شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (040)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم.
المقدم: لا زال الحديث حول حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه-، وقد أشرتم إلى شيء من معاني الحديث في الحلقة الماضية والحديث الحادي والعشرين حسب ترتيب التجريد، والثاني والعشرين حسب ترقيم الصحيح. لعلكم تتفضلون بإكمال الحديث حوله.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
انتهينا إلى قوله: «في جانب السَّيْل» وفي رواية: «في حَمِيْل السَّيْل» وهو ما يحمله من طين ونحوه، فحَمِيْل بمعنى محمول، فإن السَّيْل يحمل من الغثاء ونحوه ما ينبت منه العشب.
«ألم تر» خطاب لكل من تتأتَّى منه الرؤية «أنها تخرج حال كونها صفراء» وحال كونها «ملتوية» أي منعطفة منثنية، وهذا مما يزيد الرياحين حسنًا باهتزازه وتميُّله، فالتشبيه من حيث الإسراع والحسن، والمعنى من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان يخرج من ذلك الماء نظرًا متبخترًا كخروج هذه الريحانة من هذا جانب السيل صفراء متمايلة، كذا قال القسطلاني.
وقال ابن رجب: شبَّه نبات الخارجين من النار إذا أُلقُوا في نهر الحياء أو الحياة بنبات هذه الحِبَّة لمعنيين: أحدهما: سرعة نباتها، والثاني: أنها تنبت صفراء ملتوية، ثم تستوي وتحسن فكذلك ينبت من يخرج من النار بهذا الماء نباتًا ضعيفًا ثم يَقْوَى ويكمل نباته، ويحسن خلقه.
وقد جعل الله -سبحانه وتعالى- نبات أجساد بني آدم كنبات الأرض، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} [سورة نوح 17] وحياتهم من الماء، فنشأتهم الأولى في بطون أمهاتهم من ماء {مِن مَّاء دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [سورة الطارق 6-7] ونشأتهم الثانية من قبورهم من الماء الذي ينزل من تحت العرش، فينبتون فيه كنبات البقل حتى تتكامل أجسادهم، ونبات من يدخل النار ثم يخرج منها من ماء نهر الحياء أو الحياة.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أناس أصابتهم النار بذنوبهم» أو قال «بخطاياهم، فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحمًا أذن في الشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبُثُّوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحِبَّة في حَمِيْل السَّيْل» وظاهر هذا أنهم يموتون بمفارقة أرواحهم لأجسادهم، ويحيون بإعادتها، ويكون ذلك قبل ذبح الموت.
قوله في الحديث: «ضبائر ضبائر» منصوب على الحال، وهو جمع: ضِبارة وضَبارة بكسر الضاد وفتحها، والكسر أشهر، يقال أيضًا إِضْبَارة، قال أهل اللغة: الضبائر جماعات في تفرقة، قال الكرماني: يُسمَّى هؤلاء بعتقاء الله تعالى، وقال النووي: وفي هذا الحديث أنواع من العلم، منها ما تُرجِم له، وهو تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، ومنها إثبات دخول طائفة من عصاة الموحِّدين النار، وقد تضافرت عليه النصوص، وأجمع عليه من يُعتَدُّ به، وفيه إخراج هؤلاء العصاة من النار، وأن أصحاب الكبائر من الموحِّدين لا يخلَّدون في النار، وهو مذهب أهل السنة خلافًا للخوارج والمعتزلة، وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على ما ذكرناه عن أهل السنة.
وفيه أن الأعمال من الإيمان؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «خردل من إيمان» والمراد ما زاد على أصل التوحيد -كما ذكرنا-، والله أعلم.
يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: وهذا يُستَدل به على أن الإيمان يفوْق معنى كلمة التوحيد، يعني يزيد عليها، والإيمان القلبي، وهو التصديق، لا تقتسمه الغُرَماء بمظالمهم، الوارد في الحديث: «مَن المُفْلِس؟» لما سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- «مَن المُفْلِس؟» قالوا: من لا درهم له ولا متاع، قال: «لا، المُفْلِس مَن يأتي بأعمال» وفي رواية: «أمثال الجبال من صيام وصدقة وصلاة وجهاد وغيرها، ثم يأتي وقد ضرب هذا، وظلم هذا، وشتم هذا، وأخذ مال هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت أُخِذ من سيئاتهم وألقيت عليه» يقول: هذا يستدل به، يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- على أن الإيمان يفوق معنى كلمة التوحيد، والإيمان القلبي، وهو التصديق لا تقتسمه الغُرَماء بمظالمهم، بل يبقى على صاحبه؛ لأن الغُرَماء لو اقتسموا ذلك لخُلِّد بعض أهل التوحيد في النار، وصار مَسْلُوبًا ما في قلبه من التصديق، وما قاله بلسانه من الشهادة، وإنما يُخرَج عصاة الموحَّدين من النار بهذين الشيئين، يعني بالتوحيد والشهادة، فدل على بقائهما على جميع من دخل النار منهم، وأن الغُرَماء إنما يقتسمون الإيمان العملي بالجوارح.
