التعليق على الموافقات (1432) - 10
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
طالب: أحسن الله إليك.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"المسألة الخامسة عشرة: المطلوب الفعل بالكل هو المطلوب بالقصد الأول، وقد يصير مطلوب الترك بالقصد الثاني، كما أن المطلوب الترك بالكل هو المطلوب الترك بالقصد الأول، وقد يصير مطلوب الفعل بالقصد الثاني، وكل واحد منهما لا يخرج عن أصله من القصد الأول".
نعم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
مطلوب الفعل الذي جاء الأمر به بالنص الشرعي إما على سبيل الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة، ومطلب الترك الذي يرد النص بمنعه إما على سبيل التحريم أو الكراهية.
مطلوب الفعل كالصلاة مثلاً بالقصد الأول مطلوب، مأمور بها. الصلاة سواء كانت واجبة أو مستحبة مطلوبة الفعل، لكن قد تكون مطلوبة الترك بالقصد الثاني؛ لمعارضتها لما هو أولى منها، أو لما دخل عليها من خلل. قد يدخل الخلل في الصلاة فتكون مطلوبة الترك، ما يدخل عليها ما يدخلها في حيز الابتداع وهي صلاة تمنع، فتكون مطلوبة الترك بالقصد الثاني. ومن أوضح الأمثلة في الأمور العادية في باب الأطعمة: الأكل والشرب مأمور به لإقامة الصلب وبقاء الحياة، لكن قد يكون هذا المأمور به منهيًّا عنه بالقصد الثاني لمن يضره هذا النوع من الطعام. فمثلاً التمر فيه أحد يقول بمنعه؟ ما فيه أحد يقول بمنعه، بل قد يكون مطلوبًا كالإفطار عليه وكالتصبح به، لكن قد يكون مطلوب الترك بالقصد الثاني لمن يضره التمر. وقل مثل هذا فيما هو مطلوب الترك بالقصد الأول قد يكون مطلوب الفعل بالقصد الثاني؛ لأنه أخف من غيره، فلكونه أخف الضررين يكون مطلوب الفعل لا بالقصد الأول، القصد الأول المطلوب الترك، القصد الثاني لكونه أخف الضررين إن لم تفعله فعلت ما هو أشد منه فإنه يكون حينئذ مطلوب الفعل بالقصد الثاني.
طالب: "أما الأول، فيتبين من أوجه؛ أحدها: أنه قد يؤخذ من حيث قصد الشارع فيه، وهذا هو الأصل، فيُتناول على الوجه المشروع، وينتفع به كذلك، ولا ينسى حق الله فيه لا في سوابقه ولا في لواحقه ولا في قرائنه".
"لا في سوابقه"، يعني ما يسبقه، "ولا في لواحقه": ما يترتب عليه، "ولا في قرائنه": وما يحتف به أثناء فعله. لكن قد يدخل الخلل إما في السوابق أو في اللواحق أو فيما يحتف به، فيقتضي المنع في المطلوبات، أو يقتضي الطلب في الممنوعات.
طالب: "فإذا أُخذ على ذلك الوزان كان مباحًا بالجزء مطلوبًا بالكل، فإن المباحات إنما وضعها الشارع للانتفاع بها على وفق المصالح على الإطلاق، بحيث لا تقدح في دنيا ولا في دين، وهو الاقتصاد فيها، ومن هذه الجهة جعلت نعمًا، وعدت مِننًا، وسميت خيرًا وفضلاً. فإذا خرج المكلف بها عن ذلك الحد إلى أن تكون ضرارًا عليه في الدنيا أو في الدين؛ كانت من هذه الجهة مذمومةً؛ لأنها صدت عن مراعاة وجوه الحقوق السابقة واللاحقة والمقارنة أو عن بعضها، فدخلت المفاسد بدلاً عن المصالح في الدنيا وفي الدين، وإنما سبب ذلك تحمل المكلف منها ما لا يحتمله، فإنه إذا كان يكتفي منها بوجه ما أو بنوع ما أو بقدر ما، وكانت مصالحه تجري على ذلك، ثم زاد على نفسه منها فوق ما يطيقه تدبيره وقوته البدنية والقلبية؛ كان مسرفًا، وضعفت قوته عن حمل الجميع، فوقع الاختلال وظهر الفساد: كالرجل يكفيه لغذائه مثلاً رغيف، وكسبه المستقيم إنما يحمل ذلك المقدار؛ لأن تهيئته لا تقوى على غيره".
