التعليق على الموافقات (1429) - 11
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
استكمالاً في كتاب الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي –رحمة الله عليه- بشرح شيخنا الشيخ/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير في مبحث بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة، وقفنا عند المسألة السابعة.
"المسألة السابعة: المطلوب الشرعي ضربان:
أحدهما ما كان من قبيل العاديات الجارية بين الخلق، في الاكتسابات وسائر المحاولات الدنيوية، التي هي طرق الحظوظ العاجلة، كالعقود على اختلافها، والتصاريف المالية على تنوعها.
والثاني: ما كان من قبيل العبادات اللازمة للمكلف، من جهة توجهه إلى الواحد المعبود.
فأما الأول: فالنيابة فيه صحيحة، فيقوم فيها الإنسان عن غيره، وينوب منابه فيما لا يختص به منها، فيجوز أن ينوب منابه في استجلاب المصالح له، ودرء المفاسد عنه، بالإعانة والوكالة ونحو ذلك مما هو في معناه؛ لأن الحكمة التي يُطلب بها المكلف في ذلك كله صالحةٌ أن يأتي بها سواه، كالبيع والشراء، والأخذ والإعطاء، والإجارة والاستئجارة، والخدمة، والقبض، والدفع، وما أشبه ذلك".
هذه تقبل النيابة بالاتفاق؛ ولذا شُرِعت الوكالة، الوكالة التي هي النيابة عن صاحب الحق، لأمرٍ يقتضيها مشروعة ومقررة عند أهل العلم، والنائب يقوم بمقام من أنابه من كل وجه فيما يخص ما وكِّل فيه وأُنيب فيه، هذا بالنسبة لهذه المعاملات العادية المالية، أما ما يختص به المكلف من الأمور العادية كالأكل والشرب يقبل النيابة أم ما يقبل؟ ما يقبل. النكاح وله حقيقتان، وإن قال بعضهم: إن أحدهما حقيقة، والأخرى مجاز، النكاح يُطلق ويُراد به العقد، ويُطلق ويُراد به الوطء، بالإطلاق الأول يقبل النيابة أم ما يقبل؟ يقبل.
بالإطلاق الثاني يقبل أم ما يقبل؟ ما يقبل.
"والقبض، والدفع، وما أشبه ذلك ما لم يكن مشروعًا لحكمةٍ لا تتعدى المكلف عادةً أو شرعًا، كالأكل والشرب، واللَبس، والسُّكنى".
اللَّبس يعني الخلط، "واللُّبس".
واللُّبس، والسكنى وغير ذلك مما جرت به العادات، وكالنكاح وأحكامه التابعة له من وجوه الاستمتاع التي لا تصح النيابة فيها شرعًا".
ولا عقلاً، لا شرعًا ولا عقلاً ما يُمكن أن تُنيب أحدًا يعقل عنك، هذا لا تصح فيه النيابة لا عقلاً ولا شرعًا، ولا يصح أن تُنيب أحدًا يطأ عنك؛ لأن هذا هو الزنا، فهذه الأمور لا تقبل النيابة، نعم.
"فإن مثل هذا مفروغٌ من النظر فيه؛ لأن حكمته لا تتعدى صاحبها إلى غيره، ومثل ذلك وجوه العقوبات والازدجار؛ لأن مقصود الزجر لا يتعدى صاحب الجناية".
لأن حكمته لا تتعدى صاحبها إلى غيره، قد يقول قائل: إنها قد تتعدى، كيف تتعدى؟ تتعدى بمعنى أنه إذا أكل الولد وانتفع بالأكل انتفع والده به، هو المنتفع بالدرجة الأولى، لكن ينتفع غيره، فالحكمة تتعداه إلى غيره، لكن المقصد الأصلي من هذه الأمور غير المتعدية النظر الأول إلى من توجه إليه الخطاب دون غيره كونه يتعدى تعديًا فرعيًّا لا أصليًّا هذا ما فيه إشكال، ولا يمنع أن يكون مما لا يقبل النيابة؛ لأنه هذا التعدي الفرعي يعني نتاج النتاج، لكن لو قام به غيره لم يحصل لا الأصل ولا الفرع، لم يحصل الانتفاع الأصلي ولا الفرعي.
افترضنا أن غلام زيد يُطعمه زيد مما يطعم، كما جاء بذلك الشرع، ينتفع هذا الغلام بالدرجة الأولى، ينتفع زيد من هذا النفع أو الانتفاع الذي انتفع به الغلام بطريق التبع لا على سبيل الأصالة، يعني نفع فرعي متفرع عن نفع الأصل، لكن لو قال زيد: ما دمت أنا المنتفع من أكل الغلام، لماذا لا آكل أنا دونه؛ ليحصل النفع والانتفاع لي خاصةً؟ نقول: لا ينقطع انتفاع الغلام، وانتفاعك بالغلام ينقطع، وكل صورة من الصور التي ذكرها سواءً كانت من الأمور الخاصة والأمور العامة لها نفع أصلي، ونفع فرعي، فالنظر بالدرجة الأولى في كلام المؤلف إلى الانتفاع الأصلي.
"ومثل ذلك وجوه العقوبات والازدجار؛ لأن مقصود الزجر لا يتعدى صاحب الجناية ما لم يكن ذلك راجعًا إلى المال، فإن النيابة فيه تصح، فإن كان دائرًا بين الأمر المالي وغيره".
نعم، وجوه العقوبات لو شرب الخمر زيد من الناس، وقال ولده: أنا أتحمل الحد، اجلدوني مكانه، تقبل أم ما تقبل؟ ما يقبل النيابة، لكن لو كانت عقوبة مالية على القول بجواز العقوبة بالمال، فتحملها الولد عن أبيه أو الوالد عن ابنه فهذا ما فيه إشكال.
الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام امتنع الأب من دفعها، فقال الولد: أنا أتحملها عن والدي.
