بلوغ المرام - كتاب الطهارة (02)
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام- كتاب الطهارة (2)
الشيخ/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول الحافظ -رحمه الله تعالى- في كتابه المشروح بلوغ المرام من أدلة الأحكام في الحديث الأول، قرئ وإلا ما..؟ قرأت الحديث الأول؟
طالب:.......
يقول -رحمه الله تعالى-:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في البحر: ((هو الطهور ماؤه, الحل ميتته)) [أخرجه الأربعة]: وعرفنا المراد بالأربعة وأنهم أبو داود والترمذي و النسائي وابن ماجه -أصحاب السنن- وابن أبي شيبة: صاحب المصنف الكبير واللفظ له: يعني والمعنى لغيره، وصححه ابن خزيمة والترمذي: في بعض النسخ يوجد زيادة في التخريج ورواه مالك والشافعي وأحمد: لكن هذه لا توجد في أكثر النسخ المعتمدة، وإن وجدت في بعضها.
وعلى كل حال الحديث أخرجه من سمعتم، وخلاصة القول فيه أنه حديث صحيح، خلاصة القول أنه حديث صحيح.
بل قال ابن العربي في شرح الترمذي بعد أن صححه قال: إن الإمام البخاري لم يخرج هذا الحديث؛ لأنه جاء من طريق واحد فليس على شرطه.
وابن العربي يزعم أن من شرط الإمام البخاري ألا يخرج حديثاً تفرد به راو واحد، بل لا بد من تعدد الرواة، هذا شرطه في صحيحه -على حد زعم ابن العربي- والكرماني الشارح -شارح البخاري- وإليه يؤمئ كلام الحاكم، أن الإمام البخاري لا يصحح الحديث -شرط لصحة الحديث- أن يروى من أكثر من وجه -من أكثر من طريق- وهذا القول كما هو معروف مردود، يرده الواقع -واقع الصحيح-؛ فأول حديث في الصحيح غريب تفرد به عمر -رضي الله عنه- وتفرد بروايته عنه علقمة بن وقاص، وتفرد بالرواية عنه محمد بن إبراهيم التيمي، وتفرد بروايته عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، وعنه انتشر، وكذلك آخر حديث في الصحيح: ((كلمتان خفيفتان على اللسان...)) إلى آخره، تفرد بروايته أبو هريرة، وعنه أبو زرعة عمرو بن جرير البجلي، وعنه محمد بن فضيل، نعم؟
على كل حال مثله مثل الحديث الأول، التفرد وقع في أربع طبقات من إسناده، وغرائب الصحيح موجودة وفيها كثرة، منه حديث ابن عمر في النهي عن بيع الولاء والهبة، وهبته، كل هذه غرائب ترد هذه الدعوى، ولذا يقول الصنعاني في نظم النخبة بعد أن عرف العزيز أنه ما رواه اثنان قال:
وليس شرطاً للصحيح فاعلم
|
|
وقد رمي من قال بالتوهم
|
ولا شك أن هذه غفلة ممن يشرح الصحيح ويزعم أن هذا شرط البخاري، وغرائب الصحيح ترد هذا القول، والغريب أنه يفهم أيضاً من كلام البيهقي.
على كل حال الحديث صحيح، ولا يلزم لصحة الخبر تعدد الطرق، وراويه أبو هريرة راوية الإسلام وحافظ الأمة، اشتهر بكنيته، والمعروف والمطَّرد أن من اشتهر بشيء نسي غيره، فمن اشتهر بالكنية نسي الاسم، ومن اشتهر بالاسم نسيت الكنية.
فأبو هريرة أختلف في اسمه واسم أبيه على نحو من ثلاثين قولاً، لكن المرجح عند الأكثر أنه عبد الرحمن بن صخر الدوسي، أسلم عام خيبر وتوفي سنة تسع وخمسين.
ومن اشتهر بالكنية -كما هنا- يضيع اسمه سواءً كان من المتقدمين أو من المتأخرين.
من منكم من يعرف اسم أبي تراب الظاهري؟ نعم، اشتهر بالكنية لكن الاسم.
طالب:.......
إيه، اسمه عبد الرحمن بن..؟
طالب:.......
شوف لولا أنه حديث عهد بالوفاة، كتب عنه في الصحف يمكن ما يعرف اسمه، وهذا شأن كل من اشتهر بشيء.
من يعرف كنية قتادة؟ لأنه اشتهر بقتادة ما اشتهر بكنيته؟ هاه نحن في مجتمع طلبة علم، من يعرف كنية قتادة؟
أشهر من نار على علم باسمه، كما أن أبا هريرة أشهر منه بكنيته، لكن جرت العادة أن الناس إذا تواطؤوا على شيء وتتابعوا عليه نسوا غيره.
كنية قتادة، هاه؟
طالب:.......
أبو الخطاب؟ نعم؟
طالب:.......
نعم، أقول: هذه العادة، هذه العادة جرت أن الناس إذا تواطؤوا على شيء نسوا غيره.
قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في البحر: يعني في شأنه، وفي حكم مائه من حيث الطهارة وعدمها.
والحديث له سبب، وهو أنهم كانوا يركبون البحر، ويحملون معهم القليل من الماء، فإن توضؤوا به عطشوا كما جاء في السؤال: "أنتوضأ من ماء البحر"، قال -عليه الصلاة والسلام-: ((هو الطهور ماؤه)): كلامه يبدأ من هنا، والسؤال -كما هو معروف- كان معاد في الجواب، ((هو الطهور ماؤه)): يعني البحر، والمراد بالبحر الماء المستبحر الكثير، وخص إطلاقه عرفاً على الماء المالح.
