شرح منظومة الزمزمي في علوم القرآن (04)

بيان أسباب النزول:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

قال الناظم: النوع العاشر: أسباب النزول:

وصَنَّفَ  الأَئِمَةُ  الأَسْفــَارا

 

فِيهِ فَيَمِّمْ نَحْوَها  اسْتِفْسَارَا

ما فِيهِ يُرْوَى عَنْ صَحابِيٍّ رُفِعْ

 

وإِنْ بِغَيْرِ سَنَدٍ   فَمُنْقَطِـعْ

أو تَابِعِيْ فَمُرْسَلٌ، وصَـحَّتِ

 

أَشْيَاء كَما لإِفْكِهِمْ مِنْ قِصَّةِ

والسَّعْيِ والحِجَابِ مِـنْ آياتِ

 

خَلْفَ المَقَامِ الأَمْرُ بالصَّلاةِ

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "النوع العاشر: أسباب النزول", الأسباب: جمع سبب, والسبب: هو الباعث على الشيء, وأسباب النزول بالنسبة للقرآن كأسباب ورود الحديث, قد يقول قائل: ما الداعي لمعرفة السبب؟ الذي يهمنا النازل, وهو الذي نتعبد به, وكون الآية نزلت في قصة فلان أو فلان, وكون الحديث ورد في شأن فلان أو فلان لا يهمنا؟

العلماء عنوا بذلك عناية فائقة, وصنفوا فيه المؤلفات, أسباب النزول له فوائد كثيرة:

أولًا: أن معرفة السبب مما يورث العلم بالمسبب, معرفة السبب تورث العلم بالمسبب, فكم من آية نقرأها ولا ندري ما مراد الله فيها, ولا يتضح لنا وجه ارتباطها بما قبلها وما بعدها، ثم إذا اطلعنا على السبب زال الإشكال, والعرب يقولون: "إذا عرف السبب بطل العجب". يعني تسمع كلامًا تتعجب منه, كيف يقال مثل هذا الكلام, لا تدري ما وجهه, لكن إذا عرفت سببه تبين لك معناه.

ثانيًا: السبب قد يحتاج إليه في قصر الحكم العام على مدلول السبب, الصحابة -رضوان الله عليهم- استشكلوا بعض الآيات، فلما بيّن لهم النبي -عليه الصلاة والسلام- السبب زال عنهم الإشكال, استشكلوا ما جاء في آخر البقرة, واستشكلوا ما جاء في سورة الأنعام: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ...}[الأنعام:82] إلى آخره, قالوا: "أينا لم يظلم نفسه"؟ قال: فأنزل الله –تعالى-: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13], وفي بعض الروايات: ((ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13])), زال بهذا الإشكال, قد نحتاج إلى قصر الحكم العام على سببه.

معروف عند أهل العلم قاطبة، ونقل فيه الإجماع: "أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب", لكن قد يلجأ إلى خصوص السبب إذا كان العموم معارضًا بما هو أقوى منه, مثال ذلك: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ...} [البقرة:115], العموم يدل على أن من صلى إلى جهة صحت صلاته, والأدلة دلت على أن استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة, فإذا عرفنا سبب النزول, وهو: أنهم اجتهدوا -اجتهد الصحابة- بالصلاة، فصلوا إلى جهات متعددة, فنزل قوله -جل وعلا-: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ...}[البقرة:115], فهذه الآية المقصورة على سببها، يعني: فيمن خفيت عليه القبلة واجتهد ثم بان له أنه صلى إلى غير القبلة.

