كتاب الفتن من صحيح البخاري (01)

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فقد تحدثنا في مناسبات كثيرة عن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-، وعن صحيحه، وعن منهجه وطريقته، وإبداعه في كتابه، وعن غفلة الناس عن كثيرٍ من أبوابه، وكثيرٌ من طلاب العلم يغفل عن أبواب هم بأمس الحاجة إليها، والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في هذه الأبواب التي هي من: بدء الخلق، المغازي، السير، الدعوات، الفتن، الرقاق، الاعتصام بالكتاب والسنة، الإمام البخاري -رحمة الله عليه- أبدع في هذه الأبواب، والناس في غفلة عنها، ويعتني الناس بالأحاديث والأحكام العملية، ويرتبون لها الدورات والمناسبات، وفي مثل هذه الظروف من أنسب ما يقرأ مثل هذا الباب من هذا الكتاب، أو هذا الكتاب من هذا الكتاب، وهو كتاب الفتن من كتاب صحيح الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-.

والفتن كما لا يخفى عليكم بدأت الآن تطل علينا، وإن كانت من قبل لكنها ظهرت ظهوراً واضحاً في وقتٍ تداعت فيه الأمم على هذه الأمة المحمدية.

والفتن في الأصل: جمع فتنة، وهي الابتلاء والاختبار، الابتلاء والاختبار، يقولون: فتن الحداد أو الصائغ الذهب إذا أدخله في النار ليختبر جودته، والأمة الآن تفتتن وتمتحن وتختبر لينظر مدى تمسكها بدينها، الله -سبحانه وتعالى- يفتن ليختبر {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} [(35) سورة الأنبياء] {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [(40) سورة طـه] ويفتن ويختبر ويبتلي الخلق بعضهم ببعض، فالفاتن من الخلق بإذن الله -عز وجل- وإرادته ولا يخرج شيء عن إرادته آثم إن لم يتب، {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [(10) سورة البروج].

والمفتون: المفتون الطرف الآخر، وهو الأمة الإسلامية في مثل هذه الظروف، الفتنة لها سبب وهو إدبارها عن دينها، إدبارها عن دينها هذا هو السبب، فتنا وابتلينا بأعدائنا، والنتيجة إن استفدنا من هذه الفتن، ورجعنا إلى ديننا صارت الفتنة خيراً لنا، وإن استمر بنا الغي والضلال صارت سوءًا على سوء، {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} [(35) سورة الأنبياء] ابتلينا سنين بل عقود في هذه البلاد وغيرها بالجوع والخوف والقتل والنهب، وثبت أكثر المسلمين على دينهم، فلم يتنازلوا لا عن دين ولا عرض، ثم ابتلوا بعد ذلك بالسراء ففتحت عليهم الدنيا التي خشيها النبي -عليه الصلاة والسلام- على أمته، «والله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم» وهذا هو الحاصل، فتحت علينا الدنيا فحصل الخلل الكبير، الابتلاء بالشر، الابتلاء بضيق ذات اليد بالفقر يتجاوزه كثيرٌ من الناس، لكن الابتلاء بالسعة، وانفتاح الدنيا، والغنى هذا قل من يتجاوزه، ولذا حصل ما حصل من الخلل الكبير بعد أن فتحت علينا الدنيا، وهذا أمرٌ تشاهدونه، النعم كفرت على كافة المستويات إلا من رحم الله، لو نظرنا إلى واقع عموم المسلمين -عامة الناس- وجدناهم لما فتحت عليهم الدنيا فرّطوا في أمر الله -عز وجل-، وتنكبوا عن الجادة، وقل مثل هذا في بعض من ينتسب إلى العلم، وبعض من ينتسب إلى طلب العلم فضلاً عن عِلية القوم.

ابتلينا فما شكرنا، ابتلينا بالضراء فصبرنا والحمد لله، وتجاوز أهل هذه البلاد وغيرهم من بلاد الإسلام تجاوزوا فتنة الضراء في عقودٍ مضت، ثم توالت عليهم النعم فلم يتجاوزوها، وتنكبوا عن الجادة، وبدلوا نعمة الله كفراً، هذا الواقع في كثيرٍ من بلدان المسلمين، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [(28) سورة إبراهيم] فحل البوار بكثيرٍ من أصقاع الأرض لا سيما في بلاد المسلمين، فنحن بحاجة إلى أن نرجع إلى ديننا، وأن نعتصم بكتاب ربنا ففيه المخرج من الفتن، فنلزم كتاب الله -عز وجل- قراءةً وحفظاً وتدبراً وفهماً وعملاً، علماً وعملاً، ففيه كل ما يحتاجه المسلم، ونقرأ عليه أو معه ما يعين على فهمه وتدبره، ومن خير ما يعين على فهم الكتاب الذي فيه المخرج من الفتن كلها ما صح عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ومن أصح ما صح عنه -عليه الصلاة والسلام- ما حواه هذا الكتاب العظيم الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله -عز وجل-، فمن المناسب ومن الاختيار الموفق أن يختار الإخوة المنظمون لهذه الدروس هذا الموضوع من هذا الكتاب العظيم، فلعلنا نوفق أن نكمل قراءة هذا الكتاب ومطالبه كثيرة جداً، بل لو سرنا على الطريقة المتبعة في شرح الصحيح لاحتاج إلى زمنٍ طويل جداً لا يكفيه..، كتاب الفتن لا دورة ولا دورتين ولا ثلاث، ويحتاج إلى مزيدٍ من البسط، لكن المطلوب التسديد والمقاربة؛ لأن الزمن محدود، والكلام كثير في هذا الباب.

ومن الفتنة أن يفتن الناس بالأخبار الموضوعة والواهية والإشاعات وتُرتب عليها أحكام هذه فتنة، أن يتعلق الناس بالأخبار الضعيفة والموضوعة والرؤى والمنامات والتحليلات التي لا تبنى على أساس شرعي ثم ترتب عليها مصاير كما هو الواقع الآن، فعلينا أن نراجع أنفسنا في مثل هذه الظروف تطلب النجاة، والنجاة بالاعتصام بالكتاب والسنة، والإقبال على الله -عز وجل- بالعبادات الخاصة والعامة، اللازمة والمتعدية، على الإنسان لا سيما من ينتسب إلى العلم وطلبه أن يصدق اللجأ إلى الله -عز وجل-، فيكثر من النوافل، ويكثر من قراءة القرآن، من تدبره، من تفهّم معانيه، من قراءة الكتب الموثوقة في التفسير ليستفيد من قراءته، ويقبل أيضاً على العبادات اللازمة مثل الإكثار من التطوعات من الصلوات والصيام وبر الوالدين وصلة الأرحام، والنفع الخاص والعام، يحرص على صلاح نفسه وصلاح من تحت يده في بيته في مسجده في حيه في مدرسته، وبهذا تنجو هذه الأمة من هذا المأزق والمنحنى والمنعطف الخطير الذي تمر به، فكما أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام-: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم» تداعت الأمم الآن، لكن ما المخرج؟ المخرج فيما أثر عنه -عليه الصلاة والسلام- من ملازمة كتاب الله -عز وجل-، ومما أشرنا إليه من قراءة ما يعين على فهم كتاب الله -عز وجل-، والله المستعان.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا وارفعنا بما علمتنا، واغفر لنا ولشيخنا والسامعين برحمتك يا أرحم الراحمين.

قال الإمام أبو عبد الله البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه:

كتاب الفتن.

ما جاء في قول الله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [(25) سورة الأنفال] وما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحذر من الفتن.

حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا بشر بن السرّي...

السري السري بتخفيف الراء.

 السَّرِي قال: حدثنا نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة قال: قالت أسماء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أنا على حوضي أنتظر من يرد علي، فيؤخذ بناس من دوني فأقول: أمتي، فيقول: لا تدري مشوا على القهقرى» قال ابن أبي مليكة: "اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا، أو أن نفتن".

حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو عوانة عن مغيرة عن أبي وائل قال: قال عبد الله: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إليّ رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي ربِ أصحابي، يقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك».

حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم قال: سمعت سهل بن سعد يقول: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أنا فرطكم على الحوض، من ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً، ليرد علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم» قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا فقال: هكذا سمعت سهلاً؟ فقلت: نعم، قال: وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- لسمعته يزيد فيه قال: «إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي».

