شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (180)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبدهِ ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبهِ أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة اللهِ وبركاته، طابت أوقاتكم بكل خير، وأهلًا بكم إلى حلقةٍ جديدة ضمن برنامجكم "شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح". مع مطلع حلقتنا يسرُنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الدكتور
حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.
المقدم: بقي علينا جزء يسير من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في باب الحرص على الحديث، وأسلفنا الكلام معكم عن جملة من ألفاظ الحديث يا شيخ، نستكمل ما تبقى بإذن الله.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبدهِ ورسولهِ؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الحديث قال -عليه الصلاة والسلام-: «أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه أو نفسه»، وسبق السؤال عن الاكتفاء بـ "لا إله إلا الله" بحسب ما ورد في الحديث.
المقدم: نعم.
أو لا بُد من انضمام.
المقدم: محمد رسول الله.
منهم من يجعل كلمة الشهادة: "لا إله إلا الله" علم على الشهادتين اكتفاءً بالجزء الأول، فيُطلق الجزء الأول ويُراد التمام، كما تقول: قرأت ألم ذلك الكتاب أي السورة بتمامها. وقلنا في حديث «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة» هل يؤثر على هذه الآخرية قوله: محمد رسول الله أو لا يؤثر؟ يعني هل الآخرية حقيقية أو نسبية؟ إذا قلنا: حقيقة فلا بُد أن يكون آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله.
المقدم: لا إله إلا الله، ما يُضيف شيئًا.
فينتهي كلامه عند الهاء، من قوله: لا إله إلا الله، وإذا قلنا: الآخرية نسبية أو إن الكلمة علم على الجملتين قُلنا: يدخل في لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ لأنه لا بُد من الإتيان بها. وإذا قلنا: الاكتفاء بـ"لا إله إلا الله" وقوفًا عند الخبر، قُلنا هذا في حق من يشهد أن محمدًا رسول الله في حياته، وفي حق أيضًا من يأتي بالأركان، ولا يُحتاج مثلًا هذا إلى التنصيص.
المقدم: صحيح.
لأن من لا يأتي بهذه لا يوفق إلى قول: لا إله إلا الله، لتكون آخر كلامه من الدنيا، فليحذر المُفرط الذي يُمني نفسه أنه يقول: لا إله إلا الله وهو في سائر أموره على التفريط قد لا يُوفق لها، في الحديث «من قلبه أو من نفسه» هذا شك، يقول الكرماني: إنه من أبي هريرة. والعيني يقول: التعيين غير لازم؛ لا يلزم أن يكون من أبي هريرة؛ لأنه لا يوجد ما يدلُ عليه. قال: التعيين غير لازم؛ لأنه يُحتمل أن يكون من أحدٍ من الرواة ممن هو دونه، وفي رواية البخاري في الرقاق: «خالصًا من قبل نفسه».
المقدم: التعيين سواء كان من القلب أو النفس يريدون بها هل هذا التعيين؟
لا، الشك هل هو من أبي هريرة أو من غيره؛ تعيين الشاك.
المقدم: نعم.
نعم، هل هو أبو هريرة أو غيره؟ لا يوجد ما يدل على أنه أبو هريرة أو غيره. يقول ابن القيم-رحمه الله تعالى- ما حاصله: تأمل هذا الحديث «من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه». يقول: تأمل هذا الحديث كيف جعل أعظم.. ؛ كيف جعل أعظم الأسباب التي تُنال بها شفاعته -صلى الله عليه وسلم- تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين من أن الشفاعة تُنال باتخاذهم شفعاء، وعبادتهم وموالاتهم من دون الله، فقلب النبي-صلى الله عليه وسلم- ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعةِ تجريد التوحيد، فحينئذٍ يأذن اللهُ للشافع أن يشفع، ومن جهل المُشرك اعتقادهُ أن من اتخذهُ وليًّا أو شفيعًا أنه يشفع له وينفعه عند الله، كما يكونُ عند خواص الملوك والولاة تنفع من والاهم، ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحدٌ إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا من رضي قوله وعمله، كما قال تعالى في الفصل الأول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]؛ في الفصل الأولى في قوله: ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحدٌ إلا بإذنه، كما قال تعالى في هذا الفصل الأول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255].