وقد قال ابن عيينة وغيره: إن الصوم خاصة من أعمال الجوارح لا تقتسمه الغُرَماء أيضًا، قلت: ويدل له قوله تعالى في الحديث القدسي: «الصوم لي، وأنا أجزي به» الصوم لله لا يقتسمه أحد ولا نصيب فيه لأحد، ويدل لما قاله الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- قوله في الحديث الصحيح في حديث المُفْلِس: «فإذا فَنِيَت حسناته أُخِذ من سيئاتهم وجُعِلَت عليه» وهذا قيل بالنسبة للمسلم الذي مآله إلى الجنة، أو الذي لا يدخل الجنة؟ لأنه ذكر أعمال ليست مكفِّرة، ذكر أعمال مفسِّقة، فدل على أن المُفْلِس هذا من أهل الإسلام الذي مآله إلى الجنة، الغُرَماء الذين ظلمهم إما بتَعَدِّيْه على أعراضهم أو دمائهم أو أموالهم، أو غير ذلك يقتسمون الأعمال ويبقى له أصل الإيمان الذي يَخرُج به في النهاية من النار إلى الجنة؛ لأنه لو قلنا: فإذا فَنِيَت بما فيها الإيمان كيف يَخرُج من النار؟! لو كان الإيمان مما يقتسمه الغرماء لكان هذا من النوع الآخر الذي هو يخلَّد في النار، ولقلنا: إن بعض من آمن بالله وصدَّق به يخلَّد في النار؛ لأنه تفنى حسناته بما فيها الإيمان على هذا التقدير، لكن كلام الحافظ ابن رجب وجيه أن الإيمان القلبي وهو التصديق لا تقتسمه الغرماء بمظالمهم.
المقدم: الذي هو أصل الإيمان.
الذي هو أصل الإيمان، بل يبقى لصاحبه، وعَلَّلَ ذلك قائلاً: لأن الغرماء لو اقتسموا ذلك لخُلِّد بعض أهل التوحيد في النار، وصار مسلوبًا ما فيه قلبه من التصديق، أُخذ، اقتسمه الغرماء، لكن المسألة على ما ذكر الحافظ -رحمه الله تعالى-، وقوله في غاية الدقة والنفاسة: أن أصل الإيمان لا يقتسمه الغرماء، كما أن الصيام في قول ابن عيينة خاصة من أعمال الجوارح لا تقتسمه الغرماء أيضًا، وذكرنا أنه يدل له الحديث القدسي من قوله تعالى: «الصوم لي، وأنا أجزي به» يقول العيني: ثم بعد هذا يُخرَج منها أي من النار من لم يعمل خيرًا قط غير التوحيد، لكن هل نستطيع أن نقول: أن الذي لا يصلي عنده توحيد على القول الآخر، عنده شيء من الإيمان، عنده شيء من التوحيد؟ إذا قلنا: أن الإيمان على ما تقدم في تقرير تعريفه اللغوي: هو التصديق، قد يكون مصدِّقًا، وإن لم يصلِّ، وشيخ الإسلام وابن القيم -رحمهما الله تعالى- قرَّرَا أن من أُمِر بالصلاة وأُكِّد عليه ذلك، بل هُدِّد، ورأى بارقة السيف، ورفض أن يصلِّي، فإن هذا يدل على أنه لا إسلام عنده ألبتة، فقول العيني: ثم بعد هذا يَخرج منها أو يُخرج منها أي النار من لم يعمل خيرًا قط غير التوحيد، أولاً: نعرف أن العيني حنفي المذهب، والحنفية هم مرجئة الفقهاء الذين يرون أن الأعمال ليست بشرط في أصل الإيمان وصحته، فيُتصوَّر أن يؤمن الشخص ولا يعمل أي عمل ويدخل الجنة على هذا، لكن جنس العمل عند جمهور العلماء مطلوب، بل شرط لصحة الإيمان، جنس العمل، فقول العيني: بعد هذا يخرج منها أي من النار من لم يعمل خيرًا قط، وجاء ما يدل عليه في النصوص، لكن أهل العلم حملوه على من لم يتمكن من العمل، أو لم يبلغه العمل، أو من وُجِد منه مثل هذا قبل تشريع الأعمال، فهذه محامل عند أهل العلم معروفة، والخلاف في دخول العمل وعدم دخوله أمر معروف، وسبَق بحْثه في حلقات سابقة.
