شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الاعتكاف - 27
المقدم:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله مُحمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم مستمعينا الكِرام إلى لقاء جديد في شرح التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، والذي يتفضل معالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير -وفقه الله- عضو هيئة كبار العُلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، بشرحه والذي يسعدني أن أرحب به في مطلع هذا اللقاء، فأهلاً وسهلاً بكم معالي الشيخ.
حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.
المقدم: مر الكلام مستمعينا الكرام في حديث صفية زوج النبي -صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها-: وفيه: أنها جاءت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- معها يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لهما النبي -صلى الله عليه وسلم-: «على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي» فقالا: سبحان الله يا رسول الله، وكَبُر عليهما فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا».
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فقد انتهينا من شرح الحديث، وبقي الكلام على مواضع التخريج، لهذا الحديث في الصحيح، الإمام البخاري خرَّج الحديث في سبعة مواضع:-
الأول: هنا في كتاب الاعتكاف، باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد؟ قال -رحمه الله-: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني علي بن الحسين -رضي الله عنهما- أن صفية زوج النبي- صلى الله عليه وسلم- أخبرته أنها جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزوره في اعتكافه، وذكره بتمامه، وسبق ذكر مناسبة الحديث للترجمة، وأيضًا سبق شرحه مفصلًا.
قال ابن حجر: قوله: أن صفية زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرته، عند ابن حبان في رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن علي بن الحسين قال: حدثتني صفية، في حديث الباب: أخبرني علي بن الحسين أن صفية أخبرته، وفي رواية ابن حبان: عن علي بن الحسين حدثتني صفية.
يقول ابن حجر: وفي تصريح علي بن الحسين بأنها حدثته، رد على من زعم أنها ماتت سنة ست وثلاثين، أو قبل ذلك لأن.. أشرنا إلى هذا في ترجمة صفية- رضي الله عنها-؛ لأن عليًّا إنما وُلد بعد ذلك سنة أربعين أو نحوها، والصحيح أنها ماتت سنة خمسين وقيل بعدها، وكان علي بن الحسين حين سمع منها صغيرًا.
الموضع الثاني: في كتاب الاعتكاف أيضًا، في باب زيارة المرأة زوجها باعتكافه، قال -رحمه الله – حدثنا سعيد بن عفير قال: حدثني الليث قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن علي بن الحسين -رضي الله عنهما- أن صفية زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرته، ح وحدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا هشام بن يوسف قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن الحسين قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده أزواجه فرحن فقال لصفية بنت حيي: «لا تعجلي حتى أنصرف معك»، وكان بيتها في دار أسامة، فخرج النبي- صلى الله عليه وسلم- فلقيه رجلان من الأنصار فنظرا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم أجازا، فقال لهما النبي -صلى الله عليه وسلم-: «تعاليا، إنها صفية بنت حيي» فقالا: سبحان الله يا رسول الله، قال: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجري الدم، وإني خشيت أن يلقي في أنفسكما شيئًا».
قال ابن حجر: قوله: باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه، ذكر فيه حديث صفية من وجهين عن الزهري، أحدهما من طريق عبد الرحمن بن خالد بن مسافر وهي موصولة؛ لأنه قال: حدثنا سعيد بن عفير قال: حدثني الليث قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن علي بن حسين -رضي الله عنهما- أن صفية زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرته هذا موصول، والأخرى طريق هشام بن يوسف؛ لأنه قال: ح وحدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا هشام بن يوسف وأخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن الحسين كان النبي -صلى الله عليه وسلم-، لماذا قال.. لأنه قال: والأخرى طريق عن معمر وهي مرسلة، والأولى موصولة.
هو من حديث علي بن الحسين في الموضعين، ويصرح بأن صفية أخبرته، في الأول صرح بأن صفية أخبرته، وفي الموضع الثاني حكى القصة؛ لأنه قال في الموضع الأول: حدثنا إسماعيل بن عبد الله.. حدثنا سعيد بن عفير قال: حدثني الليث قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن علي بن الحسين -رضي الله عنهما- أن صفية زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرته، فهو يروي القصة عن صاحبتها التي حصلت لها.
في الطريق الثاني أو الوجه الثاني قال: حدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا هشام بن يوسف قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن الحسين: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد وعنده أزواجه، وفي الطريق الثاني التي حكم عليها الحافظ ابن حجر بأنها مرسلة؛ لأنه حكى القصة من تلقاء نفسه، لا عن صاحبتها، فهو يحكي قصة لم يشهدها، ولم يدركها فهي مرسلة.
قال: ذكر فيه حديث صفية من وجهين عن الزهري، أحدهما من طريق عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، وهي موصولة، والأخرى من طريق هشام بن يوسف عن معمر، وهي مرسلة، قد يقول قائل: إن علي بن الحسين في الموضعين تابع يروي عن صحابية.