نعم. يعني كان كسبه بمقدار قيمة الرغيف، والرغيف يكفيه في يومه، صار الكسب مطلوبًا والأكل مطلوبًا، فإذا تحمل في ذمته قيمة رغيف ثانٍ ولا يحتاجه، صار هذا التحمل مما يُطلب تركه، وكذلك أكل الرغيف الثاني لا سيما إذا كان يضر به كان مطلوب الترك. هو في الأصل مطلوب، سواء الأكل أو التكسب من أجله، كله مطلوب: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]. لكن إذا تعدى ذلك، وأخذ أكثر من حاجته، وترتب عليه أيضًا أنه يُرهق ذمته أكثر من ذلك أكثر مما تطيق، دخل في حيز المنع. والناس في هذا الباب قل من ينجو منهم من المخالفة فيه، تجد الإنسان يؤويه بيت بثلاثمائة ألف، ويكلف نفسه ويرهق ذمته بالديون ويسكن في بيت أضعاف أضعاف ما يحتاجه، ويستمر عشر سنين، عشرين سنة مديونًا من أجل هذا البيت. وقل مثل هذا في شاب في أول التعيين تخرج وعُين، يشتري سيارة يكفيه سيارة بربع أو خمس قيمتها، ثم يتحمل ديون لمدة خمس أو ست سنوات أقساط، ولا يستطيع أن يوفر لا لمأكله ولا لمسكنه ولا لزواجه ولا لنوائبه، كله بسبب الزيادة في هذه الحاجيات، مع أنها مع زيادتها تدخل بحيز الكماليات، يعني أصلها حاجية، لكن القدر الزائد على الحاجة كمالي.
طالب: "فزاد على الرغيف مثله، فذلك إسراف منه في جهة اكتسابه أولاً من حيث كان يتكلف كلفة ما يكفيه مع التقوى، فصار يتكلف كلفة اثنين، وهو مما لا يسعه ذلك إلا مع المخالفة، وفي جهة تناوله فإنه يُحمل نفسه من الغذاء فوق ما تَقْوَى عليه الطباع، فصار ذلك شاقًّا عليه، وربما ضاق نفسه واشتد كربه، وشغله عن التفرغ للعبادة المطلوب فيها الحضور مع الله تعالى".
ولا يمكن أن تتفرغ النفس للعبادة وتقبل عليها إلا مع أخذ القدر الكافي فقط: «بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه»، ولا شك أن الزيادة في الأكل تعوق عن التفرغ في العبادة.
طالب: "وفي جهة عاقبته، فإن أصل كل داء البَرَدَة".
"البَرَدة": التخمة.
طالب: "وهذا قد عمل على وفق الداء، فيوشك أن يقع به. وهكذا حكم سائر أحواله الظاهرة والباطنة في حين الإسراف، فهو في الحقيقة الجالب على نفسه المفسدة، لا نفس الشيء المتناول من حيث هو غذاء تقوم به الحياة".
نعم. من أكل التمر وهو مريض، هل يتجه ذمه للتمر أو يذم نفسه؟ التمر خلقه الله -جل وعلا- للانتفاع به وهو غذاء ومباح بالإجماع، لكن كيفية التناول له هي التي أوقعت في هذا المرض، فالمتناوِل هو الملوم وهو المذموم.