مثال ذلك من الحديث: ((صلّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب)), مع حديث: ((صلاة القاعد على النصف من أجر صلاة القائم))؛ الحديث الأول: يدل على أن الصلاة لا تصح من القاعد المستطيع للقيام مطلقًا, والثاني: يدل على أن الصلاة تصح من القاعد المستطيع مطلقًا, هذا تعارض تام, لكن إذا نظرنا في سبب ورود الحديث الثاني، من أركان الصلاة القيام مع القدرة, والعلماء يقولون: القيام في الفرض مع القدرة, لماذا ما حملوه على عمومه؟ لوجود المعارض, والحديث الثاني: ((صلاة القاعد على النصف من أجر صلاة القائم)) له سبب, فالنبي -عليه الصلاة والسلام- دخل المسجد والمدينة محمة –يعني: فيها حمى-, لما دخل المسجد وجدهم يصلون من قعود, فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((صلاة القاعد على النصف من أجر صلاة القائم، فتجشم الناس الصلاة قيامًا)), هذا سبب الورود, أخذ منه أهل العلم: أن صلاة النافلة تصح من قعود ولو كان قادرًا مستطيعًا؛ أخذًا من سبب الورود. كونهم يصلون قبل حضور النبي -عليه الصلاة والسلام-, دخل المسجد ووجدهم يصلون، دل على أنها نافلة, إذ لا يصلون الفريضة حتى يأتي -عليه الصلاة والسلام-, كما دل الخبر على أنهم يستطيعون القيام, فمن صلى قاعدًا وهو قادر على القيام في الفريضة صلاته باطلة, ((صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا)), من صلى في الفريضة أو النافلة وهو عاجز صلاته صحيحة وأجره كامل, ((فإن لم تستطع فقاعدًا)), من صلى النافلة من قعود وهو قادر على القيام صلاته صحيحة لكن أجره على النصف. فهذه من فوائد معرفة سبب النزول.

أيضًا: معرفة الأسباب أنه لا يشك في دخول الصورة التي تضمنها السبب في العام, يقول أهل العلم: "دخول السبب في النص قطعي", لو جاء طالب –مثلًا- إلى شيخ من الشيوخ وقال: إن الكتاب الفلاني المقرر في الدرس الفلاني ما يوجد في المكتبات, والطلاب ظروفهم ما تساعدهم على أن يبذلوا الأسباب المكلفة لإحضار الكتاب أو تصوير الكتاب، ثم الشيخ بطريقته دبر بعدد الطلاب, ثم أعطى جميع الطلاب إلا هذا الطالب الذي جاء إليه, هذا حسن ولا ما هو بحسن؟ لا, أولى الناس بالكتاب هذا الطالب الذي هو سبب في إيجاد الكتاب, فأهل العلم يقولون: "دخول السبب قطعي", فهذه من فوائد معرفة أسباب النزول بالنسبة للقرآن، وأسباب الورود بالنسبة للحديث.

وصنف الأئمة الأسفارا

 

....................................

صنف الأئمة في هذا النوع.

(أسفار)، يعني: كتب, أئمة: جمع إمام، والأسفار: جمع سفر وهو الكتاب, صنفوا في هذا النوع.

(فيه)، يعني: في هذا النوع كتبًا متعددة, منها: الواحدي –مثلًا- صنف في أسباب النزول, والسيوطي صنف في أسباب النزول, وغيرهما صنفوا.

يقول: (فيمم), اقصد.

(نحوها استفسارًا): اقصد نحو هذه الكتب الذي صنفها الأئمة في أسباب النزول، ويممها واقصدها، واقصد (نحوها استفسارًا), يعني: اطلب من خلال هذه الكتب أسباب نزول القرآن, وأطلب أيضًا: من أسباب ورود الحديث أسباب ورود السنة, وهناك أسباب ورود الحديث للسيوطي, وفي البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف لابن حمزة الحسيني, وهو أوسع من كتاب السيوطي.

......................................

 

 فيمم نحوها استفسارًا

ما فيه يروى عن صحابي رفع

 

وإن بغير سند فمنقطع

يعني: ما يروي عن الصحابي من أسباب النزول فهو مرفوع, كيف مرفوع والقائل ابن عباس –رضي الله عنهما- ولم يقل: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟, أو القائل ابن عمر أو القائل أبو هريرة –رضي الله عنهم-؟ قالوا: مرفوع, لماذا؟ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- طرف في التنزيل ذكر أو لم يذكر, النزول على من؟ التنزيل على محمد -عليه الصلاة والسلام- فهو طرف في التنزيل؛ سواءً ذكر أم لم يذكر, وعليه حمل أهل العلم كلام الحاكم في قوله: "إن ما يضاف إلى الصحابي من التفسير، أو تفسير الصحابي مرفوع", حمله أهل العلم على أسباب النزول؛ ولذا يقول الحافظ العراقي:

