التعليق على تفسير القرطبي - سورة القمر (01)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه:

قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

"سورة القمر مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ : إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى :{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر:44] إِلَى قَوْلِهِ :{وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46] وَلَا يَصِحُّ عَلَى مَا يَأْتِي. وَهِيَ خَمْسٌ وَخَمْسُونَ آيَةًقَوْلُهُ تَعَالَى : {اقْتربتِ السّاعة وانْشقّ الْقمر} [ القمر:1]  اقْتَرَبَتْ؛ أَيْ قَرُبَتْ مِثْلُ {أزِفتِ الْآزِفة} [النجم:57] عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. فَهِيَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا مَضَى قَرِيبَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَضَى أَكْثَرُ الدُّنْيَا كَمَا رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ:  خَطَبَ رَسُول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ كَادَتْ الشَّمْس تَغِيب فَقَالَ: «مَا بَقِيَ مِنْ دُنْيَاكُمْ فِيمَا مَضَى إِلَّا مِثْل مَا بَقِيَ مِنْ هَذَا الْيَوْم فِيمَا مَضَى» وَمَا نَرَى مِنَ الشَّمْسِ إِلَّا يَسِيرًا. وَقَالَ كَعْبٌ وَوَهْبٌ:  الدُّنْيَا سِتَّةُ آلَافِ سَنَةٍ. قَالَ وَهْبٌ:  قَدْ مَضَى مِنْهَا خَمْسَةُ آلَافِ سَنَةٍ وَسِتُّمِائَةِ سَنَةٍ؛ ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ..."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

فقد ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» لا فرق بين بعثته -عليه الصلاة والسلام- وقيام الساعة إلا كما بين الإصبعين من فرق، ويدل على اقترابها {اقْتربتِ السّاعة} [القمر:1]  ولقربها وتحقق أجل أمرها قال الله -عز وجل- فيما مضى: {أتىٰ أمْر اللّهِ فلا تسْتعْجِلوه} [النحل:1]  المحقق الوقوع قريب الوقوع، وأما بما يذكر في التواريخ من عمر الدنيا منها أنها سبعة آلاف سنة فيما يقوله جماهير المؤرخين أو ستة آلاف هذا كله لا يوجد ما يدل عليه، واستنباط عمر هذه الأمة من بعض النصوص التي لم تسق لذلك أيضًا ليس بصحيح؛ لأن الساعة قربت واقتربت لكن لا يعلمها إلا الله -جل وعلا- حتى قال -عز وجل-: {أكاد أخْفِيها} [طه:15] يعنى حتى عن نفسي، وأما عن جميع الخلق هذا أمر مقرر، لا يعلمها لا ملك مقرب ولا نبي مرسل. جبريل يسأل نبينا -عليه الصلاة والسلام- متى الساعة فيقول: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» فلا يعلم قيام الساعة ولا أمرها بالتحديد إلا الله -جل وعلا-، وأما العلامات التي يستدل بها على دنوها فهذا جاءت بها النصوص الصحيحة.

استنبط بعضهم من حديث بقاء هذه الأمة وأنه يعادل العصر بالنسبة للنهار وهو الخمس خمس النهار والدنيا سبعة آلاف إذًا عمر هذه الدنيا ألف وأربعمائة سنة. استنباطًا من حديث «إنما مثلكم مثل من قبلكم كمثل من استأجر أجيرًا، إلى نصف النهار بدينار ثم استأجر أجيرًا  إلى وقت العصر بدينار، ثم استأجر أجيرًا من العصر إلى نهاية النهار إلى غروب الشمس بدينارين» فمدتنا في هذا الحديث من بين الأمم من بين صلاة العصر إلى غروب الشمس وهو خمس النهار، وخمس السبعة آلاف  ألف وأربعمائة سنة، حتى على سبيل التنزل لو قلنا أنها يمكن أن يؤخذ هذا القدر من هذا الحديث فماذا عن الأمم السابقة؟ لأنه ما ذكر إلا اليهود والنصارى وهذه الأمة «فقال أهل الكتاب: نحن أكثر عملًا وأقل أجرًا» لكن ماذا عن الأمم السابقة الخالية التي أكثر بكثير من هذه الأمم المذكورة الثلاث؟ فلا دليل يدل على أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة ولا دليل على ما يقال ويشاع الآن إنها مليارات السنوات، لا دليل على هذا ولا على هذا. الأمم لا يعلمها إلا الله -جل وعلا. النبي -عليه الصلاة والسلام- لما ساق الأخبار أخبار الأنبياء {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78] المؤيد بالوحي لا يدري عن هذه الأمم وما خلا من القرون السابقة. يعني من الأمور المضحكة المحزنة في الوقت نفسه أن يتداول أقوال بين المسلمين وفى بلاد المسلمين وتنشر في بيوت المسلمين من خلال القنوات أن يقول قائل من يدعون أنهم علماء في الفلك وفي الهيئة يقول أن الساعة تقوم سنة ألفين واثني عشر، وهذا من كبار المعدودين، وآخر يقول بقي على خراب العالم الذي يعبرون به عن قيام الساعة بقى اثنان ونصف تريليون سنة. كل هذا رجم بالغيب، وكل هذا مصادمة للنصوص التي تأمر بالكف عن مثل هذه الأمور {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، سبحان الله إما سنتين وشيء أو ثلاث سنوات أو اثنين ونصف تريليون ما هو بمليون أو...، سبحان الله، {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف:187]

يعنى ممن ينتسب إلى العلم ذكر أشياء تقريبية منهم من ذكر الألف وأربعمائة أخذًا من هذا الحديث مع أن الحديث يبطل هذا القول، لماذا؟ لأن النهار هذا عمر هذه الأمم الثلاثة اليهود والنصارى والمسلمين، فماذا عن من قبلهم؟ وهى أضعاف أضعاف كما يؤخذ من النصوص ومن أعمار الأمم السابقة. صار عمر نوح ألف سنة إلا خمسين عامًا في الدعوة فقط، ويقال قبلها ثلاثمائة أو ما أدري خمسمائة.

المقصود أن مثل هذه الأمور اقتحامها وبحثها نقص في العقل وضلال في الرأي. منهم من قال أن الساعة تقوم سنة ألف وأربعمائة وسبعة، من أين أخذوا هذا؟ من بغتة {لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف:187] بغتة بحساب الجمل ألف وأربعمائة وسبعة مع أن هذا لا يعتمد عليه في شرع، بل الذي استدل به اليهود لما نزلت: {ألم} [ البقرة:1] على الرسول -عليه الصلاة والسلام- وهى تعني سبعين في حساب الجمل، قالوا: كيف نتبع نبيا مدة أمته من أولها إلى آخرها سبعين سنة؟ أخذًا من {ألم{ [ البقرة:1] فبمثل هذا تقرر المسائل العظام الكبار؟ والله -جل وعلا- حجب معرفة قيام  الساعة عن كل أحد حتى عن جبريل ومحمد -عليهما السلام- أفضل الملائكة وأفضل البشر، ألف وأربعمائة وسبعة، وصُنِّف الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف يعني ألف سنة، وعندنا يقول: قال كعب ووهب: الدنيا ستة آلاف سنة وقد مضى منها خمسة آلاف سنة وستمائة، جاء أربعمائة وجاء ألف وزاد ثلاثين، والله أعلم ما الباقي؟

العقول محدودة لها حد، يعنى أحيانًا يتكلم الإنسان أو يستنبط شيئًا ثم ينقضه في وقته، دليل على أن هذه العقول ما لم تزم بزمام الشرع وتقاد بخطامه إن مآلها إلى الضلال كما هو الحاصل بالنسبة لرؤوس البدع. رؤوس المبتدعة من الأذكياء ومن العباقرة، ما هم ناس عاديين بل هم من العباقرة، ضحكوا على فئام من الناس واتبعوهم، لكن لماذا ضلوا هذا الضلال المبين؟ لأنهم تخلوا عن النصوص الشرعية، استرسلوا وراء عقولهم واستنبطوا ما لا يدل عليه الدليل بعقولهم ثم بعد ذلك أُلزِموا بلوازم فالتزموا بها، فلم يفيقوا إلا وهم يتكلمون بكلام يشبه كلام المجانين.