يقول الإمام -رحمه الله تعالى-: "كتاب الفتن"

تقدم تعريف الفتن، وأنه الابتلاء والاختبار والامتحان، وأنه يكون بالخير وبالشر، ومن الفتن الفتن الكبرى المضلة التي يستعاذ منها، ومنها: الفتن التي لا ينفك عنها أحد التي تصرف الإنسان عن مقصده، فهو مأمورٌ بمجاهدتها {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [(15) سورة التغابن] يعني يشغلونكم عما يرضي الله -عز وجل-، والإنبجانية والكساء المخطط كادت أن تفتن النبي -عليه الصلاة والسلام- في صلاته، يعني تشغله عنها، فكل ما يشغل عما يرضي الله -عز وجل- فتنة، لكنها متفاوتة، والحياة صراع وجهاد، إزاء هذه الفتن على المسلم أن يقاوم بقدر الإمكان، هناك فتن ظاهرة، وهناك فتن باطنة، وهناك فتن كبرى مضلة، وهناك فتن يسيرة لا ينفك منها أحد، وكل هذا ليظهر مدى امتثال المكلف ومدى ارتباطه وتعلقه بربه -عز وجل-، وهذا الصراع رتب عليه الثواب العظيم، من استسلم ولم يقاوم وضل وفتن هذا مآله معروف، لكن من قاوم تعرض للفتن وقاوم واستفاد منها فيما يرضي الله -عز وجل-، وخرج منها ظافراً متغلباً على هوى نفسه والشيطان، متغلباً على عدوه من شياطين الإنس والجن إن هذا لا شك أنه ممن أراد الله به خيراً ولو تعرض للفتن، وهذه الفتن إذا وقعت تقاوَم، ولا ينبغي للإنسان أن يتمنى وقوع هذه الفتن ليقاوِم لا، فهي من باب تمني لقاء العدو، وما يدريك لعلك تخفق، لعلك تفتن، ولا تستطيع أن تقاوم هذه الفتن، لكن إذا حصلت فعليك بالمجاهدة والمصابرة حتى تخرج منها ظافراً بما يرضي الله -عز وجل-.

كتاب الفتن:

بسم الله الرحمن الرحيم

بالتقديم والتأخير بعض الروايات كما في رواية أبي ذر: "كتاب الفتن، بسم الله الرحمن الرحيم"، وفي رواية ابن عساكر: "بسم الله الرحمن الرحيم: كتاب الفتن"، وهذا يوجد في كثير من الكتب التقديم والتأخير هذا، ولكلٍ وجهه، إذا قدمت البسملة -كما هو الأصل- تكون شاملة للكتاب للترجمة ولما تحته، فهي مقدمة عليه، مبدوءٌ بها، وإذا قدمت الترجمة على البسملة صارت الترجمة بمثابة تسمية السورة، والبسملة بعدها، ولذا يوجد التقديم والتأخير في كثيرٍ من الأبواب.

"ما جاء في قول الله تعالى" وعند أبي ذر: "باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [(25) سورة الأنفال]" ونحن في شرح مثل هذا الباب التي ينبغي أن تكون القلوب مرتبطة بكلام النبي -عليه الصلاة والسلام- لا نطيل في مثل هذه الأمور، لا نطيل في ذكر فروق النسخ والروايات، كما أننا لا نذكر إلا ما تمس الحاجة إليه مما يتعلق بالأسانيد؛ لأنها تقطع تسلسل الارتباط بكلام المصطفى -عليه الصلاة والسلام- الذي هو المقصود الأعظم، لكن في الأبواب الأخرى، الأبواب العملية؟ ما نترك شيء مما يتعلق بالروايات أو بلطائف الإسناد أو كل ما يتعلق بالحديث سواءً كان في متنه أو في إسناده نتعرض له بقدر الإمكان، بقدر الحاجة، لكن في مثل هذه الأبواب يهمنا بالدرجة الأولى كلام الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في التراجم، وما يردفه به من آثار، ثم بعد ذلك ندخل إلى المقصد الأعظم، وهو كلام النبي -عليه الصلاة والسلام-.

ما جاء في قول الله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [(25) سورة الأنفال] اتقوا: يعني اجعلوا بينكم وبين ما ذكر وقاية، اتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، بل تعم الصالح والطالح، المباشر للمعصية، المرتكب لها، والراضي بها، والتارك لإنكارها وتغييرها مع قدرته على ذلك، فالفتنة إذا نزلت عمت، في مثل هذه الظروف التي تتحدث عنها الآية، اتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، بل تعم من ارتكب الذنب، ومن علم به ورضي بفعله، أو علم به ولم ينكر عليه مع القدرة على الإنكار تعمه، وهذه نتيجة المداهنة وإقرار المنكر، وافتراق الكلمة بحيث تعم الشرور والمعاصي والمنكرات، ويتقاعس الناس، ويتواكلون في إنكارها، تجد الإنسان يمر بشخصٍ يرتكب منكر أو يترك واجب ويتركه، اعتماداً على أنه كلف بهذا الأمر من كلف من قبل ولي الأمر ولسنا بمسؤولين، أنت مسؤول، مكلف من قبل الله -عز وجل-، «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه،...» إن لم يستطع خشي من الضرر إذا نطق بالإنكار ينكر بقلبه، ولا يسع أحداً يمر بمنكر مهما كان فاعله ولا ينكر عليه، وما وصل الأمر إلى ما وصل إليه مما نعيشه من ظروف وتعيشه الأمة في سائر الأقطار من انتشار المنكرات مع ضعف في الإنكار إن وجد إلا ضريبة تواكل سنين، تجد الأخيار ينكرون بلا شك والإنكار موجود لكنه ليس على المستوى المطلوب لمقاومة هذه السيول الجارفة من المنكرات التي قصد بها من قبل الأعداء إفساد هذه الأمة؛ لأنها إذا فسدت وفشت فيها المنكرات سهل الاستيلاء عليها، سهل الاستيلاء عليها بعد أن ذلت بذل المعاصي والمنكرات، جاء الوعيد الشديد في ترك الإنكار، وإذا ترك صاحب المنكر فإن المصيبة والكارثة تعم صاحبها ومن سكت ومن أقره، وسبب لعن بني إسرائيل أنهم إيش؟ {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} [(79) سورة المائدة] قد يصل الأمر إلى حد اليأس في زوال المنكر، فيقول الإنسان: ما الفائدة في كوني أنكر مع أن صاحب المنكر لا يرتدع ولا يرعوي؟ نقول: عليك أن تبذل السبب، وتمتثل الأمر، وتفعل ما أمرت به، والنتائج بيد الله -عز وجل-، {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [(164) سورة الأعراف] معذرة يا أخي، أقل الأحوال براءة ذمتك، أنت قمت بما أوجب الله عليك، وقد يدفع الله -سبحانه وتعالى- بهذا الإنكار -ولو كان ضعيفاً- ما يدفع من ضرائب التواطؤ على السكوت ولو كان ضعيفاً، وليس الأمر خاصاً برجال الحسبة، نعم عليهم المسؤولية الأولى والكبرى؛ لأنهم تضاعف عليهم الأمر بتكليفهم من قبل الله -عز وجل-، وبتكليفهم من قبل ولي الأمر، وبأخذهم الأجرة على ذلك، ولكن هذا لا يعفي غيرهم من الإنكار، فالكل مكلفٌ بالأمر والنهي.

روى الإمام أحمد في مسنده بسندٍ لا بأس به من حديث عدي بن عميرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة» ما دام الإنكار موجوداً فالأمان -بإذن الله- موجود، ولا ننكر أن هناك فئة مكلفة من قبل ولي الأمر بالأمر والنهي وتقوم بما أوجب الله عليها، لكنها أقل من المستوى المطلوب في مقاومة ما يزج به العدو من منكرات غزت البيوت والمحافل والمجتمعات، فالمسألة تحتاج إلى تظافر جهود في إنكار المنكر باليد، وهذا لولي الأمر أو من خوله ولي الأمر، وباللسان بالحكمة والكلمة الطيبة بالرفق واللين، وبهذا يرفع الله -سبحانه وتعالى- عنا ما كتب على غيرنا من الأمم، سنة إلهية، سنن إلهية {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [(62) سورة الأحزاب] إذا عمت المعاصي وكثرت، واستمرأها الخاص والعام، وعاشوا عليها، وتواطؤوا عن السكوت عن إنكارها عمهم الله بعذاب، بالعقوبة.