طالب: إلا بإذنه؟
نعم يقول: تصح بدون نية، تصح بدون نية؛ لأنها لو أخذها الحاكم قهرًا، أخذها السلطان قهرًا عنه صحت إذا امتنع، لكن في مثل هذه الصورة قال الوالد: أنا أعرف أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، لكن ما أنا مزكي، أنا ما تعبت على المال لأوزعه، قول كثير من التجار– نسأل الله السلامة والعافية- ثم قال ولده: أنا أتحملها، يبرأ من عهدتها أمام السلطان أمام الخلق، لكنه لا يبرأ من عُهدتها أمام الخالق، فهي تقبل النيابة من وجه باعتبارها تكليفًا ماليًّا دون قبول النيابة باعتبارها تكليفًا إلهيًّا يعني عبادة؛ لأن لها وجهين وجهًا متعلقًا بالمال، ووجهًا متعلقًا بالتعبد، فهي غير مقبولة عند الله -جلَّ وعلا-.
طيب الرسول –عليه الصلاة والسلام- في زكاة العباس قال: «هي علي ومثلها» لما ذهب المصدق إلى العباس بن عبد المطلب، وخالد بن الوليد، وابن جميل، ثم رجع إلى النبي –عليه الصلاة والسلام- فقال: «أما العباس فزكاته علي ومثلها» لأن عم الرجل صنو أبيه، وأما خالد بن الوليد فقد احتبس أدراعه وعتاده في سبيل الله، «وأما ابن جميل فمَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا، فَأَغْنَاهُ اللَّهُ».
هذا يُشكل على قبول النيابة أم ما يُشكل؟ يُشكل على قبول النيابة.
فكيف يُخرَّج مثل هذا؟ كيف يُخرَّج على ما معنا؟ يعني لو امتنع شخص غني من دفع الزكاة، فقال الحاكم: علي أنا أدفعها من بيت المال، أو أدفعها من مالي الخاص، هي علي، يبرأ منها في الدنيا، لكن في الآخرة لا يبرأ، كون النبي –عليه الصلاة والسلام- تحمل الزكاة عن العباس، جمعٌ من أهل العلم يقولون: إن النبي –عليه الصلاة والسلام- مُقترض من العباس لمصالح المسلمين، فقال: «هي علي» يعني مما اقترضته منه.
وأما خالد بن الوليد فقد أخرج في سبيل الله أكثر مما يجب عليه، يعني لو أن شخصًا عنده عمارة عرضها للبيع، ثم بعد ذلك أوقفها فيها زكاة أم ما فيها زكاة؟ ما فيها زكاة خلاص انتهت؛ لأنه أخرج في سبيل الله أكثر مما يطلب منه، الوقف.
طالب: وما قيل: إن النبي –عليه الصلاة والسلام- دفع عن العباس بصفته أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟
لكن في حكمه غيره من الولاة، لو أن واليًا من الولاة، قال: هي علي، زكاة فلان من التجار علي.
طالب: يبقى الحكم التكليفي المنوط بالذمة.
على كل حال أما بالنسبة للعبادات المحضة فهذه لا تقبل النيابة بوجه، وإن أُورِد على ذلك الصيام على ما سيأتي «من مات وعليه صوم صام عنه وليه» وطردًا لهذه القاعدة يرى جمعٌ من أهل التحقيق أن الصيام المفروض بالشرع لا يقبل النيابة، والذي يقبل النيابة إنما افترضه الإنسان على نفسه، يعني كما لو تَدين دَينًا فهذا يقبل النيابة سداده، فأوجب على نفسه صيامًا يقبل النيابة، نذر نذرًا، أما ما أُوجب بأصل الشرع، فحكمه حكم الصلاة لا يقبل النيابة.
"فإن كان دائرًا بين الأمر المالي وغيره فهو مجال نظرٍ واجتهاد، كالحج والكفارات، فالحج بناءً على أن المُغلَّب فيه التعبد، فلا تصح النيابة فيه، أو المال، فتصح، والكفارة، بناءً على أنها زجرٌ فتختص، أو جبرٌ فلا تختص، وكالتضحية في الذبح بناءً على ما بُني عليه في الحج، وما أشبه هذه الأشياء".
يعني مثل الحج والكفارة يُمكن أن يُستعمل فيهما قياس الشَّبه، وهو: أن يتردد الفرع بين أصلين يُلحق بأقربهما شبهًا به، لكن الصيام جاءت فيه النصوص، وأنه يقبل النيابة، الحج جاءت فيه النصوص «حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ» أنه يقبل النيابة، لكن هل يقبل النيابة مع القدرة عليه؟ شخص قادر على أن يحج حجة الإسلام، له أن يُنيب؟ لا يقبل النيابة، لكن مع العجز هذا جاء فيه النص «حُجَّ عَنْ أَبِيكَ».
الكفارة كفارة قتل، كفارة وطء في نهار رمضان، كفارة ظهار، كفارة يمين، هذه شُرِعت من أجل زجر من وقع في هذه المخالفة، للزجر، فهي كالحدود لا تقبل النيابة من هذه الحيثية، وهي مالٌ ملحقةٌ بالتكليفات المالية، فهي تقبل النيابة من هذه الحيثية؛ ولذا يختلفون فيمن جامع في نهار رمضان، الأعرابي الذي جامع في نهار رمضان لما أُمِر بالصيام ذكر أنه لا يستطيع، أُمِر بالعتق لا يجد، صيام لا يستطيع وما أوقعه في ذلك إلا الصيام، بقي الإطعام ما عنده شيء، جيء بفرقٍ فيه طعام، فقيل له: خذه وتصدق به، ادفعه كفارة، أقسم بالله أنه ما بين لابتيها أهل بيتٍ أفقر منه، فقال: «خُذْهُ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» برئت ذمته من الكفارة أم ما برئت؟
طالب: ........