لكنه في الموضع الأول صرح بأنها أخبرته، رواية ابن حبان حدثته، هذا يدل على أنه سمعه منها بدون واسطة، في الموضع الثاني حكى القصة عن علي بن الحسين كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد وعنده أزواجه، فهو يحكي قصة لم يشهدها، ولذا قال الحافظ: والأخرى من طريق هشام بن يوسف عن معمر، وهي مرسلة، وساقه هنا على لفظ معمر.
والقاعدة عند الإمام البخاري: أنه إذا روى الحديث عن اثنين، فاللفظ للآخر منهما، قال: وساقه هنا على لفظ معمر، لماذا اختار لفظ معمر وقد ورد ذكره في الطريق المرسلة؟
المقدم: لأنه الأخير.
لا، هذه قاعدة عنده، لكن ما هي مبرر إلى أن يقدم المرسلة على الموصولة، على كل حال الخبر ثابت عنده، بطريق صحيح متصل، رواته ثقات بسند متصل، فسواءً اختار اللفظ الأول أو اللفظ الثاني كما هنا، وقرر الحافظ ابن حجر حيث يخرج الحديث عن اثنين، فاللفظ للآخِر منهما.
لكن هل ابن حجر هنا لما قرر أن البخاري ساقه على لفظ معمر تتبع الألفاظ، ووجد اللفظ الموجود هنا مطابقًا للفظ معمر كما بُين في الرواية الأخرى، أو أنه اعتمد القاعدة ومشى؟
الحافظ لا يمكن أن يعتمد قاعدة؛ لأنها ليست كلية، وإنما هي أغلبية، ولذا لا يجزم بأنه لفظ معمر إلا إذا طابقه برواية أخرى، وأن هذا لفظه، وأعاده بالإسناد المذكور هنا من طريق ابن مسافر، الطريق الأول الموصول في فرض الخمس على لفظه.
على لفظ ابن مسافر، الإمام البخاري حينما يروي الحديث عن اثنين، فاللفظ كما تقرر بالاستقراء عند ابن حجر اللفظ للأخير منهما، مسلم ما طريقته؟ هل يعتمد اللفظ الأول أو الثاني؟ مسلم يبين بدقة صاحب اللفظ، حدثنا فلان وفلان وفلان واللفظ لفلان، ما يجمل أو يُنظر حتى بالاستقراء ينظر صنيعه وطريقته لا، هو يبين.
قوله: في أنفسكما، والرواية التي معنا: في قلوبكما، وهي مثلها، قوله: في أنفسكما هو مثل قوله في الرواية الأخرى: في قلوبكما، وإضافة لفظ الجمع إلى المثنى كثير مسموع، كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] يعني هما اثنان، وفي الآية اثنتان، ما قال قلباكما؛ لأن إضافة مثنى لمثنى فيه ثِقل، بينما إضافة الجمع إلى مثنى يؤدي الغرض، وهو أخف.
قال: وإضافة لفظ الجمع إلى المثنى كثير مسموع، كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4].
الموضع الثالث: في كتاب الاعتكاف أيضًا في باب هل يدرأ المعتكف عن نفسه؟ قال -رحمه الله-: حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال: أخبرني أخي عن سليمان عن محمد بن أبي عتيق عن الزهري عن علي بن حسين- رضي الله عنهما- أن صفية أخبرته، ح وحدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا ابن سفيان قال: سمعت الزهري يخبر عن علي بن حسين أن صفية- رضي الله عنها- أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو معتكف، فلما رجعت مشي معها، فأبصره رجل من الأنصار، فلما أبصره دعاه فقال: «تعالَ هي صفية»، وربما قال سفيان: «هذه صفية، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»، قلت لسفيان: أتته ليلاً؟ قال: وهل هو إلا ليلاً؟
هنا الرواية التي فيها التنصيص على أنه رجل، والروايات السابقة واللاحقة رجلان، وتقدم الجمع بين هذه الروايات، وأن الرجل المنصوص عليه هنا هو الأصل، والثاني تبع له، وأن النبي -عليه الصلاة والسلام- وجَّه إليه الكلام، فصح إفراده، وباعتبار الحقيقة أنهما اثنان، جاء الحديث في أكثر طرقه على هذا.
المقدم: ولعلنا نقف عند هذا الحد معالي الشيخ، حيث لا وقت باقٍ في الحلقة، نسأل الله تبارك وتعالى ينفعنا جميعًا بما سمعنا وبما قلنا، إنه جواد كريم، أيها الإخوة المستمعون الكرام نتقدم في ختام هذه الحلقة بالشكر الجزيل لمعالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير -وفقه الله- عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، شكر الله له ولكم، ونلقاكم بإذن الله تعالى وأنتم بخير وعلى خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.