تنقيح الأنظار في معرفة علوم الآثار (29)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف- رحمه الله تعالى- "قال زين الدين التدليس على ثلاثة أقسام ذكر ابن الصلاح منها قسمين القسم الأول تدليس الإسناد" على كل حال التدليس كله في الإسناد، سواء كان تدليس إسقاط، أو تدليس شيوخ قال "القسم الأول تدليس الإسناد وهو أن يسقط شيخه ويروي عن شيخ شيخه وله شرطان أحدهما أن يأتي بلفظ محتمل غير كذب مثل عن فلان" إذا جاء بلفظ محتمل عن فلان، أو قال فلان، أو أن فلانا، هذه ألفاظ محتملة لكن لو أسقط شيخه وقال: حدثنا فلان فالأمر يدور بين أمرين: إما أن يكون شيخا له في الحقيقة وتثبت بذلك روايته عنه وسماعه منه، أو يقال كذاب ولا واسطة بينهما، قد يقول حدثنا ويوري بذلك يعني حدث بذلك أهل بلده أو ما أشبه ذلك كما أُثر عن الحسن البصري لكن هذا نادر "على أن يأتي بلفظ محتمل غير كذب وثانيهما أن يكون عاصره لأن شرط التدليس إيهام أنه سمع منه وإذا لم يعاصره زال التدليس" نقول لا يكفي المعاصرة في إثبات التدليس، وإنما المعاصرة ليكون الإرسال خفيًّا وليس من التدليس في شيء، إنما يكون شيخه الذي لقيه وسمع منه يروي عنه ما لم يسمعه عنه بصيغة محتمِلة "لأن شرط التدليس إيهام أنه سمعه منه وإذا لم يعاصره زال التدليس هذا هو الصحيح المشهور" لكن هذا ليس بصحيح إذًا لا فرق بين التدليس والإرسال الخفي "وروى ابن عبد البر عن بعضهم أنه لا يشترط ذلك قال ابن عبد البر فعلى هذا ما سلم من التدليس أحد لا مالك ولا غير مالك لأنهم يرسلون إرسالا ظاهرا بصيغ محتملة ومثله أن يسقط أداة الرواية ويسمي الشيخ فقط فيقول فلان وهذا يفعله أهل الحديث كثيرا قال علي بن خشرم كنا عند ابن عيينة فقال الزهري فقيل له حدثكم الزهري فسكت، ثم قال الزهري فقيل له سمعته من الزهري؟ فقال لم أسمعه من الزهري ولا ممن سمعه من الزهري حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري" مثل هذا لا شك أنه تدليس، يقول فلانا ولا يذكر أداة رواية، مثل ما ذكر في هذا المثال، لكن قد يسقط أداة الرواية ولا يكون تدليسا مثل ما يفعله النسائي مع شيخه الحارث بن مسكين، يقول الحارث بن مسكين فيما قرئ عليه وأنا أسمع، ما يذكر لا حدثنا ولا أخبرنا، يعني في الطبعات من سنن النسائي ذكروا أخبرنا الحارث بن مسكين وهذا ليس بصحيح، إنما يروي عن شيخه الحارث بن مسكين بدون صيغة بدون صيغة لماذا؟ لأن الحارث بن مسكين منع النسائي من الرواية، طرده وأقامه من الحلقة فصار النسائي يجلس وراء عمود وراء اسطوانة فيسمع منه، فيسمع القراءة فيما قرئ عليه وأنا أسمع، من ورع النسائي رحمة الله عليه أنه لا يقول حدثنا ولا أخبرنا لأنه لم يُقصد بذلك بل مُنع من ذلك، وأيضا لثقة الحارث بن مسكين وإمامته وحفظه لم يهدر هذه الأحاديث التي سمعها تُقرأ عليه فجمع بين الأمرين فليس قولهم هذا على إطلاقه "وقد مثل ابن الصلاح القسم الأول بهذا المثال ثم حكى الخلاف فيمن عرف بهذا هل يرد حديثه مطلقا أما ما لم يصرح فيه بالاتصال أو ما لم يصرح فيه بالاتصال وفيه أقوال أحدها أنه يرد مطلقا وإن صرح بالسماع لأنه مجروح والتدليس جرح يجرح به الراوي حكاه ابن الصلاح عن فريق من أهل الحديث والفقهاء وقيل إن صرح بالسماع قبل وإلا فلا وهو الصحيح" المدلسون على طبقات خمس طبقات الأولى والثانية هؤلاء احتمل الأئمة تدليسهم لإمامتهم وندرة تدليسهم بالنسبة لما رووا، هؤلاء ما يحتاج ولا يصرحون، الطبقة الثالثة عرفوا بالتدليس بكثرة يدلسون عن الثقات وعن الضعفاء وهم ثقات في الأصل فهؤلاء لا بد أن يصرحوا بالتحديث والسماع، الطبقة الرابعة هؤلاء الذين لا يدلسون إلا عن الضعفاء ولا يسلمون من الجرح فهؤلاء لا يُقبلون ولو صرحوا بالسماع ما لم يوجد ما يشهد لهم "وإن لم يصرح به فعن النووي لا يقبل اتفاقا قال الزين وهو محمول على اتفاق من لم يقبل المرسل قال الزين واعلم أن ابن عبد البر قد حكى عن أئمة الحديث أنهم قالوا يقبل تدليس ابن عيينة لأنه إذا وقف يعني تُثُبِّت منه "ممن روى هذا الحديث أنه أحال على ابن جريج ومعمر ونظرائهما وهذا ما رجحه ابن حبان قال هذا شيء ليس في الدنيا إلا لسفيان ابن عيينة فإنه كان يدلس ولا يدلس إلا عن ثقة متقن ولا يكاد يوجد لابن عيينة خبر دلس فيه إلا وقد بين سماعه عن ثقة مثل بقية، ثم مثل ذلك بمراسيل كبار الصحابة فإنهم لا يرسلون إلا عن صحابي ونص أبو بكر البزار والحافظ أبو الفتح الأزدي وأبو بكر الصيرفي من الشافعية على قبول من عرف بالتدليس عن الثقات قال زين الدين بعد حكاية قول من رد المدلَّس مطلقا والصحيح كما قال ابن الصلاح التفصيل فإن صرح بالسماع قبل وإن لم يصرح بالسماع فحكمه حكم المرسل معروف أن المراسيل مختلف فيها.

