شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (017)

المقدم: "ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة".

الحديث السابع، يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "وعنه"، يعني ابن عباس راوي الحديث السابق، "أن أبا سفيان بن حربٍ أخبره، أن هرقل أرسل إليه في ركْبٍ من قريش"، هِرَقْل بكسر الهاء وفتح الراء كدمشق، ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وحكي فيه: هِرْقِل بسكون الراء وكسر القاف، والأول أشهر، ولقبه قيصر، قاله الشافعي، كما يُلقَّب ملك الفرس كسرى، وملك الترك يقال له خاقان، ملك الحبشة يقال له النجاشي، والقبط يقول له فرعون، ومصر العزيز، وحِمْيَر تُبَّع، وغير ذلك كما في عمدة القاري، "أرسل إليه" أي أرسل هرقلُ إليه، أي إلى أبي سفيان "في ركب"، حال كونه مع ركب، جمع راكب كصحب وصاحب، وهم أولو الإبل العشر فما فوقها، "مِن قريش" صفة لركب، ومِن لبيان الجنس، أو للتبعيض، وكان عدد الركب ثلاثين رجلاً كما عند الحاكم وعند ابن السكن نحو من عشرين، وعند ابن أبي شيبة أن المغيرة بن شعبة منهم، وضعَّفه البُلْقِيني بأن المغيرة كان مسلمًا وقتها، فإنه أسلم عام الخندق فيبعد أن يكون حاضرًا ويسكت مع كونه مسلمًا.

والحال أنهم "كانوا تُجَّارًا" بضم التاء وتشديد الجيم على وزن كُفَّار، وبالكسر والتخفيف على وزن: كِلاب تِجَار، جمع تاجر أي متلبسين بصفة التجارة، "بالشام" بالهمز، وقد يترك، وقد تسهل الكلمة فيقال: بالشام، وهو متعلق بـ"كانوا"، كانوا بالشام، أو بقوله: تجارًا، تجارًا بالشام، "في المدة التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مادَّ" بتشديد الدال أصله مادد، فأدغم الأول في الثاني من المثلين، أدغمت الدال في الدال، وهذه مفاعلة والممادَّة هذه والمفاعلة من الطرفين، والمراد مُدَّة صلح الحديبية سنة ست "فيها أبا سفيان وكفار قريش" أي مع كفار قريش على وضع الحرب مدة عشر سنين، وكفار بالنصب مفعول معه، أو عطف على المفعول به، وهو "أبا سفيان" "فأتوه" أي أرسل إليهم بتقدير، أي أرسل إليهم في طلب إتيان الركب فجاء الرسول يطلب إتيانهم فأتوه، وقد وجدهم الرسول بغَزَّة، "وهم" أي هرقل وجماعته، وفي رواية: "وهو بإيلياء" بالمد على وزن كِبْرِيَاء، وإيليا بالقصر وبحذف الياء الأولى إلياء وهو بيت المقدس، والباء بمعنى في، الباء للظرفية بمعنى في، على هذا لا يُنكَر إذا قيل: بمكان كذا، والمراد في مكان كذا، "فدعاهم" هِرَقْل حال كونه "في مجلسه وحولَه" منصوب على الظرفية وهو خبر المبتدأ الذي هو "عظماء الروم"، وهم ولد عِيْص بن إسحاق بن إبراهيم على الصحيح، ودخل فيهم طوائف من العرب من تَنُوْخ وبَهْرَاء وغيرهم من غَسَّان كانوا بالشام، فلما أجلاهم المسلمون عنها دخلوا بلاد الروم واستوطنوها، فاختلطت أنسابهم، وعند ابن السكن: وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان، "ثم دعاهم"، قال: فدعاهم، ثم دعاهم عُطِف على قوله: فدعاهم وليس بتكرار، بل معناه أمر بإحضارهم، فلما حضروا وقعت مهلة، ثم استدناهم كما أشعر بذلك العطف بـ"ثم" كأنه دعاهم فأُحضروا إلى قصره، ثم دعاهم ثانية إلى مجلسه، فليس هذا من التكرار، "ودعا تَرجُمانه" وفي رواية: "بتُرجُمانه"، وفي رواية: "بالتَّرجُمان"، وهو بفتح المثناة الفوقية وضم الجيم، وقد تضم التاء، والترجمان المفسر من لغةٍ إلى لغة، وقد يُطلَق على المُبَلِّغ باللغة نفسها، كما في الصحيح في كتاب الإيمان عن أبي جمرة نَصْر بن عمران قال: كنت أترجم بين ابن عباس والناس، يعني يُبَلِّغ صوت ابن عباس، ثم قال هرقل للترجمان، يعني الأصل في الترجمان أنه يحوِّل من لغة إلى لغة، لكن قد تطلق الترجمة بإزاء التبليغ، وإن كانت اللغة واحدةً، ثم قال هرقل للترجمان: قل لهم أيكم أقرب؟ فقال الترجمان: "أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل؟" ضمَّن أقرب معنى أقعد فعدَّاه بالباء، وفي رواية: "من هذا الرجل" على الأصل، وفي رواية: "إلى هذا الرجل" ولا إشكال فيها فإن أقرب يتعدى بـ(إلى) كما قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} [سورة ق 16] "أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل؟" أقرب مُضَمَّن معنى أقعد به، وألصق به، لماذا لا نقول: أن الباء هنا بمعنى مِن؟ والحروف يأتي بعضها بدل بعض، كما يقولون: الحروف تتقارض، شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- يرى أنه إذا أمكن تضمين الفعل فهو أولى من تضمين الحرف، تضمين الفعل معنا فعل آخر يناسب الحرف المذكور في السياق يتعدى بالحرف المذكور فلا شك أنه أولى من تضمين الحرف.