((هو الطهور ماؤه الحل ميتته)): قد يقول قائل: إن الجواب المطابق للسؤال: أنتوضأ من ماء البحر؟ الجواب: نعم، الجواب: نعم، هذا هو المطابق، وأما قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((هو الطهور ماؤه الحل ميتته)) فغير مطابق للسؤال، ويشترطون في الجواب أن يكون مطابقاً للسؤال، لكن هنا الجواب الشافي الكافي حصل، ولم يبق للسائل أدنى تردد، بل أجيب بما يحتاج إليه وزيادة، فلو قيل: نعم لاحتيج إلى أسئلة أخرى، ولكن جاء الجواب الكافي الشافي العام الشامل لمن يحمل الماء القليل، ولمن يحمل الماء الكثير، ولمن لا يحمل الماء أصلاً، فأجيب السائل بما طلب، بل بأزيد مما طلب: ((هو الطهور ماؤه الحل ميتته)): لم يسأل عن ميتة البحر فأجيب عن ذلك لشدة حاجة السائل إليه؛ لأن هذا السائل لما تردد في طهارة الماء فهو لا شك أنه بالنسبة لميتة البحر أشد تردداً، وأشد إشكالاً بعد أن عرفوا تحريم الميتة، ولا شك أنهم يحتاجون إلى الطعام كحاجتهم إلى الماء، فجاء هذا الجواب الشامل منه -عليه الصلاة والسلام-، والمطابقة إنما تشترط حينما ينقص الجواب عن مراد السائل، ولا يلزم المطابقة بحيث لا يزيد الجواب عن مراد السائل وطلبه.
البحر: المراد هو الماء أي في الأصل، لكن المراد به هنا مكانه، مكانه؛ لأن الضمير يعود إليه، يعود إلى البحر، ولو قلنا: إن المراد به الماء المستبحر الكثير المالح لاضطرب الكلام، لصار المعنى ماء البحر هو الطهور ماؤه، ماء البحر وليس ذلك بمراد، إنما المراد المكان، والظرف الحاوي لهذا الماء هو الطهور ماؤه أي الماء الواقع فيه.
والطهور ما يتطهر به –طَهُور- والطُّهور المصدر فعل المتطهر، وهو بمعنى التطهر، المصدر بمعنى التطهر، والطَّهور هو ما يتطهر به كالوضوء، الماء الذي يتوضأ به.
((ماؤه)): فاعل، فاعل المصدر، ومثله ميتته فاعل الحل، والمراد بالحل ضد الحرام، ضد الحرام، الحل ضد المحظور، فميتة البحر حلال، كما أن ماءه طهور بمعنى أنه طاهر في نفسه مطهر لغيره، طاهر في نفسه ولو تغير طعمه؛ لأن الذي أوجد الإشكال عند السائل تغير طعم ماء البحر، كأنه لما سمع قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} [(48) سورة الفرقان]، رأى أن غير ماء السماء وما يشبهه في الطعم أنه مشكل، فسأل عنه.
فماء البحر طهور، وميتته حلال، والمراد بميتة البحر مما لا يعيش إلا به -في البحر- ما لا يعيش إلا في البحر.
وتفصيل ميتة البحر يأتي في كتاب الأطعمة، لكن ما يمنع أننا نشير إشارة إلى أن أهل العلم اختلفوا في المراد بميتة البحر، فمنهم من قال مثل ما تقدم: ما لا يعيش إلا في البحر سواءً كان جنسه ممنوعاً في البر أو ليس بممنوع، ككلب البحر وخنزيره.
كلب البحر، خنزير البحر حلال وإلا حرام، إنسان البحر؟ إنسان البر لا يجوز أكله، كلب البر لا يجوز أكله، خنزير البر لا يجوز أكله، البري لا يجوز أكله، فهل خنزير البحر يجوز أكله أو لا يجوز؟
مقتضى هذا الحديث: ((الحل ميتته)) أنه يجوز، ومقتضى النصوص القطعية من الكتاب والسنة أن الخنزير لا يجوز أكله، فهل نقول: إن ما جاء في الآيات والأحاديث من تحريم أكل لحم الخنزير عام مخصوص بهذا الحديث؟ أو نقول: هذا الحديث عام مخصوص بالآيات والأحاديث الدالة على تحريم أكل لحم الخنزير؟
والمسألة تحتاج إلى مزيد من البسط فترجأ إلى محلها، لكن الذي يهمنا هنا قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((هو الطهور ماؤه))، ((هو الطهور ماؤه)): فما البحر طهور، يجوز رفع الحدث به، و استقر الإجماع على ذلك، وإن عرف عن بعض السلف المنع من التطهر به، وأنه لا يرفع الحدث، لكن الإجماع استقر على طهارة ماء البحر وأنه رافع للحدث.
ولسنا بحاجة إلى أن نترجم إلى الأربعة وابن أبي شيبة، وصححه ابن خزيمة والترمذي إلى آخره، لسنا بحاجة إلى مزيد البسط في تراجم هؤلاء الأئمة؛ فهي موجودة مدونة في كتب الإسلام.