واحتج مالك كذا النعمان

 

 

 

به وتابعوهما ودانوا

 

ورده جماهر النقاد

 

 

للجهل بالساقط في الإسناد

 

لأن التدليس إسقاط مثل الإرسال لكنه إرسال وإسقاط من نوع خاص، وهو خفي بينما الإرسال الأصل فيه الظهور، أما الإرسال الخفي فهو مثل التدليس في الحكم "قال زين الدين وإلى هذا ذهب الأكثرون وممن حكاه عن جمهور أئمة الحديث والفقه والأصول شيخنا أبو سعيد العلائي في كتابه المراسيل" اسمه جامع التحصيل في أحكام المراسيل "وهو قول الشافعي وعلي بن المديني ويحيى بن معين وغيرهم قال الخطيب جمهور من يحتج بالمرسل يقبل التدليس قال الزين يعني الحافظ العراقي ومنهم من لا يقبل المدلس إذا روى بالعنعنة وهو قياس كلام أئمتنا وعلمائنا لأنهم مثلوا المرسل بقول التابعي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم أجد فيهم من ذكر العنعنة في المرسل" يقولون قال رسول الله ولا يقولون عن رسول الله، قال "ويحتمل أن يقبلوا المدلَّس بعن وإن لم يقبلوا ذلك من المرسِل؛ لأن المدلِّس قد ظهر منه قصد إيهام الصحة بخلاف المرسِل فإنه أوهم الصحة فلم يظهر منه قصد الإيهام كما تقدم" يعني ليس مجرد قصد إيهام وإنما قاله على أنه صحيح "وظاهر إطلاقهم في قبوله يعم العنعنة والله أعلم إذا عرفت هذا القسم الأول فاعلم أن في رواة الصحيحين جماعة من المشاهير بالتدليس كالأعمش وهشيم بن بشير وقتادة والثوري وابن عيينة والحسن البصري وعبد الرزاق والوليد بن مسلم والوليد بن مسلم وغيرهم".