وعدوا ما فسره الصحابي

 

 

رفعًا فمحمول على الأسباب

لماذا حوروا كلام الحاكم إلى أسباب النزول؟ لأن الصحابي قد يجتهد ويفسر القرآن من غير رفع للنبي -عليه الصلاة والسلام-, بل بما يعرفه من لغة العرب, أو بما استنبطه مما آتاه الله -جل وعلا- من فهم كابن عباس الذي دعا له النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يعلمه الله التأويل, فالذي يؤثر عن ابن عباس –رضي الله عنهما- من التأويل من أثر هذه الدعوة من فهم ابن عباس –رضي الله عنهما, وليس بمرفوع وليس له حكم الرفع, وأما الحاكم فكأنه نظر إلى أن التفسير بالرأي جاء ذمه, والصحابة -رضوان الله عليهم- من أشد الناس تحرٍّ وتثبت في تفسير القرآن من غير مستند؛ "أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله ما لم..." أيش؟ نعم, هذا قاله أبو بكر –رضي الله عنه- وغيره لما سئل عن تفسير الأبّ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31].

فالمقصود: أنهم يحتاطون ويتحرون, وهكذا ينبغي أن يكون المسلم عمومًا وطالب العلم على وجه الخصوص, صاحب تحرٍّ وتثبت، ما يقول في كتاب الله -جل وعلا- برأيه, ولا يفسر السنة ولا يشرح الحديث برأيه, هذه وجهة نظر الحاكم حينما قال: "كل ما يروى عن الصحابي من التفسير له حكم الرفع؛ لأنه جاء ذم التفسير بالرأي، إذًا لا يمكن أن يقول الصحابي إلا بتوقيف", لكن أهل العلم حملوه على أسباب النزول؛ لأن أسباب النزول النبي -عليه الصلاة والسلام- طرف ذكر أو لم يذكر.

ما فيه يروى عن صحابي رفع

 

....................................

يعني: من أسباب النزول, وعرفنا وجه هذا الكلام.

(رفع): إذا قلنا: إنه مرفوع والنبي -عليه الصلاة والسلام- طرف، فكيف يروى عن جمع من الصحابة أسباب مختلفة لنازل واحد؟ يذكر عن ابن عباس سبب نزول, ويذكر عن ابن عمر سبب نزول, ويذكر عن كذا, إذا كان مرفوعًا فمصدره واحد لا يقع فيه الاختلاف, قد يتعدد سبب النزول لنازل واحد, وقد يتعدد النزول عند بعضهم, تنزل الآية مرتين –مثلًا- في قصتين متوافقتين, مما يشملهما حكم الآية, وهذا يسلكه بعض العلماء صيانة للرواة الأثبات عن التوهيم, وإلا إذا قلنا: إن آيات اللعان نزلت في هلال بن أمية أو عويمر العجلاني والخبر صحيح في الطرفين, وجاء أن آيات اللعان نزلت في عويمر العجلاني في الصحيح, وجاء أنها نزلت في هلال بن أمية, فكيف ينزل النازل الواحد لقصتين مختلفتين؟

النازل نزل بسبب أحدهما، فلما حصلت القصة نزل القرآن على النبي -عليه الصلاة والسلام- مبينًا الحكم فتلاه على الصحابة، فسمعه من سمعه, ونقل السبب والمسبب, ثم حصل قصة ثانية؛ فتلا النبي -عليه الصلاة والسلام- الآية وسمعها من لمن يسمعها قبل، فقال: فأنزل الله -جل وعلا-: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ..}[النور:6] إلى آخره, فيظن السامع الثاني أنها نزلت لأول مرة, هذا توجيه من بعض العلماء, وبعضهم يحكم بالترجيح فيقول: "الراجح هو المحفوظ وما عداه شاذ", وإذا أمكن صيانة الرواة بقدر الإمكان فلا يعدل إلى الترجيح.