الحديث خرَّجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في موضعين، معكم...؟
المقدم: معنا أكثر من موضع، نعم.
كم موضع؟
المقدم: عندنا هنا...
سبعة مواضع.
المقدم: سبعة نعم.
سبعة مواضع.
المقدم: ستة مواضع والموضع الأصلي.
والموضع الأصلي سبعة.
الحديث خرَّجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في موضعين:
الموضع الأول: هنا في كتاب الإيمان، بابُ تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، قال الإمام -رحمه الله تعالى-: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال... فذكره، ومناسبته للباب تقدم ذكرها.
والموضع الثاني: في كتاب الرِّقَاق في صفة الجنة والنار، قال: حدثنا موسى، قال: حدثنا وهيب، قال: حدثنا عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكره بنحوه، مناسبة صفة الجنة والنار لكتاب الرِّقاق ظاهرة؛ لأن ذكرهما وذكر صفاتهما مما تَرِقُّ به القلوب، ومناسبة الحديث للباب ذكر الجنة والنار فيه، ففيه: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يقول الله...» إلى آخره، ففيه ذكر الجنة والنار، ولم يَذكُر المزي في تحفة الأشراف غير هذين الموضعين، كذلك القسطلاني لم يَذكُر في تخريج الحديث بعد شرحه على عادته غير صفة الجنة والنار، غير باب صفة الجنة والنار من كتاب الرقاق، وعادته الاستقصاء، إذا شرح الحديث ذكر المواضع التي يذكر الإمام البخاري فيها حديث، وهنا ما ذكر إلا موضع صفة الجنة والنار فقط.
العيني أيضًا، العيني عنده عنوان في كل حديث تعدُّد مواضعه في الصحيح، يذكر تعدُّد مواضع الحديث في الصحيح، فيقول: باب تعدُّد موضعه ومن أخرجه غيره، أخرجه البخاري هنا، بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره، أخرجه البخاري هنا عن إسماعيل عن مالك وفي صفة الجنة والنار عن وهيب بن خالد، وأخرجه مسلم، فدل على أن الإمام البخاري لم يخرِّجه في غير هذين الموضعين، هذا ظاهر المزي والعيني والقسطلاني كلهم اتفقوا على هذا، ما الذي أوقع المحقق محمد فؤاد عبد الباقي؟ الذي اعتنى بترقيم الصحيح، وذكر أطرافه، وتعب على ذلك -رحمه الله-، وأفاد القارئ في لَمِّ أطراف الحديث الواحد في أول موضع يذكره البخاري، محمد فؤاد الباقي -رحمه الله تعالى- ذكر له من الأطراف ستة غير الموضع الذي معنا، وأحال على أرقام حديث أبي سعيد في الشفاعة، وحديث أبي سعيد خرَّجه الإمام البخاري مختصَرًا ومطوَّلاً، وهو غير حديث الباب، وتبعه محقِّقُو المختصَر، فلْيُنتبَه لذلك.
الحديث حديث الباب مخرَّج في صحيح مسلم في كتاب الإيمان عن هارون بن سعيد الأَيْلِي عن ابن وهب عن مالك به، وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفَّان عن وهيب، وعن حجاج بن الشاعر عن عمرو بن عون عن خالد بن عبد الله عن عمرو بن يحيى به.
أخرجه النسائي أيضًا، وهو ليس في الموطأ، حديث أبي سعيد في الشفاعة المواضع التي أُحِيْل إليها لا إشكال في كونها لا علاقة لها بحديث الباب، في الموضع الأخير، نأتي إلى المواضع التي ذكرها البخاري بالنسبة لحديث الشفاعة، ذكره في الموضع الأول في كتاب التفسير، باب {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء : 40]، وهو عندكم من الأرقام المذكورة، قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز، قال: أخبرنا حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن ناسًا في زمن النبي -عليه الصلاة والسلام- قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فذكره مطوَّلاً.
