كتاب الجامع من المحرر في الحديث - 04
ومراتبها متفاوتة بحسب درجة هذا العق وهذا العقوق وهذه القطيعة، وقُل مثل هذا في حق الأب، والتنصيص على الأم هنا دون الأب مع وروده مقرونًا بها في نصوص الكتب وَالسُّنَّة لا شك أن هذا لتأكُّد حقها، فلها من الحق أعظم من حق الأب.
وقد سُئل النبي –عليه الصلاة والسلام- مَن أحق الناس بحُسن صحابتي؟ قال: «أُمك» قال: ثم مَن؟ قال: «أُمك» قال: ثم مَن؟ قال: «أُمك» قال: ثم مَن؟ قال: «أبوك»، فكرر حقها ثلاثًا، وذكر ذلك في حق الوالد مرةً واحدة، ولا شك أن هذا مما يدل على أن حقها آكد.
والوالدان بصدد أن يُبرَّا، ويُحسَن إليهما، كما أحسنا على ولديهما؛ لأنهما سبب الوجود، فلولا الوالدان بتقدير الله –جلَّ وعلا- كل ذلك بتقدير الله –جلَّ وعلا- لا يخرج شيءٌ عن إرادته ولا مشيئته، فالسبب هو الوالدان، هما اللذان تسببا في وجودك في هذه الحياة، فحقهما عظيم، وعقوقهما عظيم، وإذا كانت صلة الأرحام الذين هم أبعد من الوالدين، فكيف بحق الأصل الذي هو الأب والأم؟
فإذا كان قاطع الرحم ملعونًا، {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [محمد:22-23]، تقطع رحِمك بأخيك أو بعمك أو بخالك، المقصود أنهم ليسوا بمنزلة الوالدين، تستحق اللعنة، فكيف إذا عققت والديك –نسأل الله العافية-؟ والتنصيص على الأم دون الأب في هذا الحديث مما يؤكد حق الأم.
والتعارض في حقوق الوالدين وارد بأن يأمر الأب، وتنهى الأم، يعني تظهر الفائدة في مثل هذا إذا مشت الأمور بأن استطاع الموفَّق أن يُوفِّق بين حق الأم وحق الأب، ولا يُوجد تعارض، هذا توفيق من الله –جلَّ وعلا-، وهذا غالبًا ما يكون إذا كانت الأم في ذمة الأب، وأما إذا كانت الأم مطلقة فهنا يحصل الإشكال، ويحصل التعارض، فإذا أمره أبوه ونهته أمه، فماذا يصنع؟ سُئل الإمام مالك –رحمه الله- قال: أمرني أبي، ونهتني أمي، قال: أطع أباك، ولا تعصِ أمك.
قد يقول قائل: إن الإمام مالك ما أجاب، ما صنع شيئًا –رحمه الله-، أطع أباك، ولا تعصِ أمك! كيف؟ هي تأمرني أن أعصي أبي، فطاعتها في عصيان أبي، وطاعة أبي في عصيانها، فكيف أُوفِّق؟
فالإمام مالك –رحمه الله- وغيره من الأئمة في مثل هذه المواطن لا يرون المصادمة لا بين ما تقتضيه النصوص، ولا بين ما تقتضيه الحقوق، فكلٌّ له حق، فمعناه أنك سدِّد وقارب، وارضِ هذا، وارضِ هذا، وإن أمكن أن تُطيع أباك وأمك لا تعلم أو العكس فدبِّر نفسك على ما يقول العامة.
والعاقل يستطيع يتصرف ويتعامل مع مثل هذه الحقوق، يستطيع، وإلا فلا شك أن حق الأم مقدَّم على حق الأب.
ومع الأسف الشديد أننا نرى العقوق بأجلى صوره، وكلما بعُد العهد وتقادم، زاد واشتد وتنوعت صوره، فما كان الناس يسمعون من يقول لأبيه: لا، أو يأمره أبوه ويُدبِر ويتركه، ما كان الناس يرون هذا، ولا يتصورونه، ولا يتوقعونه يقع من عاقل، الآن –مع الأسف- أنه وُجِد من يُصرِّح بالعصيان والتمرد، ووجِد من يتأفف، ووُجِد من يتذمر، ووجِد من يُسيء بالكلام، وجِد من يُسيء بالفعل، كل هذا سببه البعد عن دين الله وعن تعاليم الإسلام، ودخول هذه الآلات المشؤومة التي غيَّرت نسيج كثير من المسلمين وأمزجتهم، ومسخت الفِطَر –نسأل الله العفو والعافية-، إضافةً على بعض المأكولات والمشروبات من المخدرات والمسكرات، وأمور لا تخطر على البال، كيف يُتصوَّر أن ولدًا يضرب أباه، ويضرب أمه تحت تأثير مخدر، نسأل الله العافية.