طالب: "فإذا تأملت الحالة، وجدت المذموم صَرْف المكلف في النعم لا أنفس النعم، إلا أنها لما كانت آلةً للحالة المذمومة ذُمت من تلك الجهة وهو القصد الثاني؛ لأنه مبني على قصد المكلف المذموم، وإلا فالرب تعالى قد تعرف إلى عبده بنعمه وامتن بها قبل النظر في فعل المكلف فيها على الإطلاق، وهذا دليل على أنها محمودة بالقصد الأول على الإطلاق، وإنما ذُمت حين صدت من صدت عن سبيل الله، وهو ظاهر لمن تأمله".
يعني لأمر عارض لا لذاتها.
طالب: "والثاني: أن جهة الامتنان لا تزول أصلاً، وقد يزول الإسراف رأسًا، وما هو دائم لا يزول على حال وهو الظاهر في القصد الأول. بخلاف ما قد يزول، فإن المكلف إذا أخذ المباح كما حُد له؛ لم يكن فيه من وجوه الذم شيء، وإذا أخذه من داعي هواه ولم يراع ما حُد له؛ صار مذمومًا في الوجه الذي اتبع فيه هواه، وغير مذموم في الوجه الآخر.
وأيضًا فإن وجه الذم قد تضمن النعمة واندرجت تحته، لكن غطى عليها هواه، ومثاله: أنه إذا تناول مباحًا على غير الجهة المشروعة، فقد حصل له في ضمنه جريان مصالحه على الجملة، وإن كانت مشوبةً فبمتبوع هواه، والأصل هو النعمة، لكن هواه أكسبها بعض أوصاف الفساد، ولم يهدم أصل المصلحة، وإلا فلو انهدم أصل المصلحة لانعدم أصل المباح؛ لأن البناء إنما كان عليه".
ولهذا، ولما تقرر وتقدم، صارت الأحكام تابعة لأفعال المكلفين، هذا يتناول هذه المادة فيؤجر عليها، وهذا يتناول المادة نفسها ويأثم بسببها. لا لأن المادة اختلفت في حق هذا ولم تختلف عن حق هذا؛ إنما لأن تصرف هذا الذي يترتب عليه الثواب والعقاب اختلف عن تصرف ذاك.
طالب: "فلو انهدم أصل المصلحة لانعدم أصل المباح؛ لأن البناء إنما كان عليه، فلم يزل أصل المباح وإن كان مغمورًا تحت أوصاف الاكتساب والاستعمال المذموم، فهذا أيضًا مما يدل على أن كون المباح مذمومًا ومطلوب الترك إنما هو بالقصد الثاني لا بقصد الأول.
والثالث: أن الشريعة مصرِّحة بهذا المعنى، كقوله تعالى: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72]، وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالاً} [يونس: 59]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا...} إلى قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14].
فهذه الآيات وأشباهها تدل على أن ما بُث في الأرض من النعم والمنافع على أصل ما بُث، إلا أن المكلف لما وضع له فيها اختيار به يناط التكليف؛ داخلتها من تلك الجهة الشوائب، لا من جهة ما وضعت له أولاً، فإنها من الوضع الأول خالصة، فإذا جرت في التكليف بحسب المشروع فذلك هو الشكر، وهو جريها على ما وُضعت له أولاً، وإن جرت على غير ذلك فهو الكفران، ومن ثَم انجرت المفاسد وأحاطت بالمكلف، وكلٌّ بقضاء الله وقدره: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، وفي الحديث: «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا»، فقيل: أيأتي الخير بالشر؟ فقال: «لا يأتي الخير إلا بالخير، وإن مما يُنبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يُلم» الحديث.
وأيضًا فباب سد الذرائع مع هذا القبيل، فإنه راجع إلى طلب ترك ما ثبت طلب فِعله لعارض يعرض، وهو أصل متفق عليه في الجملة".