يعنى هل يوجد شخص وهو محسوب من الأذكياء في العالم أن يقول: يجوز أن يرى أعمى الصين بقة الأندلس، أقصى المشرق وأقصى المغرب، والأعمى ما يشوف كفيف، والبقة صغار البعوض بالأندلس، إلا أنه قال كلامًا ومقدمات واعتمد رأيًا ثم بعد ذلك أُلزِم بهذا فالتزم. قال: يجوز وما المانع؟

فعلى الإنسان أن يقتفى أثر النص ولا يتعداه ولا يحيد عنه لا يمينًا ولا شمالاً وأن يكون فهمه للنص مقيدًا بفهم السلف الصالح لئلا يأتي بفهوم يفهمها تخالف فهوم السلف فيضل بذلك. والله المستعان.

طالب: أحسن الله إليك، الحديث نفسه يا شيخ صحيح؟

الشيخ: خطب رسول الله مُخرَّج؟

طالب: قال: حسن، أخرجه البزار هو في المجمع من حديث أنس، وقال الهيتمي: فيه خلف بن موسى عن أبيه...وورد من حديث أبي هريرة وابن عمر وغيرهما، والحديث حسن بشواهده.

الشيخ: نعم يبلغ رتبة الحسن، وما في ما يدل على ما يقولون، قريب من «بعثت أنا والساعة كهاتين».

طالب:...

الشيخ: نعم كذلك، ما في إشكال، هذه أمور...، الرسول -عليه الصلاة والسلام- من الأمم مَن قُصّ عليه ومنهم من لم يُقَص عليه، يخفى عليه كثير من الأمور، الآن إذا أردت أن ترتب الأمم من خلال كتب التاريخ ما استطعت، يعني بدقة وشيء متفق عليه بين المؤرخين ما تقدر، حتى إن من المؤرخين وهو قول لا يلتفت إليه لكن من المؤرخين من قال: إن هود بعد موسى، مع أن النصوص في القرآن ترده، ما يدل على أن:

لا تقبلن من التوارخ كلما

...

نقل الرواة وخط كل بنان

"ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أَيْ وَقَدِ انْشَقَّ الْقَمَرُ. وَكَذَا قَرَأَ حُذَيْفَة (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَقَدِ انْشَقَّ الْقَمَرُ) بِزِيَادَةِ "قَدْ" وَعَلَى هَذَا الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ؛ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَابْنِ عَبَّاسٍرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-.

وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آيَةً، فَانْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ مَرَّتَيْنِ فَنَزَلَتْ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] إِلَى قَوْلِهِ: {سِحْرٌ مُسْتَمِرّ} [القمر:2]. يَقُولُ ذَاهِب:ٌ قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ:  هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ فِرْقَتَيْنِ.  وَقَالَ قَوْمٌ: لَمْ يَقَعِ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ بَعْدُ وَهُوَ مُنْتَظَرٌ؛ أَيِ: اقْتَرَبَ قِيَامُ السَّاعَةِ وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ؛ وَأَنَّ السَّاعَةَ إِذَا قَامَتِ انْشَقَّتِ السَّمَاءُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْقَمَرِ وَغَيْرِهِ. وَكَذَا قَالَ الْقُشَيْرِيُّ .وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ...."

 لكن الأدلة الصحيحة في البخاري وغيره تدل على أنه حصل فعلًا وأنه انفلق فلقتين إحداهما عن يمين أبي قبيس والأخرى عن يساره. الله المستعان نعم.

 "وَقَالَ: لِأَنَّهُ إِذَا انْشَقَّ مَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا رَآهُ؛ لِأَنَّهُ آيَةٌ وَالنَّاسُ فِي الْآيَاتِ سَوَاء..."

 انشقاقه كان بالليل، رآه من هو مستيقظ وأما النائمون ما رأوه، لكن التواتر حصل برؤيته، وأما كون من رآه منهم من لم يؤمن هذا {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101].

 

"وَقَالَ الْحَسَنُ :اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ فَإِذَا جَاءَتِ انْشَقَّ الْقَمَرُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ. وَقِيلَ: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ  أَيْ وَضَحَ الْأَمْرُ وَظَهَرَ؛ وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ بِالْقَمَرِ مَثَلًا فِيمَا وَضَحَ؛ قَال :

أقِيمُوا بَنِي أُمِّي صُدُورَ مَطِيِّكُمْ

...

فَإِنِّي إِلَى حَيٍّ سِوَاكُمْ لَأَمْيَلُ

فَقَدْ حُمَّتِ الْحَاجَاتُ وَاللَّيْلُ مُقْمِرٌ

...

وَشُدَّتْ لِطِيَّاتٍ مَطَايَا وَأَرْحُلُ

وَقِيلَ: انْشِقَاقُ الْقَمَرِ هُوَ انْشِقَاقُ الظُّلْمَةِ عَنْهُ بِطُلُوعِهِ فِي أَثْنَائِهَا، كَمَا يُسَمَّى الصُّبْحُ فَلْقًا؛ لِانْفِلَاقِ الظُّلْمَةِ عَنْهُ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ انْفِلَاقِهِ بِانْشِقَاقِهِ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:

فَلَمَّا أَدْبَرُوا وَلَهُمْ دَوِيٌّ  دَعَانَا

...

عِنْدَ شَقِّ الصُّبْحِ دَاعِ

قُلْتُ: وَقَدْ ثَبَتَ بِنَقْلِ الْآحَادِ الْعُدُولِ أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ بِمَكَّةَ، وَهُوَ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَسْتَوِيَ النَّاسُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ آيَةً لَيْلِيَّةً؛ وَأَنَّهَا كَانَتْ بِاسْتِدْعَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ التَّحَدِّي. فَرُوِيَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ أَسْلَمَ غَضَبًا مِنْ سَبِّ أَبِي جَهْلٍ الرَّسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَلَبَ أَنْ يُرِيَهُ آيَةً يَزْدَادُ بِهَا يَقِينًا فِي إِيمَانِهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ هُمُ الَّذِينَ سَأَلُوا وَطَلَبُوا أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً ، فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ فِلْقَتَيْنِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ..وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ خَطَبَ بِالْمَدَائِنِ ثُمَّ قَالَ: أَلَا إِنَّ السَّاعَةَ قَدِ اقْتَرَبَتْ، وَأَنَّ الْقَمَرَ قَدِ انْشَقَّ عَلَى عَهْدِ نَبِيِّكُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَدْ قِيلَ: هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَتَقْدِيرُهُ انْشَقَّ الْقَمَرُ وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ.  وَقَدْ مَرَّ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ الْفِعْلَيْنِ إِذَا كَانَا مُتَقَارِبَيِ الْمَعْنَى فَلَكَ أَنْ تُقَدِّمَ وَتُؤَخِّرَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:8]"

لأن على ما تقدم في أن الدنو مسبوق بالتدلي. الأصل تدلى فدنى، ثم تدلى فدنى ولكن لما كان الفعلان متقاربي المعنى جاز تقديم أحدهما على الآخر فمثل ما ذكرنا في المثال الذي ذكرناه في وقتها هم يقولون: اربط حزام الأمان، ولو قلت: احزم رباط الأمان، ما فيه فرق؛ لأن اللفظين متقاربي المعنى، فلا مانع أن تقدم هذا أو تؤخر هذا، فالدنو والتدلي معناهما واحد سواءً قدمت هذا أو هذا لا مانع.

