التعليق على الموافقات (1426) - 13

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:

قال المؤلف –رحمه الله-:

"من جهة مواقع الوجود، ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها.

فأما النظر الأول، فإن المصالح الدنيوية -من حيث هي موجودةٌ هنا- لا يتخلص كونها مصالح محضة، وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان وتمام عيشه، ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق، حتى يكون مُنعمًا على الإطلاق، وهذا في مجرد الاعتياد لا يكون؛ لأن تلك المصالح مشوبةٌ بتكاليف ومشاق، قَلت أو كثرت، تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها، كالأكل، والشرب، واللبس، والسكنى، والركوب، والنكاح، وغير ذلك، فإن هذه الأمور لا تُنال إلا بكدٍّ وتعب".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المؤلف –رحمه الله تعالى- يُقرر هنا في أن أمور الدنيا لا تكون خالصة من الشوائب ليس فيها مصلحة من المصالح خالصة لا يشوبها مفسدة بوجهٍ من الوجوه، وإنما الحياة لا تقوم إلا بها، وإن اعتراها ما اعتراها من نقص، والأمور التي تقوم بها الحياة خالصة من جميع الشوائب لا تكون هذه إلا في دار القرار إلا في الجنة، فالأكل الذي هو أعظم وجوه الانتفاع في الدنيا يسبقه التعب في تحصيله، ثم التعب في أثناء الأكل، وإن تلذذ به من وجه، ثم العسر أحيانًا في هضمه، ثم تأثيره على الناحية الصحية بعد ذلك، وهذا كله موجود، فإذا تأملنا الأغذية التي جاء مدحها في الكتاب والسُّنَّة، فهل تسلم من خلل؟ هل تسلم من مفاسد؟ لا تسلم وإن جاء مدحها، لا يوجد ما يُغذي البدن من أكلٍ وشرب إلا وفيه ما فيه، ولولا ذلك لما عُرف قدر الجنة، وما طلبها الطالبون، ولما تجافى عن هذه الدنيا أهل الآخرة؛ لأنه يُوجد عندهم ملاذ لا يبحثون عن غيره، نعم هذه الملاذ مهما بلغت تنقطع، لكن يبقى أن الركون إلى مثل هذه الملاذ التي لا يعتريها نقص بوجهٍ من الوجوه مما أُشربت حُبه النفوس والقلوب.

فبعض الناس يُغرم بأكلٍ معين، ثم بعد ذلك ما يلبث أن يُحرم منه ويُمنع منه من قِبل الأطباء، المفسدة راجحة، لكنه قبل ذلك أيضًا فيه مفسدة، وإن كانت مغمورة في إطار هذه المصلحة، وقُل مثل هذا في المسكن متى يتيسر للإنسان أن يعمر مسكنًا ما يعتريه شيء لا يلحقه ديون، ولا تلحقه مشقة ولو ما يُكابده من قِبل العمال والمقاولين وغيرهم لو كانت الدراهم متوفرة ولا إشكال فيها، إلا أنه مع توفرها أيضًا نقص؛ لأن الإنسان يشق عليه أن يبذل من ماله شيئًا هو نقص، لكنه مغمور في مقابل هذه المصلحة، أحيانًا قد تكون هذه المفسدة أكبر من المصلحة يُرهق نفسه، ويُحمِّل نفسه من الديون ما يشقى به بعد سكن هذا البيت إذا أضفنا إلى ذلك إلى أنه كم من شخص عمر مسكنًا على نظره، وبالغ في عمارته، وأنفق فيه الأموال الطائلة، فلم يسكنه، وسكنه غيره، وكم من شخصٍ أثث ولم يتمكن من السكنى ومَن يسكنه بعده؟ مَن الذي يسكنه بعده؟

يسكنه أحيانًا لا أقول: دائمًا، في الغالب الأولاد والأهل يسكنونه، لكن أحيانًا قد يسكنه من لا يرضاه ممن يتزوج الزوجة بعده، فعلى الإنسان أن ينتبه لهذا الأمر، ولا يركن إلى هذا الدنيا التي هذه منافعها وهذه ملذاتها، فكيف بما هو شرٌّ محض أو شرٌّ غالب؟

النكاح مثلاً أمنية لكل رجل مثلاً، وكل امرأة، كل إنسان يتمنى أن يتيسر له الزواج إما بامرأةٍ صالحة إن كان رجلاً أو برجلٍ صالح إن كانت امرأة، ثم بعد ذلك ما الذي يعتري هذا النكاح من المنغصات والمكدرات لاسيما في مثل الظروف التي نعيشها، بيوت كثيرٍ من الناس جحيم لا يُطاق، ومع ذلك يأمر الشرع به؛ لأنه لا تقوم عمارة الأرض، ولا يستمر النوع إلا به، والله المستعان.

"كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود، إذ ما من مفسدةٍ تُفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق واللطف ونيل اللذات كثير، ويدل على ذلك ما هو الأصل، وذلك أن هذه الدار وُضعت على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين".

"القبيلين" الشر والخير، المصلحة والمفسدة.

المفاسد الموجودة في هذه الدنيا يشوبها شيءٌ من المصلحة، سواءٌ كانت في أمور الدنيا أو حتى فيما يتعلق بالمنهيات، يشوبها شيء من المصلحة مما يتلذذ به الإنسان، لكن تعقبه الندامة، الإنسان قد يحتاج إلى سيارة، ثم يبحث عمن يُقرضه وقتًا طويلاً، ثم يجد من يُقرض فيوجد عنده نشوى وفرح؛ لأنه حقق مطلبًا بالنسبة له، لكن ماذا بعد ذلك؟ ما الذي يحصل بعد هذا؟ بعد هذا المطالبة بالليل والنهار والذل ذل الدِّين الذي يقول بعض أهل العلم: إن الدِّين ما دخل قلب أحد إلا خرج من العقل بقدره ما لا يعود إليه، الناس مبتلون بهذا الآن، يتساهلون ويتسامحون، ويُسرت له أمور الديون، وغالب الناس مديون، وجاء التحذير من الدِّين، وجاءت النصوص بأن الشهادة تُكفِّر كل شيء إلا الدِّين، وأن الإنسان مرتهنٌ بدينه.