"«إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا»"، هو وجع يصيب بهيمة الأنعام إذا أكثرت من الأكل، ومِن أكلِ نوع أو أنواع معينة من الربيع، هو في الأصل نافع، لكن إذا زادت في الأكل منه ضرها وقتلها، وقل مثل هذا في ابن آدم: ابن آدم إذا زاد من أنواع من الأطعمة، لا شك أنه يتضرر، ولو كان سليمًا معافى ما فيه شيء من الأمراض، لكن التخمة تضر على كل حال كما تقدم، فضلاً عمن به مرض ينفر من هذا النوع من الطعام ولو لم يكثر منه.
طالب: "وأيضًا فباب سد الذرائع من هذا القبيل، فإنه راجع إلى طلب ترك ما ثبت طلب فعله لعارض يعرض، وهو أصل متفق عليه".
هو في الأصل مباح، بل مطلوب، فذمُّ آلهة الكفار مطلوب، وذمَّهم النبي -عليه الصلاة والسلام- ومن قبله من الرسل؛ لكن لما كان سببًا في أن يتعرض الكفار لذم الله وسبه -جل وعلا، تعالى الله عما يقولون- صار السبب والوسيلة والذريعة إليه ممنوعة. نعم. وأسباب سد الذرائع باب كبير جدًّا عند أهل العلم، ويندرج تحته ألوف مؤلفة من المسائل، ومع الأسف الشديد الآن ينادى بفتح الذرائع. قال قائلهم- وهو من المحسوبين على أهل العلم- يقول: نحن ضيقنا على أنفسنا بسد الذرائع، وإلا فالله -جل وعلا- خلق لنا ما في الأرض جميعًا. وكثير من الكتاب يكتب في هذا الباب، ويعمى أو يتعامى عن الآثار التي يجر إليه مثل هذا الكلام. نعم.
طالب: "وهو أصل متفق عليه في الجملة وإن اختلف العلماء في تفاصيله، فليس الخلاف في بعض الفروع مما يُبطل دعوى الإجماع في الجملة".
على أنه أمر مقرر في الشرع وله أدلته المتظاهرة المتكاثرة.
طالب: "لأنهم اتفقوا على مثل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104]".
لأنه ذريعة: {رَاعِنَا} هذا اللفظ قد يُستعمل استعمالاً صحيحًا، في بعض الجهات من الشمال شمال المملكة يستعملونها بكثرة على المراد الصحيح من المراعاة، لكنه يشبه في اللفظ ما يدعيه أو ما يصفه اليهود للنبي -عليه الصلاة والسلام- من الرعونة -عليه الصلاة والسلام-، وكل لفظ أوقع في لبس يجب منعه، وكل فعل أوقع في لبس يجب منعه. بعض الأفعال التي تعرض في وسائل الإعلام مما لا يستوعبها كثير من الناس ويختلط عليهم أمرها بالسحر، وإن ادعى من ادعى أنها خفة وبراعة وخاضعة للمران وما أشبه ذلك، يقول: إن هذه يسمونها السيرك، ويقولون: إن هذه خفة واحتراف، والمحترف وُجد حتى في بعض مدن المملكة عندنا في الفعاليات الصيفية يجيؤون به هنا، يحضرون الساحر، وفي النهاية بعد سنين يُمنع، يُعرف حقيقة أمره، يعني يجلس على طاولة في وسط القاعة والناس يشاهدون، ثم يطلع إلى أن يصل السقف ويدور بالسقف وطاولته بالاحتراف، يقولون: احتراف، ما بقي للساحر شيء. حتى ما يدرك بالمران والاحتراف والمهارة والخفة إذا وصل إلى هذا الحد بحيث لا نستطيع أن نفرق بينه وبين السحر، يجب منعه، ولو قال: إنه ما يستعين بجن ولا يستفيد منهم ولا، هم يتبرعون بإعانته ليوقعوه في المحظور. فعقائد المسلمين أمانة تجب المحافظة عليها من كل قادر يستطيع مثل هذه الأمور.