طالب:.....

الشيخ: هو انشق وحصل وانتهى في عهده -عليه الصلاة والسلام- هو إذا حددت النظر في القمر وطالت مدة التحديد عن ثلاث ثواني تخيل ما شت، يقولون: فيه صورة امرأة وواحد يقول وجه رجل وواحد يقول.. كل هذا سببه من تحديد النظر وإطالة النظر فيه.

طالب:.....

الشيخ: سبق أن انشق هذا معروف.

طالب:.....

الشيخ: إي، لكن ما زال منشق على كلامهم؟

طالب: لا، هناك تصدع وكذا...

الشيخ: الله المستعان، قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ونتبع هؤلاء في كلام ثم يختلفون فيما بينهم ثم ينفونه، فماذا يكون مصيرنا؟ لنا بما بين أيدينا، لا نحتاج إلى أي أمة من الأمم، إن جاءوا بشيء يوافق ما عندنا والحق ما شهدت به الأعداء، لكن لا ننساق ونجعل كلامهم أصل نعتمد عليه، كثير من المسلمين مكث مدة يقلدهم ويصدقهم أنهم وصلوا القمر، والآن هم ينفون هذا، كثير منهم ينفي الوصول إلى القمر، بآلاتهم يقولون: ما وصلنا، لكن لهم مقاصد ومآرب، لكن الأمة مستقلة بكتاب الله وسنة نبيها لن تضل إذا تمسكت بهما.

 

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} [القمر:2] هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوُا انْشِقَاقَ الْقَمَرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَالُوا: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَاشْقُقْ لَنَا الْقَمَرَ فِرْقَتَيْنِ، نِصْفٌ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ وَنِصْفٌ عَلَى قُعَيْقِعَانَ؛ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ  عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنْ فَعَلْتُ تُؤْمِنُونَ؟» قَالُوا: نَعَمْ؟ وَكَانَتْ لَيْلَةَ بَدْرٍ، فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَبَّهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا قَالُوا؛ فَانْشَقَّ الْقَمَرُ فِرْقَتَيْنِ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُنَادِي الْمُشْرِكِينَ: يَا فُلَانُ يَا فُلَانُ اشْهَدُوا. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا مِنْ سِحْرِ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ؛ سَحَرَكُمْ فَاسْأَلُوا السُّفَّارَ..."

اسألوا المسافرين الذين ما يصلهم سحره، إن صدقوه فقد انشق وإلا بالنسبة لكم أنتم فقد سحركم.

"فَسَأَلُوهُمْ فَقَالُوا: قَدْ رَأَيْنَا الْقَمَرَ انْشَقَّ، فَنَزَلَتْ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} [القمر:1-2] أَيْ إِنْ يَرَوْا آيَةً تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْرَضُوا عَنْ  الْإِيمَانِ {وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:2]. أَيْ ذَاهِبٌ؛ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَرَّ الشَّيْءُ وَاسْتَمَرَّ إِذَا ذَهَبَ، قَالَهُ أَنَسٌ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ: مُحْكَمٌ قَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَهُوَ مِنَ الْمِرَّةِ وَهِيَ الْقُوَّةُ؛ كَمَا قَالَ لَقِيطٌ:

حَتَّى اسْتَمَرَّتْ عَلَى شَزْرٍ مَرِيرَتُهُ

...

مُرُّ الْعَزِيمَةِ لَا قَحْمًا وَلَا ضَرَعَا

مثل ما تقدم في قوله: {ذو مرة} [النجم:6] يعنى ذو قوة.

"وَقَالَ الْأَخْفَشُ:  هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ إِمْرَارِ الْحَبْلِ وَهُوَ شِدَّةُ فَتْلِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُرٌّ مِنَ الْمَرَارَةِ . يُقَالُ: أَمَرَّ الشَّيْءَ صَارَ مُرًّا، وَكَذَلِكَ مَرَّ الشَّيْءُ يَمرُّ بِالْفَتْحِ مَرَارَةٌ فَهُوَ مُرٌّ، وَأَمَرَّهُ غَيْرُهُ وَمَرَّهُ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: مُسْتَمِرٌّ نَافِذٌ..."

مادة كلها تدل على القوة والشدة، والمريرة الحبل المفتول بقوة وشدة.

"قال يَمَانٌ: مَاضٍ."

تعرف المريرة يا أبو عبد الله؟ المريرة التي تفتل بقوة...

"وقال أَبُو عُبَيْدَةَ: بَاطِلٌ. وَقِيلَ: دَائِمٌ. قَالَ: وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ قَوِيمٍ بِمُسْتَمِرْ أَيْ بِدَائِمٍ. وَقِيلَ: يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا؛ أَيْ قَدِ اسْتَمَرَّتْ أَفْعَالُ مُحَمَّدٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَا يَأْتِي بِشَيْءٍ لَهُ حَقِيقَةٌ بَلِ الْجَمِيعُ تَخْيِيلَاتٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قَدْ مَرَّ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ..."

مر يعنى سحره مر من الأرض إلى السماء. كان فيما بيننا في الأرض ثم طلع إلى السماء وإلى القمر. نسأل الله العافية.

"وَكَذَّبُوا نَبِيَّنَا {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [القمر:3] أَيْ ضَلَالَاتَهُمْ وَاخْتِيَارَاتَهُمْ. {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر:3] أَيْ يَسْتَقِرُّ بِكُلِّ عَامِلٍ عَمِلَهُ، فَالْخَيْرُ مُسْتَقِرٌّ بِأَهْلِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّرُّ مُسْتَقِرٌّ بِأَهْلِهِ فِي النَّارِ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ " مُسْتَقَرٌّ" بِفَتْحِ الْقَافِ؛ أَيْ لِكُلِّ شَيْءٍ وَقْتٌ يَقَعُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمٍ وَتَأَخُّرٍ..."

 يعنى مستقر ثابت من القرار وهو الثبوت ولا يتقدم ولا يتأخر.

"وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ { وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرّ} [القمر:3]  بِكَسْرِ الْقَافِ وَالرَّاءِ جَعَلَهُ نَعْتًا لِأَمْرٍ وَ" كُلُّ" عَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٍّ فِي أُمِّ الْكِتَابِ كَائِنٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالْعَطْفِ عَلَى السَّاعَةِ؛ الْمَعْنَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٍّ؛ أَيِ: اقْتَرَبَ اسْتِقْرَارُ الْأُمُورِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَنْ رَفَعَهُ جَعَلَهُ خَبَرًا عَنْ ( كُلُّ)."

