شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (089)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.
مع بداية حلقتنا نرحب بضيف البرنامج فضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.
المقدم: لا زلنا في باب سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان.
تحدثنا في الحلقة الماضية عن شيء من معاني الإيمان، وأشرتم إلى بعض ألفاظ الحديث -أحسن الله إليكم-، لعلنا نستكمل ما تبقى في موضوع الإسلام والإحسان في هذه الحلقة.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
انتهينا من شرح أركان الإيمان التي جاءت في جواب النبي -عليه الصلاة والسلام- لجبريل في سؤاله عن الإيمان، ثم بعد ذلك قال جبريل -عليه السلام-: "ما الإسلام؟ فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان»." "قال له: ما الإسلام؟" و(ما) هنا مثلها في قوله: ما الإيمان؟ يُسأل بها عن الحقيقة والماهية، فأجابه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأركان الإسلام كما تقدم في الجواب عن الإيمان؛ لأنه أنفع للحاضرين من باب أسلوب الحكيم، وإلا فحقيقة الإسلام: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، كما قرره أهل العلم.
جاء في جواب النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإسلام قال: «أن تعبد الله» يقول النووي -رحمه الله تعالى-: العبادة الطاعة مع خضوع، فيحتمل أن يكون المراد بالعبادة هنا معرفة الله تعالى، والإقرار بوحدانيته، فعلى هذا يكون عطف الصلاة والزكاة والصوم عليها لإدخالها في الإسلام؛ لأنها لم تكن دخلت في لفظ العبادة، وعلى هذا إنما اقتصر على هذه الثلاث لكونها من أركان الإسلام، وأظهر شعائره، والباقي ملحَق بها، وتُرك الحج إما لأنه لم يكن فُرِض، وإما أن يكون بعض الرواة شك فيه فأسقطه، وتقدم نحو هذا الجواب، ويحتمل أن يكون المراد بالعبادة الطاعة مطلقًا كما هو حدها، ومقتضى إطلاقها، فتدخل جميع وظائف الإسلام فيها، إذا قلنا: الاحتمال الأول: أن يكون المراد بالعبادة المعرفة، معرفة الله تعالى، فلا يدخل فيها ما عُطف عليها، والاحتمال الثاني: أن يكون المراد بالعبادة الطاعة مطلقًا كما هو حدها ومقتضى إطلاقها، فتدخل جميع وظائف الإسلام فيها، فعلى هذا يكون عطف الصلاة وغيرها من باب ذكر الخاص بعد العام، تنبيهًا على شرفه ومزيته؛ كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ} [سورة الأحزاب 7] ونظائره، يعني كما يستفاد من عطف الخاص على العام، أو العكس عطف العام على الخاص، المراد به العناية بشأن الخاص والاهتمام به، فعناية بشأن الصلاة والزكاة والصوم نُصَّ عليها، وإلا فهي داخلة في العبادات.
قرر النووي -رحمه الله- أن العبادة في الأصل الطاعة مع الخضوع، لكن ابن القيم -رحمه الله تعالى- قال:
وعبادة الرحمن غاية حبه |
|
مع ذل عابده هما قطبانِ |
ابن حجر تَعقَّب النووي فقال: أما الاحتمال الأول فبعيد؛ لأن المعرفة من متعلَّقات الإيمان؛ لماذا؟ لأنها قلبية، قررنا أن الإيمان والإسلام إذا ذُكِرَا حمل الإيمان على أعمال القلوب الباطنة، وحمل الإسلام على الأعمال الظاهرة، والمعرفة من متعلَّقات الإيمان لأنها قلبية، وأما الإسلام فهو أعمال قولية وبدنية، وقد عُبِّر في حديث عمر يعني في قصة جبريل بقوله: «أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله» فدل على أن المراد بالعبادة في حديث الباب النطق بالشهادتين، «تعبد الله ولا تشرك به شيئًا» هذا المراد به الشهادتان، أو النطق بالشهادتين، وبهذا تبين دفع الاحتمال الثاني.
ولما عَبَّر الراوي بالعبادة احتاج أن يوضحها بقوله: «ولا تشرك به شيئًا» ولم يحتج إليها في رواية عمر لاستلزامها ذلك.
أقول: نفي الشرك هنا: «لا تشرك به شيئًا» هو مقتضى النفي في كلمة الإخلاص (لا إله) وقوله هنا: «أن تعبد الله» هو مقتضى الاستثناء في كلمة الإخلاص.