المسلم على الفطرة ثم يدخلون مثل هذه الأمور ويقال المنتديات، ويقال لهم: هذا احتراف ولا فيه شيء. يأتون بخيط، الخيط هذا الذي تخاط به الثياب الذي قد لا يرى بالعين المجردة، ويوضع بين جبلين، ويأتي صاحب دباب يمشي مائتين على هذا الخيط، وخلينا نتجاوز عن مشيه على الطبيعة، لكن يرجع بنفس السرعة وهو على الخيط، ويقول: احتراف! كل شيء يوقع أو يلبس المباح بالمحظور يجب منعه.
كلمة {رَاعِنَا} الآن ما تفيد، وإن قلتها من أجل المراعاة، من أجل ألا تشابه ويتذرع بها من يقولها ويريد المعنى الثاني. مقرر في عقائد المسلمين أن أي لفظ محتمل يجب منعه، بكتب العقائد يقررون هذا.
طالب: "وقوله: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108]، وشبه ذلك، والشواهد فيه كثيرة. وهكذا الحكم في المطلوب طلب الندب، قد يصير بالقصد الثاني مطلوب الترك، حسبما تناولته أدلة التعمق والتشديد، والنهي عن الوصال، وسرد الصيام، والتبتل، وقد تقدم من ذلك كثير.
ومثله: المطلوب طلب الوجوب عزيمةً، قد يصير بالقصد الثاني مطلوب الترك، إذا كان مقتضى العزيمة فيه مشوشًا وعائدًا على الواجب بالنقصان، كقوله: «ليس من البر الصيام في السفر»، وأشباه ذلك".
يعني إذا صاحبت هذا الصيام المشقة الشديدة، إذا صاحبه، إذا كان يحتمله من غير مشقة أو يسهل عليه، النبي -عليه الصلاة والسلام- صام في السفر. إذا كان يحتمله مع شيء من المشقة أو شيء من فوات المصالح فإنه «ليس من البر الصيام في السفر»، وإذا زادت المشقة يأتي قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أولئك العصاة، أولئك العصاة». فالعبادة في أصلها مطلوبة، لكن قد يعتريها ما يمنع منها.
طالب: "فالحاصل أن المطلوب بالقصد الأول على الإطلاق قد يصير مطلوب الترك بالقصد الثاني، وهو المطلوب.
فإن قيل: هذا معارض بما يدل على خلافه، وأن المدح والذم راجع إلى ما بُث في الأرض وعلى ما وُضع فيها من المنافع على سواء".
يعني هذا القول يقتضي أنك تذم التمر؛ لأنه يضرك، يعني التمر ممدوح لأناس ومذموم لآخرين، ويتعدى هذا الأمر أن يكون هذا القرآن ممدوحًا بالنسبة لمن اهتدى بسببه ومذمومًا بالنسبة لمن ضل بسببه: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26].
طالب: أو يضل.
طالب: .......
نعم؟
طالب: .......
نعم.
نعم، {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ} [الإسراء: 82]، أو {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26]، المقصود أنه يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا. من ضل به يُذم القرآن بسبب ضلاله، والإضلال له، هذا من مقتضى هذا القول، ومن اهتدى به يُمدح بسبب هدايته، مع أن القرآن هو القرآن، هدى للكل لكن هذا اختار هذا الطريق، وذاك اختار هذا الطريق ولا مكره له، وله حرية واختيار يختار ما شاء، والله المستعان.
"وأن المدح والذم راجع إلى ما بَث في الأرض أو ما بُث في الأرض وعلى ما وُضع فيها من المنافع على سواء"، يعني هل نقول: إن التمر ممدوح لزيد ومذموم لعمرو؛ لأن هذا يأكله ولا يضره، وهذا يأكل ويضره؟ هو التمر من نخلة واحدة، أو أن المذموم تصرف هذا دون تصرف هذا؟ هذا الصحيح.