المقصود أن مثل هذه الأمور ينبغي أن يُنتبه لها، وألا تكون الدنيا هي الغاية.

"فمن رام استخلاص جهةٍ فيها لم يقدر على ذلك، وبرهانه التجربة التامة من جميع الخلائق، وأصل ذلك الإخبار بوضعها على الابتلاء والاختبار والتمحيص، قال الله تعالى: { وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَيۡرِ فِتۡنَةٗ } [الأنبياء:35]  { لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا } [الملك:2] وما في هذا المعنى، وقد جاء في الحديث: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» فلهذا لم يخلص في الدنيا لأحدٍ جهةٌ خاليةٌ من شركة الجهة الأخرى".

الحديث لا يحتاج إلى توضيح؛ لأن أمور الجنة ثقيلة على النفس، وهي تكاليف، وهي إلزام ما فيه كلفة، ومع ذلكم الدين يُسر، وفي مرحلة الامتحان لابد من أن يجد المشقة المسلم والمتعبد، والمحقق للعبودية، لابد أن يجد في المرحلة الأولى مشقة، ثم بعد ذلك يرتاح بالعبادة إذا تجاوز هذه المرحلة، وعلم الله منه صدق النية وثابر وأخلص لله –جلَّ وعلا- يُعان بعد ذلك، حتى تكون مطالب الجنة التي حُفت بها تكون ملذات؛ ولذا يقول النبي –عليه الصلاة والسلام-: «أرحنا يا بلال بالصلاة»، والأول في مرحلة المجاهدة والمكابدة يُريد أن يرتاح من الصلاة إذا سمع المؤذن وقع في نفسه شيء، وأن بيده شيئًا من أمور دنياه يحتاج إلى الخلاص منه والفراغ منه، لكن إذا تجاوز مرحلة الابتلاء والامتحان وعلم الله منه –جلَّ وعلا- صدق نيته صار يترقب الأذان، وصار قلبه مُعلقًا بالمسجد ومواطن العبادة.

 وأما ما حُفت به النار فبالشهوات، والنفس تميل وترتاح إلى الشهوات، وإن كان فيها الكد والعناء، تجد المسجد على خطى من بيته ويثقل عليه، ويقول: المسجد بعيد، والجو بارد أو حار مُشمس الظهر، كيف نطلع؟ وفي العشاء والفجر بارد الجو، ومع ذلك لو ذُكِر له شيء مما حُفت به النار من شهوةٍ أو ما يتبعها تجده من السهل عليه أن يقطع المسافات وأن يتجاوز كل ما يعترضه، وهو في ذلك كله فرح مسرور؛ لأنه يُريد أن يُحقق شهوة؛ لأن النار حُفت بالشهوات، والله المستعان.

"فإذا كان كذلك، فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تُفهم على مقتضى ما غلب، فإذا كان الغالب جهة المصلحة، فهي المصلحة المفهومة عرفًا، وإذا غلبت الجهة الأخرى، فهي المفسدة المفهومة عرفًا، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبًا إلى الجهة الراجحة، فإن رجحت المصلحة، فمطلوب، ويُقال فيه: إنه مصلحة، وإذا غلبت جهة المفسدة، فمهروبٌ عنه، ويقال: إنه مفسدة، على ما جرت به العادات في مثله".

"وإذا اجتمع فيه الأمران" "ويقال: إنه مفسدة وإذا اجتمع فيه الأمران على تساوٍ، فلا يُقال فيه إنه مصلحةٌ أو مفسدة"

طالب: هذا ناقص؟

سطر كامل.

طالب: "فإن رجحت المصلحة، فمطلوب، ويُقال فيه: إنه مصلحة، وإذا غلبت جهة المفسدة، فمهروبٌ عنه، ويقال: إنه مفسدة"

بعد هذا "وإذا اجتمع فيه الأمران على تساوٍ، فلا يُقال فيه أنه مصلحةٌ أو مفسدة على ما جرت به العادات" نعم.

عندك..عندك البقية موجود.

"فإن رجحت المصلحة، فمطلوب، وإذا اجتمع فيه الأمران على تساوٍ، فلا يُقال فيه إنه مصلحةٌ أو مفسدة".

"فإن رجحت المصلحة، فمطلوب، ويُقال فيه: إنه مصلحة".

طالب: ويُقال فيه وإذا...

لا هذه بعد "ويُقال: إنه مفسدة" السقط...

طالب: "ويُقال: إنه مفسدة، وإذا اجتمع.

"وإذا اجتمع" نعم.

"ويقال: إنه مفسدة، وإذا اجتمع فيه الأمران على تساوٍ، فلا يُقال فيه إنه مصلحةٌ أو مفسدة على ما جرت به العادات في مثله، فإن خرج عن مقتضى العادات، فله نسبةٌ أخرى وقسمةٌ غير هذه القسمة".

نعم إذا أراد الإنسان أن يعمل عملاً فلينظر فيه، فإن كانت مصلحته محضة، وهذا على ما قرره المؤلف قد لا يوجد في أمور الدنيا، فليُقدِم عليه، وكذلك إذا كانت مصلحته راجحةً فليُقدِم ويكون مطلوب شرعًا، وأما إذا كانت مفسدته راجحة فليهرب منه، ولا يجوز فعله حينئذٍ، وإذا تساوى الأمران فليتوقف فيه حتى يجد المرجح، لكن تحديد المصلحة والمفسدة يحتاج إلى دقة نظر، ويحتاج إلى قلب ما اجتالته الشياطين، قلبٌ على الفطرة؛ لأن بعض الناس يرى المفسدة مصلحة، وهذا ممن نُكس قلبه فصار كالكوب مُجَخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، لكن نحتاج إلى إصلاح القلوب قبل ذلك، وأن يكون الهوى تبعًا لما جاء به النبي –عليه الصلاة والسلام-؛ لأن بعض الناس ممن فُتن بالدنيا وزخرفها يرى المصالح التي هي في الحقيقة مصالح يراها مفاسد، ويقول: لمن اجتنبها هذا مسكين محروم، والعكس يرى بعضهم المفاسد مصالح، والمصالح مفاسد، ومن نَوَّر الله قلبه حفظ قلبه من اتباع الهوى يعرف الحقائق على وجهها.