في مثل هذا إذا تعقب أمرين متضائفين فهل يتبع المضاف أو يتبع المضاف إليه؟ عندما تقول: غلام زيد الفاضلُ، أو الفاضلِ؟ أيهما؟

طالب:.....

الشيخ: ما يجوز لا لا، هو أحدهما، ويجوز أن كلهم فاضل.

طالب: الفاضلِ.

الشيخ: الفاضلِ هذا إذا قلنا أنه تابع للثاني، وإذا قلنا تابع للأول قلن:ا الفاضلُ، والسياق هو الذي يحدد لا سيما إذا كان الإعراب بالحركات وإذا اشتركا في الإعراب كما إذا قلت: مررت بغلام زيد الفاضلِ فلا بد أن تجر لكن هو تابع لزيد أم لغلام وكلاهما مجرور؟ لابد من قرينة ترجح أحد الأمرين، لكن إذا كان الإعراب بالحروف {ويبْقىٰ وجْه ربِّك ذو} [الرحمن:27] هذا تابع للمضاف، {ويبْقىٰ وجْه ربِّك ذو} تابع للوجه الذي هو المضاف، {تبارك اسْم ربِّك ذِي} [الرحمن:78] تابع للمضاف إليه. إذا كان الإعراب بالحروف هذا ما فيه إشكال إذا اختلف إعراب المضاف والمضاف إليه، يبقى الأشكال إذا كان كل منهما مجرورًا مثل ما قلنا: مررت بغلام زيد الفاضلِ، هو مجرور على كل حال لكن مجرور تبعا للمضاف أو المضاف إليه؟ هذا يحتاج إلى قرينة وعندنا هنا (كل أَمْرٍ مُسْتَقِرٍّ) تابع للمضاف إليه، وإذا قلنا (كل أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) هو خبر عن كل.

"قَوْلُهُ تَعَالَى :َلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ} [القمر:4] أَيْ مِنْ بَعْضِ الْأَنْبَاءِ؛ فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا عَلِمَ أَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ لَهُمْ فِيهِ شِفَاءٌ. وَقَدْ كَانَ هُنَاكَ أُمُورٌ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اقْتَصَّ عَلَيْنَا مَا عَلِمَ أَنَّ بِنَا إِلَيْهِ حَاجَةً وَسَكَتَ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:  َلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ}  أَيْ جَاءَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ مِنْ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ}[القمر:4] أَيْ مَا يَزْجُرُهُمْ عَنِ الْكُفْرِ لَوْ قَبِلُوهُ. وَأَصْلُهُ مُزْتَجَرٌ فَقُلِبَتِ التَّاءُ دَالًا؛ لِأَنَّ التَّاءَ حَرْفٌ مَهْمُوسٌ وَالزَّايُ حَرْفٌ مَجْهُورٌ، فَأُبْدِلَ مِنَ التَّاءِ دَالًا تُوَافِقُهَا فِي الْمَخْرَجِ وَتُوَافِقُ الزَّايَ فِي الْجَهْرِ. وَ"مُزْدَجَرٌ" مِنَ الزَّجْرِ وَهُوَ الِانْتِهَاءُ، يُقَالُ: زَجَرَهُ وَازْدَجَرَهُ..."

كما هو معروف في تاء الافتعال أنها تبدل بحرف مناسب فأحيانا تبدل بدال كما هنا وأحيانًا تبدل بطاء مثل اصطفاء أصلها الافتعال الاصطفاء.

"يُقَالُ: زَجَرَهُ وَازْدَجَرَهُ فَانْزَجَرَ وَازْدَجَر، وَزَجَرْتُهُ أَنَا فَانْزَجَرَ أَيْ كَفَفْتُهُ فَكَفَّ، كَمَا قَالَ: 

               فَأَصْبَحَ مَا يَطْلُبُ الْغَانِيَاتُ                 مُزْدَجَرًا عَنْ هَوَاهُ ازْدِجَارَا 

 وَقُرِئَ " مُزَّجَرٌ " بِقَلْبِ تَاءِ الِافْتِعَالِ زَايًا وَإِدْغَامِ الزَّايِ فِيهَا؛ حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [القمر:5] يَعْنِي الْقُرْآنَ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ "مَا" مِنْ قَوْلِهِ: {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ}. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ..."

مزدجر مثل مدكر تبدل تاء الافتعال بحرف مماثل ثم يبدل هذا الحرف بالحرف الأصلي. مدكر  الادكار وهنا مزدجر الازدجار.   

"وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ هُوَ حِكْمَةٌ {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} إِذَا كَذَّبُوا وَخَالَفُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}[يونس:101] فَ "مَا " نَفْيٌ أَيْ: لَيْسَتْ تُغْنِي عَنْهُمُ النُّذُرُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى التَّوْبِيخِ؛ أَيْ: فَأَيُّ شَيْءٍ تُغْنِي النُّذُرُ عَنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهَا، وَ"النُّذُرُ" يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَمْعُ نَذِيرٍ.  قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أَيْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ."

أي مثل الصيد يجوز أن يكون بمعنى الاصطياد ويجوز أن يكون بمعنى المصيد، وهنا يجوز أن يكون بمعنى الإنذار ويجوز بمعنى النذير جمع النذير.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [القمر:6] أَيْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. قِيلَ: هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ . وَقِيلَ: هُوَ تَمَامُ الْكَلَامِ.  ثُمَّ قَال:  {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} [القمر:6] الْعَامِلُ فِي يوْم {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} [القمر:7] أَوْ خُشَّعًا أَوْ فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ يَوْمَ ..."

(وَاذْكُرْ) يقدرها المفسرون في جميع المواضع المماثلة. إذا ورد (يوم) يعنى اذكر يوم أو يسلط عليه فعل مناسب للفعل الذي يلي هذا اليوم.

"وَقِيلَ: عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْفَاءِ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ مِنْ جَوَابِ الْأَمْرِ، تَقْدِيرُهُ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَإِنَّ لَهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي. وَقِيلَ: تَوَلَّ عَنْهُمْ يَا مُحَمَّدُ فَقَدْ أَقَمْتَ الْحُجَّةَ وَأَبْصِرْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي. وَقِيلَ: أَيْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا تَسْأَلْ عَنْهُمْ وَعَنْ أَحْوَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ."

{يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} [ القمر:6] رسمها في المصحف الفعل المضارع يدعو بالواو أو بدون واو؟ الرسم بدون واو ومثلها كثير، {ذٰلِك ما كنّا نبْغِ} [ الكهف:64] بدون ياء، وهل هو مجزوم ليحذف حرف العلة أو ما هو مجزوم؟ ليس بمجزوم لكن ما الذي حذف حرف العلة؟ الرسم فقط وعند النطق ننطق على ما يطابق العربية أو على ما يطابق الرسم؟ الآن إذا وقفت: {ذٰلِك ما كنّا نبْغِ} بدون ياء، يعني مطابقة للرسم ومخالفة للعربية، ومثلها {يَوْمَ يَدْعُ} يجوز موافقة العربية ومخالفة الرسم، أما بالنسبة للخط فلا يجوز مخالفة الرسم قولًا واحدًا، وإن دعا بعض الكتاب المعاصرين يعنى منذ سبعين أو ثمانين سنة دعوا إلى كتابة المصحف على ما يوافق الرسم الإملائي. يقول: لأن هذا يشوش على الطلاب المتعلمين إذا عُلِّموا قواعد رسم الكتابة والإملاء قواعد معتبرة عندهم ثم إذا قرأوا المصحف وجد الأمر يختلف.