وعلى كل حال جاء قوله: "أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل"، وجاء أيضًا في رواية: "من هذا الرجل" على الأصل وفي رواية: "إلى هذا الرجل"، ومعروف أن أقرب يتعدى بإلى كما في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} [سورة ق 16] والمفضَّل عليه محذوف تقديره من غيره، "الذي يزعم"، وفي روايةٍ: "يدَّعي أنه نبي" والذي يزعم لا شك أن مثل هذا الأسلوب يؤتى به أحيانًا للتشكيك في الدعوى، وقد يؤتى به بإزاء القول، بحيث لا يتضمن التشكيك، وجاء (زعم) ويراد به قال، وكثيرًا ما يقول سيبويه في كتابه: زعم الكسائي ويوافقه، ولا يعني هذا أنه يشكك في كلامه، في روايةٍ: "يدَّعي"، الادعاء لا شك أنه تشكيك في الدعوى، "أنه نبي، فقال أبو سفيان قلت: أنا أقربهم نسبًا" أي من حيث النسب، وذلك لكونه من بني عبد مناف، وهو الأب الرابع للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولأبي سفيان، وخَصَّ هرقل الأقرب لكونه أحرى بالاطلاع على ظاهره وباطنه أكثر من غيره؛ ولأن الأبعد لا يؤمَن أن يَقدح في نسبه بخلاف الأقرب، الأقرب لا يمكن أن يَقدح في نسب قريبه لأن القَدح يتجه إليه.