"هذا وجه النظر في المصلحة الدنيوية والمفسدة الدنيوية، من حيث مواقع الوجود في الأعمال العادية.

وأما النظر الثاني فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعًا".

من جهةٍ أخرى قد يكون العمل فيه مصلحة خاصة ومفسدة عامة، أو العكس فيه مفسدة خاصة، وفيه مفسدةٌ عامة، على سبيل المثال إنسان أُلزم بالقضاء، والسلف يهربون منه كما هو معلوم، وهو مزلة قدم، وجاء فيه ما جاء من الوعيد، بالنسبة للشخص نفسه مصلحته الخاصة مقدمة على المصلحة العامة؛ لأن الإنسان أهم ما عليه نجاة نفسه، لكن لو جاء يستشير شخصًا، وهذا المستشار مؤتمن، هل يُقدم المصلحة الخاصة أو ينظر إلى المصلحة العامة نظرًا لكفاءة هذا المستشير؟ عليه أن ينظر في المصلحة العامة، ولا يُقال: إنك لا ترضاه لنفسك، فكيف ترضاه لغيرك؟ لأن مصلحة الجماعة أولى بالمحافظة من مصلحة الفرد هذه من وجهة نظر ثانية.

"فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعًا، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد؛ ليجري قانونها على أقوم طريقٍ وأهدى سبيل، وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل المقصود على مقتضى العادات الجارية في الدنيا، فإن تبعها مفسدةٌ أو مشقةٌ، فليست بمقصودةٍ في شرعية ذلك الفعل وطلبه".

مثال ذلك الحج فيه مشقة، ولن يُبلغ كما قال الله -جلَّ وعلا-: { إِلَّا بِشِقِّ ٱلۡأَنفُسِ } [النحل:7] ومع ذلك هو مطلوب؛ لأن مصلحته راجحة، والمفسدة المترتبة عليه كـ لا مفسدة.

في المصالح العامة والولايات بعض الناس يلتبس عليه إذا أراد أن يُقدم أو يُحجم النظر في المصلحة العامة، وهي التي يجب اعتبارها، والنظر في مصلحته الخاصة، والنفس تنازع في هذا، وحظوظ النفس قد تتدخل في تقدير المصالح والمفاسد، وكثير من المشاكل التي تُعاش في العصور المتأخرة كلها أو جُلها يرجع إلى هذا، والمصلحة سمعنا تردادها كثيرًا، لكم مصلحة مَن؟

المقصود مصلحة الدين المصلحة العامة للإسلام والمسلمين هذه التي تُراعى بالدرجة الأولى، إن تبع ذلك مصالح خاصة لا تُعارض هذه المصلحة التي يجب اعتبارها ما يمنع هذا، لكن بعض الناس يتلبس عليه الأمر ويخفى عليه، وإبليس يُلبِّس عليه، يقول: إن وجودك في هذه المصلحة أو عملك هذا العمل فيه مصلحة كبيرة، وتترك المجال لمن؟ وأنت تُحقق المصلحة أكثر من غيرك، وإذا تركت وهي مصلحة خاصة المراعاة في الجملة مصلحة خاصة، ولو نظر إلى المصالح العامة فهو مأجور بلا شك، بل قد يتعين عليه إذا لم يُوجد من يقوم بالعمل مثله.

"وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد، فرفعها هو المقصود شرعًا، ولأجله وقع النهي، ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي، فهي مثلها".

في مثلها.

"على أتم وجوه الإمكان العادي، في مثلها حسبما يشهد له كل عقلٍ سليم، فإن تبعتها مصلحةٌ أو لذةٌ، فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل، بل المقصود ما غلب في المحل، وما سوى ذلك مُلغىً في مقتضى النهي، كما كانت جهة المفسدة ملغاةً في جهة الأمر".

لأنها مغمورة في المصلحة في حال الطلب، ومغمورة في المفسدة في حال النهي.

"فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتبرة شرعًا أو المفاسد المعتبرة شرعًا هي خالصةٌ غير مشوبةٍ بشيءٍ من المفاسد، لا قليلاً ولا كثيرًا، وإن تُوهم أنها مشوبة، فليست في الحقيقة الشرعية كذلك؛ لأن المصلحة المغلوبة أو المفسدة المغلوبة إنما المراد بها ما يجري في الاعتياد الكسبي من غير خروجٍ إلى زيادةٍ تقتضي التفات الشارع إليها على الجملة".

بدليل أن فاعل هذه المصلحة ينال الأجر كاملاً يعني ما يُحسم من الأجر المرتب على هذا العمل بقدر ما فيه من مفسدة، فالأجر المرتب على هذا العمل يناله فاعله كاملاً، هذا دليلٌ على أن الشارع لم يعتبر المفسدة في هذا، ومقابل ذلك العمل الذي يُطلب تركه يُرتب عليه الوزر كاملًا، وإن اعتراه ما يعتريه من بعض المصالح المغمورة فلا يُحسم من وزره فيما يُقابل المفسدة أو المصلحة المرتبة عليه المغمورة.

"وهذا المقدار هو الذي قيل: إنه غير مقصودٍ للشارع في شرعية الأحكام.

والدليل على ذلك أمران:

أحدهما: أن الجهالة المعلومة".

الجهة.

طالب: الجهة؟

المغلوبة.

قد يقول قائل: إن المرتكب للمحظور الذي يستحق العقوبة قد يُخفف عنه شرعًا من هذه العقوبة التي يستحقها، فاثنان، تصور أن رجلين ارتكبا معصية واحدة، لكن احتف بفعل أحدهما ما يقتضي التخفيف، واحتف بفعل الآخر ما يقتضي التشديد، فحُكِم على هذا بأربعين جلدة، وهذا بثلاثين جلدة، لماذا لا يصير الحكم واحدًا؟ إن قررنا أن المفاسد والمصالح المغمورة لا اعتبار لها في الشرع، نقول: هذه أمور اجتهادية تخضع للزيادة والنقص بحسب الاجتهاد، لكن ما يُقال: والله هذا زانٍ محصن، احتف بفعله كذا يُخفف عنه الرجم أو زانٍ غير محصن يُجلد تسعين جلدة بدل مائة لا، الأمور المقدرة شرعًا التي لا تخضع للاجتهاد هذا حكمها، ولو احتف بها شيء من المصالح.