الآن من الصور التي يراها الناس سهلة في هذا الباب أن يُوجد من طالب علم مثلًا من هو مرتبط بوظيفة أو مرتبط بدروس علمية، يتقرَّب بها إلى الله –جلَّ وعلا- إذا شغَّل السيارة مع أذان المغرب ليذهب للدرس، قالت له أمه: أنا لي مشوار في الحي الفلاني، قال: والله أنا ما أستطيع عندي درس، هذا أمر سهل عند الله- جلَّ وعلا-؟ يعني هذا خلل في التصور، الآن أنت ذاهب إلى الدرس ترجو ما عند الله، وما عند الله لا يُنال بسخطه، أنت ترجو ما عند الله، أمك أهم.
وقصة ذكرناها مرارًا وفي مناسبات، وهي أن رجلًا حجَّ من بغداد ثلاث مرات مشيًا على الأقدام، ثلاث مرات يحج من بغداد مشيًا على الأقدام، لما رجع من الحجة الثالثة فتح الباب، وبهدوء ورفقٍ تام تسلل ونام بجانب أمه، وهي لا تشعر؛ خشية أن يُوقظها، ويُكدِّر نومها، انتبهت فرأته قالت: يا فلان اسقني ماءً، القربة أمتار مترين أو ثلاثة أو خمسة، يقول: ما تحرَّك كأنه ما سمعها وهو سامعها، ثم قالت له المرة الثانية: يا فلان، اسقني ماءً، فما تحرَّك، ثم قالت له الثالثة: يا فلان، اسقني ماءً، فقال: أنا أحج على الأقدام نفلًا، دعنا من الفريضة وحجة الإسلام، لكن نفل آلاف الأميال، وهذه بضعة أذرع، وكأني ما أسمع، والأم التي تأمر، ومع ذلك يتثاقل عن أمرها، قام وسقاها الماء، فلما أصبح ذهب ليسأل، فهو إما أن يُصادف فقيهًا فسوف يقول له: حجك متوافر الشروط والأركان والواجبات، حجك صحيح، لكنه صادف عالمًا له نظرٌ دقيق في أعمال القلوب، فقال له: أعِد حجة الإسلام، الشرط غير مُحقق الذي هو الإخلاص لله –جلَّ وعلا-، الشرط مفقود، والإخلاص شرط لقبول العبادات.
لسنا بصدد تصويب الفتوى أو تخطئة الفتوى، لكن منها دروس تقول له أمه: أختي مريضة في بيتها، أريد زيارتها، يقول: لا، أنا عندي درس؟ لا شك أن هذا خللًا، ونحتاج إلى إعادة تأهيل.
وعلينا أن نُديم النظر في كتاب الله –جلَّ وعلا-؛ ليتقوى بذلك إيماننا، النظر في آياته المرئية الكونية وفي آياته المتلوة القرآنية، وفيما ثبت عن نبيه –عليه الصلاة والسلام- في جميع أبواب الدين لا نقتصر على الأحكام الظاهرة من العبادات، والمعاملات، والجنايات وما أشبه ذلك، ننظر في جميع أبواب الدين؛ لأن النبي –عليه الصلاة والسلام- يقول: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»، الدين ما هو؟
الدين شامل للإسلام والإيمان والإحسان، شامل لأعمال الجوارح وأعمال القلوب، فينظر فيما صح عن النبي –عليه الصلاة والسلام- بعد إدامة النظر في كتاب الله –جلَّ وعلا-، وقراءته على الوجه المأمور به بالتدبر والترتيل، والتفكر، ونية العمل، والتأثر، ينظر فيما صح عن النبي –عليه الصلاة والسلام-، ولتكن عنايته بالصحيح، صحيح البخاري أكثر من غيره، مع أن كل كُتب الحديث لا بُد منها لطالب العلم، لكن صحيح البخاري إذا بدأ بالإيمان، ثم العلم، ثم العبادات، ثم المعاملات، ثم أردف ذلك بجميع ما يحتاجه المسلم، هناك أبواب مهملة ومُغفَلة عند كثير من طلاب العلم، لا بُد أن تكون لطالب العلم عناية بكتاب الرَّقاق مثلًا، كتاب المغازي، كتاب السير، كتاب التفسير من صحيح البخاري، أصح ما دُوِّن في هذا الباب، كتاب الفتن، كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، هذه أمور تخفى على كثير من طلاب العلم، وبإغفالها وإهمالها حصل الخلل، ووجِد النقص في تصرفات كثير من طلاب العلم، وإلا فهذه الأبواب هي التي تحدوك وتُلزمك بالعمل بما علمت من الأبواب الأخرى.