نعم خلاف، يعني هل مثل هذا يقبل النيابة أو لا يقبل النيابة؟ وهل الكفارة تسقط مع العجز أو تبقى دينًا كسائر الديون في ذمته؟
طالب:.......
نعم منهم من قال: إنها سقطت عنه؛ لأنه عاجز، لكن الذي يقول: إنها تثبت في الذمة كسائر الديون، ودين الله أحق من دين الآدميين، قال: أعطاه إياه؛ ليأكله هو وأولاده؛ لترتفع بذلك حاجتهم، وتبقى الكفارة دينًا في ذمته، وكونها بقيت أو لم تبقَ فهذا مسكوتٌ عنه، وإنما يُرجع فيه إلى الأصول العامة إن هذا دَين في ذمته، ما تبرأ ذمته إلا بإخراجه عند من يقول: بأنها باقية، وهذا أقيس أنها كالديون، «فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ»
طالب: وإذا بقي عاجزًا؟
ما عليه شيء إذا بقي عاجزًا، وما تحمل أحدٌ عنه، فما عليه شيء.
طالب:........
لا ما ملك الطعام، أُعطيه من أجل أن يأكله ويرفع به حاجته.
"فالحاصل أن حكمة العاديات إن اختصت بالمكلف، فلا نيابة، وإلا، صحت النيابة، وهذا القسم لا يحتاج إلى إقامة دليلٍ لوضوح الأمر فيه.
وأما الثاني: فالتعبدات الشرعية لا يقوم فيها أحدٌ عن أحد، ولا يُغني فيها عن المكلف غيره، وعمل العامل لا يجتزى به غيره، ولا ينتقل بالقصد إليه، ولا يثبت إن وُهِب، ولا يُحمل إن تُحمِّل، وذلك بحسب النظر الشرعي القطعي نقلاً وتعليلاً، فالدليل على صحة هذه الدعوى أمور:
أحدها: النصوص الدالة على ذلك، كقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النَّجْمِ:39].
وفي القرآن: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] في مواضع، وفي بعضها: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر:18] ثم قال: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِه} [فاطر: 18] وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت:12] وقال: {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُم} [الْقِصَصِ:55] وقال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:52].
وأيضًا ما يدل على أن أمور الآخرة لا يملك فيها أحدٌ عن أحدٍ شيئًا، كقوله: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار:19] فهذا عامٌ في نقل الأجور أو حمل الأوزار ونحوها.
وقال: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان:33] وقال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:48] الآية إلى كثيرٍ من هذا المعنى.
وفي الحديث حين أنذر -عليه الصلاة والسلام- عشيرته الأقربين: «يَا بَنِي فُلَانٍ! إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا».
والثاني: المعنى وهو أن مقصود العبادات الخضوع لله، والتوجه إليه، والتذلل بين يديه، والانقياد تحت حكمه، وعمارة القلب بذكره، حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرًا مع الله، ومراقبًا له غير غافلٍ عنه، وأن يكون ساعيًا في مرضاته وما يُقرب إليه على حسب طاقته، والنيابة تنافي هذا المقصود وتضاده؛ لأن معنى ذلك أن لا يكون العبد عبدًا، ولا المطلوب بالخضوع والتوجه خاضعًا ولا متوجهًا، إذا ناب عنه غيره في ذلك".
إذا ناب عنه غيره في هذه العبادات أو أخرج البدل عنها؛ لأن هناك عبادات لها بدل مالي وهي في الأصل تقبل النيابة، لو أناب عن نفسه، وهو قادر في واجب من واجبات الحج هو قادر عليه أو قال: أنا أدفع البدل كما حصل في هذه السَّنة وفي قبلها يجلس في بلده إلى أن تغرب شمس يوم عرفة، ثم يأتي عن طريق الجو لمدة ساعة وقد وصل إلى المشاعر يمر بعرفة مرور، وينزل إلى المزدلفة، ثم بعد ذلك ينزل إلى الحرم يطوف ويسعى ويمشي إلى بلده في بضع ساعات، ثم في النهاية يقول: احسبوا كم علي من الجزاءات، هل هذا حقق هذه الحِكم من العبادات؟ احسبوا عشرًا، عشرين، ما عنده مشكلة، هل تحققت هذه؛ لأنه يقول: "المعنى وهو أن مقصود العبادات الخضوع لله، والتوجه إليه، والتذلل بين يديه، والانقياد تحت حكمه، وعمارة القلب بذكره، حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرًا مع الله، ومراقبًا له غير غافلٍ عنه، وأن يكون ساعيًا في مرضاته، وما يُقرب إليه على حسب طاقته" هل هذا حج، وأخذ المناسك عن النبي -عليه الصلاة والسلام-؟
هذا تعمد المخالفة، هذا وقع في الإثم، هذا ترك الواجبات عن عمد، وتلاعب بالدين وبالأحكام، وتلاعب بكتاب الله وسُنَّة نبيه -عليه الصلاة والسلام- هذا كونه لا يحج أفضل، والحج على هذه الطريقة يعني لو سأل فقيهًا من الفقهاء قال: هذه حجة الإسلام، فعلت هذا تُسقط الطلب ولا ما تُسقطه؟ قال: الأركان كلها موجودة، الشروط متوافرة والأركان موجودة، والواجبات تُجبر، نعم.
على طريقة الفقهاء فقهاء الظاهر عندما يُقسمون العلماء إلى فقهاء ظاهر وفقهاء باطن، إنما ما هم في الباطن صوفية ولا...، لا، لكن أصحاب المقاصد أصحاب أرباب القلوب فقهاء القلوب كما يُسميهم ابن رجب وغيره.