افترض أن هذا أحسن إلى هذه العائلة، وأفاض إليها من الإحسان والإغداق والإكرام، ويتعاهدهم بالنفقة وكل ما يحتاجونه، فزنى ببنتهم مثلاً، والآخر لا، يؤذيهم ويجلب إليهم الإشكالات الكبيرة والضرر الكبير وزنى ببنتهم، نقول: هذا يُجلد ستين، وهذا مائة وسبعين؟ لا، هذا غير منظور له في الشرع، هذه المصالح والمفاسد مغمورة في بحر ما ارتكباه.

"والدليل على ذلك أمران:

أحدهما: أن الجهة المغلوبة لو كانت مقصودةً للشارع -أعني: معتبرةً عند الشارع- لم يكن الفعل مأمورًا به بإطلاق، ولا منهيًا عنه بإطلاق، بل كان يكون مأمورًا به من حيث المصلحة، ومنهيًا عنه من حيث المفسدة، ومعلومٌ قطعًا أن الأمر ليس كذلك.

وهذا يتبين في أعلى المراتب في الأمر والنهي، كوجوب الإيمان وحرمة الكفر، ووجوب إحياء النفوس ومنع إتلافها، وما أشبه ذلك، فكان يكون الإيمان الذي لا أعلى منه في مراتب التكليف منهيًّا عنه، من جهة ما فيه من كسر النفس من إطلاقها".

مِن أم عن؟

طالب: عن إطلاقها؟

بعض النسخ عن، وبعضها من.

"وقطعها عن نيل أغراضها وقهرها تحت سلطان التكليف الذي لا لذة فيه لها، وكان الكفر الذي يقتضي إطلاق النفس من قيد التكاليف، وتمتعها بالشهوات من غير خوف، مأمورًا به أو مأذونًا فيه؛ لأن الأمور الملذوذة والمُخرجة عن القيود القاهرة مصلحةٌ على الجملة، وكل هذا باطلٌ محض، بل الإيمان مطلوبٌ بإطلاق، والكفر منهيّ عنه بإطلاق".

ولو لحق المؤمن شيء من الأذى مأمور به ولو لحقه شيء من المفاسد التي هي المغمورة في بحاره، وبالعكس الكفر ولو ترتب عليه مصلحة، فالإيمان مأمورٌ به بإطلاق؛ لأن مصلحته مُحققة ومفسدته مغمورة كأنها لا وجود لها.

"فدل على أن جهة المفسدة".

فدل هذا.

طالب: فدل ذلك؟

فدل هذا.

"فدل هذا على أن جهة المفسدة بالنسبة إلى طلب الإيمان، وجهة المصلحة بالنسبة إلى النهي عن الكفران غير معتبرةٍ شرعًا، وإن ظهر تأثيرها عادةً وطبعًا.

والثاني: أن ذلك لو كان مقصود الاعتبار شرعًا، لكان تكليف العبد كله تكليفًا بما لا يطاق، وهو باطلٌ شرعًا".

لو كان هذا الاعتبار مقصودًا شرعًا بأن تكون الأعمال مصالح محضة خالية عن المفاسد، والمفاسد المنهي عنها مفاسد محضة خالية عن المصالح إذا كان هذا تكليفًا بما لا يُطاق؛ لأنه إذا أمرنا الله –جلَّ وعلا- بالصلاة، والصلاة تشغل من عمر الإنسان وقت يُمكن أن يصرف هذا الوقت في نفعٍ متعدٍّ مثلاً، ويُمكن أن يصرف هذا الوقت في نوافل يتعدى نفعها، فلا شك أن هذا الوقت الذي شُغل بالصلاة حبس عن النفع الآخر، فلا يستطيع أحد أن يُوجد مصلحة لا تعوقه عن مصالح أخرى، وكون هذا العمل يعوقه عن المصالح مفسدة، يعني كونه لا يحصل على جميع المصالح في آنٍ واحد مفسدة، لكن هذه المفاسد مغمورة في بحار ما أُمِر به شرعًا، إذا لا يتصور أن يعمل الإنسان جميع الأعمال في آنٍ واحد لاسيما الأعمال التي لا يمكن اجتماعها، أما ما يمكن اجتماعه يمكن أن يصوم ويحج ويصلي ما فيه تعارض، نعم يمكن هذا كله، لكن ما يمكن أن يجمع بين ما يتنافى فعله مع الآخر.

"أما كون تكليف ما لا يُطاق باطلاً شرعًا، فمعلومٌ في الأصول، وأما بيان المُلازمة".

ويدل له آخر سورة البقرة.

"وأما بيان المُلازمة فإن الجهة المرجوحة مثلاً مضادةٌ في الطلب للجهة الراجحة، وقد أُمر مثلاً بإيقاع المصلحة الراجحة، لكن على وجهٍ يكون فيه منهيًّا عن إيقاع المفسدة المرجوحة، فهو مطلوبٌ بإيقاع الفعل، ومنهيٌّ عن إيقاعه معًا، والجهتان غير منفكتين".

مع اتحاد الجهة، يعني في هذه الدقائق التي تقضي فيها الصلاة أو تؤدي فيها الصلاة، صلاة الظهر مثلاً عشر دقائق بإمكانك في هذه العشرة دقائق أن تعمل أعمالًا خيرية تُثاب عليها، لكنك محجوبٌ عن فعلها بأداء ما هو أوجب منها، فكون الصلاة هذه العشرة دقائق أعاقتك عن فعل مصلحة مفسدة، لكن أين هذه المفسدة من تحقيق المصلحة المرتبة على الأمر بالصلاة، وهكذا ينبغي أن يكون النظر عند طالب العلم دقيق عند تعارض المصالح، قد تكون الواجبات التعارض فيها غير ظاهر، لكن المستحبات سأل واحد قبل الدرس يقول: أنا أتوضأ فسمعت الإقامة، هل أتوضأ ثلاثًا ثلاثًا أو أقتصر على مرة مرة؟ أنت إن توضأت مرة مرة حققت مصلحة تتعلق بالصلاة، وإن توضأت ثلاثًا ثلاثًا حققت مصلحة تتعلق بالوضوء؛ لأنه قد تفوتك ركعة، لكن ينبغي أن توازن بين هاتين المصلحتين، إذا فاتتك ركعة هل يفوتك بعدها صلاة جنازة مثلاً؟ بحيث لو أدركت الصلاة كاملة أدركت الصلاة على الجنازة، هل تتعرض صلاتك للنقصان بمرور الناس بين يديك إذا قضيت الركعة أو لا؟