في الفصل الثاني الذي هو لا يأذن في الشفاعة إلا من رضي قوله وعمله؛ في الفصل الثاني {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وبقي فصلٌ ثالث: وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فهذه ثلاثةُ فصول تقطعُ شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها؛ هذه الفصول الثلاثة لا يشفع عنده أحدٌ إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعةِ إلا من رضي قوله وعمله، وأيضًا في الفصل الثالث لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد الخالص، وفي شرح ابن بطال: قال المهلب: "فيه أن الحريص على الخير والعلم يبلغ بحرصه إلى أن يسأل عن غامض المسائل ودقيق المعاني؛ لأن المسائل الظاهرة إلى الناس كافةً يستوي الناس في السؤال عنها لاعتراضها في أفكارهم؛ ما يُحتاج إليه عموم الناس يسألون عنه، لكن دقائق العلم وغوامض العلم لا يسأل عنها إلا الحريص، أنت ترى بعض الناس حتى من طُلاب العلم، تجده غير مكترث، تمر عليه المسائل الدقيقة والعويصة والتي لا يفهمها، ومع ذلك لا يُعريها بالًا.
يقول: "فيه أن الحريص على الخير والعلم يبلغُ بحرصه إلى أن يسأل عن غامض المسائل ودقيق المعاني؛ لأن المسائل الظاهرة إلى الناس كافةً يستوي الناس في السؤال عنها لاعتراضها في أفكارهم، وما غمض من المسائل ولطُف من المعاني لا يسأل عنها إلا راسخٌ بحاث؛ يبعثه على ذلك الحرص فيكون ذلك سببًا إلى إثارة فائدةٍ يكونُ له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة". وأنت ترى الحرص يبلغ بصاحبهِ ما لا يبلغه الذكاء بصاحبه إذا كان غير حريص، لذلك تجد جُلَّ من يُواصل العلم، ويُحصّل ويُدرك لا تجده من أنبل الناس وأزكى الناس، كما أنهم ليسوا بأغبياء يعني عندهم...
المقدم: درجة من الذكاء.
عندهم القدرة وفيهم ملكة الحفظ والفهم، لكن قد يعتمد صاحب الذكاء الخارق على ذكائه فيغفل عن تعلم العلم، ولا يحرص على طلبه عند أهله، وقد يغتر بذكائه ثم لا يُدرك شيئًا يُذكر، والواقع يشهد بهذا. فلا بُد من الاستعداد الفطري مع الحرص، وإذا عرف الغاية التي من أجلها يتعب سهُل عليه ارتكابُ كل صعب، وفيه أن للعالم أن يتفرس في مُتعلميه؛ وفيه أن للعالم أن يتفرس في متعلميه، فيظن في كل واحدٍ مقدار تقدمهِ في فهمهِ؛ يعني يتوقع أن هذا يكون كذا، وأن هذا يكون كذا.
المقدم: يكون بارزًا في شيء معين؟
نعم، فيه أن للعالم أن يتفرس في متعلميه، فيظن في كل واحدٍ مقدار تقدمه في فهمه، وأن ينبهه على تفرسه فيه، ويُعرفه بذلك؛ ليبعثه على الاجتهاد في العلم والحرص عليه، هذا مأخوذ من ماذا؟
المقدم: لقد ظننت أن لا يسألني عليه أحدٌ غيرك.
من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث» يعني هناك مقدمات يُستدل بها على نتائج، فإذا وجدت هذه النتائج أو توقعت تفرس العالم هذه النتائج في هذا الطالب لا مانع، بل عليه أن يُخبره؛ ينبغي له أن يخبره؛ ليزداد في حرصه. وفيه أن للعالم أن يسكت إذا لم يُسأل عن العلم حتى يُسأل عنه، ولا يكون كاتمًا؛ لأن على الطالب أن يسأل، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، لكن إذا لم يُسأل عليه أن يُبيَّن، فقد أُخذ عليه العهد والميثاق بالبيان، أما إذا يُسر له من يسأل عن هذه المسألة، عن بيان هذه المسألة فيجيبه، وهذا بيان، حصل البيان،
وليس للعالمِ أن يسكت إذا رأي تغييرًا في الدين إذا علم أن ذلك لا يضره، ثم على العالم أن يُبيَّن إذا سئل فإذا لم يُبين يُسأل فقد كتم إلا أن يكون له عُذر فيُعذر؛ إذا خشي الضرر البالغ على نفسه أو على ولده فإنه فيه مندوحة.
المقدم: كما يعني يُؤثر عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه كتم بعض الأحاديث مخافة...
خشية أن...، لقد حفظت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعاءين، لكن يُظن بالوعاء الثاني بأنه مما لا تدعو الحاجة إلى نشره.
المقدم: يكون حديث أشخاص معينين، فتنًا.
