شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (058)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.
مع مطلع حلقتنا نرحب بضيف هذه الحلقات صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بكلية أصول الدين، قسم السنة وعلومها بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم.
المقدم: لازلنا عند حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- "عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [سورة الأنعام 82] قال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيُّنا لَمْ يَظلِم؟ فأنزل الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان 13]".
نستكمل معكم صاحب الفضيلة ما تبقى من الحديث حول معاني هذا الحديث -أحسن الله إليكم-.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في آخر الحلقة السابقة، سؤال أورده بعضهم في العاصي الذي قد يعذَّب بقدر ذنبه، فكيف نقول إنه حصل له الأمن بمجرد اجتناب الشرك وهو معذَّب؟ كيف حصل له الأمن والاهتداء مع أنه يعذَّب؟ فالجواب أنه أَمِن من التخليد في النار، آمِنٌ من التخليد في النار، مهتدٍ إلى طريق الجنة. الحديث استدل به من يقول بجواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، وفي فتح الباري استنبط منه المازري جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، أما تأخير البيان إلى وقت الحاجة، يعني عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة هذا ما فيه إشكال مقرَّر عند أهل العلم؛ لعدم الحاجة إلى البيان، لكن إذا احتيج إلى البيان هل يجوز تأخير ذلك البيان عن وقت الحاجة إليه؟
يقول: استنبط منه المازري جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ونازعه القاضي عياض، فقال: ليس في هذه القصة تكليف عمل، بل تكليف اعتقاد بتصديق الخبر، واعتقاد التصديق لازم لأول وروده، فما هي الحاجة؟ ما معنى كلام القاضي؟
كلام القاضي أنه إذا كان مجرد اعتقاد ما يترتب عليه عمل فليس بحاجة إلى بيان؛ لأن الاعتقاد تعتقد هذا الأمر إجمالاً، فلا يلزم بيانه، هذا كلام القاضي عياض -رحمه الله تعالى-.
يقول ابن حجر: ويمكن أن يقال: المعتقدات أيضًا تحتاج إلى البيان، فلما أُجمِل الظلم حتى تناول إطلاقه جميع المعاصي شق عليهم حتى ورد البيان، فما انتفت الحاجة، لا شك أن الحاجة داعية لبيان الظلم المذكور في الآية؛ لأنه شق على الصحابة وهذه المشقة حاجة بسببها يحتاج النص إلى بيان.
يقول ابن حجر: والحق أن في القصة تأخير البيان عن وقت الخطاب لأنهم حيث احتاجوا إليه لم يتأخر؛ يعني لم يتأخر النبي -عليه الصلاة والسلام- بالبيان.
يقول العيني مستدركًا على ابن حجر: ولو فهم هذا القائل، يعني ابن حجر، كلام القاضي لما استدرك عليه بما قاله، فالقاضي يقول: اعتقاد التصديق لازم؛ يعني هل يكفي مجرد اعتقاد التصديق؟ اعتقاد التصديق حاصل، لكن أليس في الظلم شموله لجميع أنواع الظلم صغيره وكبيره ما يحتاج إلى بيان، مما كان سببًا في المشقة الحاصلة بين الصحابة حتى سألوا؟
يقول العيني: ولو فهم هذا القائل، يعني ابن حجر، كلام القاضي لما استدرك عليه بما قاله، فالقاضي يقول: اعتقاد التصديق لازم، فالذي يفهم هذا الكلام كيف يقول: فما انتفت الحاجة؟ هذا كلام العيني مستدركًا على ابن حجر.
لا شك أن كلام ابن حجر وجيه حتى العقائد، بل هي أولى ما يبيَّن العقائد أولى ما يبيَّن، نعم هي يَلزَم التصديق، وفي القرآن المتشابه الذي يلزم التصديق به والإيمان به، ولو لم نعرف حقيقته، لكن أيضًا هو بحاجة إلى بيان، فإن تم ذلك البيان من قِبَل النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي من وظيفته بيان ما نُزِّل عليه لأمته وإلا يكون حينئذٍ من المتشابه الذي أمرنا بالإيمان به ولو لم نعرف حقيقته، لكن إذا أمكن البيان فهو أولى وهو الأصل.
