البصرة-، وذكر منهم عبد الله بن شقيق وغيره. وكان علقمة يتبدَّى إلى ظهر النجف. وقال النخعي: كانت البداوة إلى أرض السواد أحب إليهم من البداوة إلى أرض البادية. يعني أن الخروج إلى القرى أهون من الخروج إلى البوادي. وكان بعضهم يمتنع من ذلك لشهود الجماعة. فروى أبو نعيم بإسناده، عن أبي حرملة قال: اشتكى سعيد بن المسيب عينه فقيل له: يا أبا محمد! لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة ووجدت ريح البرِّية لنفع ذلك بصرك، فقال سعيد: وكيف أصنع بشهود العشاء والعتمة؟ وما ذكره الأثرم من التفريق بين قصر المدة وطولها حسن، لكنه حد القليل باليوم ونحوه، وفيه نظر. وفي مراسيل أبي داود من رواية معمر، عن موسى بن شيبة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من بدا أكثر من شهرين فهي أعرابية»)، يعني بداوته هذه أعرابية (وروى حميد بن زنجوية بإسناده، عن خلف بن خليفة، عن أبي هاشم قال: بلغني أن من نزل السواد أربعين ليلة كتب عليها الجفاء. وعن معاوية بن قرة قال: البداوة شهران فما زاد فهو تعرُّب).

طالب: ..........

نعم؟

طالب: ..........

في الفتن هذا؛ لأنه لا يستطيع أن يبقى في مكان فيه فتنة يخشى بها على دينه.

طالب: ..........

يصلي مع الجماعة، لكن الضرر أعظم والمفاسد أكثر والمصالح مغمورة في خضم هذه الفتن التي قد يصل فيها إلى أن يفتن في دينه فيرتد أو شبهة تعلق بقلبه لا يستطيع إزالتها أو القتل، كل هذه فتن.

هذا يقول: سؤالي عن ألفية العلل للشيخ محمد الأثيوبي، ما ميزاتها؟ وهل يجعلها الطالب عمدة في فن العلل كما يجعل ألفية ابن مالك في النحو؟ بمعنى هل جُمعت أطراف من العلل وقواعد وينصح بحفظها؟

لا شك أن فن العلل فن من علوم الحديث دقيق ووعر وصعب على آحاد المتعلمين، فينبغي أن يأخذه طالب العلم بالتدريج، فإذا خرج الأحاديث؛ لأنه مع دراسته لمصطلح الحديث عليه أن يكثر من التخريج ودراسة الأسانيد والحكم على الأحاديث في ضوء القواعد المعروفة عند أهل العلم، ومطابقة أحكامه على أحكام الأئمة، وفي أثناء تخريجه إلى الأحاديث يرد عليه من الاختلافات في الأسانيد وفي المتون وغير ذلك من صنوف العلل، يتدرب وبعد ذلك مع الإكثار من هذه التمارين على العلل بالتدريج، ثم إذا تدرب يقرأ في كتب العلل. والحافظ ابن كثير يرى أن أعظم كتاب في العلل هو علل الدارقطني، ومدحه وأشاد به إشادة بالغة، وهو حقيق وجدير وخليق بذلك. لكن طالب العلم المتوسط يصعب عليه التخلص من كثير من الأسانيد الشائكة التي يوردها الدارقطني ويوازن بينها بطريقة هي طريقة الأئمة.

فأقول: هذا العلم ينبغي أن يؤخذ بالتدريج مع التخريج ومع دراسة الأسانيد، ثم بعد ذلك إذا تكون لدى طالب العلم ملكة يعنى بكتب العلل، ولو بدأ بالعلل لعلي بن المديني والعلل لابن أبي حاتم، هذه كتب العلل جزء صغير للمديني وابن أبي حاتم في جزأين، ثم بعد ذلك يتدرج ويتأهل فيما بعد. وعلم العلل يحتاج إلى حافظة مسعفة؛ لأنه فن أثري مجرد، ما تستطيع أن تدركه بفهمك، فيحتاج إلى مخزون من الحفظ يسعف في مواطن الاختلاف. الشرح شرح الحديث ومعرفة معانيه وما يستنبط منه هذا يدرك بالفهم، وبالتدريج أيضًا يثبت في ذهن الطالب، وتكون لديه ملكة يستطيع بها أن يتعامل مع النصوص فيشرحها ويستنبط منها، لكن قد يُعمر سنين ويزاول هذا الفن عقود ومع ذلك لا يدرك من علم العلل شيء؛ لأن حافظته ضعيفة لا تسعفه؛ لأن كثير من طلاب العلم يقرأ في شرح من الشروح يستفيد؛ لأن هذا يعلق في الذهن، أما الحفظ المجرد للمتون والأسانيد فإن هذا كثير من طلاب العلم لا يستفيد منه إلا إذا كرَّره وحفظه حفظ قصد إلى حفظه. أما الشروح فيبقى في الذهن منها شيء ولو لم يقصد إلى حفظها.