المقدم: صلة القرابة ما هي -أحسن الله إليكم-؟

في بني عبد مناف وهو الأب الرابع للنبي -عليه الصلاة والسلام- ولأبي سفيان أيضًا، فهم بمنزلة واحدة، خَصَّ هرقل الأقرب لماذا؟ لكونه أحرى بالاطلاع على ظاهره وباطنه أكثر من غيره؛ ولأن الأبعد لا يؤمَن أن يَقدح في نسبه بخلاف الأقرب، لكن قد يقول قائل: إن القريب متَّهَم في الإخبار عن نسب قريبه بما يقتضي شرفًا وفخرًا، ولو كان عدوًّا له لدخوله في شرف النسب الجامع لهما، يعني إذا كان المحظور بالنسبة إلى الأبعد الطعن في نسبه، هذا أيضًا يمكن أن يقال: إن الأقرب يدَّعي نسبًا له؛ لأنه يشاركه في هذا النسب أكثر من واقعه، قد يقال هذا، لكن هو بلا شك -عليه الصلاة والسلام- هو ذو نسبٍ وشَرَف، "فقال" هرقل: "أدنوه مني"، وأمر بإدنائه ليُمْعِن في السؤال ويشفي غليله، "قربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره" لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب؛ لأن الحياء في العينين، فإذا كانوا وراء ظهره لا يستحيون منه أن يواجهوه بالتكذيب إذا كذب، ويُذكَر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وهذا بعدما كُفَّ بصره قال: لا تطلبن من أعمى حاجة، فإن الحياء في العينين. فهنا جعلهم عند ظهره؛ لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب، وعلى كل حال الحياء خلُق شرعي يتصف به الأعمى وغير الأعمى، وكم من مبْصِر يرد أدنى طلب، وكم من كفيف يخجل ويستحي من أن يرد أدنى طلب، "ثم قال هرقل لترجمانه: قل لهم"، أي لأصحاب أبي سفيان "إني سائل هذا عن هذا الرجل" أي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأشار إليه لقرب العهد بذكره، "عن هذا الرجل" كأنه يشير إليه، أشار إليه لقرب العهد بذكره "فإن كذَبني" بالتخفيف أي نقل إلي الكذب "فكذِّبوه" بالتشديد، وكذَب بالتخفيف يتعدَّى إلى مفعولين، مثل صدق، تقول كذَبني الحديث، وصدَقني الحديث، وكذَّب بالتشديد يتعدى إلى مفعولٍ واحد، وهما من غرائب الألفاظ؛ لأن الغالب أن الزيادة تناسب الزيادة، يعني الفعل اللازم يُعَدَّى بالتضعيف، الفعل اللازم يُعَدَّى بالتضعيف، وهذا لما ضُعِّف قَلَّ تعديه، بدلاً من أن يتعدى إلى اثنين، صار يتعدى إلى الواحد، وهذا من الغرائب، من غرائب الألفاظ، لماذا؟ لأن الغالب أن الزيادة تناسب الزيادة وبالعكس والأمر هنا بالعكس، قال أبو سفيان: "فوالله لولا الحياء من أن يأثُروا علَيَّ" بضم الثاء وكسرها، وعلَيَّ بمعنى عني يعني رفقته، ومراده بذلك أن يرووا عنه كذبًا، وفي رواية: "الكذب" فأعاب به؛ لأنه قبيح ولو على عدو، وهذا يقوله أبو سفيان حال كفره، مما يدل على أن الفطر السليمة تأبى الكذب وتنفر منه، وأبو سفيان حال كفره نفر من أن يروى عنه الكذب، فمن المؤسف جدًّا أن يوجد في المسلمين من لا يتحرج من الكذب بل يكذب لأدنى سبب، بل قد يكذب لغير مصلحة، والله المستعان. وكل هذا سببه البعد عن تعاليم هذا الدين الذي جاءنا بمكارم الأخلاق، "لكذبت عنه" لأخبرت عن حاله بكذب لبغضي إياه، وفي رواية: "لكذَبْتُ عليه" هذا واقع الكفار يبغضون النبي -عليه الصلاة والسلام- بغض عقدي، لكنهم لا يلبثون إذا أسلموا أن يكون أحب الناس إليهم لما جُبِل عليه من الصفات الكريمة والأخلاق الحميدة، إضافةً إلى أن حبه -عليه الصلاة والسلام- ديانة، "ثم كان أولَ ما سألني عنه" بنصب أول، قال الحافظ: وبه جاءت الرواية، وهو خبر كان، واسمها ضمير الشأن، ويجوز رفع أول اسمًا لكان، وذكر العيني: وروده روايةً، وحينئذٍ يكون الخبر أن قال: كيف نسبه فيكم؟ -صلى الله عليه وسلم-، أي ما حال نسبه، أهو...؟

المقدم: ..........

المصدر المؤوَّل "أن قال".

طالب: ...........

"كان أوَّل.." نعم قوله: "كيف نسبه فيكم؟" المصدر المؤوَّل من أن وما دخلت عليه.

طالب:........