نعم، قيل هذا عن بعض الحُكام بعض أوصافهم، فخشي على نفسه، ومن هذا الوعاء أيضًا ما برئت عُهدة أبي هريرة منه برواية غيره؛ لأنه إذا بُيّن العلم من جهة شخصٍ آخر خلاص لا يلزم الثاني أن يُبينه إذا قام به من يكفي.
المقدم: لكن يا شيخ، أحسن الله إليك، ما تكون بابًا واسعًا كلٌّ يدعي وصلًا به، وهو باب المصلحة، فيكتم علومًا كثيرة يقول: المصلحة في عدم إظهار هذا خصوصًا في هذا الزمن.
أولًا تقدير المصلحة ينبغي أن تكون مصلحة الدين؛ تقديم مصلحة الدين بحيث لا يكون الضرر المترتب على هذا البيان أو على هذا الإنكار أعظم، وينبغي أيضًا أن يُلاحظ الإنسان مصلحة نفسه، فإذا خشي على نفسه من إنكار منكر أو بيان أمرٍ من الأمور؛ إذا خشي فهناك مندوحة، وهذه رخصة، ومراتب الإنكار جاءت في الحديث الصحيح: «من رأى منكم منكرًا فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه»، هذه رخصة من الله-جلَّ وعلا-، وفي ذلك مندوحة.
وفيه أن الشفاعة إنما تكون في أهل الإخلاص خاصةً، وهم أهل التصديق بوحدانية الله ورسوله؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «خالصًا من قلبه أو نفسه». وفيه: جواز القسم للتأكيد، وجواز الكُنية عند الخطاب، يا أبا هريرة.
وهذا الحديث خرَّجه الإمام البخاري في موضعين.
المقدم: أين القسم يا شيخ؟
لقد.
المقدم: يعتبر قسمًا؟
قلنا اللام واقعة في جواب قسم مقدر، والعيني رجَّح أنها للتأكيد، لقد ظننت.
هذا الحديث خرَّجه الإمام البخاري في موضعين: الأول هنا في كتاب العلم، في باب الحرص على الحديث قال -رحمه الله-: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال: حدثني سليمان عن عمرو بن أبي عمرو عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه قال: قيل: يا رسول الله، الرواية التي معنا، قيل: يا رسول الله، وقالوا: إن هذه مُصحفة عن قُلت، كما في الرواية الأخرى، «من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة» الحديث، ذكره، وسبق ذكر مناسبته.
والثاني، الموضع الثاني: في كتاب الرقاق في باب صفة الجنة والنار؛ كتاب الرقاق في باب صفة الجنة والنار قال -رحمه الله-: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: قلت يا رسول الله: «من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة..» الحديث، مناسبة صفة الجنة والنار لكتاب الرقاق ظاهرة بلا شك.
المقدم: لكن مناسبة الحديث للباب.
مناسبة صفة الجنة والنار لكتاب الرقاق؛ لأنها تُرقق القلب.
المقدم: صحيح.
وتبعث على العمل؛ لأن الرقاق جمعُ رقيقة، والرقيقة هي ما يُرق له القلب فينبعث على العمل، وأما مناسبة الحديث للباب من جهة أن الحديث فيه صفةُ من يدخل الجنة وهم أهلها، الباب صفة الجنة، والحديث فيه صفة من يدخل الجنة وهم أهلها. ووصف الساكن له علاقةٌ بوصف المسكون، ولأن الشفاعة من أسباب دخول الجنة. والحديث في صفة الجنة؛ الباب في صفة الجنة، والحديث في سبب من الأسباب المُدخلة الموصلة للجنة.
والحديث خرَّجه أيضًا الإمام مسلم، فهو متفق عليه.
المقدم: لكن البخاري-رحمه الله- عنده باب للشفاعة يا شيخ في كتاب الرقاق؟
نعم.
المقدم: ما كان الأولى أن يُدخل هذا الحديث في باب الشفاعة؟
لا، عنده أبواب لكن البخاري مثل ما ذكرنا مرارًا.
المقدم: يأخذ بملحظ معين، لكن مسألة الشفاعة وما جاء فيها وإنكار بعض الطوائف لها ألم يكن الأولى..
ذكر فيها أحاديث مناسبة.
المقدم: عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوساء جُهالًا، فسألوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا».
راوي الحديث عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي الجليل تقدم ذكره مرارًا.
وهذا الحديث ترجم عليه الإمام البخاري بقوله: "بابٌ كيف يُقبض العلم؟"، وكتب عمر بن عبد العزيز- يعني تبع الترجمة- وكتب عمر بن العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاكتبه، فإني خِفتُ دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل أو لا يُقبل إلا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ولتُفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يُعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًّا، قال العيني: وجه المناسبة بين البابين- يعني باب الحرص على الحديث، وباب كيف يُقبض العلم- الباب الأول باب الحرص على الحديث، والثاني.