صححه..، والحديث صحيح كما عرفنا، والصحيح حقيقته عند أهل العلم: ما رواه عدل تام الضبط، بسند متصل غير معلل ولا شاذ، يعني ما رواه الثقة بسند متصل، يعني عن مثله إلى النهاية من غير شذوذ ولا علة قادحة
فالأول المتصل الإسناد
|
|
بنقل عدل ضابط الفؤاد
|
فإذا توفرت هذه الشروط: عدالة الرواة وتمام ضبطهم، واتصل الإسناد، وخلى المتن من الشذوذ والعلة القادحة، خلى المتن من مخالفة من هو أحفظ وأضبط، وخلى أيضاً مما يقدح فيه من علل خفية، فإنه حينئذ يحكم له بالصحة، نعم.
الحديث الثاني:
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء)) [أخرجه الثلاثة وصححه أحمد].
وعن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الماء لا ينجسه شيء, إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه)) [أخرجه ابن ماجه وضعفه أبو حاتم]، وللبيهقي: ((الماء طاهر إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه)).
نعم حديث أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخزرجي الأنصاري الخدري المعروف بحديث بئر بضاعة، وهي بئر بالمدينة كانت في منهبط من الأرض، يقول الراوي: تلقى فيها الحيض والنتن ولحوم الكلاب.
سئل عنها النبي -عليه الصلاة والسلام-: "أنتوضأ"، وفي رواية: "أتتوضأ من بئر بضاعة؟"، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء)): وحديث بئر بضاعة أخرجه الثلاثة: والمراد بهم أبو داود والترمذي والنسائي، وصححه أحمد: وأما الترمذي فاقتصر على تحسينه، وصححه أيضاً النووي في المجموع، والبغوي في شرح السنة، والألباني وغيره، فالحديث -حديث بئر بضاعة- صحيح، هكذا قال الإمام أحمد فيما نقله عنه المنذري وغيره.
فالحديث صحيح، لكن قد يقول قائل: كيف يحصل أن تلقى هذه الأمور في هذا المورد الذي يحتاجه الناس، وقد نهى النبي -عليه الصلاة والسلام- عن البراز في الموارد، بل لعن فاعل ذلك، أو نقول: بما يشبه قول الظاهرية: إن المحظور البول المباشر، والبراز المباشر، أما إلقاء النجاسات فلا بأس به، كما نقل عن الظاهرية في حديث تحريم البول في الماء الراكد، أن البول في الماء الراكد مباشرة حرام، لكن لو بال إنسان في إناء ثم صبه مقتضى مذهبهم وما ينقل عنهم أنه لا بأس به.
على كل حال البول في الموارد -موارد المياه وجميع ما يحتاجه الناس- محرم، بل من الكبائر.
وهنا هذه البئر في منحدر من الأرض فتلقي الرياح والسيول هذه القاذورات في هذه البئر، ولا يظن بالصحابة الذين هم أفضل الأمة، بل أفضل الخلق بعد الأنبياء أن يظن بهم هذا الظن السيئ، بل قال الخطابي وغيره: إنه لا يظن بذمي ولا بمشرك أن يفعل مثل هذا، فضلاً عن أفضل الناس، وأورع الناس، وأتقى الناس لله، وأخشاهم له، فهذه البئر كانت في منخفض من الأرض، يلقي الناس زبلهم قريباً منها، ثم تأتي هذه الرياح والسيول والأمطار فتجترف هذه القاذورات فتقع في هذه البئر، لما سئل عن هذا الماء الذي تقع فيه هذه النجاسات أجاب -عليه الصلاة والسلام- بالجواب العام الذي يشمل هذه البئر وغيرها: ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء)) ((إن الماء طهور)): جنس الماء طهور لا ينجسه شيء، الاستثناء الوارد في حديث أبي أمامة: ((إلا ما غلب على ريحه أو لونه وطعمه))، ((إلا أن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه))، هذا الاستثناء ضعيف باتفاق الحفاظ، لكن حكمه متفق عليه -مجمع عليه- فقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء)) مخصوص بالتغير -تغير اللون والطعم والرائحة- فإذا تغير لون الماء أو طعمه أو رائحته بسبب نجاسة ألقيت فيه، لا بسبب طول مكثه، كالآجن، الآجن المتغير بالمكث، يجوز التطهر به، ولم يعرف الخلاف فيه إلا عن ابن سيرين فقد كرهه.
أما المتغير بلون النجاسة أو طعمها أو ريحها من جراء إلقاء هذه النجاسة أو وقوعها فيه من غير قصد فإنه لا يرفع الحدث ولا يزول النجس، بل هو نجس اتفاقاً.
فالحجة على تنجيسه -كما يقول أهل العلم- الإجماع، وليس الاستثناء الوارد في حديث أبي أمامة المخرج عند ابن ماجه والبيهقي وغيرهما.
حديث أبي أمامة ضعفه أبو حاتم بسبب تفرد رشدين بن سعد بروايته وهو ضعيف، قال أبو حاتم: رشدين بن سعد ليس بالقوي والصحيح أنه مرسل، في رواية البيهقي بقية بن الوليد وهو شديد التدليس وقد عنعن.
على كل حال الاستثناء ضعيف باتفاق الحفاظ، وأما أصل الحديث حديث بئر بضاعة فهو صحيح.