وذكرت مرارًا أن رجلاً حج من بغداد ثلاث مرات ماشيًا على قدميه، فلما رجع من الحجة الثالثة دخل البيت فإذ بأمه نائمة، فكره أن تستيقظ بسببه، فنام بجوارها استيقظت أثناء الليل من العطش، فقالت له: يا فلان اسقني ماءً، ومن التعب كأنه لم يسمع، فقد سمع، ثم قالت له: ثانية بعد مُدة يا فلان اسقني ماءً، ومثل الأولى كأنه لم يسمع، فقالت له الثالثة: اسقني ماءً، فاستيقظ قلبه قال: يا فلان تحج ماشيًا نفل -وطاعة الأم واجبة- ألاف الأميال، والماء خطوات للأم وأمرها واجب الإجابة، جاء لها بالماء، فلما أصبح ذهب واستفتى.
لو ذهب إلى فقيه من الذين يرون أن العمل إذا توافرت شروطه وأركانه وواجباته مُسقط للطلب في الجملة، لكن ليبقى أمور الآخرة والقبول وعدمه هذا عند الله –جلَّ وعلا- استفتى شخصًا، فقال له: أعد حجة الإسلام، يعني قد يقول الفقيه: الجهة منفكة هذا ما له علاقة بالحج، فلا أثر له في الحكم الجهة منفكة، يعني النية يُنظر فيها من أكثر من وجه، من جهة تصحيح العبادات، ومن جهة القبول على المسلم أن ينظر إلى القبول أكثر مما ينظر إلى أصل العمل؛ لأن الله –جلَّ وعلا- إنما يتقبل من المتقين، فليحرص الإنسان على هذا الأمر، قال: أعد حجة الإسلام، الفقيه يقول: أنه جاء بالحج على وجهه، والجهة منفكة لا أثر لها في الحج، والمخالفة في أمرٍ خارج عن العبادة فلا تؤثر، لكن هذا لم ينظر إلى ما وقر في القلب من صدق النية والإخلاص، الذي هو شرط القبول الأول، فقال: أعد حجة الإسلام.
ولسنا بصدد تصحيح هذه الفتوى أو تخطئة الفتوى، لكن المقصود منها أن هذه العبادات إذا لم يترتب عليها أثرها، فكونها تُسقط الطلب هذا شيء، فلا يؤمر بإعادة العبادة هذا شيء، لكن الانتفاع من وراء هذه العبادة صلاة لا تنهى عن الفحشاء والمنكر هذه فيها خلل كبير، صيام لا يُحقق التقوى في قلب الإنسان {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة:183] هذا فيه خلل كبير، والحج أيضًا لمن اتقى ويرجع الإنسان كما ذهب أو يرجع أسوأ مما ذهب، ومع ذلك يتحدث في المجالس، وأنه حج كذا مرة، عشر مرات، حج عشرين مرة، وما يدري المسكين أن حجه قد يكون وبالاً عليه.
ليس هذا من باب التزهيد بالحج بقدر ما هو حثٌّ على مراقبة القلوب، والسعي في تصحيح العبادة على الوجه المُرضي، يعني يكون كون الإنسان يُصلي حتى ما يُقال له: صلِّ، يسقط الطلب انتهى الإشكال، ما يُقال له: ثانية، لكن ما أثر هذه العبادة في قلبك؟ يعني كثيرٌ من الناس يحج ويتحايل على إسقاط الواجبات، هذه حيل اليهود «لا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ, فَتَسْتَحِلُّوا مَا حرَّم اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَل» يتحايل؛ ليُسقط الواجب عنه، أو يتحايل لارتكاب محظور، هذه حيل اليهود، ومثل هذا قد لا يرجع كفافًا، وكثير من العبادات يعتريها وينتابها ما ينتابها.
فالمؤلف أشار –رحمه الله تعالى- "المعنى وهو أن مقصود العبادات الخضوع لله، والتوجه إليه، والتذلل بين يديه، والانقياد تحت حكمه، وعمارة القلب بذكره".
هذا الذي أفطر يوم عرفة إن كان صائمًا عند أهله، وضحى ضحى العيد بين أولاده، هل هذا حج كما حج النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ أبدًا هذا ارتكب محظورات عن عمد، ترك واجبات عن عمد، هذا حجه لا ينفعه، ولا يُورثه التقوى {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ} [البقرة:203] هذا ما أخذ ولا يومًا.
طالب:..........
نعم، ساعات.
يعني يومين بعد يوم العيد، المسألة ولا كمل ولا يومًا حتى مشى صباح العيد {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ} [البقرة:203] معناه أن من تقدم عليه الإثم، من تأخر فلا إثم عليه، لكن لمن؟ لمن اتقى في حجه، اتقى الله –جلَّ وعلا- في حجه، هذا الذي ارتكب المحظورات وترك المأمورات اتقى الله في حجِّه؟ هذا رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه؟ هذا حجُّه وبالٌ عليه، والله– جلَّ وعلا- غني عن مثل هذه العبادة التي تؤدى على هذه الطريقة.
"وإذا قام غيره في ذلك مقامه، فذلك الغير هو الخاضع المتوجه، والخضوع والتوجه ونحوهما إنما هو اتصافٌ بصفات العبودية".
قد يقول قائل: إن الإنسان قد يحتاج إلى النيابة في الحج أو في غيره، يعجز عن أداء فريضة الإسلام ببدنه، فيدفع مالاً لمن يحج عنه، هذا الذي دفع المال وحُجَّ عنه بماله قادر على الحج بماله دون بدنه، سقط عنه الطلب؛ لأنه يقبل النيابة في هذه الصورة، لكن من الذي انتفع قلبه بالحج؟ يعني في عشية عرفة حينما يتعرض الناس للنفحات الإلهية من الذي يستفيد، النائب أو المنوب عنه؟
طالب: النائب.
