شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (322)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم "شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح" في بداية لقاءنا نرحب بضيف البرنامج فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا بكم فضيلة الشيخ.
حياكم الله، وبارك فيكم، وفي الإخوة المستمعين.
المقدم: قال المصنف -رحمه الله تعالى- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: «من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر».
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،
فراوي الحديث أبو هريرة الدوسي راوية الإسلام وحافظ الأمة، تقدم ذكره مرارًا.
والحديث ترجم عليه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بقوله: باب الاستنثار في الوضوء، يقول ابن حجر: باب الاستنثار هو استفعال من النثر بالنون والثاء، وهو طرح الماء الذي يستنشقه المتوضئ، أي يجذبه بريح أنفه، لتنظيف ما في داخله، فيخرج بريح أنفه سواء كان بإعانة يده أم لا، سواء كان وضع يده على أنفه وأخرجه أو لا، وحكي عن مالك كراهية فعله بغير اليد؛ لكونه يشبه فعل الدابة، الدابة إذا أخرجت ما في أنفها بالهواء فقط لا تستعين بيد، قال: وحكي عن مالك كراهية فعله بغير اليد؛ لكونه يشبه فعل الدابة، والمشهور عدم الكراهة، وإذا استنثر بيده فالمستحب أن يكون باليسرى، وبوب عليه النسائي وأخرجه مقيدًا بها باليد اليسرى من حديث علي -رضي الله عنه-.
ويقول العيني على الترجمة: أي هذا باب في بيان الاستنثار في الوضوء، والاستنثار استفعال من النثر بالنون والثاء المثلثة، والمراد به الاستنشاق، وقد بسطنا الكلام فيه في الباب الذي قبله، تقدم.
هل الاستنثار هو الاستنشاق أو أن الاستنشاق غير الاستنثار؟ فالاستنشاق: إدخال الماء، والاستنثار: إخراجه، لاسيما وأنه جاء في بعض الروايات الجمع بينهما، ووجه المناسبة بين البابين: باب الاستنثار في الوضوء والذي قبله باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا من حيث إن المذكور في هذا الباب الذي هو الاستنثار بعض المذكور في الباب الأول، ومطابقة الحديث في قوله: «من توضأ فليستنثر»؛ لأنه قال في الحديث: «من توضأ فليستنثر» والترجمة باب الاستنثار في الوضوء فهنا مطابقة، «من توضأ فليستنثر».
يقول الكرماني: أي فليخرج الماء من الأنف بعد الاستنشاق مع ما في الأنف من مخاط وغبار وشبهه؛ لأن هذه فائدة الاستنثار، ليس المراد إدخال الماء وإخراجه فقط، إنما لإخراج ما في الأنف من مخاط وغبار وشبهه، وقيل في ذلك: لما فيه من المعونة على القراءة؛ لأن الأنف إذا كان في داخله أشياء فقد لا يستطيع الإنسان إخراج الحروف كما ينبغي من مخارجها بوضوح، قيل ذلك لما فيه من المعونة على القراءة، وتنقية مجرى النفس، الذي به التلاوة، وبإزالة ما فيه من الثفل؛ لتصح مخارج الحروف، وجاء في بعض الروايات: فليستنثر فإن الشيطان يبيت على خياشيمه، الأول علل حسية، وهذه علة معنوية، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه، وما يتعلق بالشيطان حسي أم معنوي؟
بال الشيطان في أذنه، معنوي، ولذلك بعضهم من باب المعاياة يقول: إن بول الشيطان أطهر من بول الإنسان.
المقدم: لجواز الصلاة.
نعم، بال الشيطان في أذنه لا يلزم غسلها كما يغسل أذنه من بول.. لكنه من أجل التقبيح والتشنيع كل ما يقرن بالشيطان والشياطين فلشناعته، بخلاف ما يقرن بالملائكة.
المقدم: إذًا ينجر عليه، يجري من ابن آدم مجرى الدم، ينجر عليه.
هذه أمور قد لا ندرك كنهها، والله أعلم بحقيقتها، لكن المقصود أن تأثيره في قلب الإنسان ظاهر.