فأقول: علم العلل لا شك أنه فن شريف، لكنه وعر، ليس كل واحد من طلاب العلم يتأهل لمعرفته، كما أن العلماء ليس كلهم لديه القدرة في التخلص من هذه العلل والتخلص من هذه الاختلافات سواء كانت في المتون والأسانيد. ومثل ما قلنا: ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- أشاد إشادة بالغة في كتاب العلل للدارقطني، ثم يسمع هذه الإشادة طالب علم ويقتني الكتاب ويزاوله ويقرأ فيه كم حديث وفي النهاية ما أدرك شيء، ثم قد يتسبب ذلك في تركه للعلم بالكلية، ييأس ويحبط، مثل ما قلنا في درء التعارض أو نقض التأسيس لشيخ الإسلام، يسمع طالب العلم مدح ابن القيم لهذه الكتب ويذهب إلى المكتبات: واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ما في الوجود له نظير ثانٍ، ثم يذهب ويأخذ درء تعارض النقل والعقل، ويقرأ فيه يمر عليه مائة صفحة كأنها طلاسم، العلماء الكبار أعجزهم مثل كلام شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل، أو نقض التأسيس فيه صفحات كثيرة بل مئات يصعب فهمها على كثير من طلاب العلم، بل على بعض أهل العلم، وفي منهاج السنة في موضع واحد أربعمائة صفحة أنا عندي لو حذفت من الكتاب ما ضر، كثير من طلاب العلم لا يستفيدون منه ألبتة، وفي موضع ثلاثمائة صفحة، شيء، يحتاج الطالب ليفهم هذا الكلام من شيخ الإسلام أن تكون لديه أهلية بقراءة مقدمات هذا العلم الذي هو علم المنطق وعلم الكلام، وهو مزلة قدم، قد يقرأ فيه ويتورط فيه، وفيه شبه وفيه أشياء ما يتخلص منها مثل ما حصل لبعض العلماء، علماء الكلام ندموا على ذلك أشد الندم، وتمنوا أنهم ما عرفوا علم الكلام ولا قرأوا فيه؛ لأنهم لم يتخلصوا منه. فلا شك أن صرف الوقت لدراسة المنطق أو علم الكلام لآحاد طلاب العلم درب من العبث، وهو خطر على عقيدة الإنسان ومزلة قدم، فينبغي أن يزاول من العلوم ما يحسنه ويتقنه وتكون عنايته بالوحيين وما يعين على فهمهما هو القصد والغاية.

طالب: ..........

الألفية هذه ألفية الشيخ محمد علي آدم واللهِ ما قرأت فيها، هي موجودة، ولكن أنا ما قرأت فيها. الإشكال أن الأجناس أجناس العلل لا يمكن الإحاطة بها، صنفها الحاكم بالعشر، لكن لا يمكن الإحاطة بها؛ لأن ظروف كل حديث معل تختلف عن العلل الواردة في الأحاديث الأخرى، فمعناه أن كل حديث يمكن أن تجمع لك حديثين ثلاثة عشرة علتها واحدة، لكن يبقى أن هناك مئات من الأحاديث المعلة تحتاج منها إلى مثل ما ذكرنا أن تكون الحافظة مسعفة؛ لأن الذي يبحث في العلل تكون علومه حاضرة في ذهنه ليحكم، أنت بين يديك حديث فيه اختلاف، تراجع عليه المراجع فأنت ما أنت بخارج بنتيجة، لازم أن تقلد أرباب هذه المراجع، أما إذا كان حكمك نابعًا من نفسك فلا بد أن يكون لديك من الحفظ والمخزون ما يعينك على هذا الحفظ؛ لأن العلل أشبه ما تكون بالإلهام على ما يقول أهل العلم، أو بالكهانة كما يقول الجاهل الذي يسمع مثل هذا الكلام، وكثير من أهل العلم يعلل ولا يسبب، تأتي إلى العالم يقول هذا الحديث فيه علة، وما هذه العلة؟

يقول: الله أعلم، رح اسأل فلانًا يقل لك، يروح إلى فلان يقول: فيه علة، ما السبب؟ ما أدري. كل هذا سببه صرف الوقت وبذل الجهد في علم الحديث بحيث يكون يُشرب إياه شربًا، يكون يشمه شمًّا، ومثل هذا ما يدركه طلاب العلم.

طالب: ..........