«أن تعبد الله» هو مقتضى (إلا الله) و«لا تشرك به شيئًا» هو مقتضى (لا إله) والنووي يقول: إنما ذكر «لا تشرك به» بعد ذكر العبادة لأن الكفار كانوا يأتون بصورة عبادة الله تعالى، يأتون بما ظاهره في الصورة أنه عبادة الله -عز وجل- في بعض الأشياء، ويعبدون أيضًا الأوثان وغيرها، يزعمون أنهم شركاء، فنفى هذا «أن تعبد الله» مفهوم عبادة الله -عز وجل- المفهوم ألا تشرك به؛ لأنه لا تسمى عبادتك أو عملك الذي ظاهره العبادة عبادة إلا بعد ترك الشرك.
النووي يقول: إنما ذكر «لا تشرك به» بعد ذكر العبادة لأن الكفار يأتون بصورة عبادة الله تعالى في بعض الأشياء، ويعبدون أيضًا الأوثان وغيرها، يزعمون أنهم شركاء فنفى هذا، يعني في الظاهر أو على حسب دعواهم.
«وتقيم الصلاة» وفي وراية: «الصلاة المكتوبة» والمراد بإقامتها فعلها بحدودها، وأما تقييدها بالمكتوبة في الرواية المشار إليها فلقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [سورة النساء 103].
وقد اشتهرت الأحاديث الصحيحة بتسميتها مكتوبة كقوله -عليه الصلاة والسلام-: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة».
المقدم: أحسن الله إليك من قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به المراد بالعبادة هنا النطق بالشهادتين كما قال المحشِّي ينقلها عن ابن حجر.
لا، هو قال ابن حجر وذكرنا، ما تقدم في كلامه، في تعقبه للنووي، فدل على أن المراد بالعبادة في حديث الباب النطق بالشهادتين، هو يرد على النووي الذي يقول: إن المراد بالعبادة المعرفة لأن المعرفة قلبية وهي من متعلقات الإيمان، لا من متعلقات الإسلام؛ لأن «أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا» جاء بإزاء قوله في حديث عمر: «أن تشهد أن لا إله إلا الله».
اشتهر في الأحاديث الصحيحة تسميتها مكتوبة؛ كقوله -عليه الصلاة والسلام-: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» «خمس صلوات كتبهن الله» «أفضل الصلاة بعد المكتوبة».
قال النووي: فيحتمل تقييدها بالمكتوبة الاحتراز من النافلة، فإنها وإن كانت من وظائف الإسلام فليست من أركانه، ويحتمل أن يكون المراد مراعاة الأدب مع ألفاظ القرآن الكريم، وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يلازم هذا الأدب، وذلك مشهور في الأحاديث الصحيحة، يعني إذا جاء ما يريد النبي -عليه الصلاة والسلام- بيانه من كتاب الله -عز وجل- يوافق الكتاب حتى في ألفاظه من باب الأدب.
«وتؤدي الزكاة المفروضة» قُيِّدت بالمفروضة احترازًا من صدقة التطوع فإنها زكاة لغوية، أو المُعَجَّلة، والزركشي يقول: لأن العرب كانت تدفع المال للسخاء والجود فنَبَّه بالفرض على رفض ما كانوا عليه، الزركشي في شرحه، شرحه المختصَر، شرح مختصَر جدًّا على البخاري قال: قيدت المفروضة لأن العرب كانت تدفع المال للسخاء والجود فنبه بالفرض على رفض ما كانوا عليه، يعني كما تقدم في عباداتهم الظاهرة، ولذا قال: «ولا تشرك به شيئًا» لينفي ما يدَّعون أنه عبادة الله -عز وجل-، وهنا قال: المفروضة لئلا...
المقدم: يختلط بعباداتهم السابقة.
نعم، بدفعهم المال للسخاء والجود، ويقولون: نحن نزكي، نخرج الأموال، لكن جاء القيد بأنها مفروضة التي فرضت من الله -عز وجل-.
ثم قال الزركشي: والظاهر أنها للتأكيد.
«وتصوم رمضان» أي تصوم شهر رمضان، وهو المكتوب المفروض من الصيام، الآن لم يقيَّد رمضان بكونه مفروضًا كما قيدت الصلاة بأنها مكتوبة، والزكاة بأنها مفروضة، ما قال: وتصوم رمضان المفروض.
المقدم: لأنهم كانوا لا يصومون؟
لا يحتاج إليه، رمضان مفروض، لكن الزكاة فيها المفروضة وغير المفروضة، الصلاة فيها المكتوبة وغير المكتوبة، بينما رمضان ما فيه رمضان مفروض ورمضان غير مفروض.
المقدم: ما دام قيد برمضان...
