شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الاعتكاف - 02
المقدم:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله مُحمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد، فالسلام عليكم ورحمته وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم أيها المستمعون الكِرام إلى هذا اللقاء الجديد، والذي يُسعدني أن أُرحّب فيه بمعالي الشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخُضير- وفّقهُ الله- عضو هيئة كبار العُلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، فمرحبًا بكم فضيلة الشيخ وأهلًا وسهلًا.
حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.
المقدم: بدأ الكلام في الحلقة الماضية مستمعينا الكرام في كتاب الاعتكاف، وفي أول أحاديثه وهو عن عائشة زوج النبي-صلى الله عليه وسلم، ورضي عنها-: «أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده».
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
في الحلقة الماضية، تحدثنا أو نقلنا عن أهل العلم في تعريف الاعتكاف، وما زال الكلام في تعريفه في آخر ما قُلنا نقلًا عن المغني، أن الاعتكاف لزوم الشيء وحبس النفس عليها بِرًّا كان أو غيره، ومنه قوله تعالى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}[الأنبياء: 52]، وقوله تعالى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ}[الأعراف: 138]، وقوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا}[طه: 97]، وفي الشرعِ الاعتكاف الإقامة في المسجد، واللُّبث فيه على وجه التقرب إلى الله تعالى على صفة يأتي ذكرها.
قال الجوهري: عكفه؛ أي حبسه، يعكفه بضم عينها وكسرها عكفًا، وعكف على الشيء يعكُفُ عكوفًا، أي أقبل عليه مواظبًا، يُستعمل لازمًا، فمصدره العكوف ومتعديًا فمصدره عكفٌ، اللازم مصدره عكوف، عَكَف عكوفًا، هذا لازم لا يتعدى إلى مفعول، وأما المتعدي فمصدره عكفٌ؛ لأن ابن مالك يقول:
فعلٌ قياس المصدر المُعدّى من ذي ثلاثة كرد ردًّا
فالمتعدي عكفٌ فعلٌ، وأما اللازم فمصدره عكوف، وفي المصباح: عكف على الشيء عكوفًا وعكفًا، من بابي قعد وضرب، قعد وضرب بينهما فرق بالنسبة للضرب؟ لا، لماذا يقول بين ضرب وقعد؟ الفرق يبين بالمضارع، يقعُدُ، يضرِبُ، يعكف فيعكف نعم، بالنسبة للمضموم في المضارع، الجاد عندهم أنهم يجعلونه من باب نصر.
فيه باب نصر وباب ضرب، وفيه أبواب أخرى، لكن مضموم المضارع يُقال له من باب نصر، وهي أشهر من قعد، لكن التمثيل بحيث لا يلتبس المُراد، لا مانع منه، وهي مُجرد أمثلة نعم، عكف على الشيء عكوفًا وعكفًا من بابي ضرب وقعد لازمه وواظبه، وقُرئ بِهما في السبعة في قوله تعالى: يعكفون {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف:138]، يعني بضم الكاف من باب قعد، وكسرها من باب ضرب، وعكفت الشيء أعكفه وأعكفه: حبسته، ومنه الاعتكاف، وهو افتعالٌ؛ لأنه حبس النفس عن التصرفات العادية، وعكفته عن حاجته منعتُهُ.
وقال العيني: أبواب الاعتكاف؛ أي هذه أبواب الاعتكاف، هكذا هو في رواية المستملي وليس لغيره ذلك إلا لفظ كتاب في الاعتكاف في رواية النسفي، والمراد بالأبواب الأنواع؛ لأن في كل باب نوعًا من أحكام الاعتكاف.
قوله: باب الاعتكاف في العشر الأواخر أي هذا باب في بيان الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، وقال ابن حجر: قوله باب الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها أي مشروطية المسجد له من غير تخصيص بمسجدٍ دون مسجد، أي لابد أن يكون في مسجد على ما سيأتي في وصفه، واشتراط أن يُجمّع فيه أو تقام فيه جمعة أو ما أشبه ذلك، كله سيأتي.
أي مشروطية المسجد له فلا يصح إلا بمسجد، من غير تخصيص بمسجدٍ دون مسجد، يعني من غير تخصيص بمسجد جامع مثلًا أو بأحد المساجد الثلاثة، نعم قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] الآية، ووجه الدلالة من الآية، أنه لو صح في غير المسجد، لم يختص تحريم المباشرة به؛ لأن الجماع مُنافٍ للاعتكاف بالإجماع، فعُلِم من ذكر المساجد أن المراد أن الاعتكاف لا يكون إلا فيها.
المقدم: دقيق.
نعم، ونقل ابن المنذر الإجماع على أن المراد بالمباشرة بالآية الجماع، وروى الطبري وغيره من طريق قتادة عن سبب نزول الآية، كانوا إذا اعتكفوا فخرج رجل لحاجته فلقي امرأته باشر إن شاء، فنزلت، فلقي امرأته كناية عن أيش؟ نعم، فنزلت الآية بمنع ذلك.
واتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف، إلا محمد بن عمر بن لُبابة المالكي، فأجازه في كل مكان، وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، والمكان المُعد للصلاة فيه، وفي قول للشافعي قديم، وفي وجهٍ لأصحابه وللمالكية يجوز للرجال والنساء؛ لأن التطوع في البيوت أفضل، والاعتكاف تطوع، ومن أفضل الأعمال التي تشرع في الاعتكاف الصلاة.