ما فيه يروى عن صحابي رفع

 

وإن بغير سند فمنقطع

تجدون في كتب التفسير: قال ابن عباس: "نزلت الآية في كذا", بغير سند, هذا منقطع, والمنقطع ضعيف, لا بدّ من البحث عن إسناده، والنظر في هذا الإسناد من حيث الاتصال وثقة الرواة، وهل يثبت أو لا يثبت, ويوجد في كتب أسباب النزول قدر كبير من الأخبار الضعيفة, وهذا يسأل عن كتاب الصحيح المسند من أسباب النزول للشيخ مقبل بن هادي الوادعي؟ هذا من خير ما يقتنيه طالب العلم ويستفيد منه.

.....................................

 

وإن بغير سند فمنقطع

الآن ما يروى عن الصحابي بغير سند منقطع.

أو تابعي فمرسل.....

 

.....................................

 يعني: ما يروى عن التابعي فمرسل.

ما له حكم الرفع إن اتصل السند بالصحابي برواة ثقات فالخبر صحيح، وإن روي عن الصحابي وله حكم الرفع فهو مرفوع، لكنه ضعيف منقطع، ما يروى عن التابعي مما له حكم الرفع مما لا يدرك بالرأي فهذا مرفوع، فإن اتصل السند إليه فمرسل؛ لأنه لا بدّ من ذكر واسطة بينه وبين النبي -عليه الصلاة والسلام-، التابعي لا يمكن يقول شيئًا مما له حكم الرفع برأيه إلا إذا عرف بالفرية، لكن المسألة مفترضة في التابعين الثقات، الذين يضاف إليهم مما له حكم الرفع، هذا مرسل؛ لأنه لا بدّ أن يكون بينه وبين النبي -عليه الصلاة والسلام- واسطة وهو الصحابي، فما يرفع التابعي مرسلاً؛ ولذا قال: (أو تابعي فمرسل)، فإن انضم إلى الإرسال حذف الإسناد إلى التابعي فهو منقطع كما قيل في سابقه، وهو مرسل؛ لعدم ذكر الصحابي وكلاهما ضعيف.

(وصحة أشياء):

أو تابعي فمرسل وصحة

 

 أشياء كما لإفكهم من قصة

سبب نزول قصة الإفك في القرآن في عشر الآيات من سورة النور، ثبتت القصة في الصحيحين بطولها، بطولها ثبتت القصة، وهي سبب نزول الآيات في سورة النور التي جاءت لبراءة عائشة -رضي الله عنها-.

والسعي والحجاب من آيات

 

.................................

السعي بين الصفا والمروة، {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا..ٌ} [البقرة:158]، هذه الآية جاءت على سبب، ولولا السبب الذي أجابت به عائشة -رضي الله عنها- لعروة لقلنا: إن الآية لا تدل على الوجوب، لكن لما عرفنا السبب بطل العجب، عروة استشكل وجوب السعي من مجرد رفع الجناح، {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا..ٌ} [البقرة:158]، هل يكفي في إثبات الوجوب رفع الجناح؟ يعني: رفع الجناح غاية ما يدل عليه الإباحة، لكن سبب النزول وهو: أن الأنصار كانوا يهلون لصنمين، ويطوفون بين الصفا والمروة من أجلهما، فلما جاء الإسلام ودخلوا في الإسلام، وكفروا بما عداه من الأصنام وفرض الحج، كان من واجباته وواجبات العمرة بل من أركانه السعي بين الصفا والمروة، فاستصحبوا ما كانوا يفعلونه في الجاهلية فكرهوا الطواف بين الصفا والمروة، فنزلت الآية لبيان أن هذا الأمر لا جناح فيه ولا حرج فيه، ولا شيء مما تأثمتم به، استصحبوا أنهم كانوا في هذا المكان يسعون من أجل هذين الصنمين، وذكرنا مثالاً: لو أن إنسانًا احتاج إلى كراتين لنقل مكتبته من مكان إلى مكان، فما وجد إلا كراتين دخان، فقال: هذه كتب علم، قال الله وقال رسوله، وهذه الكراتين كانت ظروفًا لمحرم، فكيف أشيل الكتب، أحمل الكتب من خلال هذه الكراتين التي استعملت في معصية؟! يقال له: ولا حرج عليك ولا جناح؛ لأن هذه الكراتين طاهرة ونظيفة ومناسبة للكتب وقوية ومتينة، تحرج باعتبار ما كان، وأما الحكم الشرعي: كراتين طاهرة، واليابس لا ينجس اليابس -على القول بأن المسكر والمفتر فيه ما فيه-، ولا شك أن النفس تجد، أو الإنسان يجد في نفسه شيئًا من القلق في مثل هذه الأمور، يعني: لو عندك مصحفًا وتقرأ، وأردت أن تسجد فقلت: بدلًا من أن أضعه على الأرض -ويجوز وضعه على الأرض- بخلاف إلقائه، لكن ما عندك إلا كرتون مثلًا -أكرمكم الله- حفائظ، لكنه جديد، جيء به من المصنع، يتحرج الإنسان أن يضع هذا المصحف الشريف الجليل على هذا الكرتون! وهو نظيف ما فيه أدنى إشكال، لكن النفس، الإنسان يجد في نفسه حرجًا من بعض الأمور، صح وإلا لا؟ فهم وجدوا في أنفسهم مثل هذا الأمر، وإلا جاء الأمر به: ((إن الله كتب عليكم السعي))، وسعى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فما للحرج موقع في مثل هذه الأمور، لكن النفس جبلت على هذا، فنزل قول الله -جل وعلا-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا..ٌ} [البقرة:158]، ولو لم نعرف السبب لوقعنا في إشكال في دلالة الآية، كما وقع عروة.