طالب:.....

الشيخ: هذا ما فيه وجه. الفعل مرفوع وحرف العلة لا بد أن يثبت في العربية. هذا إشكال كبير كتب عنه كثير من الكتاب في القرن الماضي وطالبوا بكتابة المصحف بالرسم الإملائي المعروف المتفق عليه لأنه إذا رسم بالرسم المتعارف عليه ما يخطَأ في القراءة لكن إذا رسم برسم المصحف المتوارث من الصدر الأول فإن كثيرًا من القراء الشباب الذين لم يتلقوا القراءة عن أهلها يخطئون في قراءته، وسمع كلمات يعني قرأها من لا يعرف القراءة عن أهلها ومن لم يتلقى القران عن أهله قرأها خطأ.

وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: لَا تَسْأَلُ عَمَّا جَرَى عَلَى فُلَانٍ إِذَا أَخْبَرْتُهُ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ. وَقِيلَ: أَيْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ " نُكْرٌ" بِإِسْكَانِ الْكَافِ، وَضَمَّهَا الْبَاقُونَ وَهُمَا لُغَتَانِ كَعُسْرٍ وَعُسُرٍ وَشُغْلٍ وَشُغُلٍ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ الْفَظِيعُ الْعَظِيمُ..."

 وكأن الأصل التحريك بالحركة والتسكين بالتخفيف.

"وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ الْفَظِيعُ الْعَظِيمُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَالدَّاعِي هُوَ إِسْرَافِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قرءا "إِلَى شَيْءٍ نُكِرَ" بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ." 

 يعنى أُنكِر أنكره من سمعه.

"{خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ}[القمر:7] الْخُشُوعُ فِي الْبَصَرِ الْخُضُوعُ وَالذِّلَّةُ، وَأَضَافَ الْخُشُوعَ إِلَى الْأَبْصَارِ لِأَنَّ أَثَرَ الْعِزِّ وَالذُّلِّ يَتَبَيَّنُ فِي نَاظِرِ الْإِنْسَانِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ}[النازعات:9] وَقَالَ تَعَالَى: {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى:45] وَيُقَالُ: خَشَعَ وَاخْتَشَعَ إِذَا ذَلَّ. وَخَشَعَ بِبَصَرِهِ أَيْ غَضَّهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عَمْرخَاشِعًا" بِالْأَلِفِ وَيَجُوزُ فِي أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ إِذَا تَقَدَّمَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ التَّوْحِيدُ، نَحْوُ: "خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ" وَالتَّأْنِيثُ نَحْوُ : {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ}."

لأن الأبصار جمع تكسير، وجمع التكسير يجوز تذكيره وتأنيثه، مثل: قام الرجال، وقامت الرجال. التذكير على إرادة الجمع والتأنيث على إرادة الجماعة، وأما اسم الفاعل فحكمه حكم فعله لأنه يعمل فعله وتقول: "خاشعًا" و"خاشعة" مثل ما تقول: "خشع أبصارهم" مثل ما تقول: " خشعت أبصارهم.

"وَيَجُوزُ الْجَمْعُ نَحْوُ: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} قَالَ:

وَشَبَابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ

...

مِنْ إِيَادِ بْنِ نِزَارِ بن معد

"خُشَّعًا " جَمْعُ خَاشِعٍ، وَالنَّصْبُ فِيهِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي "عَنْهُمْ " فَيَقْبُحُ الْوَقْفُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ عَلَى "عَنْهُمْ ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمُضْمَرِ فِي "يَخْرُجُونَ" فَيُوقَفُ عَلَى عَنْهُمْ. وَقُرِئَ "خُشَّعٌ أَبْصَارُهُمْ" عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، كَقَوْلِهِ: وَجَدْتُهُ حَاضِرَاهُ الْجُودُ وَالْكَرَمُ.

{يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ}[القمر:7] أَيِ: الْقُبُورُ وَاحِدُهَا جَدَثٌ. {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ}[القمر:7-8] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4] فَهُمَا صِفَتَانِ فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْقُبُورِ، يَخْرُجُونَ فَزِعِينَ لَا يَهْتَدُونَ أَيْنَ يَتَوَجَّهُونَ، فَيَدْخُلُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؛ فَهُمْ حِينَئِذٍ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ لَا جِهَةَ لَهُ يَقْصِدُهَا، الثَّانِي: فَإِذَا سَمِعُوا الْمُنَادِيَ قَصَدُوهُ فَصَارُوا كَالْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ؛ لِأَنَّ الْجَرَادَ لَهُ جِهَةٌ يَقْصِدُهَا . وَ(مُهْطِعِينَ) مَعْنَاهُ مُسْرِعِينَ؛ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ ..."

ولو قيل بالعكس أنهم مباشرة بعد خروجهم من الأجداث جراد منتشر؛ لأنه قال هنا: أحدهم عند الخروج من القبور يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون فيدخل بعضهم في بعض فهم حينئذ كالفراش المبثوث. الآية عندنا: {يخْرجون مِن الْأجْداثِ كأنّهمْ جرادٌ منْتشِرٌ} [القمر:7]  و{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} متفرق هذا بعد ذلك، هو جعل ما في الآية التي معنا هو المتأخر وهو في الحقيقة هو المتقدم هو الذي بعد الخروج من الأجداث مباشرة من القبور.

"وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

   بِدِجْلَةَ دَارُهُمْ وَلَقَدْ أَرَاهُمْ                بِدِجْلَةَ مُهْطِعِينَ إِلَى السَّمَاعِ

قال الضَّحَّاكُ:  مُقْبِلِينَ. وقال قَتَادَةُ:  عَامِدِينَ. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ:  نَاظِرِينَ. وقال عِكْرِمَةُ:  فَاتِحِينَ آذَانَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. يُقَالُ: هَطَعَ الرَّجُلُ يَهْطَعُ هُطُوعًا إِذَا أَقْبَلَ عَلَى الشَّيْءِ بِبَصَرِهِ لَا يُقْلِعُ عَنْهُ؛ وَأَهْطَعَ إِذَا مَدَّ عُنُقَهُ وَصَوَّبَ رَأْسَهُ. قَالَ الشَّاعِر:

تَعَبَّدَنِي نِمْرُ بْنُ سَعْدٍ وَقَدْ أَرَى

...

ونمر بْنُ سَعْدٍ لِي مُطِيعٌ وَمُهْطِعُ

وَبَعِيرٌ مُهْطِعٌ: فِي عُنُقِهِ تَصْوِيبٌ خِلْقَةً. وَأَهْطَعَ فِي عَدْوِهِ أَيْ أَسْرَعَ. {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ}[القمر:8]".

يدل على الإصغاء لهذا الصوت ومد العنق من أجله من أجل سماع هذا الصوت، وظاهر في حالة الفزع.