الذي باشر العبادة النائب، لكن أيضًا النائب له من هذا الحج بقدر ما وقر في قلبه إن كان حج من أجل المال فهذا ليس له شيء، من حج ليأخذ غير من أخذ ليحج.
"والخضوع والتوجه ونحوهما إنما هو اتصافٌ بصفات العبودية، والاتصاف لا يعدو المتصف به، ولا ينتقل عنه إلى غيره، والنيابة إنما معناها: أن يكون المنوب منه بمنزلة النائب، حتى يعد المنوب عنه متصفًا بما اتصف به النائب، وذلك لا يصح في العبادات كما يصح في التصرفات، فإن النائب في أداء الدَّين مثلاً لما قام مقام المديان صار المديان متصفًا بأنه مؤدٍّ لدينه".
نعم؛ لأنه مجرد إيصال المال من شخص إلى شخص لا أثر له في القلب، ولا يحقق عبودية وذُلًّا وخضوعًا إلا بقدر ما يُحقق أنه امتثال لأمر الله –جلَّ وعلا- بأداء الحقوق إلى أصحابها، إلى أهلها، الحقوق يجب أن تؤدى إلى أصحابها، أنت مأمور بهذا، هذا الذي يتحقق به شيء ينفع القلب التعبد بإبراء الذمة.
أما كونك توصله أنت بنفسك أو توكِّل من يُوصله أو بواسطة صراف، بواسطة بنك، بواسطة من يقبل النيابة من الآلات المستحدثة فهذا ما فيه فرق، ما فيه أدنى فرق، المقصود أن المال يصل إلى صاحبه.
الرجل من بني إسرائيل لما اقترض الألف دينار، كم عدد الدنانير؟ في صحيح البخاري؟
طالب:.........
كم عددها؟
المقصود أنها دنانير كثيرة، اقترضها فطلب المقرض كفيلًا، قال له: ما فيه كفيل ولا وكيل إلا الله –جلَّ وعلا-، وشاهد، ما فيه شاهد إلا الله، فرضي بالله، والقصة معروفة مشهورة، لمَّا حلَّ الأجل بادر بإبراء الذمة، فأحضر المبلغ، وذهب إلى الساحل؛ ليجد من يُنيبه في إيصال المبلغ، ما وجد من يوصل المبلغ، فوجد خشبةً فنقرها وأدخل المال فيها وألقاها في البحر، السياق سياق القصة سياق مدح أم ذم؟ سياق مدح بلا شك، لكن لو فعله أحدٌ من أهل هذه الملة هل نقول: إن هذا مُبادرة في إبراء الذمة أو نقول: إن هذا من باب إضاعة المال؟ ما وجد أحدًا فرماه في البحر وقال: يصل إن شاء الله.
طالب:.........
ثقةً بالله، لكن الناس مقامات، والإنسان يعرف من نفسه، مثل: القسم على الله، الناس مقامات، وكلٌّ يعرف من نفسه بقدر ما عنده من معاملة بينه وبين ربه، قد يصل حد الثقة بالله إلى هذا الحد، لكن إنسان عادي رمى هذا المال، وقال: يصل إلى صاحبه إن شاء الله، يعني هذه مضايق، مضايق أنظار ما تكون لكل شخص، ومقامات لا تكون لأي إنسان، فبعض الناس يحرم عليه أن يفعل هذا الصنيع، يحرم عليه، لماذا؟ لأنه إضاعة للمال، يعني ليس بسببٍ عادي، وليس بسببٍ شرعي.
طالب:........
نعم.
طالب:........
ماذا؟
طالب:........
الكرامة، لكن من يضمن لنفسه أنه أهل لهذه الكرامة؟ هذه قد تكون لاسيما إذا كان الإنسان بينه وبين الله –جلَّ وعلا- معاملة صادقة، قد يثق إلى هذا الحد، لكن إذا لم يصل إلى هذا الحد فقد تكون هذه تزكية للنفس، إذا لم يكن لهذه التصرفات رصيد من معاملةٍ صادقة مع الله -جلَّ وعلا-.
المقصود أنه رمى الخشبة في البحر، ووصلت إلى صاحبها، ثم بعد أيام جاء بالمال لصحابه، لماذا؟ لأنه ما وثق ولا ضمن أنه وصل، يعني مع ثقته بالله وحرصه على إبراء ذمته احتمال وقوي أنه لم يصل، فذهب به وأخبره صاحب المال أنه وصل.
النيابة لو أن إنسانًا أناب من لا يحتمل النيابة كجماد مثلاً مثل الخشبة، أو أناب من لا يتوجه إليه خطاب كحيوان مُدرَّب، مُعلَّم يوصل البضائع إلى ما يُريد صاحبه، طائر مُدرَّب، ثم بعد ذلك حمل عليه المال، وتركه يذهب إلى الجهة التي يُريد مما دُرِّب عليه من الجهات؛ لأن النيابة الأصل فيها أن يكون المنوب يغلب على الظن أنه يوصل ما أُنيب إليه فيه، وهذا أناب جمادًا، فماذا عما لو أناب حيوانًا، وهو أولى من الجماد؛ لأن بعض الحيوانات تتعلم؟ هل نقول: إن فيه إضاعة للمال، أو نقول: إنه إذا اطرد أنه عُرِف بعادةٍ مطردة أنه يصل؟ يعني الآن حدث من المخترعات طائرات بدون قائد، تصل إلى الهدف المراد، هذه ما فيها إشكال؛ لأنه كونها تنوب لأنها مطردة، لكن بعض الحيوانات المُعلَّمة المُدرَّبة الحمار على ما يوصف به من غباء يتدرب، ويُوصِل البضائع إلى السوق، ويستلمها السمسار، ويرجع الحمار إلى صاحبه في المزرعة.
طالب: يعرف طريقه.
يعرف الطريق، نقول: إذا كانت عادته مطردة فمثل هذا لا يُعد من إضاعة المال، لكن يبقى أنه يُخشى أن يُتعرض له في الطريق، ويؤخذ منه هذا المال، ففيه شيء من التفريط.