والسعي والحجاب من آيات

 

.................................

عمر -رضي الله تعالى عنه- كان يغار على زوجات النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولا يوجد مخلوق أغير من النبي -عليه الصلاة والسلام-، فعمر -رضي الله تعالى عنه- غيرته زائدة؛ لأن هناك من الصفات -وإن شئت فقل جميع الصفات المحمودة- لا بدّ من التوسط فيها، فصنيعه -عليه الصلاة والسلام- هو الوسط، عمر -رضي الله تعالى عنه- قال: "إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو حجبتهن"، فنزل قول الله -جل وعلا-: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ...}[الأحزاب:53]؛ ولذا يقول عمر -رضي الله تعالى عنه-: "وافقت ربي في ثلاث"، وذكر منها الحجاب، وذكر منها الصلاة خلف المقام، وذكر منها:  {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ...}[التحريم:5]، ثلاث، وموافقات عمر -الملهم- تزيد على ذلك بكثير، وجمع السيوطي منها ما يقرب من عشرين في رسالة.

(والحجاب من آيات):  سببها قول عمر -رضي الله عنه-.

.....................................

 

خلف المقام الأمر بالصلاة
..........................

"لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى"، يقول عمر -رضي الله تعالى عنه-: "فنزل قوله -جل وعلا-: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى..}[البقرة:125]"، فهذه من موافقاته -رضي الله تعالى عنه-، ونزلت آيات على هذه الأسباب.

يقول: هل يعبر بعض الصحابة بالنزول وهم يقصدون تفسيرهم للآية أو ذكر حكمها؛ مثل: قول ابن عمر في قوله –تعالى-: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ...} [البقرة:223]، أنها نزلت في إتيان المرأة في دبرها، فهل يعدون مثل هذا سبب نزول، وما هي العبارات الصريحة في ذلك؟

غالبًا ما يأتي النازل بعد ذكر القصة، تذكر القصة ثم يقال: فأنزل الله –تعالى-، يرتب عليها، يفرع على القصة النزول، وقد يقال: أنزل الله –تعالى- في كذا، يعني: في حكم كذا، وإن لم يكن سببًا.

النوع الحادي عشر: أول ما نزل:

اقرأ الأصح فالمدثر

 

أوله والعكس قوم يكثر

أوله التطفيف ثم البقرة

 

وقيل بالعكس بدار الهجرة

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في النوع الحادي عشر: (أول ما نزل)؛ يعني: من القرآن مطلقًا اقرأ، في قصة بدء الوحي الشهيرة المخرجة في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة –رضي الله عنها-، والنبي –عليه الصلاة والسلام- أول ما بدء به من الوحي الرؤيا الصادقة، وفي الحديث: "وكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد -يعني: يتعبد-، وبينما هو كذلك إذ نزل عليه الملك، فجاءه الملك وقال له: اقرأ، فقال: ((ما أنا بقارئ))، ثم قال له: اقرأ، فقال: ((ما أنا بقارئ))، ثم قال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]"، السورة المعروفة.