{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ} [سورة البقرة 177] البِرّ خبر ليس، والمصدر المنسبك من أن وما دخلت عليه اسم ليس، وإذا جئت بالبرُّ وهنا أولُ، يكون خبرها المصدر المنسبك وهكذا. "أن قال: كيف نسبُه فيكم؟ -صلى الله عليه وسلم-"، يعني ما حال نسبه أهو من أشرافكم أم لا؟ "قلت: هو فينا ذو نسب"، أي صاحب نسبٍ عظيم، فالتنوين للتعظيم، كما في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [سورة البقرة 179] تنوين حياة هذا لا شك أنه للتعظيم، يعني حياة عظيمة.

قال هرقل: "هل قال هذا القول منكم" من قريش "أحد قط؟" بتشديد الطاء المضمومة، ولا يستعمل إلا في الماضي المنفي، واستُعمل هنا بغير أداة النفي وهو نادر، وأجيب بأن الاستفهام حكمه حكم النفي، كأنه قال: هل قال هذا القول أحد أو لم يقله أحد قط قبله؟ بالنصب على الظرفية، وفي روايةٍ: مثله؟ "قلت: لا"، أي لم يقله أحد قبله، قال هرقل: "فهل كان من آبائه مِن ملِك؟" بكسر اللام، و"مِن" بكسر الميم، وفي رواية: "مَن ملَك"، مَن بفتح الميم ومَلَكَ بفتح اللام فعل ماضي، وروي بإسقاط "مِن" والأول أشهر وأرجح، من ملِك.

قال أبو سفيان: "قلت: لا"، قال هرقل: "فأشراف الناس يتَّبعونه أم ضعفاؤهم؟" قال أبو سفيان: "قلت: بل ضعفاؤهم" أي اتَّبعوه، والشرَف علو الحسب والمجد، وقد شرُف بالضم فهو شريف، وقوم شرفاء وأشراف، وجاء في حديث عند الترمذي «الحسب المال» لا شك أن المال حسَب، ووسيلة إلى الشرف، شرف الدنيا، وشرف الآخرة إن استُعمل فيما يرضي الله -سبحانه وتعالى-، وخصص ابن حجر الشرف هنا بأهل النخوة والتكبر منهم، لا كل شريف، ليخرج مثل أبي بكر وعمر ممن أسلم قبل سؤال هرقل، وتعقَّبه العيني بأنهما من أهل النخوة أيضًا، فقول أبي سفيان جرى على الغالب، يعني غالب أتباعه -عليه الصلاة والسلام- هم الضعفاء، وفي رواية ابن إسحاق: "تبعه منَّا الضعفاء والمساكين والأحداث، وأما ذووا الأنساب والشرف فما تبعه منهم أحد"، قال ابن حجر: وهو محمول على الأكثر الأغلب.

"قال هرقل: أيزيدون أم ينقصون؟" بهمزة الاستفهام، وفي روايةٍ بإسقاطها، وجزَم ابن مالك بجوازه مطلقًا خلافًا لمن خصَّه بالشِّعر، يعني مثل قوله:

.........................................

 

بسبعٍ  رمينا الجمر أم بثمان؟

 

 

هذا قالوا: خاص بالشِّعر، وابن مالك يجوِّزه مطلقًا، و(أم) إنما يُعطَف بها إثر الهمزة من بين حروف الاستفهام، كما قال ابن مالك -رحمه الله تعالى-:

وأم بها اعطف إثر همز التسوية
       

 

أو همزةٍ عن لفظ أيٍّ مغنية

 

 

فلا تقع بعد (هل) مثلاً، هذا الأصل فيها، مع أنه جاء في رواية من روايات الحديث في كتاب الإيمان أن هرقل قال له: "سألتك هل يزيدون أم ينقصون؟" وجاء في حديث جابر: «هل تزوجت بكرًا أم ثيبًا؟» فهذا يدل على الجواز، وفي شرح القسطلاني في كتاب الإيمان في الموضع الثاني، يقول: سألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ وفي الرواية السابقة الاستفهام بالهمزة وهو القياس؛ لأن أم المتصلة مستلزمة للهمزة، وأجيب بأن أم هنا منقطعة، أي بل ينقصون فيكون إضرابًا عن سؤال الزيادة، واستفهامًا عن النقصان، على أن جار الله أطلق أنها لا تقع إلا بعد الاستفهام فهو أعم من الهمزة، يعني تقع بعد أي حرف من حروف الاستفهام، والمراد بجار الله الزمخشري -كما هو معروف-.