على كل حال هذه النيابات إنابة المكلف هذه معروفة، ولا إشكال فيها، هم يشترطون في الوكيل شروطًا، وإنابة غير المكلف إذا كان المطرد إذا كان قبوله للنيابة مطردًا فهذا أيضًا لا إشكال فيه، لكن يبقى أنه إذا كانت صيانته لِما أُنيب فيه من باب الكرامة كما حصل للإسرائيلي، فمثل هذا لا يطرد، ولا يجوز أن يُصنع مرةً ثانية.
يعني لو وصلت الثقة بالإنسان إلى ما وصلت فيه ثقة أم موسى بولدها، خشي زيد من الناس على ولده، ثم صنع له صندوقًا، وألقاه في اليم، يجوز أم ما يجوز؟ ما يجوز.
طالب:........
نعم هناك قضايا يعني هناك استثناءات من السُّنن الكونية، يعني لو أن داعية ضُيِّق عليه وحُصِّر، وأُوذي وأراد أن يختبر نفسه بالإلقاء في النار مثلاً كما حصل لإبراهيم يجوز ولا ما يجوز؟ لا يجوز لو دخل فيها ما خرج كما قال النبي –عليه الصلاة والسلام- فهذه خوارق للسُنن الإلهية إنما هي كرامات لأصحابها وعنايات إلهية لا يجوز أن يُكررها إنسان يختبر نفسه فيها.
طالب:........
لكن الخبر إذا سيق مساق المدح لا شك أنه يُستدل به، لكن يبقى لوجود المعارض في نصوصنا هذا هو الذي يمنع من الاقتداء به.
"فإن النائب في أداء الدَّين مثلاً لما قام مقام المديان صار المديان متصفًا بأنه مؤدٍ لدينه، فلا مطالبة للغريم بعد ذلك به، وهذا في التعبد لا يُتصور ما لم يتصف المنوب عنه بمثل ما اتصف به النائب، ولا نيابة إذ ذاك على حال".
"وهذا في التعبد لا يُتصور ما لم يتصف المنوب عنه بمثل ما اتصف به النائب، ولا نيابة إذ ذاك على حال" ما معنى هذا؟ لا بُد "أن يتصف المنوب عنه بما اتصف به النائب" قال له: أُريد أن تنوب عني وتُصلي الظهر، تُصلي الظهر عني، قال: لا بُد أن "يتصف المنوب عنه بمثل ما اتصف به النائب" يُصلي الظهر المنوب عنه، لا بُد أن يتصف بهذا الوصف، إذًا لا نيابة؛ لأن صلاة النائب عبث ولغو إذا اشترطنا أن يتصف المنوب عنه بما اتصف به النائب.
طالب:........
نعم أو هذا.
طالب: أو من كل وجه يعني.
أو هذا يعني من كل وجه في الفعل، وفيما يتعلق بالبدن وما يتعلق بالقلب؛ لأن القلب لن يتصف إلا إذا امتثل البدن.
طالب:........
نعم.
"والثالث: أنه لو صحت النيابة في العبادات البدنية لصحت في الأعمال القلبية، كالإيمان وغيره من الصبر والشكر، والرضا والتوكل، والخوف والرجاء، وما أشبه ذلك، ولم تكن التكاليف محتومةً على المكلف عينًا لجواز النيابة، فكان يجوز أمره ابتداءً على التخيير بين العمل والاستنابة، ولصح مثل ذلك في المصالح المختصة بالأعيان من العاديات، كالأكل والشرب، والوقاع واللباس وما أشبه ذلك، وفي الحدود والقصاص والتعزيرات".
يعني الصيام في أول الأمر جاء فيه التخيير مع القدرة بين الصيام والإطعام، الصلاة ما جاء فيها تخيير، ثم بعد ذلك {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] أُلغي أو نُسخ الحكم مع القدرة على الصيام، هذا الصيام وهذه الصلاة هذه العبادات فيها وجه بدني ووجه قلبي، فإذا أناب عن المكلف في العمل البدني فلا بُد أن ينوب عنه في العمل القلبي، وإذا أناب عنه في العمل القلبي صح أن ينوب عنه في بقية أعمال القلب كالإيمان والصبر والشكر، والرضا والتوكل إلى آخر ما ذكره المؤلف، وهذا مستحيل؛ لأن الصورة الظاهرة إن وجدت فلن تُوجد الصورة الباطنة بحال؛ لأن القلب واحد {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4] بحيث يتعبد ويخضع وينكسر بين يدي الله –جلَّ وعلا- لنفسه ولمن أنابه.
"وفي الحدود والقصاص والتعزيرات وأشباهها من أنواع الزجر، وكل ذلك باطلٌ بلا خلاف، من جهة أن حِكم هذه الأحكام مختصة، فكذلك سائر التعبدات.
وما تقدم من آيات القرآن كلها عموماتٌ لا تحتمل التخصيص؛ لأنها مُحكماتٌ نزلت بمكة احتجاجًا على الكفار، وردًّا عليهم في اعتقادهم حمل بعضهم عن بعض أو دعواهم ذلك عنادًا، ولو كانت تحتمل الخصوص في هذا المعنى، لم يكن فيها ردٌّ عليهم".
نعم لو يوجد شخص مخصوص من هذه النصوص بأنه يستطيع أن يحمل عن أبيه وزره ما صار في هذه الآيات رد على الكفار، يعني لو خُصصت عمومات هذه الآيات لما صار فيها رد على الكفار؛ لأن للكافر الذي يُواجه بهذا الخطاب أن يقول: شأني شأن فلان، مادام فلان يحمل عن أبيه، وفلان يحمل عن أخيه أنا أحمل عن أبي، أنا أحمل عن أخي.