(اقرأ): على (الأصح)، وخبرها والدليل عليها في الصحيحين وغيرهما، وهذا قول الأكثر وهو القول الصحيح.

(فالمدثر): هذا القول الثاني، القول الثاني: أن أول ما نزل المدثر.

...................................

 

أوله والعكس قوم يكثر

(العكس): القول بعكس ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني، ذهب إليه قوم (يكثر) عددهم، ويصعب حصرهم.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "النوع الحادي عشر: أول ما نزل: اقرأ"؛ على الأصح، وهو قول الأكثر، وقال به قوم يكثر عددهم ويستعصي حصرهم، والدليل فيه صحيح صريح.

(فالمدثر أوله): العطف بالفاء للترتيب، فهل هو لترتيب النزول أو لترتيب الأقوال؟

طالب:........

شيخ: نعم؟ يعني: ألا نستطيع أن نقول: يقول المؤلف: إن "اقرأ" أول ما نزل ثم التي تليها المدثر؟ يعني: بأن نقول: "اقرأ" على الأصح فالمدثر، لو وقفنا على هذا، نعم، لفهمنا هذا الفهم، لكنه قال: (فالمدثر أوله)، يعني: أول ما نزل من القرآن، وهذا ثبت في الصحيح من حديث جابر -رضي الله تعالى عنه-: أنه سئل عن أول ما نزل؟ فقال: "المدثر"، وجاء بالقصة التي تفيد أن "اقرأ" قبل "المدثر"؛ لقوله في خبره: ((فجاءني الملك الذي جاءني بحراء))، فدل على أن قصة حراء -التي فيها نزول اقرأ- متقدمة على القصة التي فيها الأمر بالإنذار.

.......................... فالمدثر

 

أوله والعكس قوم يكثر

(أوله): هذا بالنسبة للأولية المطلقة، الخلاف في الأولية المطلقة، هل هي "اقرأ" أو "المدثر"؟ الأكثر والأصح أنها "اقرأ"، أما الأولية النسبية بالنسبة للرسالة والتبليغ فأول ما نزل عليه "المدثر"، وتكون حينئذ أولية نسبية، وعلى وهذا يحمل حديث جابر –رضي الله عنه-، أما الأولية المطلقة فهي "اقرأ".

أوله التطفيف ثم البقرة

 

وقيل بالعكس بدار الهجرة

يعني: أول ما نزل بالمدينة -دار الهجرة- على النبي -عليه الصلاة والسلام- سورة التطفيف: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ}[المطففين:1]، وهذا مروي عن ابن عباس –رضي الله عنها-

(ثم البقرة): من أوائل ما نزل بالمدينة بعد التطفيف.

(وقيل بالعكس): وهذا مروي عن عكرمة أنها: البقرة ثم التطفيف.

...................................

 

وقيل بالعكس بدار الهجرة

(دار الهجرة): هي المدينة، وهي طيبة وهي طابة وهي الدار، ولها أسماء مذكورة في تواريخ المدينة، فالمذكور عن ابن عباس والمروي عنه أن ما نزل بالمدينة سورة: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} التطفيف، ثم البقرة، وقيل بالعكس، ومقتضى تقديم الناظم وجزمه بأن أول ما نزل التطفيف ثم البقرة.

(وقيل): سياق القول الثاني بصيغة التمريض تدل على ترجيحه القول الأول، وهذا استعمله بخلاف استعماله لما جاء في أول ما نزل مطلقًا: اقرأ فالمدثر؛ لأن حديث جابر في الصحيح، فهل يمكن التعبير عن قول جابر المذكور في الصحيح بقيل كما عبر بقوله: (وقيل بالعكس)، يمكن أن يعبر عنه بـ(قيل) وهو في الصحيح، يعني: يجوز أن نقول: قيل أول ما نزل المدثر، يجوز؟ وقوله جابر في الصحيح، هل يجوز أن نسوقه بصيغة التمريض كما قال: (وقيل بالعكس)؟ ثبوت. أيه،  يعني: المسألة صحيح تحتاج إلى تفصيل، إن أريد بذلك تضعيف القول لمخالفته ما هو أصح منه صح أن نقول: قيل، وإن أريد به ثبوت القول لقائله، فلا يجوز أن نقول: قيل؛ لأنه ثابت في الصحيح.