نعم.
«وتصوم رمضان» أي تصوم شهر رمضان، وهو المكتوب المفروض من الصيام، ولم يذكر شهر ففيه جواز قول: رمضان من غير إضافة شهر إليه.
قال القسطلاني: لم يذكر الحج إما ذهولاً أو نسيانًا من الراوي، ويدل له مجيئه في رواية كهمس: «وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً» وقيل: لأنه لم يكن فُرض ودفع بأن في رواية ابن منده بسند على شرط مسلم أن الرجل جاء في آخر عمره -صلى الله عليه وسلم-.
ولم يُذكَر الصوم في رواية عطاء الخراساني، واقتصر في حديث أبي عامر على الصلاة والزكاة، ولم يزد في حديث ابن عباس على الشهادتين، وزاد في رواية سليمان التيمي بعد ذكر الجميع الحج والاعتمار والاغتسال من الجنابة وإتمام الوضوء.
ثم بعد ذلك سأله، سأل جبريلُ النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- عن المرتبة الثالثة من مراتب الدين، فقال: «ما الإحسان؟» وهذا كسابقيه لأن (ما) يسأل بها عن الحقيقة والماهية، وأجابه هنا بحقيقة الإحسان الشرعية وإلا فحقيقته اللغوية أعم؛ لأنه مصدر أحسن يحسن من الحسن ضد القبح، قال الكرماني: الإحسان هنا بمعنى الإخلاص، وقال الطيبي: الإحسان يقال على وجهين: الإنعام على الغير نحو أحسِن إلى فلان، والثاني: الإحسان في الفعل، وذلك إذا علَّم علمًا حسنًا، أو عمل عملاً حسنًا، قال الكرماني: يجوز أن يُحمَل هنا على الإنعام الذي هو الوجه الأول، وذلك لأن المرائي يُبطِل عمله فيظلم نفسه، فقيل له: أحسن إلى نفسك، واعبد الله كأنك تراه، وإلا فإنك ستهلك.
وعلى المعنى الثاني الإحسان بالفعل يعني تجويد الفعل، وعلى الثاني كما في قوله تعالى: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة يوسف 36] أي من المجيدين المتقنين في تعبير الرؤيا، كأنه سأل ما الإجادة والإتقان في حقيقة الإيمان والإسلام؟ فأجاب بما ينبئ عن الإخلاص.
وفي فتح الباري لابن حجر: الإحسان: مصدر أحسن يحسن إحسانًا، ويتعدى بنفسه وبغيره، تقول: أحسنت كذا إذا أتقنته، وأحسنت إلى فلان إذا أوصلت النفع إليه، والأول هو المراد، أحسنت، تقول: أحسنت كذا إذا أتقنته، يعني أتقن عملك، الإحسان أن تتقن عملك.
المقدم: هذا للجوهري يا شيخ؟
لا، هذا ابن حجر. يقول: الإحسان مصدر أحسن يحسن إحسانًا، ويتعدى بنفسه وبغيره، يعني بالحرف وبدون حرف، تقول: أحسنت كذا إذا أتقنته، وأحسنت إلى فلان إذا أوصلت النفع إليه، والأول هو المراد لأن المقصود إتقان العبادة، وقد يُلحَظ الثاني بأن المخلص مثلاً محسن بإخلاصه إلى نفسه، وإحسان العبادة الإخلاص فيها والخشوع، وفراغ البال حال التلبُّس بها، ومراقبة المعبود، وأشار في الجواب إلى حالتين: أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه حتى كأنه يراه بعينه، وهو قوله: «كأنك تراه» أي وهو يراك، والثانية: أن يستحضر أن الحق مطلع عليه، يرى كل ما يعمل، وهو قوله: «فإنه يراك».
الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، هذه الحالة الأولى، هذه الدرجة الأولى، المرتبة العليا، كأنك تراه، المرتبة الثانية: أن يستحضر أن الله -سبحانه وتعالى- مطلع عليه «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» هذا أقل الأحوال، ولا يماري مسلم في أن الله -سبحانه وتعالى- مُطَّلِع عليه ويراه، لكن لماذا جيء أو نُصَّ عليها في هذه الدرجة العليا التي فوق مرتبة الإيمان؛ لأن كثيرًا من المسلمين والمؤمنين قد يغفلون، يغفلون عن هذه المرتبة، حتى مرتبة اطلاع الله -عز وجل- على خلقه، وإن كانوا لا ينكرون ذلك، لكن أثناء تأديتهم العبادات يغفلون، وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله وخشيته.