وهذا ينبغي أن يُلاحظ في الحرمين في مكة والمدينة، في مواطن الزحام ينبغي أن يُلاحظ، فبعض الناس يقول: أنا أريد أن أقرب من الإمام هذا أفضل بلا شك، لكن إذا كان قربك من الإمام يفوت عليك ركعة أو ركعتين وفاتتك صلاة الجنازة مثلاً، وتعرضت لمرور الناس بين يديك وحصل الخلل في صلاتك وازن بين المصالح، فمثل هذه الأمور تحتاج إلى دقة نظر.

"والجهتان غير منفكتين لِما تقدم من أن المصالح والمفاسد غير متمحضة، فلابد في إيقاع الفعل أو عدم إيقاعه من توارد الأمر والنهي معًا".

يعني على جهةٍ واحدة، وحينئذٍ يكون من التكليف ما لا يُطاق.

"فقد قيل له: افعل ولا تفعل لفعلٍ واحد، أي: من وجهٍ واحدٍ في الوقوع، وهو عين تكليف ما لا يُطاق".

يعني في الأخبار لو قال زيد جاء أو قال شخص: جاء زيدٌ الطويل القصير، وهو يقصد في قامته فقط من جهةٍ واحدة هذا ممكن أو غير ممكن؟ غير ممكن إذا قصد جهة واحدة مع اتحاد الجهة، لكن لو انفكت الجهة نعم طويل في قامته قصير في عمره، أو العكس مثلاً، لكن إذا قصد جهتين منفكتين بينهما خفاء بحيث يلتبس على السامع هذا إذا كان كبير السن وقصير القامة يظهر هذا للرائي، لكن لو قال مثلاً: جاء زيدٌ الطويل القصير، ولحظ السامع أن فيه قِصرًا في قامته، وقِصرًا في عمره، لكن المتكلم لاحظ أمرًا خفيًّا مثل البركة في عمره، مثل هذا ليس من البلاغة ولا من الفصاحة أن يُركن إلى مثل هذا الخفاء، كالبخر بالنسبة للأسد، لو جاء شخص أجبن الناس أو من أجبن الناس، ثم قال: جاء أسدٌ، ماذا لاحظ المتكلم؟ أنه يُشبه الأسد في الرائحة التي تبعث منه، والأسد أبخر، وهذا فيه شيء من هذا، ولا يُعرف بين الناس بهذا كان التعبير عنه بهذا ضعيفًا.

"لا يقال: إن المصلحة قد تكون غير مأمورٍ بها، ولكن مأذونًا فيها، فلا يجتمع الأمر والنهي معًا، فلا يلزم المحظور.

لأنَّا نقول: إن هذا لا يطرد في جميع المصالح".

نعم الأمر والنهي ضدان، لكن النهي والإباحة مثلاً إن المصلحة قد تكون غير مأمور بها، ولكن مأذونًا فيها، يعني في حكم المباح، فلا يجتمع الأمر والنهي معًا، اجتمع النهي مع الإباحة، فلا يلزم المحظور لعدم التضاد، وقُل مثل هذا فيما لو حصل الإذن مع الوجوب هل يُتصور في فعلٍ واحد من جهةٍ واحدة أن يكون مأمورًا به مأذونًا في تركه؟ إلا في الواجب الكفائي هو مأمور به من جهة انفكت الجهة، الآن الواجب على الكفاية مأمور به، وتأثم الأمة لو تركته، كل من علم به يأثم، لكن باعتباره قام به من يكفي، صار مأذونًا فيه بالنسبة لآخرين.

النبي –عليه الصلاة والسلام- قد ينهى عن الشيء ويفعله؛ لبيان الجواز، وقد يأمر بالشيء ولا يفعله؛ لبيان أن الأمر به لا على سبيل الإلزام، فهذا يجتمع، لكن نقول: إن الجهة منفكة.

"فإن المصلحة كما يصح أن تكون مأذونًا فيها، يصح أن تكون مأمورًا بها، وإن سلم ذلك، فالإذن مضادٌ للأمر والنهي معًا، فإن التخيير مُنافٍ لعدم التخيير، وهما واردان على الفعل الواحد، فورود الخطاب بهما معًا خطابٌ بما لا يستطاع إيقاعه على الوجه المخاطب به".

مما يدل على أن النهي يُضاد الإذن كون الإباحة تُقابل التحريم { وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ } [الأعراف:157] «الحلال بيِّن والحرام بيِّن»، فكون الإباحة تُقابل بالتحريم يدل على أنه لا يُمكن اجتماعهما من جهةٍ واحدة.

"وهو ما أردنا بيانه، وليس هذا كالصلاة في الدار المغصوبة؛ لإمكان الانفكاك بأن يصلى في غير الدار، وهذا ليس كذلك".

فيكون عليه إثم الغصب، وصلاته في غير هذه الدار صحيحة، ولا يقول أحدٌ ببطلانها.

نعم هو غير متقٍ، والله –جلَّ وعلا- يقول: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ } [المائدة:27] لا أحد من أهل العلم يأمره بإعادتها، وإنما عدم القبول هنا يُفسَّر بنفي الثواب المرتب على العبادة.

الإشكال صلاة الغاصب في الدار المغصوبة هذه الحركات التي أُديت في هذه الدار هي التي ينتابها الأمر والنهي معًا، الأمر هو مطالب بهذه الصلاة، لكنه منهي عن الحركة في هذه الدار التي اغتصبها؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه.

"فإن قيل: إن هذا التقدير مشيرٌ لما ذهب إليه الفلاسفة ومن تبعهم".

عندنا يقول: "فإن قيل: إن هذا التقرير".

طالب: التقريب؟

"التقرير" بالراء، يقول: هكذا في الأصل وفي دال: "التقدير"، وقال محققها: لعلها "التقرير". يعني ما قُرر سابقًا.