الموضع الثاني: في التفسير أيضًا، باب {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم : 42]، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد -رضي الله عنه-، فذكره مختصَرًا.
الموضع الثالث: في كتاب الرقاق، بابٌ الصراط جسر جهنم، قال عطاء: وأبو سعيد جالس مع أبي هريرة لا يغيِّر عليه شيئًا من حديثه، فذكره مختصَرًا بعد ذكر حديث أبي هريرة الطويل في الشفاعة.
الموضع الرابع: في كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [سورة القيامة 22-23] بعد ذكر حديث أبي هريرة الطويل في الشفاعة، قال عطاء بن يزيد: وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة لا يَرُدُّ عليه من حديثه شيئًا فذكر مختصَرًا، وفي الباب نفسه قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: «هل تُضَارُوْن في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صَحْوًا؟» قلنا: لا... الحديث بطوله، الحديث مطوَّل جدًا، وفي أثنائه قال: «فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيَقبِض قبضة من النار، فيُخرِج أقوامًا قد امتُحِشُوا، فيُلقَون في نهر بأفواه الجنة، يقال له ماء الحياة، فينبتون في حافَتِيْه كما تنبت الحِبَّة في حَمِيل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض، فيَخرُجون كأنهم اللؤلؤ، فيُجعَل في رقابهم الخواتيم، فيَدخُلون الجنة، فيقال: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، فيقال لهم: لكم ما رأيتم، ومثله معه» فلعل هذا القدْر المشترك بين حديث الباب وحديث الشفاعة هو الذي أوقع الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي فأدخله في حديث الباب، ورقَّمه، وذكر أرقامه أطرافًا لحديث الباب، وهذا فيه عذر للشيخ، لكن الذي يظهر أنه حديث آخر من وجوه: الأول: عدم ذِكْر هذه المواضع في تحفة الأشراف، وعدم ذِكْرها عند العيني والقسطلاني مع عنايتهم الشديدة بذكر أطراف الحديث.
الأمر الثاني: أنه في حديث الباب قال: «أَخرِجوا من كان في قلبه مثقال حبة» «أخرجوا» والأمر للملائكة، وفي الرواية الأخرى: «اُخرُجوا» وهنا قال: «فيُخرِج أقوامًا» يخرجهم الله -سبحانه وتعالى-، فيه: «فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيَقبِض قبضة من النار فيُخرِج أقوامًا قد امتُحِشُوا، فيُلقَون في نهر بأفواه الجنة يقال له: ماء الحياة، فيَنبُتون في حافتيه كما تنبت الحِبَّة في حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة وإلى جانب الشجرة» هناك قال: «فيَنبُتون كما تنبت الحِبة في جانب السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية» وهنا قال: «رأيتموها إلى جانب الصخرة» وهناك: «في جانب السيل وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض» فالذي أوقع الشيخ فيما صنعه كون الحديث مروي من طريق صحابي واحد، وإن اختلف الرواة عنه، لكن القرائن تدل على أنه حديث ثانٍ لِمَا ذكرنا؛ لأنه في حديث الباب يقول: «أخرجوا» والخطاب للملائكة، وحديث الشفاعة «فيُخرِج أقوامًا» فلعل هؤلاء يُخرَجون بعد أولئك؛ لأن الجبار -جل جلاله- يقول: «بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار فيخرج أقوامًا...» إلى آخره، وإذا جاء الحديث، معروف أنه إذا جاء الحديث من طريق صحابي واحد، والسياق والقرائن تدل على أنه حديث واحد هو حديث واحد، ولو اختلف الرواة عنه، ولو اختلفت بعض الألفاظ؛ لأن جمهور أهل العلم يجوِّزون الرواية بالمعنى، لكن هذا السياق الذي معنا مع سياق حديث الباب، وما بين حديث الباب وحديث الشفاعة من فروق واختلافات تدل على أنهما حديثان، وليس بحديث واحد، والخَطْب سهل، الأمر يسير يعني؛ لكن كون المزي وهو يعتني بذكر المواضع، والعيني يعتني أيضًا بذكر جميع المواضع وتعداد المواضع التي أخرج البخاري الحديث فيها والقسطلاني أيضًا من أهل العناية التامة في هذا، وهو من أهل الاستقراء وضبط الصحيح وإتقانه، فكل هذا يدل على أنه حديث آخر.