المقدم: كيف يقبض العلم؟
كيف يُقبض العلم.
المقدم: إذا لم يوجد الحرص قُبض العلم.
نعم. يقول: وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب السابق الحرص على الحديث الذي هو من أشرف أنواع العلوم، والمذكور في هذا الباب ارتفاع العلوم، فبينهما تقابل فتناسقا من هذه الجهة، وإنما ذُكر هذا الباب عقب الباب السابق تنبيهًا على أن يهتم؛ على أن يُهتم بتحصيل العلوم مع الحرص عليها؛ لأنها مما تُقبض وتُرفع، فتستدرك غنائمها قبل فواتها.
أقول: لا شك أن التخويف بقبض العلم، قبض العلم؛ الإخبار عن قبض العلم تخويف، وهذا التخويف بقبض العلم المُرغب فيه لا شك أنه إغراء وتحريض على طلب العلم، لاسيما علم الحديث، فيه تحريص أما الأول فيه حرص، وهذا فيه تحريص، إغراء وحث على طلب العلم ومتابعة درسهِ.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ترجمة باب كيف يُقبض العلم؟ مطابقته ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، ولما خشي الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز من دروس العلم؛ لأنه يقول: فإني خفتُ دروس العلم؛ لما خشي هذا الخليفة الراشد دروس العلم وانقراضه بقبض حُفاظه وأساطينه كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو تابعيٌ فقيه، استعمله عمر بن عبد العزيز على إمرة المدينة وقضائها؛ كتب إليه انظر ما كان أي اجمع الذي تجد عندك في بلدك، فاكتبهُ، ويُستفاد من هذا ابتداء تدوين الحديث النبوي؛ قاله الحافظ. يعني في عهد عمر بن العزيز ابتدأ التدوين ولعله التدوين الرسمي، وأما الكتابات الفردية فقد كانت موجودة قبل ذلك، الكتابات الفردية موجودة قبل ذلك؛ لأن أبا هريرة قال:...
المقدم: أن ابن عمر كان يكتب.
ذكر أنه لا أحد أكثر منه حديثًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا ما كان..
المقدم: من عبد الله.
من عبد الله بن عمر، فإنه كان يكتب ولا أكتب، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم بكتابة الخُطبة، اكتبوا لأبي شاة، وتقدم التوفيق بين هذا الأمر وبين النهي عن الكتابة؛ «لا تكتبوا شيئًا سوى القرآن»، حديث أبي سعيد «ومن كتب شيئًا غير القرآن فليمحه»، تقدم أن هذا في وقت خشية اختلاط القرآن بغيره.
المقدم: فلما استقر.
هذا فلما استقر الأمر ودُوِّن المصحف بين دفتين استمر... أُبيحت الكتابة وأُجمع عليها، وقال ابن حجر: كانوا قبل ذلك يعتمدون على الحفظ، فلما خاف عمر بن العزيز وكان على رأس المائة الأولى من ذهاب العلم بموت العلماء رأى أن في تدوينه ضبطًا له وإبقاءً، وقد روى أبو نُعيم في تاريخ أصبهان هذه القصة بلفظ: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق، انظروا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاجمعوه، يعني وما ذكره البخاري إلى جهة من الجهات يعني إلى المدينة، ولا يعني أنه لم يكتب إلى غير المدينة.
قوله: "فإني خفت دروس العلم". قال في المصباح: درس المنزل دروسًا من باب قعد عفا وخفيت آثاره، دروس العلم كونه يعفو وتخفى آثاره وينمحي ويُفقد هذا دروس العلم، وليس المراد بذلك مُدراسته ومذاكرته، فإن هذا مما يُفرح به ولا يُخاف منه؛ لأنه قد يأتي مُغرض يغيظه انتشار الخير وكثرة الدروس يقول: في البخاري يقول: إن عمر بن العزيز يقول: خفت دروس العلم، يظن أنه خاف من كثرة الدروس، لا، إن هذا قد يكون فهمًا بعيدًا جدًّا لكن..
المقدم: قد يُستغل.
قد يوجد، قد يُستغل نعم.