"وما كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يحذر من الفتن"، "بابٌ: ما جاء في قول الله تعالى..، وما كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يحذر من الفتن"، النبي -عليه الصلاة والسلام- حذر من الفتن، والله -سبحانه وتعالى- حذر {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً} [(25) سورة الأنفال] فعلينا أن نتقي الفتن بدفعها بالأسباب التي تدفعها، ومن أعظم ما يدفع الفتن اهتمام الإنسان بصلاح نفسه أولاً ومن تحت يده، والارتباط بالله -عز وجل-، وصدق اللجأ إليه مع بذل الأسباب في إصلاح الغير.

يقول الإمام -رحمه الله تعالى-: "حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا بشر بن السري" علي بن عبد الله هو الإمام المعروف ابن المديني، "قال: حدثنا نافع بن عمر بن عبد الله -القرشي- عن ابن أبي مليكة" اسمه: عبد الله، "قال: قالت: أسماء" بنت أبي بكر "عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أنا على حوضي»" الحوض المورود الذي ينبع أو يجتمع من نهر الكوثر، هذا للنبي -عليه الصلاة والسلام-، وجاء وصفه في السنة في طوله وعرضه ولونه وآنيته، وأنه يشرب منه المتبع من هذه الأمة، ولذا يذاد عنه من تقهقر فارتد أو ابتدع أو غير أو بدل، يقول: «أنا على حوضي» وأحاديث الحوض متواترة، ثبت الحوض ثبوتاً قطعياً بالأدلة المتواترة، تواتراً معنوياً، «أنا على حوضي أنتظر من يرد علي، فيؤخذ بناس من دوني فأقول: أمتي» يعرفهم النبي -عليه الصلاة والسلام-، إما بأعيانهم لمعاصرتهم له، أو بأوصافهم باتباعه -عليه الصلاة والسلام-، وإن حصل منهم من يوجب ردهم من إحداث وابتداع، «فأقول: أمتي، فيقول: لا تدري مشوا على القهقرى» يعني: رجعوا إلى الخلف، كانوا لما كنت بين أظهرهم يتقدمون إلى الأمام بفعل ما يرضي الله -عز وجل-، وترك ما يسخطه، ثم بعدك رجعوا القهقرى، فارتدوا عن دينهم، وهؤلاء ممن يعرفهم النبي -عليه الصلاة والسلام- بأعيانهم؛ لأنهم وجدوا في عصره، "قال ابن أبي مليكة: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا، أو نفتن"، على الإنسان أن يخاف، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، فلا يأمن من مثل هذه الفتنة، أن يرجع القهقرى، «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها» ولذا اشتد خوف السلف الصالح من سوء العاقبة، سوء الخاتمة أمرٌ مقلق مخيف، «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع -إلا شيء يسير- ثم يسبق عليه الكتاب -لأنه كتبت عليه الشقاوة- فيعمل بعمل أهل النار -بطوعه واختياره لا إجباراً له- فيدخل النار»، وجاء في الحديث: «أنه يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس» وهذا أيضاً أمرٌ مخيف قد يعمل الإنسان الأعمال وهي في ظاهرها صالحة لكنها فيما يبدو للناس، وفي قلبه دخل يكون سبباً في صرفه عن الجادة، {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [(47) سورة الزمر] كثير من السلف يعمل الأعمال الصالحة ويخشى أن تكون من هذا الباب، فالخوف مطلوب كما أن الرجاء مطلوب، وإحسان الظن بالله -عز وجل-، فعلى الإنسان أن يكون بين الأمرين خائفاً راجياً، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [(60) سورة المؤمنون] يؤتون ما آتوا من الأعمال الصالحة، ولذا لما سألت عائشة -رضي الله عنها-: أهم الذين يزنون؟ أهم الذين يسرقون؟ قال: «لا يا أبنت الصديق، هؤلاء الذين يصلون ويصومون ويزكون، ويعملون الأعمال الصالحة وقلوبهم وجلة» خائفة أن ترد عليهم، فالإنسان لا يضمن، نعم جاء ما يدل على أن الفواتح عنوان الخواتم، لكن من يضمن أن هذه الفواتح الصالحة خالصة لوجه الله -عز وجل-، النفس الأمارة، والشيطان، والنية شرود تحتاج إلى من يتابعها في كل وقت، قد يزل الإنسان بكلمة من سخط الله -عز وجل- يهوي بها في النار سبعين خريفاً، لا يلقي لها بالاً، تكون من سخط الله، والله المستعان.

"قال ابن أبي مليكة: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا، أو نفتن" يعني عن ديننا، فنرجع القهقرى عما كنا نفعله من أعمالٍ صالحة.

ثم بعد هذا يقول: "حدثنا موسى بن إسماعيل -هو المنقري- قال: حدثنا أبو عوانة -الوضاح بن عبد الله اليشكري- عن مغيرة -بن مقسم- عن أبي وائل -شقيق بن سلمة التابعي الشهير- قال: قال عبد الله -وهو ابن مسعود- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنا فرطكم على الحوض»" يعني: متقدمٌ بين أيديكم، أمامكم، فالفرط: هو المتقدم الذي يسبق القوم، ولذا جاء في دعاء الجنازة للطفل: «اللهم اجعله فرطاً وذخراً» أي: متقدماً، يعني: أجراً متقدماً بين يدي والديه، «أنا فرطكم على الحوض ليرفعن إلي رجال منكم» يعني من هذه الأمة، من أمة الإجابة، «حتى إذا أهويت لأناولهم -يعني لأسقيهم من حوضي- اختلجوا -جذبوا واقتطعوا- دوني، فأقول: أي ربِ أصحابي» لأنه يعرفهم إما بأعيانهم أو بأوصافهم، ولا يمنع أن يكون من هؤلاء من هو مسلم يختلج ويقتطع لما أحدث في الدين ويدخل النار ثم بعد ذلك إذا هذب ونقي بقدر ما اقترفه من جرائم يدخل الجنة، «فأقول: أي رب أصحابي، يقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك» من ردة أو بدعة أو منكرات وجرائم كلها محدثات.

ثم قال: "حدثنا يحيى بن بكير -المخزومي- قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن -القاري- عن أبي حازم -سلمة بن دينار- عن سهل بن سعد -الساعدي- يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أنا فرطكم على الحوض، من ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً»" لم يظمأ بعد أن يشرب من الحوض فإنه لا يظمأ أبداً، يتجاوز هذه الأهوال من غير مشقة ولا ظمأ «ليرد» في رواية أبي ذر: «ليردن»، «علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم»، قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا الحديث فقال: هكذا سمعت سهلاً؟ فقلت: نعم" يتأكد، "هكذا سمعت سهلاً؟" أبو حازم سلمة بن دينار لما حدث بهذا الحديث سُئل للتثبت وللموافقة: "هكذا سمعت سهلاً؟ فقلت: نعم، فقال: وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيه قال: «إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً»" أي: بعداً بعداً، أي: أبعدهم الله.

يقول ابن حجر: "حاصل ما حمل عليه حال المذكورين -يعني هؤلاء الذين يذادون عن الحوض الذين رجعوا القهقرى- حاصل ما حمل عليه حال المذكورين أنهم كانوا ممن ارتد عن الإسلام"، وحينئذٍ فلا إشكال في تبرئ النبي -عليه الصلاة والسلام- منهم، وإن كانوا ممن لم يرتد لكنه أحدث معصية كبيرة من أعمال البدن أو بدعةً من اعتقاد القلب فقد أجاب بعضهم بأنه يحتمل أن يكون أعرض عنهم ولم يشفع لهم اتباعاً لأمر الله فيهم حتى يعاقبهم على جنايتهم، ولا مانع من دخولهم في عموم شفاعته -عليه الصلاة والسلام- لأهل الكبائر من أمته، فيخرجون من النار بعد ذلك، كما يخرج سائر العصاة، فالحديث محتمل، هؤلاء الذين يذادون إن كانوا ممن ارتد فلا إشكال هؤلاء أحدثوا ويستحقون أن يذادوا عن الحوض، ويقال لهم: سحقاً سحقاً، وإن كانوا ممن لم يرتد الردة الكاملة وإنما كان رجوعهم للقهقرى ونكوسهم على أعقابهم إنما هو فيما دون ما يخرج عن الملة بإحداث بدعة يعمل بها من بعدهم، أو باقتراف جريمة فمثل هؤلاء يعاقبون، هم مستحقون للعقاب، ومن العقاب ذودهم من الحوض، وقد يدخلون النار فيعذبون وينقون بقدر ذنوبهم، ثم يخرجون منها كما يخرج سائر العصاة، نعم.

باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «سترون بعدي أموراً تنكرونها».

وقال عبد الله بن زيد: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اصبروا حتى تلقوني على الحوض».

حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: حدثنا الأعمش قال: حدثنا زيد بن وهب، قال: سمعت عبد الله قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها» قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم».

حدثنا مسدد عن عبد الوارث عن الجعد عن أبي رجاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من كره من أميره شيئاً فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية».

حدثنا أبو النعمان قال: حدثنا حماد بن زيد عن الجعد أبي عثمان قال: حدثني أبو رجاء العطاردي، قال: سمعت ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية».

حدثنا إسماعيل قال: حدثني ابن وهب عن عمرو عن بكير عن بسر بن سعيد عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- وهو مريض قلنا: أصلحك الله حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: دعانا النبي -صلى الله عليه وسلم- فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان.

حدثنا محمد بن عرعرة قال: حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن أسيد بن حضير أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: استعملت فلاناً ولم تستعملني؟ قال: «إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني».

يقول الإمام -رحمه الله تعالى-: "باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- -يعني للأنصار-: «سترون بعدي أموراً تنكرونها»" النبي -عليه الصلاة والسلام- قال للأنصار: «سترون بعدي أموراً تنكرونها» سترون أثرةً بعدي؛ لأن أمر الولاية ليس لهم، بل الأئمة من قريش، والغالب أن من ليست بيده الولاية تقع عليه الأثرة، يؤثر عليه غيره، ولذا قال لهم -عليه الصلاة والسلام-: «سترون بعدي أموراً تنكرونها»، وقال عبد الله بن زيد بن عاصم قال النبي -عليه الصلاة والسلام- للأنصار: «اصبروا» على ما تلقون يعني على ما تلقون بعدي من الأثرة «حتى تلقوني على الحوض».

يقول -رحمه الله-: "حدثنا مسدد" وهو ابن مسرهد السدوسي الإمام المعروف، ذكر بعضهم -وقد لا يصح بالصيغة المجتمعة المذكورة- مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مغربل بن أرندل بن سرندل بن عرندل هذه ذكرت في ترجمته، لكن بهذا التركيب بهذه الصيغة يستنكرها كثيرٌ من أهل العلم، "قال: حدثنا يحيى بن سعيد" الإمام القطان المعروف "قال: حدثنا الأعمش" سليمان بن مهران "قال: حدثنا زيد بن وهب -الجهني- قال سمعت عبد الله" يعني ابن مسعود "قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنكم سترون بعدي أُثرة»" أو أَثرة، ابن مسعود يقول: "قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" ابن مسعود من الأنصار وإلا من المهاجرين؟

طالب:.......

نعم، والخطاب الأول موجه للأنصار كما جاءت بذلك الروايات، وكونه يخص الأنصار بالذكر لأنه ليس لهم من الأمر شيء، ليس لهم من الولاية شيء فهو مظنة لأن يجدوا أثرة، وابن مسعود ومن في حكمه وإن كان من غير الأنصار إلا أنه لبعده عن التطلع عن هذه الأمور لا بد أن يقع عليه شيء من الأثرة؛ لأنه لا يستشرف لمثل هذه الأمور، ولا يتصور أنه يلي أمر من أمور المسلمين لانصرافه عن الدنيا، وعن زهرتها، وعن حظوظها إلى الآخرة.

"قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنكم سترون بعدي أثرة»" سترون ممن يلي الأمر، من ولاة وأمراء بعدي أثرةً، يعني استئثار واختصاص بالحظوظ الدنيوية، فيؤثرون بها غيركم من أقاربهم ومعارفهم، فعلى الإنسان الذي يحس ويشعر بأن غيره أوثر عليه أن يوثر نفسه بما يرضي الله -عز وجل-، فإذا انصرف الناس وتعلقوا واستشرفوا إلى أمور الدنيا فعلى طالب العلم على وجه الخصوص أن يكون نظره إلى الآخرة، ومع ذلكم كما قال الله -جل وعلا-: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [(77) سورة القصص] «إنكم سترون بعدي أثرة» الضبط الآخر: أُثرة وأَثرة، «وأموراً تنكرونها» يعني من أمور الدين، سوف تجدون تغير، ولا يزال التغير يزداد، وكل زمانٍ يزداد السوء بالنسبة لما قبله، «لا يأتي على الناس زمانٌ إلا والذي بعده شرٌ منه».

"قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟" يعني أن نفعل، ماذا نفعل إذا وجدنا مثل هذا؟ إذا وجدنا مثل هذا التغير من ولاة الأمر من أمراء وأعوان ماذا نفعل؟ يعني هل نقاومهم؟ هل نرضى بالأثرة؟ قال -عليه الصلاة والسلام-: «أدوا إليهم حقهم» يعني مما يجب لهم من السمع والطاعة، وأدوا إليهم الزكاة، وجاهدوا معهم، وصلوا وراءهم «أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم» يعني ما يحصل فيه التقصير سلوا الله -عز وجل-، فلا يجوز للإنسان أن تكون همته الدنيا، إن أعطي منها رضي، وإن لم يعطَ منها لم يرضَ، إن أعطي من أمور الدنيا وفى، وإن لم يعطَ من أمور الدنيا لم يفِ، ليكن همه الآخرة، وما يأتيه من أمور الدنيا مما يعينه عليها من غير استشراف يأخذ، كما جاء في حديث أبي ذر عند مسلم، الذي يأتي المسلم من غير استشراف، ولا يغلب على ظنه أنه يراد له مقابل يأخذه، إن تورع عنه فالورع له باب، لكن إن أخذ لا بأس، إن جاءه من غير طلبٍ ولا استشراف، يقول أبو ذر: "فإن كان ثمناً لدينك فلا"، النبي -عليه الصلاة والسلام- لما قالوا، لما أخبرهم أنه سيكون هناك أُثْرة وأَثَرة، وتقديم وتأخير، وزيادة ونقص، وإبعاد وتقريب، هذا موجود على مدى العصور، من بعد الخلفاء الراشدين ظهر هذا الأمر، وكل سنة يزداد الأمر، طيب ماذا نفعل يا رسول الله إذا حصل هذا؟ يعني مقتضاه أن هذا منكر، والمنكر يجب تغييره، فهل نغير؟ قال: لا «أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم» ولا يمنع هذا من النصح، فالنصيحة هي الدين، كما جاء في حديث تميم: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة» قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم» فلا يعني أن الإنسان يقف وهو ممن آتاه الله القدرة على النصح، والقدرة على التأثير والبيان أن ينصح ولاة الأمر بالرفق واللين، بالأسلوب المجدي المناسب النافع الذي يحقق المصلحة دون ترتب أي مفسدة، «أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم».