السائل: عفا الله عنك حديث الباب -عفا الله عنك- هو قبضة الجبار -جل جلاله-، وأما حديث الشفاعة فهو بعد قبضة الجبار -جل جلاله-، من هذه الجهة تفارق حديث الباب عن حديث الشفاعة؟
لا، حديث الباب: «أَخرِجوا» والخطاب للملائكة، حديث الباب «أَخرِجوا» ليست القبضة «أخرجوا مَن كان في قلبه مثقال حبة» والخطاب للملائكة، أقول: هذه مرحلة متقدمة على ما في حديث الشفاعة، «ثم يقول الله تعالى: أخرِجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان» وفي حديث الشفاعة: «فيقول الجبار: بقيت شفاعتي فيَقبِض قبضة» فالذين يخرجهم الملائكة «أخرِجوا» يأتمرون، فيُخرِجون هؤلاء الذين قد اسوَدُّوا، فيُلقُونهم في نهر الحياء أو الحياة، وأما أولئك فيُخرِجهم الله -سبحانه وتعالى- وقد امتُحِشُوا فيُلقَون، فدل على أنه أكثر من إخراج، يُخرِج الملائكة، ثم يُخرِج الله -سبحانه وتعالى-، فدل على أنه حديث آخر، القرائن كلها تدل على أنه حديث آخر، والخَطْب سهل، والشبهة قوية يعني في دمج الحديثين في حديث واحد للشيخ -رحمه الله تعالى-.
المقدم: أحسن الله إليكم من نُسِب إليه القول بعدم خلود الكفار في النار من أهل السنة هل يصح هذا؟ بعضهم ينسب إلى شيخ الإسلام القول بعدم خلود الكافر في النار.
يعني القول بفناء النار؟
المقدم: قد يكون هذا وقد يكون القول بعدم خلوده أنه يُخرَج من النار، هل يصح أولاً نسبته إلى شيخ الإسلام أم هذا غير صحيح؟
القول بفناء الجنة والنار معروف هو قول مَن؟ قول الجهمية، القول بفناء الجنة والنار هو قول الجهمية، والقول بفناء النار هو منسوب لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولا إخاله يثبت عن شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-، في كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في حادي الأرواح ما يُستروَح ويُستشَف منه عدم الترجيح بين القولين، ما يُستشَف منه وكذلك في مفتاح دار السعادة أطال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في مسألة الخلود وعدمه بالنسبة للكفار، فقد يُستشَف منه الاسترواح والميل إلى التوقف في هذه المسألة.
وشيخ الإسلام استفاض عنه ورُدَّ عليه في هذه المسألة -رحمه الله تعالى-، لكن الذي يغلب على الظن ويترجَّح من طريقته -رحمه الله تعالى-، وما عُرِف عنه أنه يقول بخلود الكفار في النار، واستمرار النار وعدم فنائها.
المقدم: أحسن الله إليكم ذَكَرتم أن في الترقيم في الأحاديث واحد وعشرون واثنان وعشرون أن واحدًا وعشرين هذا حسب ترتيب التجريد واثنين وعشرين حسب ترتيب الصحيح، وقد حذف صاحب التجريد حديث أنس، وبالتالي يكون حذف الباب أيضًا المتعلِّق؛ لأن عندنا الباب الذي قبله ثلاثة عشر، باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنا أعلمكم بالله» ثم الباب الخامس عشر: بابُ تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، فيكون حذف الحديث والباب معه؟
الترجمة تابعة للحديث.
المقدم: الباب ما فيه إلا هذا الحديث الذي حُذِف.
الباب بالنسبة للصحيح؟
المقدم: أي نعم.
ليس فيه غيره.
المقدم: وبالتالي حذف الترجمة التابعة.
نعم بلا شك؛ لأن الترجمة تابعة للحديث.
المقدم: شكر الله لكم ونفع بعلمكم. أيها الإخوة والأخوات، كنا في هذه الحلقة مع صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وكنا أيضًا معكم في برنامج: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، وهو المشهور بمختصر صحيح البخاري للإمام زين الدين أحمد بن أحمد بن عبد اللطيف الزَّبيدي، المتوفى سنة: 893 هـ.
لنا بكم لقاء -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة وأنتم على خير، حتى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.