قال أبو سفيان: "قلت: بل يزيدون" قال هرقل: "فهل يرتد أحد منهم سَخطةً؟" بفتح السين المهملة، سخطةً منصوب مفعول لأجله، أو حال أي ساخطًا أي كراهةً وعدم رضا، وجوَّز ابن حجر سخطة الضم والفتح، سخطة وسخطة، أي فهل يرتد أحد منهم كراهةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ أخرج به من ارتدَّ مكرهًا، أو لا سخطًا لدين الإسلام بل لرغبةٍ في غيره كحظٍ نفساني، كما وقع لعبيد الله بن جحش، قال أبو سفيان "قلت: لا" فإن قلتَ: لِمَ لَمْ يستغن هرقل بقوله: "بل يزيدون" عن قوله: "هل يرتد أحد منهم"؟ أجيب بأنه لا ملازمة بين الازدياد والنقص، فقد يرتد بعضهم ولا يظهر فيهم النقص باعتبار كثرة من يدخل، وقلة من يرتد مثلاً، فلا تلازم حينئذٍ، وإنما سأل عن الارتداد؛ لأن مَن دخل على بصيرةٍ في أمرٍ محقَّق لا يرجع عنه بخلاف من دخل في أباطيل، قال هرقل: "فهل كنتم تتهمونه بالكذب" يعني على الناس قبل أن يقول ما قال، قال أبو سفيان: "قلت: لا" وإنما عدَل السؤال عن نفس الكذب إلى السؤال عن التهمة تقريرًا لهم عن صدقه؛ لأن التهمة إذا انتفت انتفى سببها؛ لأن الشخص إذا لم يتَّهم بالكذب هذا نفي للكذب من باب أولى، إذا نفيت التهمة فنفي الكذب نفسه من باب أولى. وفي علوم الحديث من ألفاظ الجرح عندهم الكذب والتهمة بالكذب، فالكذب المراد به الكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام-، والتهمة بالكذب كون الراوي جُرِّب عليه الكذب، لكن لا على النبي -عليه الصلاة والسلام- بل في حديثه مع الناس، هذا يقال له: متهم بالكذب؛ لأن المراد بالكذب الذي هو شر أنواع الجرح وأسوأ مراتب التجريح، المراد به على النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي جاء الوعيد عليه، ودونه التهمة بالكذب، بأن يثبت بأن هذا الراوي يتعاطى الكذب في كلامه العادي مع الناس، لكن لم يثبت عنه أنه كذَب على النبي -عليه الصلاة والسلام- وحينئذٍ يكون متهمًا بالكذب.

قال هرقل: "فهل يغدر؟" بكسر الدال أي ينقض العهد، قال أبو سفيان: "قلت: لا، ونحن منه" أي النبي -عليه الصلاة والسلام- "في مُدَّة" أي مدة صلح الحديبية، أو غيبةٍ وانقطاع، فلا ندري ما هو فاعل فيها، أي في المُدَّة، وفي قوله: "لا ندري" إشارة إلى عدم الجزم بغدره، هذه الكلمة لم يمكن أبا سفيان أن يدخل من أجل الطعن بالنبي -عليه الصلاة والسلام- إلا في هذه أو من خلال هذه الكلمة، يقول: "لا ندري ما هو فاعل فيها" ولذا لم يلتفت إليها هرقل، قال أبو سفيان: "ولم تمكنِّي كلمة أدخل فيها شيئًا أنتقصه به غير هذه الكلمة"، قال في الفتح: التنقيص هنا أمر نسبي؛ لأن من يُقطَع بعدم غدره أرفع رتبةً ممن يجوز وقوع ذلك منه في الجملة كأنَّ في كلام أبي سفيان تجويز الغدر منه -عليه الصلاة والسلام-، هو لم يقع منه، ولم يثبته أبو سفيان جازمًا، وإنما جوَّز أن يغدر في هذه المدة التي لا يُدرى ما هو صانع فيها.

وقد كان -عليه الصلاة والسلام- معروفًا عندهم بالاستقراء من عادته أنه لا يغدِر، ولكن لما كان الأمر مغيَّبًا لأنه مستقبل أمن أبو سفيان أن يُنسب في ذلك إلى الكذب، لو نسب إلى الكذب قال هذا مجرد توقع، فلذلك أورده على التردد، ومن ثم لم يعرِّج هرقل على هذا القدر منه.