ثم قال: "حدثنا مسدد عن عبد الوارث -بن سعيد- عن الجعد -أبي عثمان الصيرفي- عن أبي رجاء -العطاردي عمران- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من كره من أميره شيئاً»" يعني سواءً كان من أمر الدين أو من أمر الدنيا، «من كره من أميره شيئاً فليصبر» يصبر؛ لأن بعض الناس -والباعث له الغيرة- قد لا يصبر، لكن النتيجة؟ النتيجة أن يترتب على فعله وعدم صبره ومخالفته للتوجيه النبوي «فليصبر» المسألة تحتاج إلى علاج مناسب، لا يعالج المنكر بما هو أنكر منه، بمفسدة أعظم منه، تحتاج إلى دراسة للأمر، ودراية بالأساليب النافعة الناجعة التي تقضي على المنكر أو تخفف منه بقدر الإمكان، ولا يترتب عليها مفسدة، قال: «فليصبر، فإنه من خرج من السلطان -يعني عن طاعته- شبراً -يعني ولو بشيء يسير- مات ميتة جاهلية» كانت هيئة ميتته كهيئة ميتة من عاش في الجاهلية؛ لأن عمله هذا يؤدي إلى الفوضى، عمله هذا يؤدي إلى الفوضى، والفوضى من سمات الجاهلية، القوي يأكل الضعيف، وإنكار المنكر وإن كان مطلوباً إلا أنه ينكر بطرق مناسبة، والبيان والنصح والتوجيه لا بد أن يكون بأسلوب مناسب مؤثر، لا تترتب عليه مفاسد، إذا كان المنكر الذي يزال ترتب عليه منكر أعظم منه ما استفدنا، المنكر ما زال، المقصود أن على من رأى ما ينكر، وما أكثر ما ينكر في العصور المتأخرة، هذه سنة إلهية، فساد الأزمان، وفساد أهل الزمان في آخر الزمان معروف ومستفيض بالنصوص، والواقع يشهد لذلك، لكن من رأى ما ينكر فليصبر، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «فإنه من خرج من السلطان -يعني من طاعته- شبراً مات ميتةً جاهلية» فكيف بمن خرج ما هو أكبر من الشبر وأعظم منه؟! ويأتي الضابط لما يوجب الخروج، يأتي الضابط وهو الكفر البواح الذي فيه من الله برهان.

يقول: "حدثنا أبو النعمان -محمد بن الفضل- قال: حدثنا حماد بن زيد -بن درهم- عن الجعد -بن دينار الصيرفي- أبي عثمان، قال: حدثني أبو رجاء -عمران- العطاردي، قال: سمعت ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه»" يكرهه يعني من أمور الدنيا أو من أمور الدين ما لم يصل إلى حد الكفر البواح «فليصبر»، «فإنه –واسم إن ضمير الشأن- فإنه من فارق الجماعة -جماعة المسلمين- شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية» يعني: فيه خصلة من خصال الجاهلية قد مات عليها، ولا يعني أن يكون بذلك قد خرج عن دائرة الإسلام وصار جاهلياً، لا، إنما فيه خصلة من خصال الجاهلية، وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام- لأبي ذر: «إنك امرؤٌ فيك جاهلية» وفرقٌ بين أن يكون الرجل جاهلياً وبين أن تكون فيه جاهلية، وبين أن يكون منافقاً وفيه نفاق، وبين أن يكون مشركاً وفيه شرك، كما قرر ذلك أهل العلم، اليهود والنصارى مشركون أو فيهم شرك؟ نعم؟

طالب:.......

فيهم شرك، فيهم شرك ولذا يختلفون في الأحكام عن المشركين، يختلفون في الأحكام عن المشركين هم أهل كتاب لكن فيهم شرك، {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [(6) سورة البينة] ولذا اختلفت أحكامهم عن المشركين الذين استحقوا الوصف الكامل، وكونهم أهل كتاب وفيهم شرك وليسوا بمشركين شركاً مطبقاً كغيرهم لا يعني أنهم على هدى، بل هم كفار خالدون مخلدون في النار، نسأل الله العافية، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [(6) سورة البينة] لا يعني أنهم ليسوا بمشركين، وإنما فيهم شرك، أنهم يرجى لهم شيء، لا، هم كفار على كل حال.

"حدثنا إسماعيل" بن أبي أويس، "قال: حدثني ابن وهب عن عمرو -بن الحارث- عن بكير -بن عبد الله بن الأشج- عن بسر بن سعيد عن جنادة بن أبي أمية -السدوسي- قال: دخلنا على عبادة بن الصامت" عبادة بن الصامت أحد النقباء في العقبة، وقد شهد البيعات الثلاث: الأولى والثانية والثالثة، وإن كانت عاد الثالثة لا يثبتها كثيرٌ من أهل العلم، لكن نص ابن عبد البر وغيره في ترجمته أنه شهد الثلاث، وليس هذا محل بسط ما يتعلق بالبيعات الثلاث، لكن يهمنا هذه البيعة التي بين أيدينا، "دخلنا على عبادة بن الصامت -وهو مريض- قلنا: أصلحك الله" مريض صحابي جليل، "قلنا: أصلحك الله" بعض الشراح يقول: أصلح أمور دنياك، وإلا هو في دينه صالح، هو صالح ولا شك أحدٌ في صلاحه، ومع ذلكم بحاجة إلى مزيد الصلاح، والرسول -عليه الصلاة والسلام- مهتدي، والمؤمنون على هدى، ومع ذلكم يقولون: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [(6) سورة الفاتحة] لا يعني أن الشخص إذا كان صالحاً لا يدعى له بالصلاح، ولذا يغضب كثير من الناس إذا قلت: الله يصلحك، أو أصلحك الله، وإيش أنت ملاحظ؟! كأن الناس تعارفوا على أن هذه اللفظة إنما تقال لصغار السن، فبعضهم يستنكر إذا قيل: أصلحك الله،..كل شخص بحاجة لأن يكون صالحاً، والله المستعان.

"قلنا: أصلحك الله، حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: دعانا النبي -صلى الله عليه وسلم- -ليلة العقبة- فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا" يعني بما اشترط علينا "أن بايعنا على السمع والطاعة" له، السمع والطاعة له، يعني وفي حكمه من يلي أمر المسلمين بعده إلى قيام الساعة من المسلمين، "في منشطنا -يعني في وقت نشاطنا- ومكرهنا" يعني فيما ننشط للاستجابة إليه، "وفي مكرهنا" فيما نكره الإجابة إليه مما يطلبه ولي الأمر، يعني في نشاطنا وعجزنا، فيما نريده وما لا نريده إذا لم يكن معصية لله -عز وجل-، "وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا" لو حصلت الأثرة بايعناه على أن نفي لمن ولاه الله أمرنا، "وأن لا ننازع الأمر أهله" الملك لا ينازع من تولاه، ويستوي في ذلك من تولى باختيارٍ من أهل الحل والعقد ممن تتوافر فيه الشروط، أو تولى بقوته وسلطانه وسيفه، ولو تخلفت فيه بعض الشروط، ففي حال الاختيار لا يجوز أن يولى على المسلمين إلا من اجتمعت فيه الشروط، في حال الإجبار والإكراه إذا تولى بقوته على المسلمين أن يسمعوا ويطيعوا ولو كان عبداً حبشياً، وإن كان في الأصل لا يجوز تولية العبد الحبشي ابتداءً واختياراً، لكن إذا تولى بقوته فإنه حينئذٍ يجب له السمع والطاعة.

"وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً" بواحاً ظاهراً بادياً لا يختلف فيه، قد يوجد من بعض الأمراء مما يرتكبه من المخالفات ما يختلف فيه هل هو مكفر أو غير مكفر؟ هل يخرج من الملة أو لا يخرج؟ مثل هذا لا يجوز الخروج عليه لماذا؟ لأنه ليس بكفرٍ بواح، لأنه ليس بكفرٍ بواح، إنما الموجب للخروج ونزع اليد من الطاعة إنما هو الكفر البواح الظاهر البادي، "عندكم فيه من الله برهان" يعني نصٌ من القرآن أو السنة لا يحتمل التأويل، فإذا كان عندنا برهان، نص من كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- على كفر مرتكب هذا العمل مما لا يحتمل التأويل فإنه حينئذٍ لا سمع ولا طاعة.