النوع الثاني عشر.

النوع الثاني عشر: آخر ما نزل:

وآية الكلالة الأخيرة

 

 قيل الربا أيضًا وقيل غيره

وهذا النوع الثاني عشر: وهو آخر ما نزل، وآخر الأنواع المتعلقة بالعقد الأول، وهو ما يتعلق بالنزول، آخر ما نزل، أول ما نزل وآخر ما نزل.

ويستفاد من معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل: معرفة الزمن الذي يترتب عليه القول بالنسخ والإحكام.

يقول الناظم -رحمه الله-: آخر ما نزل:

وآية الكلالة الأخيرة

 

..................................

 

يعني: الأخيرة بالنسبة للنزول، أو الأخيرة بالنسبة لسورة النساء؟ لأنا عرفنا أن آية الكلالة أو الكلالة فيها آيتان: في أوائل السورة وفي آخر السورة.

وآية الكلالة الأخيرة

 

..................................

يعني: الأخيرة في النزول على النبي -عليه الصلاة والسلام- كما تقتضيه الترجمة، أو أن المراد بآية الكلالة الواقعة في آخر سورة النساء؟ يعني: افترض أنك حفظت البيت من دون ترجمة.

وآية الكلالة الأخيرة

 

قيل الربا أيضًا وقيل غيره

وما الذي يدريك أن الناظم يريد آخر ما نزل؟ إذا قلنا: (آية الكلالة الأخيرة) بالنسبة لسورة النساء ما في ما يدل على الترجمة.

....................................

 

قيل الربا أيضًا وقيل غيره

كلها ما فيها ما يدل على الترجمة، نحتاج إلى ما يدل على الترجمة، معروف أن آية الكلالة معروفة؛ لكن الآية الأولى التي ذكرت فيها الكلالة يمكن أن يقال: آية الكلالة: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ....}[النساء:12]؟

على كل حال، الكلالة ذكرت في موضعين: في أوائل السورة وفي آخرها، فهل قول....، نعم؟

طالب: .........

الآن الإشكال الذي أوردته واضح وإلا ما هو بواضح؟ لأن (الأخيرة) يحتمل عودها على أنها آخر ما نزل من القرآن، وهذا هو المطابق للترجمة.

(الأخيرة)، يعني: المتأخرة في سورة النساء، آخر آية في سورة النساء، وحينئذ البيت لا يكون فيه ارتباط بالترجمة، يعني: لو نزع البيت وحده ما فهمنا ما يريد المؤلف، يعني: لا بدّ من قراءة الترجمة مع البيت، يعني: (وصنف الأئمة الأسفار فيه)، يعني: ما فيه ما يدل على أنه يريد أسباب النزول إلا من خلال الترجمة، فإذا قلنا: إنه لا يستقيم الكلام في المنظومة كلها إلا بالتراجم، قلنا: مراده بالأخيرة بالنسبة للسورة، حنا ما ذكرنا مثل هذا في الأبيات السابقة لماذا؟ لأن اللفظ محتمل هنا، اللفظ محتمل، آخر ما نزل (آية الكلالة الأخيرة)، بالترجمة، إذا قرأناه بالترجمة، والإخوان يقولون: إن أكثر الأبيات السابقة لا تدرك إلا بالترجمة، فشف أسباب النزول فيما يدل عليه إلا بالترجمة؟ آخر آية نزلت (الأخيرة)، آخر آية أخيرة متأخرة في النزول، أو أنها متأخر ذكرها في سورة النساء؟ هذا، الاحتمال هذا هو الذي جعلنا نقف عندها، وإلا البيت كسوابقه، أول ما نزل اقرأ، ما قال في البيت: اقرأ أول ما نزل.

طالب: ........