نجد بعض طلاب العلم متمكنًا في الفقه أو في أي تخصص من التخصصات، لكن مع ذلك ما تجد عليه سمت أهل العلم وطريقة أهل العلم، وعبادة أهل العلم، وتألُّه أهل العلم، والانكسار بين يدي الله –جلَّ وعلا-ن كما هو شأن أهل العلم، العلم الذي لا يُورِث خشية في القلب ليس بعلم، هذا ليس بعلم، هذا وبال على صاحبه، العلماء يُؤلفون في جميع الأبواب كتبوا في المناسك الشيء الكثير، وتجدهم يهتمون بما يُصحح الحج، وما يُفسده ويؤثر عليه، هذا الكلام مطلوب؛ لتعبد الله على بصيرة، وتعرف كيف تعبده، لكن في القرآن سورة بهذا الاسم، سورة الحج افتُتِحت بالشروط والأركان، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الحج:1].
أهم شيء مخاطبة القلب قبل الجوارح، فهذا هو السبب الذي يجعل طالب العلم يُوجد عنده مثل هذا الخلل التقصير في طلب العلم ومعرفة الدين بجميع أبوابه، «هذا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»، علَّمه الإسلام، وعلَّمه الإيمان والإحسان «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»، هذا من آخر ما يهتم به كثيرٌ من طلاب العلم اليوم لا سيما في الدراسات النظامية، ما تجد مثل هذه الأمور يؤكَّد عليها ويُركَّز عليها بحيث نُخرَّج طالب علم عالم عامل، والله المستعان.
«إِن الله -عَزَّ وَجَلَّ- حرم عَلَيْكُم عقوق الْأُمَّهَات، ووأد الْبَنَات»، دفن البنات وهن حيَّات؛ خشية العار، وإذا كان هذا الصنيع مذمومًا، ومن عظائم الأمور، فالطرف الثاني مذموم ومن عظائم الأمور التساهل بما يجلب العار، ودين الله وسط بين الغالي والجافي.
كانوا يدفنون البنات؛ خشية العار، وذُكِر في الشروح أن أول من فعل ذلك قيس بن عاصم، وكانوا يدفنون أيضًا يقتلون الأولاد من ذكور وإناث؛ خشية الفقر {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151]، يعني أنتم في الرزق أحوج منهم، وفي الآية الأخرى العكس {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31].
على كل حال كلٌّ مُحتاج إلى الله –جلَّ وعلا- في الرزق، وقد يتصور الإنسان أن هذا الولد الذي ابتُلي به سوف يُشاركه في معيشته، ويحصل له من أجله النقص فيها، وما يُدريك أن الله –جلَّ وعلا- يسَّر لك هذا الرزق بسببه لا سيما إذا كان فيه شيء من النقص؛ لأن الناس ما ينظرون إلى الولد الكامل، كامل الأعضاء، كامل التصرف، كامل التصور أنه يُسبب نقصًا في المعيشة، ينظرون إلى من فيه خلل، فيقولون: هذا مصيبة علينا يُشاركنا في أموالنا وطعامنا وشرابنا، ولا يُساعدنا بشيء، والرسول –عليه الصلاة والسلام- يقول: «إِنَّمَا تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ بِضُعَفَائِكُمْ»، ثم يكتب من يكتب ممن ينتسب إلى الإسلام، ويطعن في حِكمة الله –جلَّ وعلا- من إيجاد هؤلاء، يقول: ما الفائدة، وما الحكمة أن يُولَد هذا المشوه، ثم يموت بعد ساعات أو بعد أيام؟ نسأل الله السلامة والعافية.