"ولما قامت عليهم بها حُجة، أما على القول بأن العموم إذا خُص لا يبقى حجةً في الباقي، فظاهر، وأما على قول غيرهم".
لأن من أهل العلم من يرى أن العموم إذا خُص ارتفعت حُجيته هذا قول، وعلى هذا القول الكلام المتقدم من المؤلف ظاهر، أنه مادام خرج فرد من الأفراد من هذه العمومات انتهت حُجيتها، لكن على القول الثاني وهو أن العموم يبقى حُجة في غير ما خُص منه، وهذا قول الأكثر قول الجمهور، وهو المتجه.
"وأما على قول غيرهم فلتطرق احتمال التخصيص بالقياس أو غيره، وإذا تأمل الناظر العمومات المكية وجد عامتها عريةً عن التخصيص والنسخ وغير ذلك من الأمور المعارِضة، فينبغي للبيب أن يتخذها عمدةً في الكليات الشرعية، ولا ينصرف عنها.
فإن قيل: كيف هذا؟ وقد جاء في النيابة في العبادات واكتساب الأجر؟".
قبل هذا "وإذا تأمل الناظر العمومات المكية وجد عامتها عريةً عن التخصيص والنسخ" لماذا؟ لأن غالبها أخبار، وتقرير عقائد، والنسخ لا يدخل الأخبار ولا العقائد.
"فإن قيل: كيف هذا؟ وقد جاء في النيابة في العبادات واكتساب الأجر والوزر من الغير، وعلى ما لم يعمل أشياء:
أحدها: الأدلة الدالة على خلاف ما تقدم، وهي جملةٌ منها أن «الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ»، وَأَنَّ « "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً، كَانَ له أجرها أو عليه وزرها»".
يعني فيما تقدم {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] كيف يُعذَّب الميت ببكاء الحي عليه أو ببكاء أهله؟ وبهذا استدلت عائشة –رضي الله عنها- على عدم إثبات الخبر، لكن إذا حُمِل على طريقة العرب، وأنهم يُوصون أهلهم أن يبكوا عليهم، هذا صار من عملهم، هذا وزره هو، ما وزر غيره، هذه الوصية أو هذ الأمر الذي تواطئوا عليه من غير إنكار هذا من عملهم، فهم يُعذَّبون على عملهم.
ومن سنَّ سُنَّةَ حسنة له أجرها، فهي من ثمرة عمله، ومن سنَّ سُنَّةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، فعمله عليه وزره، وأيضًا ثمرة عمله عليه وزرها إلى يوم القيامة.
" وَأَنْ «الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ»، وَأَنَّهُ «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا»".
يعني منها: أو لدٌ صالح يدعو له، والولد الصالح من كسبه، هذا من كسبه؛ لأنه سبب وجوده، وأيضًا تربيته وتنشئته على الدِّين، وعلى الصلاح من كسبه من كسب الأب، وينبغي أن يُلحظ في مسألة دعاء الولد لوالده وأثر دعاء الولد الصالح لوالده في مثل قوله –جلَّ وعلا-: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24] الكاف تعليل، العلة كونهم ربياه صغيرًا، فالأب الذي أو الأم التي أهملت أولادها لم تربهم تربية صالحة، يعني خطر ألا تُجاب الدعوة فيهم؛ لأن الحكم مرتب على علة {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24] فالذي لم يُربياه أبواه قد لا تُجاب هذه الدعوة؛ لترتيب الحكم على علته.
" وَأَنَّهُ «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا»".
لأنه استن سُنَّة القتل؛ لأنه سن هذه السُّنَّة السيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها فهي من نِتاج عمله.
"وفي القرآن: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21]، وفسِّر بأن الأبناء يُرفعون إلى منازل الآباء، وإن لم يبلغوا ذلك بأعمالهم".
يعني بلغوه بأعمال غيرهم، وهذا من فضل الله –جلَّ وعلا- وإكرامه للآباء أن يجمع شملهم بأولادهم وذرياتهم مكافأةً لهم.
"وفي الحديث: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ». وفي رواية: «أَفَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ، أَكَانَ يُجْزِئُهُ"؟ قَالَتْ: نَعَمْ: قَالَ: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى»".
وهذا كما تقدم «أَفَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ»، «حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ» "أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»" هذا من كسبه، والحج فيما قرر أهل العلم يقبل النيابة عند عدم القدرة عليه.
"«وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلَيُّهُ»".
وهذا مثل ما أشرنا سابقًا أنه لا يُراد به الصوم الذي وجب بأصل الشرع؛ لأنه عبادةٌ بدنيةٌ محضةٌ كالصلاة، وأما ما أوجبه الإنسان على نفسه كالنذر فإنه يقبل النيابة كالدَّين.
"وقيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ لَمْ تَقْضِهِ. قَالَ: «فَاقْضِهِ عَنْهَا».
وقد قال بمقتضى هذه الأحاديث كبراء وعلماء، وجماعةٌ ممن لم يذهب إلى ذلك قالوا بجواز هبة العمل، وأن ذلك ينفع الموهوب له عند الله تعالى، فهذه جملةٌ تدل على ما لم يُذكر من نوعها، وتُبين أن ما تقدم في الكلية المذكورة ليست على العموم، فلا تكون صحيحة".
"هبة العمل" المراد به: هبة الثواب، ثواب العمل، والقول بأن هبة الثواب تصل هو قول الجمهور، صلى ركعتين وأهدى ثواب الركعتين لوالده أو لوالدته أو لمن له حقٌّ عليه، صام يومًا، وأهدى ثوابه، قرأ شيئًا من القرآن، طاف شيئًا من الأسباع، وأهدى الثواب، يصل عند الجمهور، "وأي قُربةٍ فعلها فأهدى ثوابها لحيٍّ أو ميتٍ وصلته" هذه عبارة الحنابلة وغيره مثلهم، المالكية يُنازعون في مثل هذا، لكن الممنوع أن يُصلي زيد عن عمرو، لا أن يُصلي زيد صلاةً له، ثُم يُهدي ثوابها، إذا أحرزه أهدى الثواب المرتب عليها لعمرو، فرقٌ بين المسألتين، فرقٌ بين النيابة في العمل، وبين إهداء ثواب العمل.