وقوله -تابع لكلام العيني- والحق أن في القصة تأخير البيان عن وقت الخطاب ليس بحق، ابن حجر يقول: والحق أن في القصة تأخير البيان عن وقت الخطاب ليس بحق؛ لأن الآية ليس فيها خطاب، والخطاب من باب الإنشاء، والآية إخبار على أن تأخير البيان عن وقت الخطاب ممتنع عند جماعة، وقيَّد الكرخي جوازه في المجمل على ما عرف في موضعه. كلام العيني يقول: والحق أن في القصة كلام العيني مستدركًا على ابن حجر في قوله: والحق أن في القصة تأخير البيان عن وقت الخطاب ليس بحق؛ لأن الآية ليس فيها خطاب، والخطاب من باب الإنشاء، لعل العيني يقصر الخطاب على الأمر والنهي والآية خبر، لكن ألا يمكن أن يرد الأمر والنهي بلفظ الخبر؟ ومنه هذه الآية {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [سورة الأنعام 82] أليس فيها طلب من المؤمنين ألا يخلطوا إيمانهم بظلم {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} [سورة البقرة 228] هذا خبر، لكنه أمَر في الحقيقة، بل أهل العلم يقررون أن الأمر والنهي إذا جاء بلفظ الخبر يكون أبلغ من لفظ الأمر والنهي الصريح.
يقول: ليس بحق، يقصد كلام ابن حجر؛ لأن الآية لأن الآية ليس فيها خطاب، والخطاب من باب الإنشاء والآية إخبار على أن تأخير البيان...، نقول: قد يأتي الإنشاء الطلب الأمر والنهي بلفظ الخبر، وهو حينئذٍ أبلغ منه باللفظ الصريح، أبلغ منه من اللفظ الصريح.
...على أن تأخير البيان عن وقت الخطاب ممتنع عند جماعة، وقيَّد الكرخي جوازه في المجمل على ما عُرف في موضعه.
يقول ابن حجر: اقتضت رواية شعبة التي هي رواية الباب التي معنا؛ لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [سورة الأنعام 82] فقال أصحاب رسول الله: أينا لم يظلم؟ فأنزل الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان 13].
يقول ابن حجر: اقتضت رواية شعبة، يقصد الرواية التي سقناها، أن هذا السؤال سبب نزول الآية الأخرى، آية الأنعام، السؤال عن الظلم في آية الأنعام هو السبب في نزول آية لقمان.
فأنزل الله، ما في الحديث فأنزل الله؟ نعم.
يقول: اقتضت رواية شعبة أن هذا السؤال سبب نزول الآية الأخرى التي في لقمان، لكن رواه البخاري ومسلم من طريق أخرى عن الأعمش وهو سليمان المذكور في حديث الباب، ففي رواية جرير عنه: فقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: ليس بذلك، ألا تسمعون إلى قول لقمان؟ دل على أن قول لقمان متقدم؛ لأنه أحالهم إلى علمهم بها.
وفي رواية وكيع عنه: "فقال: ليس كما تظنون" وفي رواية عيسى بن يونس: "إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان؟" وظاهر هذا أن الآية التي في لقمان كانت معلومة عندهم، ولذلك نبههم عليها، ويحتمل أن يكون نزولها وقع في الحال فتلاها عليهم، ثم نبههم فتلتئم الروايتان.
النص الذي معنا صريح في أن السؤال هو سبب النزول؛ لأنه قال: فأنزل الله، والروايات الأخرى تدل على أنهم لديهم علم سابق بآية لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان 13] كيف يُرفَع هذا الإشكال؟
يقول ابن حجر: ظاهر هذا أن الآية التي في لقمان كانت معلومة عندهم، ولذلك نبههم عليها، ويحتمل أن يكون نزولها وقع في الحال، حال السؤال، فتلاها عليهم، ثم نبههم فتلتئم الروايتان؛ يعني تأخر في الجواب حتى نزلت آية لقمان، فتلاها عليهم، ثم أحالهم عليها.