"{يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَا يَنَالُهُمْ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ.  قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} ذَكَرَ جُمَلًا مِنْ وَقَائِعِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ تَأْنِيسًا لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَعْزِيَةً لَهُ. (قَبْلَهُمْ) أَيْ قَبْلَ قَوْمِكَ {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} يَعْنِي نُوحًا. قال الزَّمَخْشَرِيُّ:  فَإِنْ قُلْتَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَكَذَّبُوا بَعْدَ قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ كَذَّبُوا فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا؛ أَيْ كَذَّبُوهُ تَكْذِيبًا عَلَى عَقِبِ تَكْذِيبٍ، كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ قَرْنٌ مُكَذِّبٌ تَبِعَهُ قَرْنٌ مُكَذِّبٌ، أَوْ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الرُّسُلَ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا؛ أَيْ لَمَّا كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ جَاحِدِينَ لِلنُّبُوَّةِ رَأْسًا كَذَّبُوا نُوحًا لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الرُّسُلِ."

 أو لأنهم لما كذبوا نبيهم نوحًا كانوا بمثابة من كذب جميع الرسل، وهذا هو الحكم الشرعي أن من كفر بنبي واحد فقد كفر بالبقية.

"{وَقَالُوا مَجْنُونٌ}[القمر:9] أَيْ هُوَ مَجْنُونٌ {وَازْدُجِرَ}[القمر:9] أَيْ زُجِرَ عَنْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ بِالسَّبِّ وَالْوَعِيدِ بِالْقَتْلِ. وَقِيلَ إِنَّمَا قَالَ: وَازْدُجِرَ بِلَفْظِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ..." 

المجنون إذا زُجِر أو صُوِّت به أو ضُرِب حوله بشيء له صوت يستخف ويطيش. يريدونه من هذا النوع. نسأل الله العافية.

طالب:.....

الشيخ: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ} الواو استئنافية؟ لا لا مقول القول: مجنون وازدجر يعني ما يكفي أن يقولوا مجنون فقط، لأن المجنون قد يسكن لكن إذا ازدُجر صُوِّت به أو ضُرِب بشيء له صوت عنده استخف وطاش زيادة، تعرف وتشوف لأن الواقع يشهد بهذا، المجنون إذا صُوِّت به أو ضُرِب حوله بتنيكة أو بشيء طاش، هذا مرادهم.

طالب:.....

الشيخ: لا، هم يريدون مجموع الأمرين، مجنون يعني أمره أخف، مجنون ساكن ما عنده خلاف، لكن مجنون يحصل له هذا الزجر يعني هذا مع هذا لا شك أنه يختلف وضعه كما هو واقع المجانين، نسأل الله السلامة والعافية.

"{فَدَعَا رَبَّهُ} [القمر:10] أَيْ دَعَا عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ نُوحٌ وَقَالَ رَبِّ {أَنِّي مَغْلُوبٌ} [القمر:10] أَنِّي مَغْلُوبٌ أَيْ غَلَبُونِي بِتَمَرُّدِهِمْ {فَانْتَصِرْ} [القمر:10] أَيْ فَانْتَصِرْ لِي. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا لَا يَدْعُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ بِالْهَلَاكِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ -عز وجل- لَهُمْ فِيه. {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ} [القمر:11] ..." 

يعنى عند اليأس من استجابة قومه يعترف بأنه مغلوب، كما هو واقع كثير من المسلمين في هذه الأوقات التي نعيشها يدعون فلا مجيب ويُسلَّط عليهم الأعداء وليس بأيديهم إلا أنهم مغلوبون، فيدعون الله -جل وعلا- بالنصر فينزل النصر من عنده؛ لأنهم اعترفوا بضعفهم وتكالب الأعداء عليهم وأنهم لا حول لهم ولا قول ولا طول ولا قوة ولا حيلة، ثم ينزل النصر عليهم من الله -جل وعلا- {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}.

طالب:....

الشيخ: نعم ما يأس إلا لما نزل عليه.

وَقِيلَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا لَا يَدْعُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ بِالْهَلَاكِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ -عز وجل- لَهُمْ فِيهِ.

{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ}[القمر:11] أَيْ فَأَجَبْنَا دُعَاءَهُ وَأَمَرْنَاهُ بِاتِّخَاذِ السَّفِينَةِ.

{وَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ  بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ}  أَيْ كَثِيرٍ؛ قَالَهُ السُّدِّيُّ.  قَالَ الشَّاعِرُ:

أَعَيْنَيَّ جُودَا بِالدُّمُوعِ الْهَوَامِرِ

...

عَلَى خَيْرِ بَادٍ مِنْ مَعَدٍّ وَحَاضِر

 وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمُنْصَبُّ الْمُتَدَفِّقُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ يَصِفُ غَيْثًا

رَاحَ تَمْرِيهِ الصَّبَا ثُمَّ انْتَحَى                      فِيهِ شُؤْبُوبُ جَنُوبٍ مُنْهَمِرْ

الْهَمْرُ الصَّبُّ ؛ وَقَدْ هَمَرَ الْمَاءُ وَالدَّمْعُ يَهْمِرُ هَمْرًا . وَهَمَرَ أَيْضًا إِذَا أَكْثَرَ الْكَلَامَ وَأَسْرَعَ . وَهَمَرَ لَهُ مِنْ مَالِهِ أَيْ أَعْطَاهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ}[القمر:11] مِنْ غَيْرِ سَحَابٍ لَمْ يُقْلِعْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.  وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ:"  فَفَتَّحْنَا" مُشَدَّدَةً عَلَى التَّكْثِيرِ. والْبَاقُونَ "فَفَتَحْنَا" مُخَفَّفًا. ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهُ فَتْحُ رِتَاجِهَا وَسَعَةُ مَسَالِكِهَا.

أي أقفالها.

وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمَجَرَّةُ وَهِيَ شَرَجُ السَّمَاءِ وَمِنْهَا فُتِحَتْ {بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} قَالَهُ عَلِيٌّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا}[القمر:12]  قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ:  أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ أَنْ تُخْرِجَ مَاءَهَا فَتَفَجَّرَتْ بِالْعُيُونِ، وَإِنَّ عَيْنًا تَأَخَّرَتْ فَغَضِبَ عَلَيْهَا فَجَعَلَ مَاءَهَا مُرًّا أُجَاجًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . {فَالْتَقَى الْمَاءُ}[القمر:11]  أَيْ مَاءُ السَّمَاءِ وَمَاءُ الْأَرْضِ {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11] أَيْ عَلَى مِقْدَارٍ لَمْ يَزِدْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ؛ حَكَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. أَيْ كَانَ مَاءُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ سَوَاءً. وَقِيلَ: قُدِرَ بِمَعْنَى قُضِيَ عَلَيْهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ:  قَدَّرَ لَهُمْ إِذَا  كَفَرُوا أَنْ يَغْرَقُوا.  وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ:  كَانَتِ الْأَقْوَاتُ قَبْلَ الْأَجْسَادِ، وَكَانَ الْقَدَرُ قَبْلَ الْبَلَاءِ؛  وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ"

قُدِر يعنى في السابق. أمر مقدر عليهم قبل وجودهم وقبل أن يخلقوا.

"وَقَالَ: الْتَقَى الْمَاءُ، وَالِالْتِقَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَكُونُ جَمْعًا وَوَاحِدًا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمَا لَمَّا اجْتَمَعَا صَارَا مَاءً وَاحِدًا. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ :فَالْتَقَى الْمَاءَانِ."

يراد به جنس الماء الذي يطلق على جميع أفراده، والماء اسم جنس لا يجمع، وإنما يقولون: باب المياه (كتاب الطهارة باب المياه) يجمعونه نظرًا لتعدد أجناسه وإلا في الأصل هو اسم جنس يطلق على الكثير والقليل.