"فإن قيل: إن هذا التقرير مشيرٌ لما ذهب إليه الفلاسفة ومن تبعهم من أن الشر ليس بمقصود الفعل، وإنما المقصود الخير، فإذا خلق الله تعالى خلقًا ممتزجًا خيره بشره، فالخير هو الذي خُلق الخلق لأجله، ولم يُخلق لأجل الشر، وإن كان واقعًا به، كالطبيب عندهم إذا سقى المريض الدواء المُر البشع المكروه، فلم يسقه إياه لأجل ما فيه من المرارة والأمر المكروه، بل لأجل ما فيه من الشفاء والراحة، وكذلك الإيلام بالفصد والحجامة وقطع العضو المتأكل".

المتآكل.

هذا بالنظر إلى قصد الفاعل، الفاعل لاسيما إذا كان فعله بمن يُحبه ويُشق عليه لا يقصد إيذائه، لكن قد يقصد الإيذاء إذا كان بينه وبين من يُعالجه ويُطببه شيء يُريد أن يُؤلمه ويُؤذيه مع كونه يُريد شفاءه، فهذا موجود.

والصنف الثالث عكس الأول الذي هدفه الأذى، وهذا يوجد لاسيما مع الاختلاف أو مع الإحن والعدوات المترتبة عن اختلاف الأديان أو الأعراق أو الأجناس أو ما أشبه ذلك.

يعني كما سمعنا عن الطبيب والممرضات الذين حقنوا الأطفال بفيروس الإيدز –نسأل الله العافية-.

"إنما قصده بذلك جلب الراحة ودفع المضار، فكذلك عندهم جميع ما في الوجود من المفاسد المسببة عن أسبابها، فما تقدم شبيهٌ بهذا من حيث قلت: إن الشارع -مع قصده التشريع لأجل المصلحة- لا يقصد وجه المفسدة، مع أنها لازمةٌ للمصلحة.

وهو أيضًا مشيرٌ إلى مذاهب المعتزلة القائلين بأن الشرور والمفاسد غير مقصودة الوقوع، وأن وقوعها إنما هو على خلاف الإرادة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا".

هذا مبني على مذهب المعتزلة في وجوب رعاية الأصلح بالنسبة لله –جلَّ وعلا-، وأن عليه وجوبًا أن يرعى المصالح، عليه أن يرعى الأصلح، لكن لا شك أن المصالح مراعاة في الشريعة كرمًا من الله –جلَّ وعلا-، وأنه لا يجب عليه شيء، نعم كونه حرَّم الظلم على نفسه هذا فضل وكرم من الله –جلَّ وعلا-.

"فالجواب أن كلام الفلاسفة إنما هو في القصد الخلقي التكويني، وليس كلامنا فيه، وإنما كلامنا في القصد التشريعي، وقد تبين الفرق بينهما في موضعه من كتاب الأوامر والنواهي، ومعلومٌ أن الشريعة وُضِعت لمصالح الخلق بإطلاق حسبما تبين في موضعه، فكل ما شرع لجلب مصلحةٍ أو دفع مفسدةٍ فغير مقصودٍ فيه ما يناقض ذلك، وإن كان واقعًا بالوجود، فبالقدرة القديمة وعن الإرادة القديمة، لا يعزب عن علم الله وقدرته وإرادته شيءٌ من ذلك كله في الأرض ولا في السماء".

وصف القدرة والإرادة بالقِدم، نعم الإرادة قديمة، والقدرة قديمة أزلية مع وجوده –جلَّ وعلا-، هذا إذا صح التعبير على سبيل التجوز، يعني كان الله ومعه جميع أوصافه، كان الله ومعه جميع أوصافه لم يتجدد شيء ولاسيما من الأوصاف الذاتية، وكذلك أصل الأوصاف الفعلية قديم، قديمة النوع، لكن آحادها كالكلام مثلاً نوعه قديم، وهم يصفونه عن الأشعرية بالقِدم المطلق، يعني كان الله –جلَّ وعلا- متكلمًا، ثم بعد ذلك لم يعد يتكلم، تكلم في الأزل ولم يعد يتكلم، لكنه عند أهل الحق قديم النوع متجدد الآحاد، فإرادته كذلك متجددة، وأراد ويُريد في المستقبل، الحال والاستقبال، وعنده أنه أراد إرادة قديمة مثل الكلام، وهذا مبني على مذهب الأشعرية.

"وحكم التشريع أمرٌ آخر، له نظرٌ وترتيبٌ آخر على حسب ما وضعه، والأمر والنهي لا يستلزمان إرادة الوقوع، أو عدم الوقوع، وإنما هذا قول المعتزلة، وبطلانه مذكورٌ في علم الكلام، فالقصد التشريعي شيء، والقصد الخلقي شيءٌ آخر، لا ملازمة بينهما.

فصل:

وأما إذا كانت المصلحة أو المفسدة خارجةً عن حكم الاعتياد، بحيث لو انفردت لكانت مقصودة الاعتبار للشارع، ففي ذلك نظر، ولا بد من تمثيل ذلك ثم تخليص الحكم فيه بحول الله.

مثاله أكل الميتة للمضطر، وأكل النجاسات والخبائث اضطرارًا، وقتل القاتل، وقطع القاطع، وبالجملة العقوبات والحدود للزجر، وقطع اليد المتآكلة، وقلع الضرس الوجعة، والإيلام بقطع العروق والفصد وغير ذلك للتداوي، وما أشبه ذلك من الأمور التي انفردت عما غلب عليها لكان النهي عنها متوجهًا".

نعم لأن هذه ظروفها خاصة، ليست أمورًا اعتيادية، يعني في الظروف العادية لا يجوز أكل الميتة بحال { حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ } [المائدة:3] في الظروف العادية حينما لا يقتضي المقتضي بتر اليد أو القدم أو ما أشبه ذلك لا يجوز ذلك بحال، لكن الظروف الخاصة الخارجة عن حكم الاعتياد تؤكل الميتة عند الاضطرار، وتُقطع اليد إذا خيف من السِّرايا، وكذلك الرجل وجميع الأطراف التي تبقى بدونها الحياة، لكن هل يُفعل ذلك فيما لا تبقى معه الحياة؟ لا يُفعل؛ لأن المآل واحد.