وفي الصحيح عدة كالأعمش

 

 

 

وكهشيم بعده وفتش

 

يعني يوجد رواة الصحيح من وُصف بالتدليس "ولكن قال النووي إن ما فيهما وفي غيرهما من الكتب الصحيحة عن المدلسين بعن محمول على ثبوت سماعهم من جهة أخرى" وهذا إما لأنه وُجد التصريح بالسماع في الكتب الأخرى لاسيما في المستخرجات، ومنهم من يقول حتى لو لم يوجد إحسانا بالظن بالشيخين، ومنهم من يقول أن تلقي الأمة بالقبول لأحاديث الصحيحين كافٍ في ثبوت هذه الأحاديث التي فيها شيء من العنعنة؛ ولذا يُجزَم بخطأ من حكم على حديث بالضعف في صحيح البخاري أو مسلم كما قالوا في عنعنة أبي الزبير عن جابر وهو في الصحيح، إذا كان الحديث في الصحيحين فلا كلام لأحد "وقال الحافظ أبو محمد عبد الكريم بن حلبي" معروف بقطب الدين "في كتابه القِدْح المعلَّى قال أكثر العلماء على أن المعنعنات التي في الصحيحين منزَّلة منزلة السماع قلت ويحتمل أنهما لم يعرفا سماع ذلك المدلِّس الذي رويا عنه لكن عرفا لحديثه من التوابع ما يدل على صحته مما لو ذكراه لطال فاختارا إسناد الحديث إلى المدلَّس لجلالته وأمانته وانتفاء تهمة الضعف عن حديثه ولم يكن في التابعين الثقات الذين تابعوا المدلس من.. المدلِّس من يماثله ولا يقاربه فضلا وشهرة مثل أن يكون مدلس الحديث سفيان الثوري أو الحسن البصري أو نحوهما ويتابع على روايته عن شيخه أو شيخ شيخه ممن هو دونه من أهل الصدق ممن ليس بمدلس أو مدلِّس فإن قلت ولم حملوا صاحبي الصحيح ونحوهما من أئمة الحديث على ذلك قلت لأنه إذا ثبت عن الثقة البصير بالفن الفارس فيه" يعني الممارس له "أنه لا يقبل المدلَّس بعن وأن التدليس عنده مذموم مردود ثم رأيناه يروي أحاديث على هذه الصفة ويحكم بصحتها كان نصه على عدم قبولها يدل على أنه قد عرف اتصالها لأنه لو لم يعرف اتصالها لوقع فيما ذمه يدل على أنه قد عرف اتصالها من غير تلك الطريق بخلاف من لا يعرف مذهبه في المدلِّسين وهذا الكلام يتنزَّل منزلتين إحداهما أن يكون البخاري ومسلم ونحوهما ممن صحح أحاديث المدلسين وقد نص على أن عنعنة المدلس غير صحيحة وأن يكون قد نص على أن ذلك المدلِّس مدلِّس عنده إذ من الجائز أنه لم يعرف أنه مدلس فقبل عنعنته بناء على عدالته ففي هذه المنزلة يقوى حمل أئمة الحديث على ذلك قوة أو يقوِّي حمل أئمة الحديث على ذلك قوة تطمئن بها النفس المنزلة الثانية ألا يثبت نصهم على شيء من ذلك أو يثبت على بعض ذلك دون بعض" يثبت أنه مدلس ولم يدلس هذا الحديث أو أنه لا يثبت عنده أنه مدلِّس ويثبت عنده ذم التدليس والمدلسين "ألا يثبت نصهم على شيء من ذلك أو يثبت على بعض ذلك دون بعض ولكن يغلب على الظن مع شهرة أولئك في التدليس ومعرفة أئمة الحديث بأحوال الرجال أنهم يعرفون تدليسهم وتغلب أيضا على أنهم لا يقبلون عنعنة المدلسين لأن حفاظ الحديث ما نقلوا ذلك عن عنهم والعادة تقضي بنقل مثله عن مثلهم فهذه المنزلة دون تلك المنزلة بالقوة بكثير ومن ظن صحتها وترجحت له كان له أن يعمل بها ومن لم يحصل له ظن فله ألا يعمل بها ويختلف الناس فيها على حسب اطلاعهم على أحوال هؤلاء في كتب تواريخ الرجال لكن ليس لنا أن نحكم بتعذِّر المنزلة الأولى إلا بعد البحث التام من أهل المعرفة التامة والله سبحانه وتعالى أعلم" يعني مسلم يخفى عليه أن التدليس قادح؟ يخفى عليه؟ لا يخفى عليه، هل يخفى عليه أن أبا الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي مدلِّس؟ لا يمكن أن يخفى عليه وهو مكثر فكيف يخرِّج حديث من يعرف أنه مدلِّس ويعرف أن التدليس قادح في الراوي والمروي ومع ذلك يخرِّج أحاديثه عن جابر بكثرة إلا أنه يجزم بأنه سمعها من جابر "فهذا الوجه ذكروه وعندي وجه آخر وهو أن التدليس الصادر عن الثقات الرفعاء مثل تدليس سفيان الثوري والحسن البصري ونحوهما نوع من الضعف القريب المختلف في قبوله فهو مما ينجبر بالمتابعات" يعني فرق بين تدليس سفيان الثوري وتدليس الحسن البصري، سفيان الثوري لا يدلس إلا عن ثقة وأيضا تدليسه نادر وقليل بالنسبة لمروياته، وإمامته تقضي بأنه لا يدلس عن ضعيف، الحسن البصري رحمة الله عليه يدلس عن الثقات وعن الضعفاء فتدليسه أشد من تدليس سفيان الثوري رحمه الله "ونحوهما من الضعف القريب المختلف فيه في قبوله فهو مما ينجبر بالمتابعات" نعم حديث المدلِّس إذا كان ثقة ينجبر بالمتابعات "وقد عرفنا من طريقة مشيخة الحديث أن الضعف القريب إذا انجبر بكثرة المتابعات والشواهد ارتقى من الضعف إلى القوة قال النووي وهذا مشهور عنهم وروى النووي عن مسلم تنصيصا أنه يروي الحديث بالإسناد الضعيف لعلوه ويترك الإسناد الصحيح النازل لشهرته عند أهل عند أهل الشأن قلت وليس الإسناد الضعيف بمعنى المردود وإنما هو المشتمل على رجال من أهل العدالة والصدق لكن في حفظهم ضعف لم يبلغ مرتبة الرد كما بينته فيما تقدم" حتى مسلم- رحمه الله- تعالى بيَّن ذلك أن من يخرِّج عنهم ممن فيه كلام لا يبلغ هذا الكلام إلى مرتبة الرد؛ لأنه قد لا يجد الحديث عند عند الدرجة العليا من الحفظ والضبط والإتقان فيحتاج إلى أن ينزل إلى الدرجة الثانية.