"وَقَرَأَ الْحَسَنُ: فَالْتَقَى الْمَاوَانِ  وَهُمَا خِلَافُ الْمَرْسُومِ .قال الْقُشَيْرِيُّ:  وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ " فَالْتَقَى الْمَاوَانِ" وَهِيَ لُغَةُ طَيِّئٍ. وَقِيلَ: كَانَ مَاءُ السَّمَاءِ بَارِدًا مِثْلَ الثَّلْجِ وَمَاءُ الْأَرْضِ حَارًّا مِثْلَ الْحَمِيمِ {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ}[القمر:13]  أَيْ عَلَى سَفِينَةٍ ذَاتِ أَلْوَاحٍ {وَدُسُرٍ} [القمر:13] قَالَ قَتَادَةُ:  يَعْنِي الْمَسَامِيرَ الَّتِي دُسِرَتْ بِهَا السَّفِينَةُ أَيْ شُدَّتْ؛ وَقَالَهُ الْقُرَظِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَرَوَاهُ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.  وَقَال الْحَسَنُ وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَعِكْرِمَةُ: هِيَ صَدْرُ السَّفِينَةِ الَّتِي تَضْرِبُ بِهَا الْمَوْجَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَدْسُرُ الْمَاءَ أَيْ تَدْفَعُهُ، وَالدَّسْرُ الدَّفْعُ وَالْمَخْرُ."

المخر المواخر: السفينة الماخرة.

"وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الدَّسْرُ كَلْكَلُ السَّفِينَةِ..." 

وفى أسفلها من الكلكل بالنسبة للبعير.

"وَقَالَ اللَّيْثُ:  الدِّسَارُ خَيْطٌ مِنْ لِيفٍ تُشَدُّ بِهِ أَلْوَاحُ السَّفِينَةِ  .وَفِي الصِّحَاحِ: الدِّسَارُ وَاحِدُ الدُّسُرِ وَهِيَ خُيُوطٌ تُشَدُّ بِهَا أَلْوَاحُ السَّفِينَةِ، وَيُقَالُ: هِيَ الْمَسَامِيرُ، وَقَالَ تَعَالَى: {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} وَدُسْرٌ أَيْضًا مِثْلَ عُسْرٍ وَعُسُرٍ. وَالدَّسْرُ الدَّفْعُ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْعَنْبَرِ: إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يَدْسُرُهُ الْبَحْرُ دَسْرًا أَيْ يَدْفَعُهُ. وَدَسَرَهُ بِالرُّمْحِ . وَرَجُلٌ مِدْسَرٌ ." 

العنبر الحوت الكبير الذي لا يستطاع إخراجه من قِبَل البشر إلا العدد الكبير أو يدفعه الماء ليلقيه على الساحل كما وجده الصحابة -رضي الله عنهم-.

"{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}[القمر:14]  أَيْ بِمَرْأًى مِنَّا. وَقِيلَ: بِأَمْرِنَا. وَقِيلَ: بِحِفْظٍ مِنَّا وَكِلَاءَةٍ: وَقَدْ مَضَى فِي " هُودٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّاسِ لِلْمُوَدَّعِ: عَيْنُ اللَّهِ عَلَيْكَ؛ أَيْ حِفْظُهُ وَكِلَاءَتُهُ. وَقِيلَ: بِوَحْيِنَا. وَقِيلَ: أَيْ بِالْأَعْيُنِ النَّابِعَةِ مِنَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: بِأَعْيُنِ أَوْلِيَائِنَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِحِفْظِهَا، وَكُلُّ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى يُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: أَيْ تَجْرِي بِأَوْلِيَائِنَا، كَمَا فِي الْخَبَر:ِ  مَرِضَ عَيْنٌ مِنْ عُيُونِنَا فَلَمْ تَعُدْهُ. {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ}[القمر:14]  أَيْ جَعَلْنَا ذَلِكَ ثَوَابًا وَجَزَاءً لِنُوحٍ عَلَى صَبْرِهِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ وَهُوَ الْمَكْفُورُ بِهِ؛ فَاللَّامُ فِي "لِمَنْ" لَامُ الْمَفْعُولِ لَهُ؛ وَقِيلَ: كُفِرَ أَيْ جُحِدَ؛ فَ "مَنْ " كِنَايَةٌ عَنْ نُوحٍ.  وَقِيلَ: كِنَايَةٌ عَنِ اللَّهِ وَالْجَزَاءُ بِمَعْنَى الْعِقَابِ؛ أَيْ عِقَابًا لِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ تَعَالَى."

والكفر بنوح كفر بالله -جل وعلا-، الكفر بالرسول كفر بمرسله.

"أَيْ عِقَابًا لِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كَفَرَ)  بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْفَاءِ بِمَعْنَى: كَانَ الْغَرَقُ جَزَاءً وَعِقَابًا لِمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَمَا نَجَا مِنَ الْغَرَقِ غَيْرُ عُوجِ بْنِ عُنُقٍ؛ كَانَ الْمَاءُ إِلَى حُجْزَتِهِ. وَسَبَبُ نَجَاتِهِ أَنَّ نُوحًا احْتَاجَ إِلَى خَشَبَةِ السَّاجِ لِبِنَاءِ السَّفِينَةِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ حَمْلُهَا، فَحَمَلَ عُوجٌ تِلْكَ الْخَشَبَةَ إِلَيْهِ مِنَ الشَّامِ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ، وَنَجَّاهُ مِنَ الْغَرَقِ."  

وعوج أسطورة نسجت حوله القصص والغرائب وأن طوله ثلاثة آلاف ذراع، وموسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، وقفز عشرة فأصاب كعب رجله، وأنه يأخذ السمكة من جوف البحر ويشويها بعين الشمس يرفعها للشمس تشويها. هذا الكلام لا صحة له فأطول الخلق آدم عليه السلام ستون ذراعًا كما في الحديث الصحيح:  «وما زال الخلق ينقصون» لأنه بعد آدم بآلاف السنين هو، ما زالوا في النقص حتى وصل الأمر إلى ذراع ونصف, ثلاث أذرع يعني متر ونصف في كثير من الأحوال ويزيد على ذلك قليلًا وقد ينقص.

"{وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً}[القمر:15]  يُرِيدُ هَذِهِ الْفَعْلَةَ عِبْرَةً. وَقِيلَ: أَرَادَ السَّفِينَةَ تَرَكَهَا آيَةً لِمَنْ بَعْدَ قَوْمِ نُوحٍ يَعْتَبِرُونَ بِهَا فَلَا يُكَذِّبُونَ الرُّسُلَ. قَالَ قَتَادَةُ:  أَبْقَاهَا اللَّهُ بِبَاقِرْدَى مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ عِبْرَةً وَآيَةً، حَتَّى نَظَرَتْ إِلَيْهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَكَمْ مِنْ سَفِينَةٍ كَانَتْ بَعْدَهَا فَصَارَتْ رَمَادًا ..."

الشيخ: علّق على الموضوع هذا؟

طالب:....

الشيخ: يعني يوجد شيء منها.

طالب:....

الشيخ: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا} يدل على أنها كلها {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} لمن يدكر ويعتبر ويتعظ ممن يراها، والله المستعان.