ثم بعد هذا يقول الإمام -رحمة الله عليه-: "حدثنا محمد بن عرعرة -القرشي- قال: حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك عن أسيد بن حضير -الأنصاري- أن رجلاً -هو أسيد نفسه- أن رجلاً أتى النبي -عليه الصلاة والسلام-" جرد أسيد من نفسه رجلاً تحدث عنه، هذا يسمونه أسلوب التجريد، "أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: استعملت فلاناً -عمرو بن العاص- ولم تستعملني؟" يعني وليته على أمر من أمور المسلمين ولم تولني، استعملت: يعني وليت، والوالي في عرف المتقدمين عامل، عامل استعملت فهو عامل، وكان عاملاً لعمر وكان عاملاً لفلان، عامل، لما كانت الولايات ينظر فيها نفع المسلمين، والقيام بخدمتهم، والسهر على مصالحهم يسمى عامل، "استعملتَ فلاناً ولم تستعملني، قال: «إنكم سترون بعدي أثرة»" يعني أعظم من ذلك؛ لأن ما فعلته إنما نظرت فيه للمصلحة العامة، وعمرو بن العاص ممن يصلح لهذه الولايات، ليس معنى هذا أن الشخص الذي يولى ينظر فيه مصلحة خاصة، والذي لا يولى ينظر فيه إلى أنه قريبٌ أو بعيد لا، إنما النظر فيمن يحقق المصلحة، ولو كان غيره أفضل منه في ذاته، وكل عملٍ ينتقى له من يناسبه، كل عمل يختار له من يناسبه، كل عمل يختار له من يناسبه ممن يقوم به على أحسن وجه، والخلل بهذا من علامات الساعة، «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» قد لا يكون الشخص أفضل الناس، بل ولا من أفضل الناس بل هو رجلٌ تقوم به الحاجة، ويسد هذا المكان أفضل من غيره، والقوة مع الأمانة مطلبٌ في مثل هذه الولايات، فإذا كان قويٌ في نفسه أمينٌ في تصرفاته فإنه يستحق حينئذٍ أن يولى على مثل هذه الأمور العامة، وعمرو بن العاص بهذه الصفة.

"استعملتَ فلاناً ولم تستعملني قال: «إنكم سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني»" يعني أمور هذه الدنيا ينبغي للمسلم أن لا تكون همه، يكفي منها البلغة، فالأثرة في أمور الدنيا أمرها يسير إذا سلم رأس المال وهو الدين، وكثيرٌ من الناس عاش في هذه الحياة عقود بل ممن عمر، حياته كلها على نقيض ما أراده الله -جل وعلا- من عباده، الأصل أن يعيش الإنسان لدينه هذا الأصل، لكن لحاجته إلى الدنيا قيل له: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [(77) سورة القصص] كثيرٌ من المسلمين مع الأسف الشديد يعيش للدنيا، يعيش عيشته كلها وهمه الدنيا، ومع ذلكم قد ينسى نصيبه من الآخرة وقد لا ينساه، وليس معنى هذا أن الإنسان يصرف عشرين ساعة في العبادة، يصوم النهار، ويقوم الليل، ويتصدق، ويجاهد عمره كله ولا يفتر، قد تكون حياة المسلم كلها عبادة وهو في أريح بال، وأنعم عيش، ينوي في تصرفاته العادية التقرب بها إلى الله -عز وجل-، فتكون حياته كلها عبادات «حتى ما يضعه في فيِّ امرأته» حتى ما يأكله ليستعين به على طاعة الله، حتى في نومه ليستعين به على العبادة، هذه عبادات كلها، فتكون حياته لله -عز وجل-، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ} [(162) سورة الأنعام] كلها لله، والله المستعان.

باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «هلاك أمتي على يدي أغيلمة سفهاء».

حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد قال: أخبرني جدي قال: كنت جالساً مع أبي هريرة -رضي الله عنه- في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، ومعنا مروان، قال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدوق يقول: «هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش» فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة، فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول: بني فلان وبني فلان لفعلت، فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام، فإذا رآهم غلماناً أحداثاً قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم قلنا: أنت أعلم.

يقول الإمام -رحمة الله عليه-: "باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «هلاك أمتي على يدي أغيلمة سفهاء»" أغيلمة: تصغير تحقير إما تصغيراً لأسنانهم فهم صبيان، أو تصغير لعقولهم وأحلامهم فهم سفهاء وإن كانوا كبار السن، فمثل هؤلاء سواءٌ كانوا صغاراً في أسنانهم أو في عقولهم وأحلامهم لا شك أن مثل هؤلاء يهلكون الحرث والنسل، مثل هؤلاء يتصرفون التصرفات المهلكة الضارة.

يقول: "حدثنا موسى بن إسماعيل –التبوذكي- قال: حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد، قال أخبرني جدي -سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص- قال: كنتُ جالساً مع أبي هريرة في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، ومعنا مروان" يعني ابن الحكم الذي تولى فيما بعد، "قال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدوق" الصادق في نفسه، المصدوق عند الله -عز وجل-، "يقول: «هلكة أمتي على يدي غلمة»" في رواية أحمد والنسائي: «سفهاء من قريش»، "فقال مروان: لعنة الله عليهم" هؤلاء الذين يكونون هلاك الأمة على أيديهم ممن ولي أمر المسلمين لعنهم مروان، أبو هريرة لم يلعنهم ولم ينقل لعنهم عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وقد اختلف أهل العلم في لعن من هذا وصفه ممن أشير إليه في هذا الحديث كيزيد بن معاوية والحجاج وأمثالهم، أهل العلم يختلفون في مثل هؤلاء، والإمام أحمد لما سأله ابنه عبد الله عن يزيد وذكر له أنه ممن يستحق اللعن، فقال له: لما لا تلعنه؟ فقال -رحمة الله عليه-: هل عرفت أباك لعاناً، الشخص قد يستحق وصف، لكن هل الناس ملزمون بأن يصفوه بهذا الوصف؟ ليسوا بملزمين، السلامة لا يعدلها شيء، اكفف لسانك، المسألة خلافية، وليس المسلم باللعان ولا بالطعان ولا بالفاحش البذيء، فعلى الإنسان أن يحفظ لسانه ولا يقع في فلان ولا علان، لا سيما مع عدم وجود مصلحة ترجى من هذا، النبي -عليه الصلاة والسلام- لعن بأوصاف، «لعن الله السارق يسرق البيضة» ولعن أشخاص: "اللهم العن فلاناً وفلاناً" فأنزل عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [(128) سورة آل عمران] فينبغي للإنسان ألا يرسل..، يسارع في هذه الأمور ويرسل لسانه، نعم إذا خشي من إنسان بعينه أن يتعدى شره وضرره على من لا يعرف حاله وأن يحذر منه؛ لئلا يتعدى شره وضرره لمن يغتر به.

"فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة" منصوب على اختصاص، "فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول: بني فلان وبني فلان لفعلت" وكأن أبا هريرة -رضي الله عنه- يعرف أسماءهم، فأبو هريرة حفظ من النبي -عليه الصلاة والسلام- وعاءين، أما أحد الوعاءين فبثه في الناس، وهو ما يحتاجون إليه من أمور الدين، وأما الوعاء الثاني الذي لا يحتاجون إليه فكتمه؛ لأنه لو بثه في الناس لقطع منه هذا البلعوم يعني لقتل؛ لأنه فيه ذكر أشخاص من مثل هؤلاء الأغيلمة الذين يكون على أيديهم هلاك الأمة ودمارها، ولا مصلحة من التصريح بأسمائهم، وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يتعوذ بالله -عز وجل- من الستين وإمارة الصبيان، يقول: "اللهم إني أعوذ بك من رأس الستين، وإمارة الصبيان"، رأس الستين توفي معاوية -رضي الله عنه-، تولى بعده ابنه يزيد، فأجاب الله -عز وجل- دعوة أبي هريرة فقبضه قبل ذلك بسنة، توفي سنة (59) أو (58) على خلاف في ذلك، المقصود أن الله أجاب دعاءه فقبضه قبل أن يعاشر ويعامل مثل هؤلاء.

"قال أبو هريرة: "لو شئت أن أقول: بني فلان وبني فلان لفعلت، فكنت -عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد- يقول: "فكنت أخرج مع جدي سعيد بن عمرو إلى بني مروان حين ملكوا بالشام" ولوا الخلافة بالشام، وفي رواية: "ملكوا"، "فإذا رآهم غلماناً أحداثاً –شبان- أحداثاً، قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم؟" يقوله لحفيده: عسى هؤلاء أن يكونوا ممن ذكر أبو هريرة في الحديث، "قلنا: أنت أعلم" أنت أعرف، أنت الذي سمعت أبا هريرة، وأنت الذي عاصرت هؤلاء وعرفتهم من قبل أن يتولوا وبعد ما تولوا، أنت أعرف وأدرى.

باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ويل للعرب من شر قد اقترب».

حدثنا مالك بن إسماعيل قال: حدثنا ابن عيينة أنه سمع الزهري عن عروة عن زينب بنت أم سلمة -رضي الله عنها- عن أم حبيبة عن زينب بنت جحش -رضي الله عنهن- أنها قالت: استيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- من النوم محمراً وجهه يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» وعقد سفيان تسعين أو مائة، قيل: "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث».

حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا ابن عيينة عن الزهري وحدثني محمود قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: أشرف النبي -صلى الله عليه وسلم- على أطم من آطام المدينة، فقال: «هل ترون ما أرى؟» قالوا: لا، قال: «فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر».

يقول الإمام -رحمة الله عليه-: "باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ويل للعرب من شر قد اقترب»" ثم ساق حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش، وهو مخرجٌ في الصحيح في مواضع، وهو أطول ما في الصحيح إسناداً، يعني أنزل ما في البخاري إسناد هذا الحديث، رواه في بعض المواضع تساعي، الآن مالك بن إسماعيل وابن عيينة سمعا الزهري عن عروة عن زينب عن أم حبيبة عن زينب، سباعي، لكن في موضعٍ آخر رواه بسندٍ تساعي، وهو أنزل ما في الصحيح، وأعلى ما في الصحيح كما هو معروف الثلاثيات.

يقول الإمام -رحمه الله تعالى-: "حدثنا مالك بن إسماعيل -بن زياد النهدي- قال: حدثنا ابن عيينة -يعني سفيان- أنه سمع الزهري -محمد بن مسلم بن شهاب الإمام المعروف- عن عروة -بن الزبير- عن زينب بنت أم سلمة عن أم حبيبة عن زينب بنت جحش"، أو ابنت جحش أم المؤمنين -رضي الله عنهن-،..ثلاث صحابيات، "قالت: استيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- من النوم محمراً وجهه" في بعض الروايات بل في آخر الفتن من هذا الكتاب: "دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً فزعاً" وهنا تقول: "استيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- من نومه محمراً وجهه"، دخل عليها بعد أن استيقظ من نومه فزعاً، وكانت حمرة وجهه من ذلك الفزع، فاستيقظ فزعاً، ثم دخل عليها فزعاً، ولا يمنع أن يجتمع هذا كله، "استيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- من النوم محمراً وجهه يقول: «لا إله إلا الله..»" محمراً: حال كونه محمراً وجهه، وجهه: فاعل، يقول: «لا إله إلا الله» كلمة التوحيد، ينبغي أن تقال في كل حال، وعلى كل حال، في كل ظرف وفي كل مناسبة لا إله إلا الله، «وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله»، «ويل للعرب» كلمة تقال عند حصول هلكة أو توقعها، وهي في الأصل كلمة عذاب أو وادٍ في جهنم كما يقول بعض أهل العلم، «ويلٌ للعرب من شر قد اقترب» وتخصيص العرب لأنهم في ذلك الوقت ما دخل غيرهم في الدين أحد، وفي حكمهم ويلٌ له من يوافقهم على الدين، «ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج» كيف يقول: اقترب وقد مضى الآن أكثر من أربعة عشر قرناً ولم يحصل؟ إذا لاحظنا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «بعثت أنا والساعة كهاتين» فزمنه -عليه الصلاة والسلام- قريب من الساعة، باعتبار أنه لم يكن بينه وبين الساعة أحدٌ من الأنبياء، فهو أقرب الأنبياء إلى قيام الساعة، ولذا قال: «ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج» سد يأجوج ومأجوج الذي بناه ذو القرنين، مثل هذه وعقد سفيان تسعين، التسعين يأتي إلى السبابة اليمنى ويجعل طرفها في أصلها، طرف السبابة اليمنى في أصلها في أصل السبابة، ويضمها ضماً محكماً بحيث انطوت عقدتاها حتى صارت كالحية المطوية هذه تسعين، العرب أمةٌ أمية لا يقرأون ولا يحسبون، إنما يتعاملون بالإشارات، ولهم طريقة في الحساب يبدأون بأصابع اليد اليمنى في العشرات، والمئات باليد اليسرى، بأصابع اليد اليسرى.

"عقد تسعين أو مائة" المائة كالتسعين إلا أنها بالخنصر اليسرى، وعلى هذا فالتسعون والمائة متقاربتان، يطوي طرف أو يجعل طرف الخنصر اليسرى في أصلها، ويطويها طياً محكماً حتى تكون شبه الحية، ولذا شك الراوي هل قال: تسعين أو قال: مائة لتقاربهما في الصورة، قال: عقد سفيان أو مائة، قيل للنبي -عليه الصلاة والسلام-: "أنهلك وفينا الصالحون؟" قال: «نعم، إذا كثر الخبث» إذا كثر الخبث صار له وجود من الفجور، الخبث بجميع أنواعه العملي والفكري، الخبث المتعلق بالشهوات، والخبث المتعلق بالشبهات، إذا كثر هذا ووجد وعجز الناس عن إنكاره ومقاومته هلكوا وفيهم الصالحون، وهذا الذي يخشى منه، هذا المخيف وإلا فالأمة تعيش صحوة ورجعة أفضل من سنين كثيرة مضت، يوجد -ولله الحمد- من العلماءمن يوجد من جمع الله لهم بين العلم والعمل، يوجد من طلاب العلم ممن رجعوا إلى تحصيل العلم على الجواد المعروفة المتبعة عند أهل العلم بعد تخبطٍ طويل، يوجد دعاة، يوجد قضاة، يوجد عباد، يوجد زهاد، الأمة فيها خير، في هذه البلاد ظاهر وفي غيرها أيضاً موجود، "أنهلك وفينا الصالحون؟" الصالحون كثير، لكن أهل الهلاك مرتبطون بكثرة الخبث، وظهور الخبث لا يحتاج إلى برهان.

ثم بعد هذا قال: "حدثنا أبو نعيم حدثنا ابن عيينة عن الزهري" أبو نعيم هو الفضل بن دكين كما هو معروف، وابن عيينة: هو سفيان، والزهري: محمد بن مسلم بن شهاب، "عن الزهري، وحدثني محمود" في مثل هذا السياق الأصل أن يقال: "ح" وهي موجودة في بعض الروايات: "ح" التحويل، "وحدثني محمود -بن غيلان- قال: أخبرنا عبد الرزاق -بن همام- قال: أخبرنا معمر -بن راشد- عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: أشرف النبي -عليه الصلاة والسلام-" اطلع من علو -عليه الصلاة والسلام- "على أطم" وهو الحصن "من آطام" من حصون "المدينة"، وفيها حصون كثيرة المدينة "فقال: «هل ترون ما أرى؟» أشرف من علو -عليه الصلاة والسلام- وهو في هذا الأطم، وفي هذا الحصن "فقال: «هل ترون ما أرى؟»، قالوا: لا"، الرسول -عليه الصلاة والسلام- يكشف له، رأى النار وهو يصلي صلاة الكسوف، كشف ولم يروا شيئاً، إنما رأوه تكعكع تأخر، وهنا كشف له عن مواطن الفتن، "فقال: «هل ترون ما أرى؟»، قالوا: لا، قال: «فإني لأرى الفتن»" يراها ببصره -عليه الصلاة والسلام- حيث كشف له عن ذلك، «تقع خلال بيوتكم» يعني بين بيوتكم «كوقع القطر» المراد به: المطر، تنزل على بيوت الناس، وتنزل بينها، وفي خلالها هذه الفتن، كما ينزل المطر، فيعم، وحصلت هذه الفتن بدءًا بمقتل الخليفة الراشد عمر، وهو الباب الذي كسر، ثم ما حصل من قتل عثمان -رضي الله عنه-، ثم ما حصل بعد ذلك من جرائه الخلاف الحاصل بين الصحابة، ثم تتابعت الفتن وتواردت على الأمة، وهي في ازدياد، والله المستعان.