"وبالجملة كل ما تعارضت فيه الأدلة، فلا يخلو أن تتساوى الجهتان، أو تترجح إحداهما على الأخرى.

فإن تساوتا، فلا حكم من جهة المكلف بأحد الطرفين دون الآخر، إذا ظهر التساوي بمقتضى الأدلة، ولعل هذا غير واقعٍ في الشريعة، وإن فُرض وقوعه، فلا ترجيح إلا بالتشهي من غير دليل، وذلك في الشرعيات باطلٌ باتفاق، وأما أن قصد الشارع متعلقٌ بالطرفين معًا".

إذا لابد أن يكون الترجيح مبني على دليلٍ شرعي أو قاعدة من قواعد الشرع، المقصود أنه يكون مرده إلى الشرع لا إلى التشهي؛ ولذا يُنكر جمهور أهل العلم الاستحسان، ويقول الشافعي: فمن استحسن فقد شرَّع، فلا ترجيح بالهوى، لكن أحيانًا تضيق المسالك على المجتهد، فتتساوى عنده الأقوال ولابد من العمل، فكيف يُرجِّح؟ هل يُقال: في مثل هذه الحال يسوغ له التقليد، أو يُرجِّح بغير مُرجِّح؟ وجوه الترجيح زادت عند بعضهم على المائة، وإذا تأملها الإنسان لاسيما إذا كان عنده من المعرفة بالنصوص الشرعية من الكتاب والسُّنَّة وقواعد الشريعة، وكان فقيه النفس لابد أن يجد ما يُرجِّح، قد يتوقف الإنسان في حال السعة، لكن إذا كان الأمر لابد من حسمه ولابد من العمل فيه، فإنه حينئذٍ إما أن يُقال: يُقلد في هذه المسألة أو ينظر في قواعد الترجيح، وبإمكانه أن يُرجِّح –إن شاء الله تعالى-.

"وأما أن قصد الشارع متعلقٌ بالطرفين معًا طرف الإقدام، وطرف الإحجام، فغير صحيح؛ لأنه تكليف ما لا يطاق؛ إذ قد فرضنا تساوي الجهتين على الفعل الواحد".

منهم من ينفي وجود التساوي من غير مُرجِّح حتى في الأمور العادية، لابد من مُرجِّح حتى في الأمور العادية. تسافر أو تقيم؟ أحيانًا يقرب بعضهما من بعض، المصلحة المترتبة على السفر قد يُقاومها مفسدة أو مصلحة في الحضر، فأحيانًا عند الناظر يتردد؛ ولذا يحصل بعض الناس من طبعه التردد، وبعض الناس يحصل له التردد حينًا دون آخر.

شيخ الإسلام كأنه يميل إلى أن أنه قد يُوجد في أمور الدنيا ما يحتار فيه الإنسان وحينئذٍ يفعل أيهما شاء، يقول: كاختيار أحد الطريقين والبداءة بأحد الرغيفين، أمامك رغيفان أيهما الذي تبدأ به؟ لابد من مرجِّح يقول أهل العلم، يعني هي متساوية من كل وجه يُنظر إلى جهتها تكون مُرجِّحًا، هذا يمين وهذا شمال، هذا قريب وهذا بعيد، قد يُنظر إلى هذا؟ طيب الطريقان كلاهما يؤديان إلى نقطةٍ واحدة واحد يمينًا وواحد يسارًا، والنقطة المقابلة بالمللي متساوية تروح يمينًا أم شمالًا؟

طالب: يمينًا.

معناه أنت رجَّحت بالجهة وإلا ما فيه مُرجِّح يتعلق بالطريق نفسه.

"إذ قد فرضنا تساوي الجهتين على الفعل الواحد فلا يمكن أن يؤمر به وينهى عنه معًا، ولا يكون أيضًا القصد غير تعلقٍ بواحدةٍ منهما".

غير متعلق..متعلق.

طالب: متعلقٍ بواحدةٍ؟

نعم.

"إذ قد فرضنا أن توارد الأمر والنهي معًا، وهما علمان على القصد على الجملة حسبما يأتي في موضعه -إن شاء الله تعالى- إذ لا أمر ولا نهي من غير اقتضاء".

لابد من الاقتضاء في الأمر والنهي، في الأمر اقتضاء الفعل، وفي النهي اقتضاء الكف.

"فلم يبق إلا أن يتعلق بإحدى الجهتين دون الأخرى، ولم يتعين ذلك للمكلف، فلابد من التوقف.

وأما إن ترجحت إحدى الجهتين على الأخرى، فيمكن أن يقال: إن قصد الشارع متعلقٌ بالجهة الأخرى".

متعلقٌ بالجهة الراجحة.

طالب: بالجهة الأخرى الراجحة؟

لا. "فيمكن أن يقال: إن قصد الشارع متعلقٌ بالجهة الراجحة".

طالب: الراجحة بدل الأخرى؟

لا تأتي "الأخرى" بعد سطر "بالجهة الراجحة".

طالب: بالجهة الأخرى.

لا، اترك الأخرى بين الجهة والأخرى ضع تخريجًا للسقط "الراجحة -أعني في "نظر المجتهد- وغير متعلق بالجهة الأخرى" عندك الأخرى موجودة. "وغير متعلقٌ بالجهة" بعد ذلك "الأخرى إذ لو كان".

"فيمكن أن يقال: إن قصد الشارع متعلقٌ بالجهة الراجحة -أعني في نظر المجتهد- وغير متعلق بالجهة الأخرى، إذ لو كان متعلقًا بالجهة الأخرى لما صح الترجيح، ولكان الحكم كما إذا تساوت الجهتان، فيجب الوقف".

أو التوقف.

طالب: التوقف أوجه.

فيجب التوقف.

"وذلك غير صحيحٍ مع وجود الترجيح، ويمكن أن يقال: إن الجهتين معًا عند المجتهد معتبرتان، إذ كل واحدةٍ منهما يحتمل أن تكون هي المقصودةُ للشارع".

المقصودةَ.

"أن تكون هي المقصودةَ للشارع، ونحن إنما كُلفنا بما ينقدح عندنا أنه مقصودٌ للشارع".