هي تحتمل معنيين، لكن هل نقول: إن المؤلف يريد أن المعنيين، أو يريد المعنى الأول أبان عنه في الترجمة ويريد المعنى الثاني؟ إيه، هذا ينبني على إعرابها، لكنها الآن ساكنة، يعني: لو حركت؛ ماذا نقول في الأخيرة؟ هل نقول: الأخيرةُ أو الأخيرةِ؟ إذا طردنا المنظومة فإنه لا يبدأ، لا يكرر ما ذكره في الترجمة، هو ما يكرر ما ذكره في الترجمة، قلنا: مراده بالأخيرة، يعني: الأخيرة بالنسبة للسورة، وحينئذ نقول:

وآية الكلالة الأخيرةُ

 

....................................

وصف للآية، وإذا قلنا:

وآية الكلالة الأخيرة

 

....................................

نعم؟

طالب: ........

يعني المتأخرة.

طالب: .........

المنظومة بين يديك بتراجمها بألفاظها وحروفها، ما عندك إشكال، لكن لو قال لك واحد: إن هذا البيت أيش معناه، وأفرده عن الترجمة وإيش تفهم؟

طالب: .........

اتركنا من "اقرأ"، ما جاب لك إلا هالبيت، قال لك: وإيش معناه، اشرح هذا البيت بدون ترجمة، هل نقول: إنه لا بدّ من ذكر التراجم في هذه المنظومة أو تستقل الأبيات؟

ثبت بالأنواع السابقة أنه لا يكرر ما يذكره في التراجم، فمراده بقوله: (الأخيرة)، يعني: المتأخرة بالنسبة للسورة، أما كونها آخر ما نزل نفهمه من الترجمة، قد يقول قائل: لماذا لا نفهم الأمرين من قوله: (الأخيرة)؟ يأتينا -ما جاء في الصباح- من استعمال اللفظ في معنييه، وهذا ممنوع عند الجمهور.

في شيء؟

طالب:........

حتى هذا ما يميز، اللي ما يدري أن آيات الربا من آخر ما نزل وإيش يدريه؟ لو قال لك قائل: الربا حرب لله ورسوله، كيف يصير آخر التشريع؟

وآية الكلالة الأخيرة

 

....................................

يعني: في وضعها في سورة النساء، وفي النزول –أيضًا- ليطابق البيت الترجمة.

(قيل الربا): عطف مع حذف العاطف، (قيل الربا)، يعني: وقيل الربا، كما في البخاري عن ابن عباس –رضي الله عنهما-، والبيهقي عن عمر -رضي الله عنه-.

(قيل الربا): ويقصد بذلك آيات الربا التي في أواخر سورة البقرة؛ {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا....}[البقرة:275] إلى آخر الآيات.

(وقيل غيره):

....................................

 

قيل الربا أيضًا .....................

قول ثان: (وقيل غيره)، فروى النسائي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن آخر ما نزل: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ....}[البقرة:281]، وقيل: آخر براءة، آخر ما نزل: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ...}[التوبة:128] إلى آخر السورة، وقيل: آخر ما نزل سورة النصر، وقيل أيضًا: سورة براءة آخر ما نزل، والتوفيق سهل بين هذه الأقوال:

بالنسبة للنصر وبراءة بكمالها يقال: آخر السور.

وأما بالنسبة لآخر الآيات فالذي يقول: آيات الربا كلامه صحيح إلى آخر الوجه إلى قوله: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ....}[البقرة:281]، فتكون بمجموعها الآخر، وإذا نظرنا إلى آخر آية اتفق معها قول من يقول: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ....}[البقرة:281]. على كل حال الأقوال كثيرة؛ لكن هذه أشهرها، نعم؟

طالب:........

تحمل على آخر ما نزل في الأحكام، نعم، أول ما نزل بالمدينة.

طالب:........

وإيش هو؟

طالب:........

في المدني، أول ما نزل في المدني، شوف ماذا قال عن المدني.

فالمدني أولت القرآن

 

................................

هذا إشكال أو ليس بإشكال؟ كونه ما عدها في المدني؟ أما القول فقيل به، كونه أول ما نزل بالمدينة قيل به، وأما استيعاب الأقوال في جميع السور، وجميع ما قيل فيها، هل هي نزلت كذا أو كذا، فلم يستوعب؛ لأنه مشى على الراجح عنده، ومشى على هذا باعتبار أنه قيل: إن أول ما نزل، وقيل: العكس.

 

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.