((الماء طهور لا ينجسه شيء)): يستدل به مالك ومن يقول بقوله أن الأصل في الماء أنه طاهر إلا إن تغير، ويستوي في ذلك القليل والكثير، يستوي في ذلك القليل والكثير، وأن التفريق بين القليل والكثير -على ما سيأتي في حديث ابن عمر حديث القلتين- لا ينهض لمعارضة هذا الحديث، حتى عند من صححه، فالماء الأصل فيه الطهارة إلا إن تغير وهو قول مالك، ويرجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وكثير من المحققين بخلاف قول أبي حنيفة والشافعي، وأحمد، وأنهم يفرقون بين القليل والكثير، وكل على مذهبه في التفريق، فمن اعتمد حديث القلتين قال: الفرق بلوغ القلتين، فالذي يبلغ القلتين لا يحمل الخبث، فلا ينجس إلا بالتغير، والذي لا يبلغ القلتين بل ينقص عنهما فإنه ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة ولو لم يتغير، وهذا المعروف عند الشافعية والحنابلة، وأما عند الحنفية فالإمام أبو حنيفة يرى أن القليل هو الذي إذا حرك طرفه تحرك طرفه الآخر، وصاحباه يرون أن القليل ما لم يبلغ العشرة -عشرة أذرع في عشرة- وهذا تفصيله موجود في كتب الشروح وكتب الفقه.
الغزالي في الإحياء تمنى أن لو كان مذهب الإمام الشافعي مثل مذهب مالك، وأن الماء لا يحكم بنجاسته إلا إذا تغير؛ وهذا سببه التقليد، وإلا فما الذي يمنع الغزالي أن يرجح مذهب مالك ويسلم، لا شك أنه لزم على أقوال الأئمة بسبب التفريق بين القليل والكثير، نشأ حرج كبير وفروع في كتب الفقه، هي عن يسر الشريعة وسماحتها بمعزل، ولا شك أن الأئمة عمدتهم في ذلك النصوص، وهم بأفهامهم وما يؤديه إليه اجتهادهم مطالبون، ولا يلزمون باجتهاد غيرهم، لكن إذا ترتب على القول بالتفريق بين الكثير والقليل كما قال النووي في المجموع: أنه لو وجد ماء قدره قلتان في إناء كبير يسع خمس قرب، خمسمائة رطل، لا تنقص ولا رطل واحد، لو أخذ منه بذنوب أو دلو أو بإناء بحيث ينقص عن القلتين، نفترض أن هذا الماء في إناء كبير في خمس قرب، ثم وقعت فيه نجاسة، ولم تغير لا لونه ولا طعمه ولا ريحه، هذا على مقتضى مذهبهم طاهر وإلا نجس؟ طاهر، طاهر؛ لأنه بلغ القلتين، لكن لو أخذت من هذا الماء بذنوب بعد أن وقعت فيه النجاسة وحكمت بطهارته فالذي في داخل الدلو طاهر، والذي يسقط من خارجه نجس.
لهم على قولهم تفريع، تفاريع ومسائل يصعب حصرها ويعسر فهمها ويشق تطبيقها، ولذا تمنى الغزالي أن لو كان مذهب الإمام الشافعي مثل مذهب مالك، والذي جره إلى هذا التمني هو كونه مقلداً، وإلا لو نظر في الأدلة ورجح ما أداه إليه اجتهاده انتهى الإشكال.
الغزالي ما تمنى أن يكون الراجح -القول الراجح- من حيث الدليل قول مالك، تمنى أن الشافعي رجح القول الثاني؛ لأنه مقلد.
على كل حال هذه الأقوال باختصار، وقول مالك رجحه كثير من أهل التحقيق، وأن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وأن عمدته في ذلك الإجماع الذي لا بد أن يعتمد على دليل ولو لم يبلغنا، وأن الزيادة الواردة في حديث أبي أمامة ضعيفة باتفاق الحفاظ، لكن قد يقول قائل: لماذا لا نستدل على ثبوت هذا الاستثناء وهذه الزيادة بالإجماع؟ كما قال بعضهم: إن عمل العالم على مقتضى حديث تصحيح لهذا الحديث، أو فتواه بمقتضى حديث تصحيح له، نقول: لا يلزم، لا يلزم إذا أفتى العالم بمضمون حديث أن يكون هذا الحديث صحيح عنده، قد يكون الحكم ثبت عنده بهذا الحديث وبغيره لا بمفرده، لا بمفرده، وأنتم تعرفون مسألة التصحيح والتحسين بالطرق.
ضعفه أبو حاتم: حقيقة الضعيف وتعريفه أنه ما اختل فيه شرط من شروط القبول -شروط القبول الستة المعروفة-: ضعف الرواة، انقطاع الأسانيد، الضعف ويكون باختلال الضبط، أو باختلال العدالة، انقطاع الأسانيد، اشتمال المتن على علة قادحة، أو على شذوذ ومخالفة، وعدم الجابر عند الحاجة إليه -عدم الجابر- فهذه حقيقة الضعيف، ولا نحتاج أن نقول: ما لم يبلغ درجة الصحيح والحسن، كما قال ابن الصلاح؛ لأنه إذا لم يبلغ درجة الحسن فإنه عن درجة الصحيح أقصر، والمسألة معروفة في تعريفه الكلام الطويل، والردود على ابن الصلاح والمناقشات، لكن ليس هذا محل بسطها، لكن الحديث الذي تخلف فيه شرط من شروط القبول ضعيف عند أهل العلم.
حديث ابن عمر.
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى عليه وسلم-: ((إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث)) وفي لفظ: ((لم ينجس)) [أخرجه الأربعة, وصححه ابن خزيمة، والحاكم وابن حبان].