نعم، على الإنسان أن يعمل ويُفتي بما يدين الله به، بما يظهر له من خلال النظر في الأدلة بما يظهر له أن هذا مقصود الشارع.

ولا يُكلَّف أن يبحث عما هو مقصود في نفس الأمر؛ لأنه قد يُصيبه، وقد لا يُصيبه

"ونحن إنما كُلفنا بما ينقدح عندنا أنه مقصودٌ للشارع لا بما هو مقصوده في نفس الأمر، فالراجحة -وإن ترجحت- لا تقطع إمكان كون الجهة الأخرى هي المقصودة للشارع، إلا أن هذا الإمكان مُطَّرحٌ في التكليف إلا عند تساوي الجهتين، وغير مُطَّرحٍ في النظر، ومن هنا نشأت قاعدة مراعاة الخلاف عند طائفةٍ من الشيوخ".

بعضهم يُراعي الخلاف والخروج منه، ويجعله مُرجِّحًا، وأحيانًا يبني عليه الحكم، فيستحب العمل خروجًا من الخلاف، ويُرجِّح الترك خروجًا من الخلاف، هو برأسه ليس بدليلٍ شرعي، لكن خشية أن يقوى دليل المُخالف للمعارضة، فنكون عملنا بالاحتياط؛ فخرجنا من الاختلاف؛ خشية أن يقوى الدليل عند المُخالف لاسيما فيما يُمكن فيه الاحتياط، أما ما لا يُمكن فيه الاحتياط فلا نظر، لابد من الحسم هنا، إذا كان فريق يقول بالوجوب، وآخر يقول بالتحريم ما يمكن الاجتهاد، لكن إذا كان فريق يقول بالتحريم وفريق يقول بالكراهة نترك، إذا كان فريق يقول بالوجوب، وفريق يقول بالاستحباب أو الإباحة نفعل خروجًا من الخلاف، وهذا يُقرره أهل العلم في كثيرٍ من المسائل.

"والإمكان الأول جارٍ على طريقة المصوبين".

"على طريقة المصوبين" وأن كل مجتهد مُصيب؛ لأنه عمل بالمقدمات الشرعية، واجتهد واستفرغ، بذل جهده، واستفرغ وسعه، فهو مُصيب على كل حال، ولعل هؤلاء نظروا إلى الأجر ثبت له من الأجر بقدر إصابته، وأما المُخطئة الذين يُخطئون فريقًا، ويُصوبون آخر وإلا على هذا فهو أرجح، الذين يرون أن المصيب واحد، وما عداه مُخطئ بدليل إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجرٌ واحد.

"والثاني جارٍ على طريقة المخطئين.

وعلى كل تقدير، فالذي يُلخص من ذلك".

تلخص. "فالذي تلخص".

"فالذي تلخص من ذلك أن الجهة المرجوحة غير مقصودة الاعتبار شرعًا عند اجتماعها مع الجهة الراجحة، إذ لو كانت مقصودةً للشارع لاجتمع الأمر والنهي معًا على الفعل الواحد فكان تكليفًا بما لا يُطاق، وكذلك يكون الحكم في المسائل الاجتهادية كلها، سواءٌ علينا أقلنا: إن كل مجتهدٍ مصيبٌ أم لا، فلا فرق إذا بين ما كان من الجهات المرجوحة جاريًا على الاعتياد أو خارجًا عنه".

جاريةً.

طالب: جاريةً؟

نعم، لكن خارجًا موجودة، فلابد إما أن يُقال: جاريةً أو خارجةً، أو جاريًا أو خارجًا، أما واحدة هكذا وواحدة هكذا ما تجيء.

طالب:.........

"جاريةً على الاعتياد أو خارجًا عنه" يعني كونهم على نسقٍ واحد أولى.

"فالقياس مستمر، والبرهان مُطلقٌ في القسمين، وذلك ما أردنا بيانه.

فإن قيل: أفلا تكون الجهة المغلوبة مقصودةً للشارع بالقصد الثاني، فإن مقاصد الشارع تنقسم إلى ذينك الضربين؟

فالجواب أن القصد الثاني إنما يثبت إذا لم يناقض القصد الأول، فإذا ناقضه، لم يكن مقصودًا بالقصد الأول ولا بالقصد الثاني، وهذا مذكورٌ في موضعه من هذا الكتاب، وبالله التوفيق".

يكفي يكفي.

هذا آخر الدروس إن شاء الله تعالى.

بالنسبة لدرس الجمعة....نعم.

طالب:........

نعم.

طالب:........

يعني هل الأفضل الحج أو التصدق بنفقاته هذا قصدك؟

طالب:........

أو توسع على المسلمين، يحج بدلًا منك واحد ما أفرض يعني ما حج؟ النصوص ما نظرت إلى مثل هذا جاءت بالحث العام حث المسلمين على الحج، فمن تيسر له ذلك ولم يحج فلا شك أنه محروم.

طالب:........

نعم.

طالب:........

على كل حال الأمر مراعًا فيه المصلحة بلا شك، ومبني على فتوى ومصلحته ظاهرة.

طالب:........

وإلا فهذا الأصل، الأصل أن ولي الأمر إذا أمر بشيءٍ مصلحته ظاهرة، وبُني ذلك على فتوى من أهل العلم الأصل أنه يُلتزم.

طالب:........

بلا شك، الصيام من أفضل الأعمال «وما من أيامٍ العمل الصالح فيهن خيرٌ وأحب إلى الله من صيام العشر» ولا الجهاد في سبيل الله كما جاء في الحديث الصحيح، فالصيام مشروع، وجاء عن بعض أزوج النبي –عليه الصلاة والسلام- أنه كان يصوم، وجاء عن عائشة في الصحيح أنه ما كان يصوم، والمثبِت مُقدَّم على النافي، ولو افترضنا أن النبي –عليه الصلاة والسلام- ما صام، فنقول: يُحمل على من كان في مثل حاله –عليه الصلاة والسلام- من تحتاجه الأمة حاجةً عامة، ويُؤثر الصوم في عطائه، نقول: لا يصوم، وما عدا ذلك يبقى بحقه الحث على الطاعات كلها، ومن أفضلها وأجلها الصيام، واحد حث على العمرة في رمضان وما اعتمر، ماذا نقول؟ نقول: ما نعتمر.

طالب: ...........

"