"{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[القمر:15]  مُتَّعِظٍ خَائِفٍ، وَأَصْلُهُ مُذْتَكِرٌ مُفْتَعِلٌ مِنَ الذِّكْرِ، فَثَقُلَتْ عَلَى الْأَلْسِنَةِ فَقُلِبَتِ التَّاءُ دَالًا لِتُوَافِقَ الذَّالَ فِي الْجَهْرِ وَأُدْغِمَتِ الذَّالُ فِيهَا."

يعنى مثل مزدجر الذي تقدم.

"{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:16] أَيْ إِنْذَارِي، قَالَ الْفَرَّاءُ:  الْإِنْذَارُ وَالنَّذْرُ مَصْدَرَانِ. وَقِيلَ: نُذُرٌ جَمْعُ نَذِيرٍ وَنَذِيرٌ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ كَنَكِيرٍ بِمَعْنَى الْإِنْكَار {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْر} [القمر:17] أَيْ سَهَّلْنَاهُ لِلْحِفْظِ وَأَعَنَّا عَلَيْهِ مَنْ أَرَادَ حِفْظَهُ؛ فَهَلْ مِنْ طَالِبٍ لِحِفْظِهِ فَيُعَانُ عَلَيْهِ؟ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَقَدْ هَيَّأْنَاهُ لِلذِّكْرِ، مَأْخُوذٌ مِنْ يَسَّرَ نَاقَتَهُ لِلسَّفَرِ: إِذَا رَحَلَهَا وَيَسَّرَ فَرَسَهُ لِلْغَزْوِ إِذَا أَسْرَجَهُ وَأَلْجَمَهُ."

كم من مسلم يتمنى أن يحفظ القرآن بل يتحسر ويتقطع أسى مع أن الله -جل وعلا- يسره لمن أراد أن يدكر، لكن هناك الموانع، هناك الصوارف، هناك التقصير في بذل الأسباب، فإذا وُجدت الموانع وقُصِّر في بذل السبب لن يحصل هذا ولو كان ميسرًا؛ لأنه ميسر للمدكرين {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} هذا لشخص يبذل السبب وينفي الموانع، ومن أعظم الموانع موانع الحفظ المعاصي التي بسببها قد ينسى ما حفظ فضلًا عن كونه يحفظ ما لم يحفظ.

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

...

فأرْشدني إلى ترْك المعاصي

وقال: اعلم بأن العلم نور

...

ونور الله لا يؤتاه عاصي

القرآن ميسر، لماذا الناس يتمنون ويتحصرون ويتقطعون أسى على حفظه ومع ذلك لا يحصلون؟ ومنهم من يبذل من الأسباب ما يبذل ويتعب تعبًا شديدًا وفى النهاية لا شيء، ولن يخيب أمله ولن يضيع أجره ولا سعيه، يؤجر على قدر هذا التعب لكن لا بد مع بذل الأسباب من نفي الموانع.

"وَيَسَّرَ فَرَسَهُ لِلْغَزْوِ..."

الإنسان إذا بذل السبب وحرص على انتفاء الموانع أُجِر على قدر ذلك، وإلا فكم من شخص يسعى ويتعب ويحرص ويبذل الأموال من أجل أن يحفظ أولاده القرآن وفى النهاية لا شيء، ومع ذلك تجد بعض الناس ما بذل أي سبب ثم في النهاية يدعى إلي حفل التكريم، فإذا بأولاده من الحفاظ. هو ما بذل شيئًا ولا عرف أنهم يحفظون القرآن، مشغول بأعماله وتجارته. وشخص يكلمني أنا يقول: والله ما دريت أن أولادي يحفظون إلا يوم دعيت للحفل، فإذا بهم اثنين من أولادي حفظة كامل.

طالب:.....

الشيخ: المقصود أن الله -جل وعلا- هو الذي يقسم هذه الأرزاق كغيرها من أسباب السعادة سواء كانت الدنيوية أو الأخروية.

طالب:.....

الشيخ: لا وغير يقرأ تعطيه كلمة من أي موضع يقرأ لك ما قبلها وما بعدها الصفحة التي قبلها والتي بعدها بالتنكيس بالطرد وبالعكس، هذا من تيسير القرآن.

"قَالَ:

وَقُمْتُ إِلَيْهِ بِاللِّجَامِ مُيَسِّرًا

...

هُنَالِكَ يَجْزِينِي الَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:  لَيْسَ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ كِتَابٌ يُقْرَأُ كُلُّهُ ظَاهِرًا إِلَّا الْقُرْآنَ."

ولذا جاء في وصف هذه الأمة: أناجيلها في صدورها. {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}[العنكبوت:49] وأما غيره من الكتب فلا.

"وَقَالَ غَيْرُهُ: وَلَمْ يَكُنْ هَذَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُونُوا يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ إِلَّا نَظَرًا، غَيْرَ مُوسَى وَهَارُونَ وَيُوشَعَ بْنِ نُونٍ وَعُزَيْرٍ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ-، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ افْتُتِنُوا بِعُزَيْرٍ لَمَّا كَتَبَ لَهُمُ التَّوْرَاةَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ حِينَ أُحْرِقَتْ؛ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) فَيَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ حِفْظَ كِتَابِهِ لِيَذَّكَّرُوا مَا فِيهِ؛ أَيْ يَفْتَعِلُوا الذِّكْرَ، وَالِافْتِعَالُ هُوَ أَنْ يَنْجَعَ فِيهِمْ ذَلِكَ..."

ينجع يعني ينفع.

"هُوَ أَنْ يَنْجَعَ فِيهِمْ ذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ كَالذَّاتِ وَكَالتَّرْكِيبِ فِيهِمْ. {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[القمر:17]"  

نعم لأن بعض الناس يعيش مع القرآن حتى كأنه جزء منه، وما يهتم به الإنسان ويعتني به يكون جزءًا من تركيبه. بعض الناس الذي طلب الدنيا يكون جزء منه. «يشب ابن ادم ويشب منه خصلتان: حب الدنيا وطول الأمل» فكأنها جزء منه.

"{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}  قَارِئٍ يَقْرَؤُهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ وَابْنُ شَوْذَبٍ:  فَهَلْ مِنْ طَالِبِ خَيْرٍ وَعِلْمٍ فَيُعَانُ عَلَيْهِ، وَكَرَّرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِلتَّنْبِيهِ وَالْإِفْهَامِ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اقْتَصَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْبَاءَ الْأُمَمِ وَقَصَصَ الْمُرْسَلِينَ، وَمَا عَامَلَتْهُمْ بِهِ الْأُمَمُ، وَمَا كَانَ مِنْ عُقْبَى أُمُورِهِمْ وَأُمُورِ الْمُرْسَلِينَ؛ فَكَانَ فِي كُلِّ قِصَّةٍ وَنَبَإٍ ذِكْرٌ لِلْمُسْتَمِعِ أَنْ لَوِ ادَّكَرَ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ عِنْدَ ذِكْرِ كُلِّ قِصَّةٍ بِقَوْلِهِ: { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} لِأَنَّ "هَلْ" كَلِمَةُ اسْتِفْهَامٍ تَسْتَدْعِي أَفْهَامَهُمُ الَّتِي رُكِّبَتْ فِي أَجْوَافِهِمْ وَجَعَلَهَا حُجَّةً عَلَيْهِمْ؛ فَاللَّامُ مِنْ "هَلْ" لِلِاسْتِعْرَاضِ وَالْهَاءُ لِلِاسْتِخْرَاجِ."

اللهم صل على محمد وآله وصحبه أجمعين.