والحديث أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في ثمانية موضع:
الأول: هنا في كتاب الإيمان، ترجم عليه بقوله -رحمه الله-: باب: ظلم دون ظلم، قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة ح وحدثني بشر قال: حدثنا محمد عن شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، وأبو الوليد هو الطيالسي هشام بن عبد الملك، وشعبة هو ابن الحجاج، و"ح" توجد في بعض النسخ، يعني دون بعض، هذه الحاء توجد في بعض النسخ دون بعض، في أي رواية توجد هذه الحاء؟
المقدم: هذا الذي بين أيديكم طبعة معينة للبخاري -أحسن الله إليكم-؟
نعم، هذه الطبعة السلطانية التي فيها الإشارة إلى جميع الروايات.
المقدم: اسمها الطبعة السلطانية؟
نعم، التي طبعها السلطان، السلطان عبد الحميد في وقته، ثم صُوِّرت أخيرًا.
يقول: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة ح قال: وحدثني بشر، هنا وضع رقم (22) ليبيِّن فروق الروايات، ولم يبيِّن أن الحاء لا توجد في بعض الروايات، لم يبيِّن في الطبعة السلطانية التي هي فرع عن صنيع اليونيني -رحمه الله تعالى- وعنايته بالصحيح معروفة لم يبين أن هذه الحاء ما وضع عليها رمز، ولا بيَّن أنها في بعض الروايات دون بعض، والحافظ يقول: توجد في بعض النسخ، فدل على أن هذه الطبعة وأيضًا عناية اليونيني أيضًا قد فاته بعض الفروق، ووقفْت على مواضع شرح ابن رجب -رحمه الله تعالى- وفيه من فروق الروايات ما لم ينبه عليه اليونيني ولا ابن حجر ولا القسطلاني أيضًا.
يقول: و"ح" توجد في بعض النسخ، قال ابن حجر: فإن كانت من أصل التصنيف فهي مهملة مأخوذة من التحويل على المختار، وإن كانت مزيدة من بعض الرواة فيحتمل أن تكون مهملة كذلك حاء ويراد بها حينئذٍ التحويل هذا موضعها، أو معجمة فتكون خاء مأخوذة من البخاري لأنها رمزه، أي قال البخاري: وحدثني بشر، وهو ابن خالد العسكري، وشيخه محمد هو ابن جعفر، المعروف بغُندَر، وهو أثبت الناس بشعبة، ولهذا أخرج المؤلف روايته مع كونه أخرج الحديث عاليًا عن أبي الوليد، في نفس الباب، حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة، ح قال: وحدثني بشر قال: حدثنا محمد عن شعبة، يعني رواه البخاري في الطريق الأول بواسطة واحدة وهو أبو الوليد الطيالسي. في الطريق الثاني الذي حول عليه بواسطة اثنين بشر ومحمد بن جعفر المعروف بغُنْدَر، واللفظ المساق هنا لفظ بشر، هنا يقول: حدثنا أبو الوليد قال: وحدثني بشر، اللفظ المساق هنا لفظ بشر، وأما لفظ أبي الوليد فساقه المؤلف في قصة لقمان.
سبق أن ذكرنا أن البخاري إذا روى الحديث عن اثنين أو عن جماعة، فإن اللفظ يكون للأخير، فهل هذا جارٍ على القاعدة أو ليس بجارٍ؟
المقدم: في هذا الحديث؟
نعم، جارٍ على القاعدة، هذا جار على القاعدة أن البخاري إذا روى الحديث عن اثنين فإن اللفظ يكون للأخير كما ظهر ذلك بالاستقراء.
هذا الحديث فيه إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله، وهذا قال جمع من أهل العلم: إنه أصح الأسانيد.
...................................
|
|
عنه أو الأعمش عن ذي الشانِ
|
سليمان هو الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، هذا من أصح الأسانيد، حتى قال بعضهم: إنه أصح الأسانيد مطلقًا، كما يقول الحافظ العراقي:
...................................
|
|
عنه أو الأعمش عن ذي الشانِ
|
يعني قال بعض أهل العلم: إن هذا أصح الأسانيد مطلقًا.
الموضع الثاني: في كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} سورة النساء 125] وقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} سورة النحل 120].
قال: حدثنا عمر بن حفص بن غياث قال: حدثنا أَبِيْ قال: حدثنا الأعمش قال: حدثني إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} سورة الأنعام 82]... الحديث، ما المناسبة بين هذا الحديث: السؤال عن الظلم، والترجمة كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} سورة النساء 125] وقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} سورة النحل 120]؟ مناسبة الحديث لهذه الترجمة المتضمنة للثناء على إبراهيم -عليه السلام- أن الآية المسئول عنها جاءت في سياق قصة إبراهيم -عليه السلام- في سورة الأنعام.