هذا مصدر رزقٍ لك، ومصدر وباب من أبواب الجنة فُتِح لك، اصبر واحتسب وارضَ بما كتب الله لك سواءً كان بوجود مثل هؤلاء المصابين أو بقلة الدخل والإصابة بفقرٍ ونحوه.
وَكُنْ صَابِرًا بِالْفَقْرِ وَادَّرِعْ الرِّضَا |
|
بِمَا قَدَّر الرَّحْمَنُ، وَاشْكُرْهُ واحْمَدِ |
«ووأد الْبَنَات، ومنعًا وهات» مَنع وهذه حياة كثير -مع الأسف الشديد- ممن نراهم من المسلمين تجدهم يلهثون وراء الحطام، ويرتكبون في سبيل ذلك كل صعبٍ وذلول، ويبذلون في تحصيل الوظائف، وكسب الأموال كل ما يستطيعون من وسائل سواءً كانت حلالًا أو حرامًا.
والشخص الذي يُسمونه عاطلًا هذا مشكلة في البلد، على مستوى العالم كله، البطالة والعطالة هذه كارثة، نعم العمل والكد والكسب مطلوب في الشرع، لكن لا يعني أنه إذا سُدت الأبواب في وجهه أنه انتهى من الحياة، الباقيات الصالحات تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، خير مما يجمعون غراس الجنة، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تقول لك: مائة جملة من هذه الجُمل في دقيقتين أو ثلاث يُغرس لك مائة نخلة في الجنة، كم تغرس مائة نخلة في الدنيا؟
عمرك كله ما تغرس مائة نخلة، وتنتظر ثمرتها سنين، وقد تُنتج وقد لا تُنتج، وهذه كلمة بثانية تقولها، لكن الناس في غفلة.
وَالناسُ في غَفلَةٍ عَمّا يُرادُ بِهِم |
|
كأنهم غنمٌ في أيدي جزار |
فإذا نقص دخله ما نام تلك الليلة، فلو قام بدل هذا الهَم، وهذا الغم وصلى ركعتين «وَرَكْعتا الفجْرِ خيْرٌ مِنَ الدُّنيا ومَا فِيها»، والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة.
«منعًا» يمنع ما أوجب الله عليه، يُمسِك المال، ويجمع وما يُدري هذا المسكين أنه قد يُنفقه في محرَّم، فيكون وبالًا عليه أو يُنفقه في علاج له أو لمن تحت يده ما يدري، يمنع ما أوجب الله عليه.
«وهات» جميع الأبواب تُطرق من أجل الجمع، ثم ماذا؟
وبعض التجار أصحاب مئات الملايين والمليارات حياتهم تعاسة، رغم أن البنوك قائمة على أموالهم، فإن شاركوها في الدخل المحرَّم فالأمر أعظم، وإن لم يشاركوها وبقيت جامدة، فما فائدتها؟
«منعًا وهات» ما فيه إلا هات، وما فيه شيء يطلع، وبعض التجار يملكون المليارات، وكتبنا لهم من أجل بعض الأموال اليسيرة؛ لمساعدة بعض الشباب لإعفافهم، واثنان منهم جوابهم واحد وأولادهم صالحون أخيار بواسطتهم بُعِثت الخطابات، فكان الجواب: والله الوالد يقول: أنا قافل هذا الباب -نسأل الله العافية-، إذا قفلت الباب هذا ينفتح لك أبواب شرور، منع وهات ما فيه غير هذا، نسأل الله العافية.
ونرى أحوال كثير من التجار –نسأل الله العافية- أصحاب المليارات وما النتيجة؟ أمام الشاشات والبورصات، وزاد كذا، نقص كذا، إذا زاد كذا أخذ حبة سكر، وإذا نقص كذا أخذ حبة ضغط، هذه حياة؟ والله ما هي بحياة تُرضى، أين العقول؟ يعني في كارثة الأسهم قبل بضع سنين في أناس أغمي عليهم، وناس أصيبوا بجلطات، وناسٍ جُنوا، الدنيا كلها تستحق مثل هذا الأمر؟ يعني الإنسان إذا فرغ يصلي له ركعتين ولا يقرأ له جزءًا من القرآن، جزءًا من القرآن بربع ساعة مائة ألف حسنة.