لكن يلزم عليه على القول الصحيح في المرجح، أن صلاة الجماعة واجبة، الخروج من المعتكف خمس مرات في اليوم والليلة نعم، وهذا لاشك أنه مُخل بالاعتكاف، مع أنه يوجد مندوحة عن هذا الخروج، وهذا المندوحة هي في المسجد، وهذا القول لا يلتفت إليه.
وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تُقام فيها الصلوات.
المقدم: وإن لم يكن جامعًا؟
نعم، المقصود أنه هل يمكن أن يُقال مسجد ولا تقام فيه الصلوات؟ أبدًا لو اعتكف العشر الأواخر في مسجد نمرة، أليس بمسجد؟
المقدم: بلى.
المقدم: لا تقام فيه الصلوات، فهل يصح فيه؟
يصح الاعتكاف أم لا؟ ذهب أبو حنيفة وأحمد بالاختصاص بالمساجد التي تُقام فيها الصلوات، وخصّه أبو يوسف بالواجب منه، وأما النفل ففي كل مسجد، الواجب منه لا يتحقق اسم الواجب، إلا إذا لزم المكان ولم يخرج منه، أما النفل فأمره أسمح، فيجوز الاعتكاف عند أبي يوسف في مسجدٍ لا تقام فيه الصلوات، وحينئذٍ يخرج إلى الصلوات لوجوبها؛ لأنه متطوع.
وأما النفل ففي كل مسجد، وقال الجمهور بعمومه من كل مسجد، إلا لمن تلزمه الجمعة، فاستحب له الشافعي في الجامعِ، وشرطه مالك، شرط مالك الجامع؛ لأن الاعتكاف عندهما ينقطع بالجمعة، إذًا عند مالك شرط أن يكون في جامع، استحب الشافعي أن يكون في جامع، الآن استحب الشافعي وشرط مالك؛ لأن الاعتكاف عندهما ينقطعُ بالجمعة، لماذا استحبه الشافعي وشرطه مالك والعلة واحدة؟ إلا لمن تلزمه الجمعة فاستحب له الشافعي في الجامع أن يعتكف في جامع، وشرطه مالك فرق بين قولين، لكن العلة واحدة لماذا؟ لأن الاعتكاف عندهما ينقطع بالجمعة نعم.
استحب له الشافعي؛ لأنه يجيز للمتطوع بالاعتكاف أن يخرج متى شاء، لكن عند المالكي يلزم بالشروع، فلا يجوز له أن يخرج متى شاء إلى صلاة الجمعة، الخروج إلى صلاة الجمعة يقطع الاعتكاف عند الشافعي نعم وعند مالك، لكن إذا انقطع عند الشافعي ما يترتب عليه إثم، لكن إذا انقطع عند مالك، ترتب عليه الإثم، ولذا فُرِّق بين المستحب له الشافعي في الجامع، وشرطه مالك؛ لأن الاعتكاف عندهما ينقطع بالجمعة.
المقدم: يترتب عليه الإثم يا شيخ؟ ولا يترتب عليه انقطاع الاعتكاف بالتالي لا يستمر فيه؟
ينقطع عندهما، انقطع عند الشافعي، وينقطع عند مالك.
المقدم: لكن انقطاعه عند المالكية، هل هو انقطاع يأثم عليه؟
نعم يلزمه بالشروع على ما سيأتي التفصيل فيه، وإن كان عند المالكية أكثر من قول، لكن يلزم بالشروع، وهذا هو السبب في التفريق بين مقالة الشافعي ومالك، استحب له الشافعي في الجامع.
المقدم: وشرطهُ مالك- رحمه الله-؟
إلا لمن تلزمه الجمعة، فاستحب له الشافعي في الجامع، وشرطه مالك والعلة واحدة؛ لأن الاعتكاف عندهما ينقطع بالجمعة، كيف يستحبه الشافعي ويشترطه مالك؟! لأن حكم الاعتكاف يختلف عند الشافعي ومالك، ويجب بالشروع عند مالك. وخصه طائفة من السلف كالزهري بالجامع مطلقًا، يعني لا يصح اعتكاف إلا بجامع، وأومأ إليه الشافعي في القديم، وخصه حُذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة، وعطاء بمسجد مكة والمدينة، وابن المسيب بمسجد المدينة، طيب قول: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، ألا يشمل جميع مساجد الدنيا؟! ولهذا أورد البخاري –رحمه الله- الآية في الترجمة، ردًّا لمن يخص الاعتكاف بالمساجد الثلاثة أو بالمسجدين أو بمسجده -عليه الصلاة والسلام-، وخصه عطاء بمسجد مكة والمدينة وابن المسيب بمسجد المدينة، لماذا خصه ابن المسيب بمسجد المدينة والمسجد الحرام أفضل؟ لأنه ما حصل الاعتكاف منه عليه الصلاة والسلام إلا بمسجد المدينة، لكن هذا التخصيص لا يعني اختصاص الحكم، يعني وقوع هذا الأمر لا يعني منع ما عداه.
المقدم: أحسن الله إليكم، ونفع بما قلتم، وبهذا، الإخوة المُستمعين نصل إلى ختام هذه الحلقة، أسأل الله- عز وجل- أن يجزي عنا معالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير- وفقه الله- عضو هيئة كبار العُلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، أن يُجزيه عنا خيرًا، وأن ينفعنا جميعًا بما نسمع وما نقول، إنه جوادٌ كريم، وصلى الله على مُحمد وعلى آله وصحبه أجمعين.