يقول النووي: فيه دلالة لمذهب من يقول: الاستنشاق واجب؛ لأنه قال: «فليستنثر» اللام لام الأمر، والأصل في الأمر الوجوب، يقول النووي: فيه دلالة لمذهب من يقول: الاستنشاق واجب، لمطلق الأمر، هنا يقول: من يقول الاستنشاق واجب، والأمر الاستنثار «فليستنثر» كيف يقول: وجوب الاستنشاق؟ لأنه لا يمكن أن يحقق الاستنثار إلى بالاستنشاق، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فيه دلالة لمذهب من يقول: الاستنشاق واجب لمطلق الأمر، ومن لم يوجبه حمل الأمر على الندب، بدليل أن المأمور به حقيقة وهو الانتثار ليس بواجب بالاتفاق، بل واجب عند الحنابلة وغيرهم الاستنشاق، المضمضة والاستنشاق على ما تقدم، لكن هل يمكن الاستنشاق بدون استنثار؟
المقدم: صعبة....
أو يفعل به كما يفعل بالمضمضة يبتلعه، لا يستطيع، فيه صعوبة، لكن لو حصل هل يتم الاستنشاق مع عدم إخراج الماء؟ لأن المضمضة سبق في حدها عند بعض أهل اللغة أنها إدارة الماء داخل الفم ثم مجه، فمنهم من جعل المج من حقيقة المضمضة، فعلى هذا فالاستنثار من حقيقة الاستنشاق، ومن لم يوجبه حمل الأمر على الندب؛ بدليل أن المأمور به حقيقة وهو الانتثار ليس بواجب بالاتفاق، فإن قالوا: ففي الرواية الأخرى: (إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء، ثم لينتثر) فهذا فيه دلالة ظاهرة للوجوب، لكن حمله على الندب محتمل؛ ليجمع بينه وبين الأدلة الدالة على الاستحباب، والله أعلم.
يعني تقدم القول في حكم المضمضة والاستنشاق، وقال ابن بطال: قد أوجب بعض العلماء الاستنثار بظاهر هذا الحديث، وحمل ذلك أكثر العلماء على الندب، واستدلوا بأن غسل باطن الوجه غير مأخوذ علينا في الوضوء، الأصل في فرائض الوضوء ما جاء في آية المائدة، وما زيد عليها من نصوص السنة من فعله وقوله -عليه الصلاة والسلام-، هذه مجموعها يكون صفة الوضوء النبوي الشرعي.
لكن هل ما زاد على النص في الكتاب كما يعتبره الحنفية نسخ، والآحاد لا ينسخ المتواتر، وعلى مذهبهم لا إشكال فيه، لكن على مذهب الجمهور الذين يرون الأخذ بالزائد من فعله وقوله -عليه الصلاة والسلام- على ما في القرآن مندوحة لهم من القول به، لا مندوحة عن القول بوجوب هذه الأمور التي جاء الأمر بها في السنة.
قال ابن بطال: وقد أوجب بعض العلماء الاستنثار بظاهر هذا الحديث، وحمل ذلك أكثر العلماء على الندب، واستدلوا بأن باطن الوجه غير مأخوذ علينا في الوضوء.
على كل حال للتوفيق بين الأدلة، قد يأتي الأمر ويراد به الوجوب كما هو الأصل، وقد يأتي مرادًا به الندب؛ لصارف من الصوارف، في عمدة القاري يقول: الذين أوجبوا الاستنشاق هم: أحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، واحتجوا بظاهر الأمر، ولكنه للندب عند الجمهور؛ بدليل ما رواه الترمذي محسنًا، والحاكم مصححًا، من قوله – صلى الله عليه وآله وسلم – للأعرابي: «توضأ كما أمرك الله تعالى».
المقدم: بالآية.
يعني ظاهر الآية، «توضأ كما أمرك الله تعالى» فأحاله على الآية، وليس فيها ذكر الاستنشاق، يقول ابن حجر: أجيب عن هذا الاحتجاج للجمهور بهذا الحديث، أجيب بأنه يحتمل أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء، يعني هو مأمور بالكتاب، ومأمور على لسان النبي -عليه الصلاة والسلام-، فالأمر أعم من أن يكون في الآية، وأجيب بأنه يحتمل أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء، فقد أمر الله سبحانه باتباع نبيه – صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو المبين عن الله أمره، ولم يحكِ أحد ممن وصف وضوءه -عليه الصلاة والسلام- على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق، بل ولا المضمضة.