«ومنعًا وهات، وَكره لكم ثَلَاثًا: قيل وَقَالَ»، «قيل وَقَالَ»، إما أن يكون المقصود به نقل الكلام، قيل كذا، وقال فلان كذا، وهذه وظيفة كثير من المسلمين في مجالسهم قيل وقال لا سيما مع كثرة الأحداث، ومتابعة وسائل الإعلام، وقال المذيع الفلاني كذا، وقلت القناة الفلانية كذا، وهذا حديث الناس في مجالسهم بعد أن كانوا منذ وقتٍ ليس بالطويل ما فيه مجلس من مجالس العامة إلا فيه رياض الصالحين والأذكار، وتعليم الصبيان من ربك؟ ما دينك؟ الآن ما في الصبيان كل واحد معه جهازه، صاحب سنة ونص وسنتين يُفتِّش ويتسلل حتى يقع على ما يُريد، ولو تسأله من ربك؟ وما دينك؟ ما يعرف شيئًا مع الأسف الشديد.
نحتاج إلى إعادة نظر، نحتاج إلى إعادة تأهيل شيء عهدناه قريب، لكن قبل انفتاح الدنيا، قبل سنة أربعمائة وبعدها كانت الأمور ماشية، لكن الناس بعد انفتاح الدنيا الذي خشيه النبي –عليه الصلاة والسلام- على أمته «وَاللهِ، لا الفَقْرَ أَخْشَى عليكُمْ، ولكن أَخْشَى أَنْ تُفتَح عليكُمْ الدّنْيا كما فُتِحت على مَنْ قبلَكُم فَتَنافَسُوها كَما تَنافَسُوها، وَتُهْلِكَكُمْ كما أهلَكَتْهُم».
«قيل وَقَالَ»، مع الأسف أن الناس يتعاملون في قضايا كبرى فتن تُحيط بالأمة، ويتداولون حل هذه الفتن من مصادر من غير المسلمين أحيانًا من قنوات وأخبار وإشاعات وأشياء، وهذا المحلل السياسي يقول كذا، وهذا المحلل الاقتصادي يقول كذا، سيرتفع، سينخفض، «وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَه»، لا يعلم ما في غدٍ إلا الله، وتجد اليوم هذه المجالس مملوءة بمثل هذه التصرفات، والله المستعان.
الفتن ما يُعالجها إلا العلماء الربانيون الذين بنوا علمهم على الوحيين بفهم سلف هذه الأمة وأئمتها.
«قيل وَقَالَ، وَكَثْرَة السُّؤَال» كثرة السؤال، ويشمل السؤال عن المال، «ولا تزال المسألة في وجه السائل خدوشًا حتى لا يبقى في وجهه مزعة لحم»، نسأل الله العافية، فالسؤال ما لم يكن هناك حاجة له حرام، ولا تحل المسألة إلا لثلاثة كما في قصة قبيصة بن مُخارق، الفقير الذي لا يجد وليس له كسب، ولا يستطيع أن يتكسَّب يسأل، مع أن الزكاة ليس فيها حقٌّ لغني ولا لذي مِرةٍ سوي الذي يستطيع أن يتكسَّب ليس له نصيب في الزكاة، ولا يجوز له أن يسأل، لكن هل يمكن أن يأتي في عصرنا هذا من يأخذ حبلًا، ويروح يحتطب ويكتسب ويأتي يبيع؟ يجلس تحت المكيف ولو جاء وقت الزكاة قام يشحت، نسأل الله العافية.
«وَكَثْرَة السُّؤَال»، ويشمل أيضًا كثرة الأسئلة فيما لا يُحتاج إليه من أمر الدين، وقد جاء النهي عن الأغلوطات، كما في سُنن أبي داود لا يجوز أن تسأل شخصًا لتُحرجه بين يدي شيخ تُريد أن تحرجه، تأتي بسؤال تتفقه وتتعالم، هذا لا يجوز بحال، كما أنه لا يجوز لك أن تُضجِر الشيخ بكثرة الأسئلة، بل يُقدَّم الأهم فالأهم، ولا مانع من السؤال {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل:43] بالنسبة للتعلم، وجاء النهي {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101].