في فتح الباري لابن رجب يقول: وأما الإحسان ففسره بنفوذ البصائر في الملكوت حتى يصير الخبر للبصيرة كالعيان، فهذه أعلى درجات الإيمان ومراتبه، ويتفاوت المؤمنون والمحسنون في تحقيق هذا المقام تفاوتًا كبيرًا بحسب تفاوتهم في قوة الإيمان والإحسان، وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك هاهنا بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك» قيل: والمراد أن نهاية مقام الإحسان أن يعبد المؤمن ربه كأنه يراه بقلبه، فيكون مستحضرًا ببصيرته وفكرته لهذا المقام، فإن عجز عنه وشق عليه انتقل إلى مقام آخر، وهو أن يعبد الله على أن الله يراه ويطَّلع على سره وعلانيته، ولا يخفى عليه شيء من أمره.
ابن القيم -رحمه الله تعالى- في مدارج السالكين ذكر منزلة المراقَبة، وهي مأخوذة من هذا الحديث، منزلة المراقَبة يقول: المراقَبة دوام علم العبد وتيقُّنه باطلاع الحق -سبحانه وتعالى- على ظاهره وباطنه، هذه المراقَبة، والمراقَبة ماذا تثمر؟
المقدم: إحسان العمل.
إحسان العمل وإتقانه وإخلاصه لله -عز وجل-، والإقبال عليه بإخلاص.
يقول ابن القيم: وهي ثمرة علمه بأن الله -سبحانه وتعالى- رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة وكل نفس وكل طرفة عين، والغافل عن هذا بمعزل. مع الأسف الشديد أن حال كثير من المسلمين الغفلة، حتى من بعض من ينتسب إلى العلم، الغفلة، ويشاهَد في كثير من الأحوال أن الإيمان يزيد وينقص في الصلاة سهوًا، ولا يجد من ينبهه، وهذا سببه الغفلة.
المقدم: أحيانًا أربعة صفوف خمسة...
نعم، ولا واحد يقول: سبحان الله، ما فيه أحد.
ومن أدلتها قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [سورة البقرة 235] وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [سورة الحديد 4] وقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [سورة العلق 14] وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [سورة غافر 19] إلى غير ذلك من الآيات.
ثم ذكر الإحسان في حديث جبريل حديث الباب، ذكره ابن القيم، ثم قال: المراقبة هي التعبد لله -سبحانه وتعالى- باسمه الرقيب والحفيظ والعليم والسميع والبصير، فمن عقل هذه الأسماء، وتعبَّد بمقتضاها حصلت له هذه المراقبة، يعني معرفة الأسماء الحسنى، ما الفائدة من معرفة الأسماء الحسنى؟ ولماذا جاء مثل قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة» ما الفائدة منها؟ أن نعرف معانيها، ونتعبد بها، ولذا قال: المراقبة هي التعبد باسمه الرقيب والحفيظ، إذا عرفت أن الله رقيب أتقنت العمل، إذا عرفت أنه حفيظ كذلك، عرفت أنه عليم يعلم ما تفعل وما تترك، وعرفت أنه سميع يسمع ما تنطق به، وعرفت أنه بصير يرى من أعمالك ما دق وما جل، فلا شك أن مثل هذا يورث هذه المنزلة، فمن عقل هذه الأسماء، وتعبد بمقتضاها حصلت له هذه المراقبة.
وذكر الإمام الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- في الباب آثارًا كثيرة عن السلف، قال بعضهم: عجبت للخليقة كيف أَنِسَت بسوى الله؟! بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواه، وقيل لآخر: أما تستوحش؟ قال: كيف استوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟! وقيل لآخر: أما تستوحش وحدك؟ قال: ويستوحش مع الله أحد؟! قال الفضيل: طوبى لمن استوحش من الناس، وكان الله جليسه، وقال معروف لرجل: توكل على الله حتى يكون جليسك وأنيسك، وموضع شكواك.
ثم قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: وقوله: «اعبد الله كأنك تراه» إشارة إلى أن العابد يتخيل ذلك في عبادته لا أنه يراه حقيقة لا ببصره ولا بقلبه، وأما من زعم أن القلوب تصل في الدنيا إلى رؤية الله عيانًا كما تراه الأبصار في الآخرة، كما يزعم ذلك من يزعمه من الصوفية، فهو زعم باطل؛ فإن هذا المقام هو الذي قال من قال من الصحابة كأبي ذر وابن عباس وغيرهما، وروي عن عائشة أيضًا أنه حصل للنبي -صلى الله عليه وسلم- مرتين.