وهو يرد على من لم يوجب المضمضة أيضًا، من أهل العلم من يرى وجوب الاستنشاق دون المضمضة؛ لأن الذي جاء في الاستنشاق أكثر، وقد ثبت الأمر بها – يعني المضمضة – أيضًا في سنن أبي داود بإسناد صحيح، وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به، إلا لكونه لا يعلم خلافًا في أن تاركه لا يعيد، وهذا دليل قوي فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عن عطاء، وثبت عنه أنه رجع عن إيجاب الإعادة ذكره كله ابن المنذر، الآن ثبت الأمر بالمضمضة والاستنشاق، الشافعي لم يرد هذه الأحاديث، بل هي ثابتة عنده، ولم يورد ما يعارضها من النصوص، لكنه احتج على عدم وجوب الاستنشاق بكونه لا يعلم خلافًا في أن تاركه لا يعيد، وهذا دليل قوي، فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عن عطاء، وثبت عنه أنه رجع، عطاء يرى الإعادة بالنسبة لمن لم يستنشق، وثبت عنه أنه رجع عن إيجاب الإعادة، ذكره كله ابن المنذر، هل يستقيم كلام الشافعي -رحمه الله-؟
الشافعي إمام، وكلامه لا شك أنه متجه في عدم كون المضمضة والاستنشاق من فرائض الوضوء كغسل الوجه واليدين والرجلين، وفرق بين أن يكون الأمر واجبًا، وبين أن يكون فرضًا مؤثرًا، الذين يقولون بأن غسل الجمعة واجب، هل يبطلون صلاة الجمعة إذا لم يغتسل؟ لا، لم يبطلونها، لكنه يأثم، وهنا يقال: يأثم من ترك المضمضة والاستنشاق، لكن وضوءه لا يبطل، وتعقَّب العيني ابن حجر بأن القرينة الحالية.. ابن حجر حمل قوله -عليه الصلاة والسلام-: «توضأ كما أمرك الله» على ما هو أعم من المأمور به في الآية، قل هو مأمور بالآية في القرآن، ومأمور أيضًا على لسان النبي -عليه الصلاة والسلام-، «توضأ كما أمرك الله» في كتابه وفي سنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- كلامه واضح، لكن ما المتبادر إذا قيل: افعل كما أمرك الله، يعني إذا قيل: افعل كما أمرك الله ورسوله انتهى الإشكال، أمرك الله في كتابه، ورسوله في سنته، لكن إذا قيل: افعل كما أمرك الله، أو افعل كما أمرك رسوله -عليه الصلاة والسلام- فهل يقال: إن أمرك الله خاص بالكتاب، وما أمرك به الرسول خاص بالسنة، أو نقول: الأمر أعم من ذلك كما يقول ابن حجر؟
لكن العيني يقول في تعقبه للحافظ ابن حجر بأن القرينة الحالية والمقالية ناطقة صريحًا بأن المراد من قوله: «كما أمرك الله تعالى» الأمر المذكور في آية الوضوء، وليس فيها ما يدل على وجوب الاستنشاق ولا على المضمضة، فإن استدل هذا القائل على وجوبها بمواظبة النبي– صلى الله عليه وآله وسلم – عليهما من غير ترك فإنه يلزمه أن يقول بوجوب التسمية أيضًا؛ لأنه لم ينقل أنه ترك التسمية فيه، ومع هذا فهو سنة أو مستحبة عند إمام هذا القائل، هذا القائل من هو؟ ابن حجر.
المقدم: إمام هذا القائل.
إمام هذا القائل الشافعي، يقول: إذا قلت بوجوب المضمضة والاستنشاق؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- داوم عليهما، فيلزمك أن تقول بوجوب التسمية، والتسمية ليست بواجبة، وإنما سنة أو مستحبة عند إمامك الذي هو الشافعي.