ولا يُقبل إلا حديثُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يعني أراد أن يُخصص؛ يخصص الكتابة بالحديث النبوي؛ وذلك خشية أن يختلط بغيره فيلتبس على المتعلمين؛ خشية أن يلتبس بغيره، يختلط بغيره فيلتبس على المتعلمين، كما نُهي عن كتابة الحديث في أول الأمر؛ لئلا يلتبس بالقرآن، "ولتفشوا العلم" أمرٌ من الإفشاء وهو الإظهار والإشاعة، اللام هذه لام الأمر، والفرق بينها وبين لام التعليل أن اللام هذه ساكنة لام الأمر. ولام التعليل مكسورة، ما قال: لَتُفشوا العلم، ولِتفشوا، لو نظرنا إلى قوله -جلَّ وعلا-: {وَلِتَصْغَى} [الأنعام:113] اللام هذه إيش؟
المقدم: مكسورة.
مكسورة، إذًا هي لام تعليل وليست لام أمر، لو كانت لام أمر صارت ساكنة ولْتصغى، وحذفت الألف حرف العلة، "ولتجلسوا" بصيغة الأمر أيضًا من الجلوس، "ولتجلسوا حتى يُعلم من لا يعلم" أمر بالتدريس، هذا أمرٌ من الخليفة بالتدريس، حتى يُعلم من لا يعلم، حتى يُشاع العلم بين الناس، فيعلمه الجُهال، "فإن العلم لا يهلك" أي لا يضيع حتى يكون سرًّا أي خُفية، لماذا؟
لأن الذي يُعلم سرًّا أولًا لا يخلو إما أن يكون يُعلم الناس شيئًا..
المقدم: فيه خوف.
فيه دخل مما يُخشى من إثارته، فيه دخل فيَخشى هذا المُعلم على نفسهِ. الأمر الثاني: أن كون التعليم سرًّا بحيث لا يظهر للناس، من يُرشد هذا المعلم إذا أخطأ ووقع في هفوةٍ أو زلة؟! وهو يُعلم سرًّا، لكن إذا علم جهرًا وجد من يرد عليه، ووجد من يُناقشه.
المقدم: هذا على اعتبار بلاد المسلمين يا شيخ أم لا؟
معروف نعم، لكن إذا خُشي من ظالم يمنع الناس من الخير؛ يمنعهم من التعليم، يمنعهم من الصلاة، يمنعهم من الحجاب، يمنعهم من شعائر الدين مثل هذا يكون ولو سرًّا.
المقدم: لأن بلاد الشيوعية ما خرج عدد كبير من طلبة العلم إلا من خلال ما يُسمى الخلوات، مدارس سرية.
بلا شك يعني إذا مُنع، لكن الأصل في بلاد المسلمين أن العلم ظاهر بينهم، وهو مما يرعاه الجميع، هذا الأصل، قال ابن بطال: في أمر عمر بن عبد العزيز بكتاب حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصةً، وأن لا يُقبل غيره الحض على اتباع السنن وضبطها، إذ هي الحُجة عند الاختلاف، وإليها يُلجأ عند التنازع، فإذا عُدمت السنن ساغ لأهل العلم النظر؛ يعني الأصل أن العالم يبني علمهُ على الكتاب والسنة، لكن إذا لم يجد في المسألة نصًّا اجتهد. فإذا عُدمت السنن ساغ لأهل العلم النظر والاجتهاد على الأصول المعروفة، وعلى الجادة المطروقة عند أهل العلم.
وفيه أنه ينبغي نشر العلم وإذاعته بين الناس؛ ليُفاد منه؛ لئلا يندرس. يقول: لئلا يندرس، قوله: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: قال الكرماني: ذكر "يقول" بلفظ المضارع حكايةً لحال الماضي واستحضارًا له؛ يعني حدَّث به بعد مدة، حدَّث به بعد مدة، فكيف يقول: وهي للاستقبال، يقول: بلفظ المضارع حكايةً لحال الماضي واستحضارًا له، وإلا فالأفضل أن يُقال: "قال"، ليُطبق سمعتُ، وكان ذلك في حجة الوداع، كما عند أحمد والطبراني من حديث أبي أُمامة.
المقدم: هذا إشكال يعني.
أين؟
المقدم: كون المفترض أن يقول: سمعت قال، وليس يقول.
لكن يقول: سمعته يقول حال، ويُبيَّن حال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقوله: سمعتُ يعني في الماضي يُبيَّن حال النبي -صلى الله عليه وسلم-.
المقدم: وهو يقول.
وهو يقول.
المقدم: إذ يقول.
ما فيه إشكال.
المقدم: ما فيه إشكال، طيب -أحسن الله إليكم- إذًا نستأذنك في أن نبدأ في ألفاظ الحديث في الحلقة القادمة بإذن الله؛ لاكتمال وقت هذه الحلقة.
أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى نهاية حلقتنا، والتي نشكر في ختامها صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، على أن نلقاكم -بإذن الله تعالى- في الحلقة القادمة، وأنتم على خير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.