نعم حديث ابن عمر المعروف بحديث القلتين اختلف فيه أهل العلم اختلافاً كبيراً، وجاءت الأقوال فيه متباينة، فمن مصحح ومحسن ومضعف، من صححه أشكل عليه العمل به، بعض من صححه أشكل عليه العمل به، كشيخ الإسلام -رحمه الله-، ومن ضعفه -وهم جمع غفير من أهل العلم- ضعفوه بالاضطراب -بالاضطراب في سنده ومتنه- لكن أمكن الترجيح بين ألفاظه، وإذا أمكن الترجيح كما هو معلوم انتفى الاضطراب؛ لأن المضطرب هو: الحديث الذي يروى على أوجه مختلفة متساوية، فالحديث الذي يروى على وجه واحد ليس بمضطرب، الحديث الذي يروى على أوجه -أكثر من وجه- وتكون هذه الأوجه متفقة لا مختلفة لا اضطراب به، الحديث الذي يروى على أوجه مختلفة، لكنها غير متساوية يمكن ترجيح بعضها على بعض لا اضطراب فيها، فإذا أمكن ترجيح بعض الأوجه وبعض الألفاظ على بعضها ينتفي الاضطراب، وإلا فمتن الحديث جاء بلفظ القلتين، وجاء بلفظ القلة الواحدة، وجاء بقلتين أو ثلاث، وجاء في لفظ أربعين قلة، لكن الراجح من هذه الألفاظ القلتين، لفظ القلتين هو الراجح فانتفى اضطرابه، ولذا صححه جمع غفير من أهل العلم، ومن يقول بالتفريق بين القليل والكثير لا إشكال عنده، وعرفنا أنه عمدة الشافعية والحنابلة في جعل القلتين الحد الفاصل.
شيخ الإسلام يصحح الحديث، ولا يفرق بين القليل والكثير على ما مضى، سبقت الإشارة إلى قوله -رحمه الله- وأن قوله قول مالك، كيف يصنع بحديث القلتين بعد أن صححه؟!
يعمل بمنطوق الحديث ولا يعمل بمفهومه بل يلغي مفهومه لمعارضة هذا المفهوم منطوق حديث أبي سعيد؛ لأنه إذا تعارض المنطوق مع المفهوم قدم المنطوق، منطوق حديث أبي سعيد: ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء)) معارض بمفهوم حديث ((إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث)) فهذا المفهوم معارض بمنطوق حديث أبي سعيد، وشيخ الإسلام يميل إلى أن المفهوم ملغى، وحينئذ لا تعارض، ولا شك أن المفهوم معتبر، كما هو الأصل، لكن شريطة ألا يعارض هذا المفهوم بمنطوق، فالمفاهيم معتبرة، سواءً كانت مفاهيم أعداد أو غيرها، ففي مثل قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ} [(80) سورة التوبة]، مفهومه أنه لو استغفر لهم واحد وسبعين أو خمسة وسبعين أو مائة أو ألف أنه يغفر لهم، لكن العدد لا مفهوم له، لماذا؟ لأنه معارض بمثل قوله تعالى عن المنافقين أنهم {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [(145) سورة النساء]، هذا حكم جازم قاطع؛ لأنهم لا يغفر لهم، وأن كفرهم كفراً أكبر مخرج عن الملة، كما ذكره أهل العلم في أنواع الكفر الأربعة المخرجة عن الملة.
فألغي المفهوم لمعارضة للمنطوق، وإلا فالأصل أن الكلام معتبر منطوقه ومفهومه.
الذي يضعف الحديث ولا يقول بالتفريق لا إشكال عنده، لكن الإشكال فيمن يصحح الحديث كشيخ الإسلام ولا يقول بالتفريق، فالذي يصححه ويقول بالفرق بين القليل والكثير لا إشكال عنده، والذي يضعفه أيضاً ولا يقول بالتفريق لا إشكال عنده، المشكل في مثل قول شيخ الإسلام وقد خرج -رحمة الله عليه- من هذا الإشكال بإلغاء المفهوم نعم.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب)) [أخرجه مسلم]، وللبخاري: ((لا يبولـنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري, ثم يغتسل فيه))، ولمسلم: ((منه))، ولأبي داود: ((ولا يغتسل فيه من الجنابة)).
حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب)) [أخرجه مسلم]، وللبخاري: ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري, ثم يغتسل فيه))، ولمسلم: ((يغتسل منه))، ولأبي داود: ((ولا يغتسل فيه من الجنابة)).
((لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم)): أي الراكد الساكن، وإن كان لفظ الدائم من الأضداد، لأنه يطلق الدائم على الساكن، ويطلق على المتحرك الدائر، جاء في كتب الأضداد: في رأسه دوام أي: دوران وحركة، اضطراب.
((وهو جنب)): هذه الجملة حالية، حال كونه جنب.
((لا يغتسل أحدكم)): ففي الحديث النهي والأصل في النهي التحريم، ((في الماء الدائم)) حال كونه جنباً.
ويستدل به من يرى أن الماء يتأثر إذا رفع به الحدث، وهو مقتضى قول من يفرق ويقسم المياه إلى ثلاثة أنواع: طهور، وطاهر، ونجس، طهور، وطاهر، ونجس، يقول: هذا الماء الذي رفع به الحدث انتقل من كونه طهوراً مطهراً إلى كونه طاهراً فقط، ليس بنجس، لكنه لا يرفع الحدث.
وعند الحنفية في قول لهم أنه ينجس، فالماء الذي يغتسل فيه الجنب نجس، والصحيح أنه طاهر مطهر، وأن استعماله لا يؤثر فيه، والنهي عن الاغتسال فيه؛ لئلا يقذره على غيره، لئلا يصرف الناس عن استعماله، لاغتساله فيه؛ لأن الناس إذا رأوا شخصاً انغمس في هذا الماء تركوه، وعلى هذا يفسده عليهم.