قال ابن حجر: قال الإسماعيلي: كذا قال وخفي عليه.. قال الإسماعيلي: كذا ورد هذا الحديث في ترجمة إبراهيم، ولا أعلم فيه شيئًا من قصة إبراهيم، يعني نظر إلى الحديث مجرد، وليس فيه شيئًا من قصة إبراهيم، يقول ابن حجر: كذا قال، وخفي عليه أنه حكاية عن قول إبراهيم -عليه السلام- لأنه سبحانه لما فرغ من حكاية قول إبراهيم في الكوكب والقمر والشمس ذكر محاجَّة قومه له، ثم حكى أنه قال لهم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ} [سورة الأنعام 81] فهذا كله عن إبراهيم، وقوله: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة الأنعام 81] خطاب لقومه، ثم قال: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [سورة الأنعام 82] يعني أن الذين هم أحق بالأمن هم الذين آمنوا، وقال بعد ذلك: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [سورة الأنعام 83] فظهر تعلق ذلك بترجمة إبراهيم -عليه السلام-.
وروى الحاكم في المستدرك من حديث علي -رضي الله عنه- أنه قرأ هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [سورة الأنعام 82] قال: نزلت هذه الآية في إبراهيم وأصحابه يعني مقتضى قول علي -رضي الله عنه- أن الآية لا تنطبق علينا؟ يقول: نزلت هذه الآية في إبراهيم وأصحابه؟ أو نقول كالقاعدة المستقرة {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} [سورة يوسف 111] مضى القوم ولم يرد به سوانا، نعم.
الموضع الثالث: في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} [سورة لقمان 12] إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [سورة لقمان 18].
قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُواْ} [سورة الأنعام 82]... الحديث بنحوه، والمناسبة ظاهرة؛ لأن الآية المترجَم بها باب قول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا} [سورة لقمان 12] إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [سورة لقمان 18] الآية المترجم بها جاءت في جواب الإشكال الذي حصل للصحابة فالمناسبة ظاهرة.
الموضع الرابع: في الباب آنف الذكر، قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا إسحاق قال: أخبرنا عيسى بن يونس قال: حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله -رضي الله عنه- قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [سورة الأنعام 82] شق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله أيُّنا لا يظلم نفسه؟ قال: «ليس ذلك، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان 13]؟».
ومناسبة هذا للفظ الترجمة أظهر حيث نُصَّ على ذكر لقمان في جواب النبي -عليه الصلاة والسلام-، في الباب السابق في أحاديث الأنبياء {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [سورة لقمان 12] والحديث فيه نص على ذكر لقمان وإحالة على قوله.
الموضع الخامس: في كتاب التفسير: بابٌ {وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [سورة الأنعام 82].
قال: حدثني محمد بن بشار قال: حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت: {وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [سورة الأنعام 82] قال أصحابه: وأيُّنا لم يَظلِم؟ فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان 13] والمناسبة في غاية الظهور، حيث فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الظلم بالشرك، وتفسيره -صلى الله عليه وسلم- بيان لمراد الله -عز وجل- في كتابه، وهو أولى ما يُعتمَد عليه في التفسير، والكتاب كتاب التفسير.
الموضع السادس: في كتاب التفسير أيضًا في سورة لقمان بابٌ: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان 13]. حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله فذكره، والمناسبة ظاهرة.
الموضع السابع: في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، بابُ: إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة: قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان 13] {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الزمر 65].
قال الإمام -رحمه الله تعالى-: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله -رضي الله عنه- فذكره، ومناسبة الحديث للآية الأولى ظاهرة، حيث ذُكِرَت الآية في الحديث.
المقدم: الكتاب عفوًا يا شيخ الكتاب ما هو؟
كتاب: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم {إِنَّ الشِّرْكَ} [سورة لقمان 13] ومناسبة الحديث للآية الأولى ظاهرة حيث ذكرت الآية في الحديث.