ابن حجر في انتقاض الاعتراض قال: يقول: قلت لو ثبت مواظبته عليها كما ثبتت مواظبته على المضمضة والاستنشاق لأوجبها إمامنا على قاعدته، طيب حديث «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» هذا الحديث فيه كلام كثير لأهل العلم، مضعف من جمع منهم، ولو صح لما يكفي أن يقال: إن التسمية واجبة أو مستحبة أو سنة، لقال شرط على حسب تقدير المتعلَّق، لا وضوء صحيح، لا وضوء كامل، كما اختلفوا في نظائره. على كل حال يقول العيني في استدراكه على ابن حجر.
المقدم: لكن لماذا أوردت هذا المثال هنا؟
أين؟
المقدم: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله».
نعم؛ لأن هذا يقول: لو ثبتت المواظبة، هو يريد أن يلزم ابن حجر بأن المواظبة لا تكفي في الوجوب، وابن حجر يقول: المواظبة تكفي في الوجوب، قال: طيب إمامك لا يوجب التسمية، ابن حجر يقول: لو ثبتت مواظبة النبي -عليه الصلاة والسلام- على التسمية كما ثبتت مواظبته على المضمضة والاستنشاق لقال إمامنا بوجوبها، أقول: في الباب ما هو أعظم من ذلك، وهو الحديث: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله»، ولولا الكلام فيه من قبل أهل العلم لكان الأمر أعظم من أن يكون واجبًا، بل يكون شرطًا لصحة الضوء.
في المغني للإمام الموفق بن قدامة، يقول -رحمه الله تعالى-: مسألة قال – يعني الخرقي-: والفم والأنف من الوجه، يعني أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الطهارتين جميعًا، الغسل والوضوء؛ لأن من أهل العلم من يوجب المضمضة والاستنشاق في الغسل دون الوضوء، ومنهم من يوجب الاستنشاق دون المضمضة في الطهارتين، ويستدل بأن تحت كل شعرة جنابة، أولًا هذا الحديث ضعيف، ويقول: إن الأنف فيه شعر لابد من الاستنشاق؛ لترتفع هذه الجنابة، فمبنى هذا الكلام كله على حديث ضعيف، يقول ابن قدامة: يعني أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الطهارتين جميعًا، الغسل والوضوء، فإن غسل الوجه واجب فيهما، هذا هو المشهور في المذهب، وبه قال ابن المبارك وابن أبي ليلى وإسحاق، وحكي عن عطاء، وروي عن أحمد رواية أخرى في الاستنشاق وحده أنه واجب، قال القاضي: الاستنشاق..، القاضي من؟
المقدم: عياض.
لا، كتب الحنابلة يجيء عياض؟!
المقدم: إذا قال الحنابلة فالقاضي..
فالقاضي أبو يعلى، نعم. قال القاضي: الاستنشاق واجب في الطهارتين رواية واحدة، الاستنشاق واجب في الطهارتين رواية واحدة، وبه قال أبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر؛ لأن النبي– صلى الله عليه وسلم – قال: «من توضأ فليستنثر»، وفي رواية: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم ليستنثر» [متفق عليه]، ولمسلم: «من توضأ فليستنشق»، وعن ابن عباس مرفوعًا: «استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثًا»، وجاء في حديث لقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق»، لكن الأمر هل هو في أصل الاستنشاق أو للمبالغة به؟
المقدم: المبالغة.
في المبالغة، لكن الأمر بالمبالغة ألا يقتضي الأمر في الأصل؟ نعم. وعن ابن عباس مرفوعًا: «استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثًا».
على كل حال فيه ما يغني عن هذا الحديث؛ لأنه فيه كلام، وهذا أمر يقتضي الوجوب، ثم ليستنثر، فليستنشق فليستنثر كلها مقرونة بلام الأمر، وهذا أمر يقتضي الوجوب، ولأن الأنف لا يزال مفتوحًا، وليس له غطاء يستره بخلاف الفم؛ لأن الأنف يدخله الغبار بخلاف الفم، الأنف يدخله الغبار بخلاف الفم؛ لأنه يمكن إغلاقه بخلاف الفم الذي لا يمكن إغلاقه، بل لا يزال مفتوحًا، وهذا أمر يقتضي الوجوب، ولأن الأنف لا يزال مفتوحًا وليس له غطاء يستره بخلاف الفم، وهذا توجيه للرواية التي تشدد في أمر الاستنشاق دون المضمضة التي ذكرها القاضي عياض، وقال غير القاضي غير الذي ذكرها القاضي أبو يعلى.