وللبخاري: ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري, ثم يغتسل فيه)): ثم يغتسلُ، أو ثم يغتسلْ، أو ثم يغتسلَ، فقد ضبط بالرفع، والنصب، والجزم، أما الجزم فعطفاً على لا يبولن؛ لأن (لا) ناهية، يبولن: فعل مضارع مجزوم مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، ثم يغتسلُ فعل مضارع هو وفاعله خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو، ثم هو يغتسلُ، وأما النصب فعلى إضمار (أن) إلحاقاً لثم بالواو، إلحاقاً لثم بالواو، ومعروف أن (أن) تضمر بعد الواو وينصب بها الفعل.
((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري)): تحدد المراد من الدائم، وأن المراد به الساكن.
((ثم يغتسل فيه)): ففي الحديث الأول -الرواية الأولى- فيها النهي عن الاغتسال بمفرده، في الرواية الثانية النهي عن البول بمفرده، أو مضموماً إليه الاغتسال.
والنهي عن البول في الماء الدائم جاءت في أحاديث أخرى، على أي أوجه الضبط السابقة يحصل النهي عن البول و حده والاغتسال وحده نعم؟
طالب:.......
الجزم، ((ثم يغتسلْ))، ((لا يبولن..)) ((ثم يغتسلْ))؟ نعم؟
طالب:.......
الآن الحديث يدلنا على النهي عن البول بمفرده، والاغتسال بمفرده؟ أو هما معاً من باب أولى؟ أو لا يدل إلا على الجمع؟ نعم؟
طالب:.......
الرواية الأولى تدل على النهي عن الاغتسال بمفرده، الرواية الأولى تدل على النهي عن الاغتسال بمفرده، والثانية فيها الاغتسال وفيها البول، وعرفنا أن يغتسل ضبط على أوجه ثلاثة هاه؟
طالب:......
أما على رواية النصب فإنها لا تدل إلا على الجمع بينهما؛ لأن (ثم) نزلت منزلة الواو، والواو للجمع.
على رواية الضم ((ثم يغتسلُ..)): يعني ثم هو يغتسلُ، هاه؟
طالب:.......
بعض الشراح يرى أنها تدل على النهي عن الاغتسال بمفرده كما أنه تقدم النهي عن البول بمفرده، وإن كان الذي حققه الشارح أنها بجميع الأوجه التي ذكرت إنما تدل على الجمع بينهما، تدل على الجمع بينهما، وأما النهي عن البول وحده دلت عليه الأحاديث، والنهي عن الاغتسال وحده فدل عليه اللفظ الأول.
((ثم يغتسلُ فيه)): يعني ينغمس فيه.
ولمسلم: ((منه)): يغتسل منه،، ولأبي داود: ((ولا يغتسل فيه من الجنابة)): عندك ماء راكد ساكن، وأنت جنب ماذا تصنع؟ لأن الحديث بجميع ألفاظه يضيق الاستفادة من هذا الماء حتى قال من قرب من أهل الظاهر: إنك تتحايل على هذا الماء، فتلقي فيه حجراً أو خشبه فتجعله يتحرك ثم تنغمس فيه، هذا قريب جداً من مذهب الظاهرية، نعم؟
طالب:.......
نغرف؟
طالب:.......
نغرف؟ ولمسلم: ((منه))؟! ولمسلم: ((منه)): فيغتسل فيه، يعني لا ينغمس فيه، لمسلم: ((منه)): أبو هريرة سئل كيف يصنع الجنب؟ قال: "يتناول تناولاً": يعني يأخذ منه بإناء، ويغترف منه بإناء فيغتسل، فدل على أن كلمة (منه) من تصرف بعض الرواة، وأن المنهي عنه الاغتماس فيه، وأما الاغتراف منه والتناول منه لا شيء فيه، هذا هو الحل ولا إشكال فيه.
ولأبي داود: ((ولا يغتسل فيه من الجنابة)): الرواية الأولى وهو جنب..، نعم؟
طالب:.......
لا عندهم، ما يصير، لو صار متحركاً ولو بإلقاء خشبة أو حصاة، انتهى عندهم، ارتفع الوصف، وهو كونه دائماً، ساكناً، راكداً، نعم.
في الرواية الأولى: ((وهو جنب)): في الرواية الأخيرة: ((فيه من الجنابة)): يستدل به من يرى أنه يوجد فرق بين أن ينغمس الإنسان وهو جنب، وبين أن ينغمس للتنظف والتبرد، فإذا انغمس وهو جنب أثر في الماء، فإذا انغمس للتبرد فإنه لا يؤثر فيه، من مقتضى قوله: ((وهو جنب)): والحال أنه جنب، ((ولا يغتسل فيه من الجنابة)): مفهومه أنه يغتسل فيه إذا لم يكن عليه جنابة، وهذا ظاهر، لكن هل وجه التفريق بين الجنب وغيره أن الجنب يرفع به الحدث؟ وإذا قلنا: هذا هو السبب، فهل يرتفع الحدث أو لا يرتفع إذا انغمس؟
الشافعية والحنابلة متفقون على أن الماء إذا كان أقل من قلتين وانغمس فيه الجنب أنه يصير طاهراً غير مطهر، لكنهم يختلفون هل يرتفع حدث هذا الذي انغمس أو لا يرتفع؟
عند الشافعية يرتفع، وأنه ما صار مستعملاً حتى ارتفع به الحدث، والحنابلة يقولون: لا يرتفع حدثه، لماذا؟ لأنه صار مستعملاً بملاقاة أول جزء من البدن، أول جزء من البدن، نفترض أن الإنسان غمس رأسه أو رجليه قبل رأسه، صار الماء مستعملاً بمجرد غمس هذا العضو، وحينئذ لا يرتفع الحدث عن بقية الأعضاء، فعند الحنابلة لا رفع حدثاً ولن يرفع حدثاً؛ صار مستعملاً بمجرد ملاقاة أول جزء من البدن، ومذهب الشافعية لا شك أنه أقعد عند من يقول بأنه ينتقل، يعني عند من يفرق بين الطاهر والطهور.