حيث يقول جملة الصحيح لا

 

 

 

توجد عند مالك والنبلا

 

فاحتاج أن ينزل في الإسناد

 

 

إلى يزيد بن أبي زياد

 

يقول "فافهم عرف القوم" يعني اصطلاح القوم "وهذا الوجه يزداد قوة إذا ثبت معرفة المصحح لأولئك المدلسين فيما تقدم" يعني إذا تقرر عند الإمام أن التدليس قادح وأن هذا الشخص مدلِّس ثم روى عنه بالعنعنة نجزم يقينا أنه ثبت عنده سماعه لهذا الخبر، "وهذا الوجه يزداد قوة إذا ثبت معرفة المصحح لأولئك المدلسين كما تقدم قال الزين في التدليس ذمه أكثر العلماء وهو مكروه جدا وروى الشافعي عن شعبة أنه قال لأن أزني أحب إلي من أن أدلس" ولا شك أن هذه مبالغة من شعبة واحتياطا للسنة "قال ابن الصلاح وهذا من شعبة إفراط محمول على المبالغة في الزجر والتنفير عنه" وبقي كلام طويل يخص القسم الثاني، وهو أمره سهل يعني القسم الثاني تدليس الشيوخ سهل؛ لأنه يأتي بيانه وبيان ما بعده إن شاء الله تعالى في مناسبات لاحقة.

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

طالب: ............

 

المسألة مسألة غلبة ظن وتحسين للظن بالشيخين، والواقع يعني من خلال البحث والتحري وُجد لكثير منها تصريح بالسماع لاسيما في المستخرجات.