واللهِ أنا قراءتي للمتأخرين ما هي بكثيرة، ومع ذلك مثل شرحه للنسائي جمع فيه مادة من المصادر والمراجع يستفيد منها طالب العلم، يعني الذي يأخذ هذا الكتاب وبدلاً من أن يجمع عشرين، ثلاثين كتابًا يراجعها، هو جمع لك مادة هذه الكتب، وأنت بطريقتك تأخذ القلم وتنتقي من هذا الكلام أنفس ما فيه. وأما الكلام  على الأربعين فهي جزء في شرح النسائي ومسلم كذلك العمر ما يستوعب.

هذا نفس الإشكال الذي أورد في درس مضى وأجبنا عنه، يقول: الخبر الوارد أن الإمام أحمد يصلي ثلاثمائة ركعة في اليوم شكك فيه بعض من يُدرسون العلم الشرعي ببعض الكليات، ودلل على ذلك بأنه لو حسب بالساعات لبان أنها من الصعوبة بمكان. يقول: مع وجود أوقات الصلوات والأكل والشرب والنوم وتعليم العلم. فما رأيكم؟

على كل حال قلنا: إن الركعة المجزئة يمكن أن تؤدى بدقيقة، يعني إذا قلنا: المسألة حسابية، ثلاثمائة ركعة ثلاثمائة دقيقة، يعني خمس ساعات، واليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، والإنسان إذا فُتح له باب وزاوله هُون عليه وخفف عليه، الذي غيره ما يصدق. يعني نازع كثير من الناس في كون القرآن يمكن أن يقرأ في ست ساعات، كاملًا في ست ساعات يقول: ما هو مستحيل. لماذا؟ لأنه يقيس على نفسه؛ لأنه لو قرأ له جزءًا أو نصف جزء بدأ يتثاءب ويتمغض وجلس... يكمل جزءًا. لكن الذي تعود ما عنده إشكال يقرأ. هذا شيء ومجرب، جربه غيرنا وأنا ما جربته، لكن جُرب، فيه واحد من الإخوان نجلس بعد صلاة الفجر في الحرم في رمضان وأنا إذا طلعت الشمس وارتفعت صليت ركعتين ومشيت ورحت أنام إلى الظهر، إذا جئت ألقاه خاتمًا، إذا جئت لصلاة الظهر أجده خاتمًا، وهذا ديدنه. فالذي يسر له شيء ويلج بابه ويفتح له فيه قد لا يصدق.  

الآن في باب النفع العام بعض الناس يذهل حينما يرى شخصًا عن مائة شخص له في كل باب من أبواب الخير سهم، يعني يتصورون الأعمال التي قام بها الشيخ ابن باز في عمره يقوم بها أمة من الناس، يقول واحد من المقربين إليه: أنا وقفت بالنسبة لعمارة المساجد التي فيها أوراق ومعاملات خمسة آلاف، والأشياء الشفاهية التي قضيت قبل الأوراق في أول عمره وفي أثنائه شيء لا يُحد. هذا في المساجد فقط، الدعوة في جميع أقطار الأرض وناس دعاة ما يدرى بهم من مصدرهم من بيته وأناس، ولا مؤسسات ولا يمكن بعض الدول لا تستطيع أن تقوم بما قام به.

ويوجد أيضًا في نواحٍ أخرى من الأشخاص من ضرب أروع الأمثلة بحيث لا يصدق إذا تكلم أو تُحدث عنه. والإنسان إذا قاس على نفسه ومرت القصة هذه عن الإمام أحمد، يعني لما كنا طلابًا جاء ببعض المشايخ من له عناية بالعبادة وهو من الشام، وقال واحد من الطلاب وكان حليقًا، قال: يا شيخ هذا ما هو بمعقول، قال: صحيح يا عبد الرحمن هذا ما هو بمعقول؛ لأن عنده صالونًا يتحلق فيه ثلاث ساعات باليوم! هذا ما هو بمعقول، يعني صحيح ما يمكن.

 الآن الناس يقضون أوقاتًا طويلة في لا شيء، وبعض الناس فتح الله له من أبواب العبادة ما فتح، وعنده يقضي أشياء أناس الآن موجودون عنده في دوام رسمي يوفيه وفاءً من أوله إلى آخره، وإذا خرج من دوامه مر المسجد الذي تصلى فيها جنائز صلى جنائز، العصر راح يزور المستشفى مرضى، والمغرب عنده درس، والعشاء عنده اجتماع، وعنده أعمال ثانية. كثير من الناس يقول: هذا ما هو بصحيح، وإذا صلى الفجر جلس إلى أن تنتشر الشمس ثم يروح للدوام. مثل هذا من تعوده يسير عليه، والذي ما تعود يقول: ما هو بصحيح.

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"