هذا يسأل وهو سؤال له وجه: يقول: كيف يقول الأحناف: إن الماء ينجس والجنابة أصلاً طاهرة عندهم وعند غيرهم من حديث عائشة؟
الأحناف حينما يقولون: إن الاغتسال -اغتسال الجنب- في الماء ينجسه؛ لأن الاغتسال قرن بالبول، والبول منجس إذن الاغتسال منجس، ولا شك أن هذا استدلال بدلالة الاقتران، ودلالة الاقتران كما هو معروف عند أهل العلم ضعيفة، فهم يقولون: ما دام البول ينجس إذن الاغتسال ينجس.
هنا مسألة -لعلكم تراجعونها في قواعد ابن رجب- وهي الماء الجاري هل هو مثل الماء الراكد أو كل جرية لها حكم الماء المنفصل؟
لا نطيل بشرحها وتقريرها فارجعوا إليها بصورها عنده، الأسئلة كثرة الآن ما عاد وقت للأسئلة، كثرت كثرة، نعم؟
طالب:.......
أقول: لعل الأسئلة تكون قبل حضور بعض الأخوة في بداية الدرس القادم، قبل حضور بعض الإخوان.
الحديث الذي يليه؛ نريد أن نسدد ونقارب؛ لأنه في طلبات من بعض الأخوة -بل منهم من تتعين إجابته- أن يقتصر على القول الراجح دون ذكر خلاف واستطراد، إي نعم.
على كل حال عرفنا أن أهم المسائل هنا مسألة تقسيم الماء إلى أقسام ثلاثة: طهور وطاهر ونجس عند الجمهور، وعند مالك هما اثنان، هما قسمان فقط: طاهر ونجس، وزاد بعضهم كابن رزين أو..، نعم كابن رزين من الحنابلة: المشكوك فيه، على كل حال التقسيم هذا مثلما أسلفنا يوقع في إشكالات وتفريعات، وقد ألمحنا إلى شيء من هذا الإشكال، مع التمثيل له.
وشيخ الإسلام -رحمه الله- يرجح أن الماء إما أن يكون طاهراً يشرب ويرفع به الحدث، أو نجس ولا ثالث لهما كقول مالك.
عرفنا أيضاً أن هناك من يفرق بين القليل والكثير، فالقليل تؤثر فيه النجاسة، وهو قول الأكثر أيضاً، والكثير لا تؤثر فيه إلا إذا تغير، هذه أشهر ما مر عندنا نعم.
وعن رجل صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تغتسل المرأة بفضل الرجل, أو الرجل بفضل المرأة, وليغترفا جميعا" [أخرجه أبو داود والنسائي, وإسناده صحيح].
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يغتسل بفضل ميمونة -رضي الله عنها- [أخرجه مسلم].
ولأصحاب السنن: اغتسل بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- في جفنه، فجاء يغتسل منها فقالت: إني كنت جنباً، فقال: ((إن الماء لا يجنب)) [وصححه الترمذي وابن خزيمة].
نعم.
عن رجل صحب النبي –عليه الصلاة والسلام- قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تغتسل المرأة بفضل الرجل, أو الرجل بفضل المرأة, وليغترفا جميعا" [خرجه أبو داود والنسائي, وإسناده صحيح].
خلاصة القول أنه صحيح، وإن كان مقتضى كلام البيهقي أنه مرسل؛ لعدم تسمية الصحابي، لكن المعتمد عند أهل العلم قاطبة أن جهالة الصحابي لا تضر، فالخبر متصل وليس بمرسل، خلافاً لما ذكره البيهقي، فالحديث صحيح.
"نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تغتسل المرأة: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا قال الصحابي: "نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أمرنا رسول الله، أو قال" أُمرنا، أو نُهينا، أو قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((أمرت أن أسجد على سبعة أعظم))، ((نهيت عن قتل المصلين)) بالنسبة لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((أُمرت)) أو ((نُهيت))، الآمر والناهي هو الله -سبحانه وتعالى- هو الله -سبحانه وتعالى-.
في قول الصحابي: "أمرنا" أو "نهينا"، الآمر والناهي هو من له الأمر والنهي وهو النبي -عليه الصلاة والسلام-، فهو مرفوع خلافاً لمن زعم أنه موقوف كأبي بكر الإسماعيلي، وأبي الحسن الكرخي، وجمع من أهل العلم قالوا: إنه لا يحكم له بالرفع حتى يصرح الصحابي بالآمر والناهي لاحتمال أن يكون الآمر والناهي غير النبي -عليه الصلاة والسلام-، كقول أم عطية: "أمرنا بإخراج العواتق والحيض"، وقولها: "نهينا عن اتباع الجنائز".
إذا صرح الصحابي بالآمر والناهي -كما هنا- لا إشكال في كونه مرفوعاً، بل هو مرفوع صراحة اتفاقاً، لكن إذا قال الصحابي: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تغتسل المرأة، هل هو في القوة بمثابة قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تغتسل المرأة بفضل الرجل)) أو أقل؟ نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيهما أقوى؟
طالب: الثاني.