وكان الصحابة يتحرَّجون من سؤال النبي –عليه الصلاة والسلام- وكانوا يفرحون بالرجل العاقل يجيء من البادية فيسأل ويُجاب، كل هذا امتثالًا لأمر الله وأمر رسوله، واحترامًا لنبيه- عليه الصلاة والسلام-.
بعض الناس من أيسر الأمور أن يأتي إلى الشيخ فيسأله عن شيء لا يخصه ولا يعنيه، «وَمِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَالا يَعْنِيهِ»، ويأتي إلى الشيخ يُريد أن يُحرجه، ويتبجَّح عند زملائه أنه أورد سؤالًا مُشكِلًا لم يستطع الشيخ الإجابة عنه، فهذا ممنوع، وذاك ممنوع، والتعلم مطلوب، وسؤال أهل الذكر فرض العامي ومن في حكمه.
«وَكَثْرَة السُّؤَال، وإضاعة المَال».
«قيل وَقَالَ» فيه ما هو مكروه لا سيما إذا كان في شيءٍ يسير، ولا يترتب عليه شيء، ولا يترتب عليه ضرر ولا إضاعة وقت، وفيه ما هو فوق ذلك إذا اشتمل على المحرَّم من القيل والقال.
«وَكَثْرَة السُّؤَال» عرفنا أنها في المال مع عدم الحاجة حرام، ومع الحاجة جائزة، وبينهما مراتب؛ لأن الحاجة تتفاوت.
«وإضاعة المَال» الله –جلَّ وعلا- يقول: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، وتجد الموظف أو التاجر عنده دخل يكفيه ويزيد، ثم بعد ذلك لا يأتي ينتهي الأسبوع الأول وعنده من راتبه شيء؛ لعدم التدبير، ضعف التدبير مُشكِل، وإسناد الأمور إلى النساء وأشباه النساء أيضًا من إضاعة المال، فإذا كان الدخل يكفي، ثم بعد ذلك تخبط في مالٍ له وصرفه فيما لا يجوز أو بذَّره وأسرف فيه دخل في حيز التحريم، وبعض الناس من ضعف التدبير من غير قصد يؤتى من ضعف التدبير من غير قصد، تجده حريصًا على المال يُريد ألا يُخرِج درهمًا إلا في مجاله، لكنه لا يستطيع، عنده قدرة على إدارة المال، مثل هذا أمره أسهل، لكن الإشكال فيمن يُبذِّر إما بمحرمات أو بإسراف في مباحات حتى يدخل في الطغيان إذا أسرف، {فَأَمَّا مَنْ طَغَى* وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات:37-38] عاقبته {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:39].
نسمع كلامًا يمكن ما يخطر على بالنا في كُتب التفسير يقول بعض السلف: من وضع على مائدته ثلاثة ألوانٍ من الطعام فقد طغى، تجده يذهب إلى السوق ويشتري مواد غذائية بعضها يفسد في يوم أو يومين، ويشتري الكثير منها، ثم بعد ذلك مآلها إلى النفايات، والناس بأمس الحاجة إليها هذه إضاعة المال بهذه الطريقة أو بنحوها، فعلينا أن نهتم بما خُلقنا من أجله، نهتم بتحقيق الهدف الذي من أجله خُلقنا، خُلقنا لعبادة الله، وما عدا ذلك من تحصيل أمور الدنيا التي نُبِهنا عليه بقوله –جلَّ وعلا-: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، من أجل تحقيق الهدف لا أكثر ولا أقل فالدنيا ليست هدفًا، إنما تسعى لتحصيل نصيبك من الدنيا من أجل أن تُحقق به الهدف، وهو تحقيق العبودية لله –جلَّ وعلا-، وتحصيل ما يُقرِبك إليه.
نرى مظاهر كثيرة لإضاعة المال، ولا تحتاج إلى استدلال ولا استشهاد، الواقع طافح بها على مستوى الجماعات والأفراد، وعلى المستويات الشعبية والرسمية؛ لأن الدنيا فُتِحت، "وتأبى الدراهم إلا أن تُظهر أعناقها" كما قال بعض السلف.
تجد الإنسان يشتري سيارة بمليون أو مليونين، من أجل ماذا؟ فإذا قيل له، قال: إن الله يُحب أن يرى أثر نعمته على عبده. ليس بهذه الطريقة تشتري سيارة أو تشتري جملًا أو ناقة بملايين، ثم تُصبح فإذا هي ميتة، وعندك من إخوانك المسلمين في الداخل وفي الخارج أكثر، في الخارج يموتون جوعًا، وهم بأمسّ الحاجة إلى قيمة هذه الناقة التي دُفعت أو قيمة هذه السيارة.