طالب: "فإن الله -عزَّ وجلَّ- قال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7]، وقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]، وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
وقد مر أن التكاليف وُضعت للابتلاء والاختبار؛ ليظهر في الشاهد ما سبق العلم به في الغائب، وقد سبق العلم بأن هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، لكن بحسب ذلك الابتلاء، والابتلاء إنما يكون بما له جهتان، لا بما هو ذو جهة واحدة، ولذلك ترى النعم المبثوثة في الأرض للعباد لا يتعلق بها من حيث هي مدح ولا ذم، ولا أمر ولا نهي، وإنما يتعلق بها من حيث تصرفات المكلفين فيها، وتصرفات المكلفين بالنسبة إليها على سواء، فإذا عُدت نعمًا ومصالح من حيث تصرفات المكلفين، فهي معدودة فتنًا ونقمًا بالنسبة إلى تصرفاتهم أيضًا، ويوضح ذلك أن الأمور المبثوثة للانتفاع ممكنة في جهتي المصلحة والمفسدة ومهيئة للتصرفين معًا، فإذا كانت الأمور المبثوثة في الأرض للتكليف بهذا القصد وعلى هذا الوجه، فكيف يترجح أحد الجانبين على الآخر، حتى يُعد القصد الأول هو بثها نعمًا فقط؟ وكونها نقمًا وفتنًا إنما هو على القصد الثاني.
فالجواب أن لا معارضة في ذلك من وجهين؛ أحدهما: أن هذه الظواهر التي نُصت على أنها نِعم مجردة من الشوائب، إما أن يكون المراد بها ما هو ظاهرها، وهو المطلوب الأول، أو يراد بها أنها في الحقيقة على غير ذلك، وهذا الثاني لا يصح؛ إذ لا يمكن في العقل ولا يوجد في السمع أن يخبر الله تعالى عن أمر بخلاف ما هو عليه، فإنا إن فرضنا أن هذه المبثوثات ليست بنِعم خالصة، كما أنها ليست بنقم خالصة، فإخبار الله عنها بأنها نِعم، وأنه امتن بها، وجعلها حجةً على الخلق ومظنةً لحصول الشكر مخالفٌ للمعقول، ثم إذا نظرنا في تفاصيل النعم، كقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ: 6، 7] إلى آخر الآيات، وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ} [النحل: 10]، إلى آخر ما ذكر فيها وفي غيرها، أفيصح في واحدة منها أن يقال: إنها ليست كذلك بإطلاق، أو يقال: إنها نِعم بالنسبة إلى قوم، ونقم بالنسبة إلى قوم آخرين؟
هذا كله خارج عن حكم المعقول والمنقول. والشواهد لهذا أن القرآن أنزل هدًى ورحمةً وشفاءً لما في الصدور، وأنه النور الأعظم، وطريقه هو الطريق المستقيم، وأنه لا يصح أن يُنسب إليه خلاف ذلك، مع أنه قد جاء فيه: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]، وأنه: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] لا لغيرهم، وأنه: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان: 3]، إلى أشباه ذلك. ولا يصح أن يقال: أُنزل القرآن ليكون هدًى لقوم وضلالاً لآخرين، أو هو محتمل لأن يكون هدًى أو ضلالاً، نعوذ بالله من هذا التوهم. لا يقال: إن ذلك قد يصح بالاعتبارين المذكورين في أن الحياة الدنيا لعب ولهو، وأنها سُلم إلى السعادة، وجد لا هزل، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الدخان: 38]؛ لأنا نقول: هذا حق إذا حملنا التعرف بالنعم على ظاهر ما دلت عليه النصوص، كما يصح في كون القرآن هدًى وشفاءً ونورًا كما دل عليه الإجماع، وما سوى ذلك فمحمول على وجه لا يخل بالقصد الأول في بث النعم".