نعم؟
طالب: الثاني.
لكن هل نفهم أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- نهى، وإلا ما نفهم، إذا قال الصحابي نهى أو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
جمهور أهل العلم على أنه لا فرق بين أن يقول الصحابي: نهى -أن يذكر النهي الصريح من لفظه -عليه الصلاة والسلام-، أو يعبر عن هذا النهي كما هنا، لا فرق، خالف في هذا داود الظاهري وبعض المتكلمين قالوا: ليس بحجة أصلاً، حتى ينقل لنا اللفظ النبوي؛ لأن الصحابي قد يسمع كلام يظنه أمراً أو نهياً، وهو في الحقيقة ليس بأمر ولا نهي، نقول: إذا كان الصحابة -رضوان الله عليهم- لا يعرفون مدلولات الألفاظ الشرعية والنصوص من يعرفها؟
فالمرجح عند أهل العلم أن قول الصحابي: "نهى رسول الله، مثل قوله: لا تفعل.
نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تغتسل المرأة بفضل الرجل, أو الرجل بفضل المرأة, وليغترفا جميعاً" [أخرجه أبو داود]: الحديث صحيح، خلاصة القول فيه أنه صحيح، أعله بعضهم لكنه لم يستند على حجة يعتد بها، قال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات، ولم أقف لمن أعله على حجة قوية.
"نهى أن تغتسل المرأة بفضل الرجل": مقتضى الحديث أن خلوة الرجل بالماء مؤثرة، وأنه لا يجوز للمرأة أن تغتسل بفضل مائه، لكن هل للرجل أن يغتسل بفضل ماء الرجل؟ مفهوم الحديث؟ نعم.
الشق الثاني من الحديث: "نهى أن يغتسل الرجل بفضل المرأة": لكن هل للمرأة أن تغتسل بفضل المرأة؟ مقتضى الحديث ومفهومه نعم.
إذا كان للرجل أن يغتسل بفضل الرجل، وللمرأة أن تغتسل بفضل المرأة، فهل لخلوة المرأة أو لخلوة الرجل أثر على الماء؟ نعم؟ لا أثر له، لا أثر له على الماء، وبهذا نعرف ضعف قول من يقول: إنه لا يرتفع حدث الرجل إذا توضأ بماء خلت به المرأة لطهارة كاملة، والحديث كما ترون جاء بمنع الرجل كما جاء بمنع المرأة من الوضوء بفضل الرجل.
والعجب أن بعض أهل العلم يعمل بالشق الثاني، ولا يعمل بالشق الأول، وإذا صح الخبر فنقول: إن النهي هنا للتنزيه؛ لما يعارضه من الأدلة التي صحت في وضوئه -عليه الصلاة والسلام- بفضل بعض أزواجه، على ما سيأتي، فالنهي هنا للتنزيه.
"وليغترفا جميعاً": نعم؟
طالب:.......
كيف؟
طالب:.......
الرجل (أل) الجنسية، الأصل فيها الجنس، هذا الأصل، أي امرأة لا تغتسل بفضل أي رجل، والعكس، هذا الأصل فيه الجنس.
لكن قوله: ((وليغترفا جميعاً)): نعم يدل على أن المراد بذلك الزوجين، وإلا فالأصل في الرجل أنه جنس.
أقول: من العجب أن يأتي الحديث بهذا السياق ويستدل به من يرى أن الرجل لا يجوز له أن يتوضأ بفضل المرأة، وأن خلوة المرأة لطهارة كاملة تؤثر في الماء، وأنه لا يرفع الحدث، ولا يقول بالعكس، مع أن الحديث سياقه واحد، فإن حمل النهي هنا على التحريم وأنه لتأثير خلوة أحدهما بالماء، فليقل بالشقين، أما أن يقول بالشق الثاني، ولا يقول بالشق الأول هذا تحكم، وعلى كل حال النهي هنا للتنزيه، النهي هنا للتنزيه.
في الحديث الذي يليه: عن ابن عباس أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يغتسل بفضل ميمونة -رضي الله عنها- [أخرجه مسلم]: أعله بعضهم بقول عمرو بن دينار في الصحيح -في صحيح مسلم-: وعلمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني، على كل حال له غير هذا الطريق، هو مروي من طرق في صحيح مسلم، وتخريج مسلم له يدل على صحته، تخريج الإمام مسلم..، فالعلة عليلة -التي أعلَّ بها-.
حديث ابن عباس: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يغتسل بفضل ميمونة [خرجه مسلم]: وهذا يرد على من يرى أن الماء إذا خلت به المرأة للطهارة الكاملة أنه يتأثر، وينتقل من كونه طهوراً إلى كونه طاهراً غير مطهر؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يغتسل بفضل ميمونة.
ولأصحاب "السنن": "اغتسل بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- في جفنة: في إناء فجاء يغتسل منها, فقالت: إني كنت جنباً, فقال: ((إن الماء لا يجنَب: أو لا يَجْنُب أو لا يُجنِب))، [خرجه أصحاب السنن الأربعة أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم والألباني وغيره فالحديث صحيح].
بهذا يدل على أن النهي الوارد في الحديث السابق أنه للتنزيه، وليس للتحريم، وأنه لا أثر لخلوة أحد الجنسين بالماء، بل الماء باق على طهوريته وأنه يرفع الحديث.
حديث الكلب طويل شوي، حديث تطهير ما ولغ فيه الكلب طويل، وانتهى الوقت الظاهر.
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.