لو قلنا: القاضي عند الحنابلة فهو أبو يعلى، واللسان يسبق إلى الجادة، عمومًا قال القاضي، قال القاضي، واشتهر القاضي عياض بذلك، واللسان يسبق إلى الجادة، يعني فائدة يذكرها أهل الحديث، ولا يستوعب كثير من طلاب العلم كنهها... يقولون: إذا جاء السند على غير الجادة فهو الصواب، يعني إذا جاءك إسناد مالك عن نافع عن ابن عمر...
المقدم: هذا الجادة.
هذا الجادة، وجاء من يروي: مالك عن نافع عن ابن عباس أيهما أصوب؟
المقدم: الذي على غير الجاد.
الذي على غير الجاد؛ لأن اللسان يسبق إلى الجادة، مثل ما قلت أنا الآن القاضي عياض، وأنا قد رددت عليك قبل قليل، في درس الموطأ وولد الأم للذكر مثل حظ...
المقدم: الذي يسبق للجادة أن يقول: حظ الأنثيين.
الطلاب كلهم قالوا: مثل حظ الأنثيين، هذه هي الجادة والصواب مثل حظ الأنثى؛ لأن أولاد الأم والإخوة لأم ذكرهم وأنثاهم سواء، فكون اللسان يسبق إلى الجادة يدل على أن ما جاء على خلافها هو المضبوط، وهو المتقن، وهو المحفوظ، وهذه فائدة تنفع طلاب الحديث في هذا الباب، وقال غير القاضي عن أحمد رواية أخرى: إن المضمضة والاستنشاق واجبان في الكبرى، مسنونان في الصغرى، يعني في الغسل واجبان، وفي الوضوء مسنونان، وهذا مذهب الثوري وأصحاب الرأي؛ لأن الكبرى يجب فيها غسل كل ما أمكن من البدن كبواطن الشعور الكثيفة، ولا يمسح فيها على الحوائل، فوجب فيها بخلاف الصغرى. وقال مالك والشافعي: لا يجبان في الطهارتين، وإنما هما مسنونان فيهما، وروي ذلك عن الحسن والحكم وحماد وقتادة وربيعة ويحيى الأنصاري والليث والأوزاعي؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «عشر من الفطرة»، وذكر منها المضمضة والاستنشاق، والفطرة السنة، وذكره لهما من الفطرة يدل على مخالفتهما لسائر الوضوء، ولأن الفم والأنف عضوان باطنان، فلا يجب غسلهما كباطن اللحية وداخل العينين، ولأن الوجه ما تحصل به المواجهة، ولا تحصل المواجهة بهما، هذا كلام المالكية والشافعية فيما ذكره الموفق بن قدامة في المغني.
ثم ذكر الموفق أدلة الوجوب ثم قال: وكونهما من الفطرة- يعني يريد أن يجيب على كلام المخالف- ثم ذكر أدلة الوجوب التي هي أدلة المذهب، وهو في الغالب يقول: ولنا، يعني يدل لنا أي لقولنا كذا، ثم قال: إجابة عما استدل به أصحاب القول الثاني من كونها من الفطرة قال: وكونهما من الفطرة لا ينفي وجوبهما، لا ينفي وجوبها؛ لاشتمال الفطرة على الواجب والمندوب، ولذلك ذكر فيها الختان، وهو واجب، فلا يعني أنها اقترنت مع مندوبات أن تكون مندوبة، ودلالة الاقتران عند أهل العلم ضعيفة، ضعيفة دلالة الاقتران، يعني هي قرنت مع مندوبات، لكن أيضًا فيها واجبات، الختان من.. القول بوجوبه ظاهر، وهو من سنن الفطرة، وإن كانوا يختلفون بالنسبة لحكمه للرجال والنساء، فمنهم من يوجبه للرجال دون النساء، ومنهم من يوجبه للجنسين.
وعلى كل حال بحث سنن الفطرة موضعه غير هذا.
المقدم: بقي معنا في الحديث طبعًا قضايا، إذًا نستكملها إن شاء الله في حلقة قادمة.
أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة في برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح، لنا لقاء بإذن الله في حلقة قادمة، وأنتم على خير، شكرًا لطيب المتابعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.