و"غير" بالرفع صفة لكلمة، ويجوز فيها النصب صفة لـ"شيئًا"، قال هرقل: "فهل قاتلتموه؟" نسب ابتداء القتال إليهم ولم ينسبه إليه -عليه الصلاة والسلام- لِمَا اطلع عليه من النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يبدأ قومه بالقتال حتى يقاتلوه، ولا يعني هذا أن جميع صور الجهاد في الإسلام تكون دفاعًا، لا يعني هذا أن جميع صور الجهاد هي الدفاع، وإنما من الجهاد في الإسلام ما هو ابتداءً، {قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} [سورة التوبة 123] فإدخال الناس وإرغامهم على الدين إذا أبوا أن يدخلوا، وصَدُّوا عن الدين، وأبوا أن يدفعوا الجزية لا بد أن يقاتلوا، قال أبو سفيان: "قلت: نعم قاتلناه" قال هرقل: "فكيف كان قتالكم إياه؟" بفصل ثاني الضميرين "إياه".

والاختيار ألا يجيء المنفصل

 

 

 

إذا تأتى أن يجيء المتصل

 

 

 يعني يمكن أن يقول: فكيف كان قتالكموه؟ هنا يتأتى مجيء الضمير المتصل، والاختيار ألا يجيء المنفصل مع إمكان مجيء المتصل، وقيل: قتالكم إياه أفصح من قتالكموه باتصال الضمير، فلذلك فصله وصوَّبه العيني تبعًا للزمخشري، قال أبو سفيان: "قلت: الحرب بيننا وبينه سِجَال" بكسر السين، وتخفيف الجيم، أي نُوَب، نوبةً لنا، ونوبةً له، كما قال: "ينال منا وننال منه" أي يصيب منا ونصيب منه، والجملة تفسيرية لا محل لها من الإعراب، قال هرقل: "ما" وفي نسخةٍ: "بما" وفي نسخةٍ: "فماذا يأمركم؟" أي ما الذي يأمركم به؟ قال أبو سفيان: "قلت يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئًا" بالواو، وفي روايةٍ بحذفها: "لا تشركوا به شيئًا" وحينئذٍ فيكون تأكيدًا لقوله: "وحده" "واتركوا ما يقول: آباؤكم" من عبادة الأصنام وغيرها، مما كانوا عليه في الجاهلية، "ويأمرنا بالصلاة" المعهودة المفتتحة بالتكبير، المختتمة بالتسليم، وفي نسخةٍ: "والزكاة"، "والصدق" وهو الكلام المطابق للواقع، وفي رواية: بالصدقة بدل الصدق، ورجحها البُلْقيني، "والعَفاف" بفتح العين أي الكف عن المحارم، وخوارم المروءة، والصلة للأرحام، وهي كل ذي رحِمٍ محرم لا تحل مناكحته لو فُرِضت الذكورة مع الأنوثة، ضابط المحرم أو الرحم التي تجب صلتها قالوا: كل ذي رحمٍ محرم لا تَحِلُّ مناكحته ولو فُرِضت الذكورة مع الأنوثة، يعني لو قُدِّر أن أحدهما ذكر والآخر أنثى لا تجوز المناكحة بينهما حينئذٍ تجب الصلة.

وقيل: كل ذي قرابة، الصلة لذوي الأرحام لكل ذي قرابة، والصحيح عمومه في كل ما أمر الله به أن يوصَل، قال في التوضيح: من تأمل ما استقرأه هرقل من هذه الأوصاف تبيَّن له حسن ما استوصف من أمره واستبرأه من حاله فما أعقله من رجل لو ساعدته المقادير بالاتباع، يعني لو كُتِب له أن يُسلِم، لا شك أن هذه الأسئلة تنم عن عقلٍ راجح، لكن إرادة الله -سبحانه وتعالى- له وإيثاره للدنيا على الآخرة، والفاني على الباقي لا شك أن هذا شيء مقدَّر عليه لكن باختياره وبإمكانه أن يختار الباقي على الفاني، والأمر يومئذٍ لله.