قال ابن بطال: الآية الأولى دالة على أنه لا إثم أعظم من الشرك، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، فالمشرك أصل من وضع الشيء في غير موضعه؛ لأنه جعل لمن أخرجه من العدم إلى الوجود مساويًا، فنَسب النعمة إلى غير المنعم بها.
الموضع الثامن في الكتاب نفسه: كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، بابُ ما جاء في المتأوِّلين. حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرنا وكيع ح وحدثنا يحيى قال: حدثنا وكيع عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله -رضي الله عنه- فذكره.
قال ابن حجر: وجْه دخوله في الترجمة من جهة أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يؤاخِذ الصحابة بحملهم الظلم في الآية على عمومه حتى يتناول كل معصية بل عذرهم؛ لأنه ظاهر في التأويل، ثم بين لهم المراد بما رفع الإشكال، باب ما جاء في المتأوِّلين، هم تأوَّلوا، اعتمدوا في تأويلهم تأويلهم سائغ، أقول تأويلهم سائغ، فعُذِروا لأن تأويلهم سائغ، كيف كان تأويلهم سائغًا؟ عُذِروا به لأنهم استدلوا بالعموم، كما قال ابن حجر: وجْه دخوله في الترجمة من جهة أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يؤاخِذ الصحابة بحملهم الظلم في الآية على عمومه حتى يتناول كل معصية بل عذَرهم؛ لأنه ظاهر في التأويل، ثم بيَّن لهم المراد بما رَفع الإشكال.
نعم، الذي يخطئ وليس له تأويل يخطئ لا يفهم، ما استدل بعموم مثلاً، إذًا هل يُعذَل أو يُعذَر؟ والمفترض فيه أنه جاهل؟ يُعذَر، نعم يعذر ويبيَّن له، إذًا كيف حُمِل الحديث في الباب على أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- عَذَر الصحابة في فهمهم؟
نقول: يُعذَر في غير تفسير كتاب الله -عز وجل-، أما التفسير لا بد فيه من توقيف، لا يجوز فيه القول بالرأي، هم فهموا لكنهم أحسنوا حينما عرضوا فهمهم على النبي -عليه الصلاة والسلام-، كما هي عادتهم وديدنهم -رضوان الله عليهم-.
والحديث أيضًا مخرَّج في صحيح مسلم والترمذي، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المقدم: عفا الله عنك يا شيخ أحسن الله إليك لاحظت يا شيخ من خلال سوقكم للأسانيد، أسانيد الإمام البخاري للحديث، أن كلهم متابعون للأعمش، ويتحد الإسناد، يتغير الراوي الأول أو الثاني، إن كان الإمام البخاري وصل إلى الأعمش بواسطة أو بواسطتين، والسند كله يتَّحِد، هل بهذا يا شيخ، أو مثل هذا الحديث قد يُمثَّل به على ما رواه الإمام البخاري في عدد من المواضع ولم يغيَّر إسناده، أم يكفي التغيير ولو برجل واحد يا شيخ أحسن الله إليك؟
نعرف أن طريقة البخاري -رحمه الله تعالى- أنه لا يعيد ولا يكرر حديثًا واحدًا في موضعين إلا لفائدة، ولم يكرر حديثًا واحدًا في موضعين بسنده ومتنه من غير تغيير إلا في نحو عشرين موضعًا، أشار إليها الحافظ في أوائل الشرح، في أوائل الجزء الأول، صفحة ستة عشرة -على ما أذكر-، وبيَّنها القسطلاني في مقدمة شرحه العشرين الموضع.
وهنا التغيير ظاهر، التغيير في سياق الإسناد وفي سياق المتن ظاهر، فلا يدخل في العشرين.
المقدم: حتى لو كان التغيير فقط...
لو كان التغيير في صيغة الأداء له فائدة، فضلاً عن كونه المتن تغيَّر من موضع إلى آخر، والإسناد تغيَّر أيضًا بالوسائط بينه وبين الأعمش، وفي صيغ الأداء أيضًا فيه تغير من موضع إلى آخر.
المقدم: حتى لو كان تغير صيغة الأداء...
ولو كان صيغة أداء فيها فائدة.
المقدم: أحسن الله إليكم يا شيخ ونفع بعلمكم.
أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.
نلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة وأنتم على خير، حتى ذلكم الحين أستودعكم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.