لا أحد يقول لك: البس الرث من الثياب، واسكن الرديء من البيوت، واركب الرديء من السيارات، لا، توسَّط في أمورك كلها، شيء تستمتع به ولا يشغلك عمَّا خُلِقت له؛ لأن المبالغة في مُتع الدنيا من أكبر العوائق عن تحقيق الهدف، والقلب ينشغل بالمظاهر، ثم بعد ذلك يُحال بينه وبين الخشية التي هي سمة أهل العلم.
وجرِّب صلِّ في بيتٍ متوسط، وصلِّ في بيتٍ مزخرف ومُذهَّب تجد الفرق كبيرًا في قلبك؛ ولذلك جاء النهي عن زخرفة المساجد بيوت العبادة، وأنها من علامات آخر الزمان، وكثر هذا في مساجد المسلمين، يعني مسجد يُعمَر بملايين، بالإمكان أن يُعمَر بقيمته أو بتكلفته عشرة مساجد من أجل ماذا؟
الأساسات واحدة، التأسيس واحد، لكن في الكماليات، الفرق في الكماليات، وهكذا في حياة الناس تجد الأمور الأساسية رخيصة ما تُكلِّف، لكن الإشكال في الترف والكماليات التي تقضي على جميع ما يجمعه الإنسان إذا استجاب لكل ما رأت عينه أو طلبه منه النساء والذراري، وكثيرٌ من الناس يُريدون أن يكونوا مثل غيرهم، أهل فلان اشتروا كذا، وأهل فلان يُغيرون الأثاث كل سنة، وهكذا بهذه العلل العليلة يُضاع المال.
وبالإمكان بدلًا من أن يُضيعه بلا مردود لا دين ولا دنيا، بل العكس قد يكون وبالًا عليه، بإمكانه أن يصرفه فيما يُقربه إلى الله -جلَّ وعلا-.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بعض الناس في الظاهر قد خصص وقتًا معينًا ومحددًا لزيارة والديه، ويجلس معهما الساعة والساعتين، وهذا في الظاهر من يراه يدخل ويخرج يعده من البررة، وهو في حقيقة الحال لو ما يجيء كان أفضل له، ما يرفع رأسه عن الجهاز، كل وقته بهذا الجهاز، وأبوه عن يمينه وأمه عن يساره، وقد يكون في أذنه سماعات، ثم يُصوت له أبوه يا فلان ولا يرد، هذا يجلس في بيته ولا يروح يمينًا ولا شمالًا أسهل؛ لأنه قد يكون له عذر إذا كان بعيدًا.
مثل هذا الذي أشار إليه السائل أمرٌ مقلق جدًّا، يكون عندك ولدك تعرف أنه ما عنده شغل جالس وما هو بعندك، ويصوت له، ولا يرد واضعًا رأسه بهذا الجهاز، وقد يشاهد محرمات، والأب والأم يتقطع قلب كل واحد منهما أسىً وحسرة على هذا الولد؛ خشية أن ينظر في أمرٍ يفتنه وهو غير مكترث ولا ملتفت، نسأل الله السلامة والعافية.
مثل ما ذكرنا في النصوص حق الأم آكد من حق الأب، فيعتمر أولًا لأمه، ثم يعتمر لأبيه.
لا تشترط عليه شيئًا، فإن تورعت عن هذا القدر الزائد لا شك أنه أفضل وأكمل، وإن أخذته دون مشارطةٍ فلا شيء عليك.
لا شك أن الأم ضعيفة، وهي بحاجة إلى العناية والحياطة أشد من الأب، لكن حق الأب عظيم.
إذا خشيت على نفسك العنت فلا تتأخر الذي هو الزنا، لكن مع ذلك حاول بالأسلوب الطيب إقناع والديك، ولن يتأخرا في إجابتك إذا رأيا منك الحرص والحاجة.
يعني بحجة واحدة، لا، الحجة لا تكون إلا عن واحد.
العلماء يُقررون أن الصلة والهجر علاج، المبتدع والعاصي إذا هُجِر يُجدي فيه الهجر ويرجع.