"والثاني: أن لنا قاعدة يرجع إليها غير مختلفٍ فيها، وهي قاعدة الصدقة عن الغير، وهى عبادة؛ لأنها إنما تكون صدقةً إذا قُصد بها وجه الله تعالى وامتثال أمره، فإذا تصدق الرجل عن الرجل، أجزأ ذلك عن المتصدق عنه وانتفع به، ولا سيما إن كان ميتًا، فهذه عبادةٌ حصلت فيها النيابة، ويؤكد ذلك ما كان من الصدقة فرضًا كالزكاة، فإن إخراجها عن الغير جائز، وجازٍ عن ذلك الغير، والزكاة أُخية الصلاة.
لكنها تختلف عنها بأن الصلاة ليس لها إلا وجه واحد، وهي أنها عبادةٌ محضة، عبادةٌ بدنيةٌ محضة، بخلاف الزكاة، فإنها باعتبار امتثال لأمر الله وتكليف عبادة من هذه الحيثية، وباعتبار أنها نفع متعدٍّ متعلق بالمال هي عبادةٌ مالية، فتختلف عنها.
"والثالث: أن لنا قاعدة أخرى متفقًا عليها، أو كالمتفق عليها، وهى تحمل العاقلة للدية في قتل الخطأ، فإن حاصل الأمر في ذلك أن يُتلف زيد، فيغرم عمرو، وليس ذلك من باب النيابة".
إلا من باب النيابة.
"وليس ذلك إلا من باب النيابة في أمرٍ تعبدي لا يُعقل معناه".
لكنه تعبديٌّ مالي، فهو يقبل النيابة من هذه الحيثية، وتكليف العاقلة بدفع الدية عن القاتل خطأً لا شك أنه من باب التكافل الاجتماعي الذي جاء به الإسلام هو ضربٌ من التعاون في أمور الأموال كالزكاة والهبات وغيرها.
"ومنه أيضًا نيابة الإمام عن المأموم في القراءة وبعض أركان الصلاة مثل القيام، والنيابة عنه في سجود السهو بمعنى أنه يحمله عنه، وكذلك الدعاء للغير، فإن حقيقته خضوعٌ لله وتوجهٌ إليه، والغير هو المنتفع بمقتضى تلك العبادة".
أما نفع مباشرة العبادة فهو خاصٌّ بالداعي، والثمرة المتعدية الناتجة عن الدعاء تصل إلى المدعو له.
"والغير هو المنتفع بمقتضى تلك العبادة، وقد خلق الله ملائكةً عبادتهم الاستغفار للمؤمنين خصوصًا، ولمن في الأرض عمومًا، وقد استغفر النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبويه حتى نزل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113]".
النبي –عليه الصلاة والسلام- أراد أن يستغفر لأمه، فاستأذن فلم يؤذن له، والنبي –عليه الصلاة والسلام- قال بالنسبة لعمه: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» فنُهي عن الاستغفار له {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة:80] هذا بالنسبة للمنافقين {فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ} [التوبة:80].
"وقال في ابن أُبي: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ»".
هذا في عمه.
"حتى نزل: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُم} [التوبة:80]، ونزل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة:84] الآية.
وإن كان قد نُهي عنه، فلم ينه عن الاستغفار لمن كان حيًّا منهم، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»".
من كان حيًّا يُرجى إسلامه، أما من مات على الكفر فلا يُستغفر له، من كان حيًّا يُرجى إسلامه فيُطلب له، يُدعى له بالهداية، وتُطلب لهم المغفرة باعتبار أنه تُرجى هدايتهم، وإلا فالله– جلَّ وعلا- لا يغفر لمن أشرك به.
"وعلى الجملة، فالدعاء للغير مما عُلم من دين الأمة ضرورة.
والرابع: أن النيابة في الأعمال البدنية غير العبادات صحيحة، وكذلك بعض العبادات البدنية، وإن كانت واجبةً على الإنسان عينًا، وكذلك المالية، وأولها الجهاد، فإنه جائزٌ أن يستنيب فيه المكلف به غيره بجُعلٍ وبغير جعل، إذا أذن الإمام".
لكن لا بُد من إذن الإمام إذا استنفره الإمام تعين عليه، لكن إذا أناب من يقوم مقامه بإذن الإمام فلا مانع.
"والجهاد عبادة، فإذا جازت النيابة في مثل هذا، فلتُجز في باقي الأعمال المشروعة؛ لأن الجميع مشروع".
لكن يبقى أن الحَكم في هذا هو النصوص، فما جاءت فيه النصوص بأنه يقبل النيابة جازت وصحت النيابة وبرئت عهدة المنوب عنه، وأما ما لا فلا.
قف على الخامس.
طالب:.........
يستأجرهم.
طالب:.........
لا لا هذا ما عليه سلف الأمة ما صنعوه.
طالب:.........
إذا قرأ بنفسه، وحرز ثوابه، وأهدى هذا الثواب لغيره يصل إن شاء الله، هذا قول الجمهور.
طالب:.........
هو ما فصَّل في المسألة، وإلا فالمالكية يُنازعون.
طالب:.........
نعم، هذا الذي نحفظه دينار، لكن تكاثرت الألف.
طالب:.........
نعم تكاثرت الألف، وإلا أنا أحفظها ألفًا، الدنانير ذهب، لكن كما قال الله –جلَّ وعلا- عنهم: {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75].
طالب:.........
لا هي أقرب إلى العمل القلبي.