نعم، كل هذه نِعم، لكن ما الذي يقلبها نقمًا؟ هل هي بأعيانها وذواتها تنقلب نقمًا، أو أن تصرف المكلف هو الذي يجعلها نقمة؟ البصر مثلاً يختلف أحد في أنه نعمة؟ هل فيه أحد يختلف أنه نعمة؟ أو السمع؟ ما فيه أحد يختلف في أنها من أعظم نعم الله على بني آدم، لكن هذا استعمل بصره فيما يقربه إلى الله، وهذا استعمل بصره فيما يبعده إلى الله، وهذا استعمل سمعه فيما ينتفع به في الدنيا والآخرة، والآخر استعمل سمعه فيما يضره في دينه ودنياه، فيعود المدح والذم لعمل المكلف.
طالب: صدقت.
نعم.
طالب: "والوجه الثاني: أن كون النعم تئول بأصحابها إلى النقم إنما ذلك من جهة وضع المكلف؛ لأنها لم تصر نقمًا في أنفسها، بل استعمالها على غير الوجه المقصود فيها هو الذي صيَّرها كذلك، فإن كون الأرض مهادًا والجبال أوتادًا وجميع ما أشبهه نِعم ظاهرة لم تتغير، فلما صارت تقابل بالكفران بأخذها على غير ما حُد صارت عليهم وبالاً، وفعلهم فيها هو الوبال في الحقيقة لا هي؛ لأنهم استعانوا بنعم الله على معاصيه. وعلى هذا الترتيب جرى شأن القرآن، فإنهم لما مُثلت أصنامهم التي اتخذوها من دون الله ببيت العنكبوت في ضعفه، تركوا التأمل والاعتبار فيما قيل لهم حتى يتحققوا".
يعني فيما يخصهم تركوا هذا الاعتبار، فيما يخصهم من اتخاذهم الأصنام والأوثان تركوه ولا التفتوا إليه، نظروا إلى اللفظ القرآني: {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} ماذا أراد الله بهذا المثل؟ يعني ما يجد أكبر من هذا أو أقوى من هذا أو... يضرب به المثل؟
طالب: "تركوا التأمل والاعتبار فيما قيل لهم حتى يتحققوا أن الأمر كذلك، وأخذوا في ظاهر التمثيل بالعنكبوت من غير التفات إلى المقصود، وقالوا: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} [البقرة: 26]؟ فأخبر الله تعالى عن الحقيقة السابقة فيمن شأنه هذا بقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26]، ثم استدرك البيان المنتظر بقوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]؛ نفيًا لتوهم من يتوهم أنه أُنزل بقصد الإضلال لقوم، والهداية لقوم، أي: هو هدًى كما قال أولاً: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، لكن الفاسقين يضلون بنظرهم إلى غير المقصود من إنزال القرآن، كذلك هو هدًى للمتقين الذين ينظرون إلى صوب الحقيقة فيه، وهو الذي أُنزل من أجله، وهذا المكان يُستمد من المسألة الأولى.
فإذا تقرر هذا، صارت النعم نعمًا بالقصد الأول، وكونها بالنسبة إلى قوم آخرين بخلاف ذلك، من جهة أخذهم لها على غير الصوب الموضوع فيها، وذلك معنى القصد الثاني، والله أعلم".
يكفي يكفي، بركة.
طالب: .......
نعم.
طالب: .......
نعم؟
طالب: .......
كل مثل نعم، وحتى الذباب، يقولون: ما لقي إلا ذبابًا يضرب بها المثل؟ ما يدل أن كل ما صغر الشيء كان أوقع، {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73]، {لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ}، والذي يسمونه العلم الحديث والمخترعات الحديثة أثبتت أن الذباب إذا أخذ شيئًا ذاب في فمه، حيث لا يمكن أن يُستنقذ بأي وسيلة من الوسائل، وهذه خاصة بالذباب، ما يوجد غيره على هذا المثال.
طالب: أحسن الله إليك يا شيخ .......
لا شك أن مثل الاستثناء استدراك.