طالب: ذكر عن بعض السلف أنهم إذا مر عليهم الوقت ولم يفتنوا نظروا في أنفسهم، فكيف يمكن الجمع بين ذلك وبين عدم تمني الابتلاء؟

الفتنة لا شك أنها مصيبة، ومن تجاوزها فقد فاز، المصائب لا يتمناها الإنسان، لكن إذا مضى عليه وقت ولم يصب بشيء لا بد أن يفكر في نفسه؛ لأن هذه المصائب وهذه الفتن وهذه المحن هي في الواقع والحقيقة منح من الله -عز وجل-، يرتب عليها الأجور، ويرتب عليها رفع الدرجات إذا تجاوزها الإنسان، فالإنسان الذي لا يصاب بمرض، يمكث خمس سنوات عشر سنوات لم يصب بمرض، نعم عليه أن يحمد الله -عز وجل-، ولا يتمنى أن يمرض، لكن يفكر في نفسه، المؤمن كخامة الزرع عرضة لهذه الأمراض، بينما الكافر بالعكس يستوفي كل ما يستحقه في هذه الدنيا، ويوفر له العذاب يوم القيامة، بينما المؤمن ترد عليه هذه الفتن، ترد عليه هذه المصائب، تكفر ذنوبه تمحصه ترفع درجاته، فهي نوع المصائب، فإذا لم يحصل للإنسان شيء طول عمره لا بد أن يفكر، لماذا الناس يصابون؟ الناس يبتلون؟ الناس يحصلون لهم من الأجور، ورفع الدرجات بسبب..، وأنا لماذا؟ لماذا صرت مشبهاً للكفار الذين لا يصابون؟ فلا شك أن مثل هذا لا بد أن يوجد تساءل، لا بد أن يوجد تساؤل.

يا شيخ -عفا الله عنك- يقول: ورد في الأسئلة أو في الأحاديث أن النبي -صلى الله عليه سلم- يرد بعض الصحابة، وبهذه الأحاديث يأخذ منها الرافضة أن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-  ارتدوا بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فما توجيهكم؟ هل هم من الصحابة أي من المنافقين؟ أم من الذين يأتون بعد عهد الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-؟

الردة بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- حصلت، ولا أحد ينكرها، ورجع إلى الدين كثيرٌ ممن ارتد، وبقي من بقي ومات على ردته، وبعضهم قتل وهو مرتد، فمن رآه منهم فهو من أصحابه، وإن كان هذا النوع وجد فيمن لم يخالط الإيمان بشاشة قلبه، وإن دخل في أصل الإيمان، دخل في الإسلام من الأعراب والبوادي الذين لم تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم، لكن يبقى كبار الصحابة علماء الصحابة فقهاء الصحابة، ما ارتد منهم أحد أبداً، لا يمنع أن يوجد من يرتد من الصحابة؛ لعدم مخالطة الإيمان لقلبه مخالطةً تامة، لعدم تمكن الإيمان من قلبه، وجد من الأعراب من يعطى من المال، يعطى من الزكاة وهو لا يستحق غني، لماذا؟ لكي يتقوى إيمانه، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يعطي الرجل ويترك من هو أفضل منه خشية أن يكبه الله في النار؛ لأن مثل هؤلاء الأعراب الذين ما تمكن الإيمان من قلوبهم مثل هؤلاء يعني عرضة لأن يرتدوا، وقد ارتد منهم من ارتد، ولا يعني هذا أن من كبار الصحابة من ارتد، من علماء الصحابة من ارتد، من فقهاء الصحابة من ارتد أبداً لا يوجد منهم أحد، المنافقون في الأصل ما دخل الإيمان في قلوبهم هم في الباطن كفار فلا يحسبون من هؤلاء، من ارتد من دخل في الإسلام ثم وجد فرصة هذا الخلل الذي حصل بوفاته -عليه الصلاة والسلام-، أو حصل له شبهة جعلته يرتد؛ لأنه ما دام رسول من قبل الله -عز وجل-، ينبغي أن لا يموت جهل فارتدوا بسبب ذلك، وأما الكبار الفقهاء العلماء أجلاء الصحابة ما يعرف منهم أحد، نعم.

عفا الله عنك، السؤال الأخير يقول: من البلايا التي ابتليت بها الأمة الإسلامية في هذه الأيام والتي يواجه بها أهل الغيرة شدةً من الإنكار هي وجود فتاوى من بعض من ينتسب إلى العلم مع أنها خطأ فيقع كثيرٌ من الناس في المنكرات كالإفتاء بجواز القنوات الفضائية والنظر إليها وغيرها من الفتن، مع أنه يوجد في هذه القنوات الفضائية من يتكلم على مثل هذه الأحداث ومثل هذه الفتن فيَضل ويُضل الناس، فما توجيهكم على هذا وفقكم الله؟

وجود هذا النوع ممن يفتي بغير علم مما أشار إليه النبي -عليه الصلاة والسلام- بقوله: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا قبض العلماء اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» لا بد من وجود مثل هؤلاء، لا بد من وجود مثل هؤلاء قضاءً، ولا يعني أنهم شرعاً يمكنون؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أخبر عنهم، لا، نعم هم قدراً –قضاءً- موجودون، مصداقاً لحديثه -عليه الصلاة والسلام-، لكن لا يعني أنهم لا بد أن يوجدوا شرعاً فيتمثل من ولاه الله أمر المسلمين أن يعين من أمثال هؤلاء لتطبيق هذا الخبر ما يمكن؛ لأن ما جاء الخبر عنه مما سيقع في آخر الزمان ليس مطلوب إيجاده ولا تحقيقه، إنما هو موجود كعلامة لقرب الساعة.

وجود مثل هؤلاء لا شك أنه موجود ومنذ أزمان، لكن على طالب العلم الذي يريد الفائدة، وعلى العامي أيضاً أن ينظر من يقتدي به، ينظر من يقلد، ينظر من يعتمد فتواه.

وليس في فتواه مفتٍ متبع

 

ما لم يضف للعلم والدين الورع

إذا وجد الورع والتحري والتثبت إلزم، هذا الذي أراد الله به خيراً، أما شخص يفتي في كل مسألة يقتحم كل غمرة، ولا يتردد في شيء، ولا يتورع عن شيء مثل هذا تصرفاته توجد منه ريبة، ولو كان عنده شيء من العلم ما لم يتصف بهذا الوصف الذي لا بد من تحقيقه لمن يوقع عن الله -عز وجل- في الفتوى، المفتي في الحقيقة يوقع عن الله -عز وجل-، فإذا لم يتصف بهذا الوصف الذي هو الورع الذي يجعله يحتاط ويتحرى ولا يفتي فيما لا يعلم، والملاحظ أن كثيراً ممن يتصدى لهذه الأمور لا يعرف عنه أنه قال: الله أعلم، أو لا أدري، مثل هذا تصاب مقاتله، مثل هذا يقع في الخطأ، بل يكثر منه الخطأ، ولا يعان، ولا يسدد، ولا يوفق، النبي -عليه الصلاة والسلام- لما تكلم عن الخيل، وأنها لثلاثة: «لرجلٍ أجر، ولآخر وزر، ولثالث ستر» بعدها فصل، ثم سئل عن الخيل فقال: «ما أنزل علي فيها شيء»، الرسول -عليه الصلاة والسلام- المعصوم، «إلا هذه الآية الجامعة: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [(7، 8) سورة الزلزلة]» هذه تربية لمن يتولى إفتاء الناس، فإذا كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقف، ما أنزل عليه فيه شيء، يعني بالتفصيل ما عنده شيء، لكن دخولها في عموم هذه الآية تدخل، وتجد كثير من أنصاف المتعلمين يتولى يصدر الناس في العضل في المسائل الكبرى، في الأمور الذي يترتب عليها تغيير مسارات مصائر الأمة قد تجد بعض الناس يتصدى بكلامٍ أشبه بالتحليلات الصحفية، يتوقع أن يكون كذا، واجتمع عنده قرائن وكذا ويا الله خذ، فمثل هؤلاء عليهم أن يتقوا الله -عز وجل-، وأجرأ الناس على الفتيا أجرأهم على النار، ويخشى أن يدخلوا في عداد من يكذب على الله -عز وجل-، {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [(116) سورة النحل] كذب، بل من أظهر وجوه الكذب على الله -عز وجل- الفتيا بغير علم، إذ أنك تقول: إن حكم الله في هذه المسألة كذا، وأنت تكذب عليه، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [(60) سورة الزمر] فعلينا أن نحذر من مثل هؤلاء، ونتقيهم ونقل عنهم أمور تسامحوا فيها وتساهلوا، وقلدهم الناس، ووقعوا فيما وقعوا فيه بسبب أمثال هؤلاء، والله المستعان، ولا يعنى شخص بعينه لكن الكلام عام يعني، وأنا لا أقصد شخص بعينه، لكن يوجد من أمثال هؤلاء، والله المستعان.

"