وروي في ذلك أحاديث مرفوعة أيضًا، وكذا قال جماعة من التابعين: إنه يراه بقلبه، وأما من زعم أن القلوب تصل في الدنيا إلى رؤية الله عيانًا، يعني الرؤية القلبية تصل من القوة بمكان حتى تكون بمنزلة العيان بالأبصار في الآخر، كما يزعم ذلك من يزعمه من الصوفية فهو زعم باطل، فإن هذا المقام هو الذي قال من قال من الصحابة كأبي ذر وابن عباس وغيرهما، وروي عن عائشة أيضًا أنه حصل للنبي -صلى الله عليه وسلم- مرتين، وروي في ذلك أحاديث مرفوعة أيضًا، وكذا قال جماعة من التابعين: إنه رآه بقلبه، منهم الحسن وأبو العالية ومجاهد وعبد الله بن الحارث بن نوفل وإبراهيم التيمي وغيرهم، فلو كان هؤلاء لا يعتقدون أن رؤية القلب مشتركة بين الأنبياء وغيرهم لم يكن في تخصيص النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك مزية له، لاسيما وإنما قالوا: إنها حصلت للنبي -عليه الصلاة والسلام- مرتين، النبي لم تحصل له إلا مرتين، وهم على حد زعمهم أنهم تحصل لهم باستمرار، فإن هؤلاء الصوفية يزعمون أن رؤية القلب تصير حالاً ومقامًا دائمًا أو غالبًا لهم، ومن هنا ينشأ تفضيل الأولياء على الأنبياء، ويتفرَّع على ذلك أنواع من الضلالات والمحالات والجهالات، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وفي شرح النووي على أوائل الصحيح صحيح البخاري قوله في الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» هذا أصل عظيم من أصول الدين، وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين، وهو عمدة الصديقين، وبغية السالكين، وكنز العارفين، ودأب الصالحين، وتلخيص معناه وإن كان واضحًا غنيًّا عن الشرح أن تعبد الله عبادة من يرى الله تعالى فيراه الله تعالى فإنه لا يستبقي شيئًا من الخضوع والخشوع والإخلاص، وحفظ القلب والجوارح، ومراعاة الآداب الظاهرة والباطنة ما دام في عبادته، فإن عرض له عارض على ندور بادر بالإعراض عنه، وسد بابه، وحسم مادته، وفي شرحه على صحيح مسلم قال: هذا من جوامع الكلم التي أوتيها -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه -سبحانه وتعالى- لم يترك شيئًا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع، وحسن السمت، واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "اعبد الله في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان" فإن التتميم المذكور في حال العيان إنما كان بعلم العبد باطلاع الله -سبحانه وتعالى- عليه، فلا يُقدِم العبد على تقصير في هذا الحال للاطلاع عليه، وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد فينبغي أن يعمل بمقتضاه؛ لأنه إن لم يكن يراه فإنه يراه.
فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة، ومراقبة العبد ربه -تبارك وتعالى- في إتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك.
يقول النووي أيضًا: وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعًا من تلبُّسه بشيء من النقائص احترامًا لهم، واستحياءً منهم، فكيف بمن لا يزال الله تعالى مطَّلعًا عليه في سره وعلانيته.
يقول: ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [سورة الكهف 28] أقل الأحوال أن تَكْتَف عن المخالفة لأنك بحضرة هؤلاء، ثم بعد ذلك يكون ترك المخالفات ديدنًا لك من كثرة مجالسة هؤلاء.
يقول القاضي عياض -رحمه الله-: وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، وإخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه، وعلى هذا الحديث وأقسامه الثلاثة ألفنا كتابنا الذي سميناه بالمقاصد الحسان، فيما يلزم الإنسان إذ لا يشذ شيء من الواجبات والسنن والرغائب والمحظورات والمكروهات عن أقسامه الثلاثة، والله أعلم.
لكن لو انبرى عالِم لشرح هذا الحديث وتبسيطه لعوام المسلمين، وشرح جميع ما يتعلَّق به، يعني في السؤال عن الإيمان أركان الإيمان تشرح بوضوح، أركان الإسلام أيضًا تشرح للناس بوضوح، وأشراط الساعة لَنفع الله به نفعًا عظيمًا.
المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم. تبقى لنا أيضًا بعض المواضيع الخاصة في هذا الحديث نرجئها -بإذن الله- إلى حلقة قادمة.
مستمعي الكرام، نلقاكم في حلقة قادمة -بإذن الله- لاستكمال هذا الموضوع، حتى ذلكم الحين، نستودعكم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.