شرح نخبة الفكر (06)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: والثاني -وهو السقط الخفي- المدلس، ويرد بصيغة تحتمل اللقي كـ(عن) وقال، وكذا المرسل الخفي من معاصر لم يلق"، السقط الظاهر أنواعه أربعة: التعليق والإرسال والانقطاع والإعضال، هذه الأربعة مجتمعة تشكل السقط الظاهر، السقط الخفي نوعان: التدليس والإرسال الخفي، ولذا قال: "والثاني -وهو السقط الخفي- المدلس ويرد بصيغة تحتمل اللقي كـ(عن)، وقال، وكذا المرسل الخفي من معاصر لم يلق"، يعني -رحمه الله تعالى- أن القسم الثاني وهو ما كان السقط فيه خفياً بحيث يخفى على كثير ممن يشتغل بهذا العلم، بل لا يدركه إلا الأئمة الحذاق المطلعون على طرق الحديث وعلى الأسانيد لخفائه وغموضه نوعان، هما: المدلس والمرسل الخفي.
المدلس:
فالمدلس لغة: اسم مفعول مشتق من الدلس بفتحتين وهو الظلمة كالدلسة، ومنه قولهم: أتانا دلس الظلام، وخرج في الدلس والغلس، والتدليس: كتمان عيب السلعة على المشتري.
والتدليس في الاصطلاح: ما أخفي عيبه على وجه يوهم أنه لا عيب فيه، يعني هل التدليس بالنسبة للسيارات يمكن أن يحصل في ظاهر السيارة؟ في جرمها البادي للعيان؟ يعني لو صدمت السيارة وصلحت يمكن يدلس على المشتري فيها؟ نعم، ما يمكن، ما يمكن يدلس؛ لأنه ظاهر ما يخفى على أحد، لكن لو أقبلت السيارة على ما يسمونه التخبيط ثم وضع فيها شيء من الزيت الثقيل أو شبهه، تعبر يعني كم يوم حتى تمشي على المشتري الذي لا يفهم، هذا خفي، هذا تدليس.
عند الفقهاء من التدليس تسويد شعر الجارية، الجارية الشمطاء الكبيرة السن،.... تسويد شعرها تدليس، ويمثلون أيضاً بجمع ماء الرحى وإرساله، تصرية الإبل كل هذا تدليس على المشتري، لكن العرج في الدابة هذا تدليس؟ لا، ليس بتدليس؛ لأنه يرى، والله المتسعان.
المقصود أن المدلس في الاصطلاح: ما أخفي عيبه على وجه يوهم أنه لا عيب فيه، لكن الظاهر لا يمكن إخفاؤه، سمي بهذا الاسم لأن الراوي لما أخفى وجه الصواب على الواقف على الحديث كأنه أظلم أمره وغطاه.
أقسام التدليس:
وقسم التدليس إلى خمسة أقسام: تدليس الإسناد، تدليس التسوية، تدليس القطع، تدليس العطف، تدليس الشيوخ، وتدليس الإسناد: هو أن يروي المحدث عن من لقيه ما لم يسمعه منه موهماً أنه سمعه منه، للتفريق بين التدليس والإرسال الخفي لا بد أن نعرف حال الراوي عن من روى عنه، لا بد أن نعرف حال الراوي مع من روى عنه، فإن ثبت أنه سمع منه إن ثبت أنه سمع منه أحاديث ثم روى عنه حديثاً لم يسمعه بصيغة موهمة فهذا تدلس اتفاقاً، إذا ثبت أن الراوي لقي من روى عنه ثم روى عنه ما لم يسمعه منه، ثبت اللقاء في الأولى ثبت السماع، الثانية ثبت اللقاء بمن روى عنه، ثم روى عنه بصيغة موهمة ما لم يروه عنه فهذا أيضاً تدليس.
الصورة الثالثة: إذا روى الراوي عن من عاصره ممن لم يثبت لقاؤه له عن من عاصره بصيغة موهمة فإن هذا من الإرسال الخفي وليس من التدليس، إذا روى الراوي عن من لم يعاصره هذا الانقطاع الظاهر، فهي أربع صور:
تدليس الإسناد: أن يروي المحدث عن من لقيه ومن باب أولى إذا روى عن من سمع منه ما لم يسمعه منه موهماً أنه سمعه منه، فيكون ذلك بلفظ محتمل للسماع وغيره كقال أو عن، ليوهم غيره أنه سمعه منه، ولا يصرح بأنه سمع منه هذا الحديث بعينه فلا يقول: سمعت أو حثني أو أخبرني ممن لم يسمع منه حتى لا يصير كذاباً بذلك؛ لأنه لو قال: سمعت أو حدثني أو أخبرني وهو في الحقيقة لم يسمعه ولم يحدثه ولم يخبره، صار الأمر أعظم من مسألة التدليس صارت كذب، ويجرح الراوي بذلك جرحاً شديداً، وقولنا: عن من لقيه شاملاً لمن سمع منه غير الحديث المراد أو لم يسمع منه شيئاً.
وأدخل ابن الصلاح في هذا القسم: رواية الراوي عن من عاصره ولم يلقه موهماً أنه قد لقيه وسمعه منه، وتبعه على ذلك الحافظ ابن كثير في اختصاره، وذهب الإمام الشافعي والبزار والخطيب والحافظ ابن حجر وغيرهم إلى أن هذه الصورة ليست من التدليس؛ لأن مجرد ثبوت المعاصرة لا يكفي في تحقيق التدليس، بل لا بد من ثبوت اللقاء بينهما، وأيدوا ما ذهبوا إليه بأن أهل العلم أجمعوا على أن المخضرمين الذين عاصروا النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل أبي عثمان النهدي، وقيس بن أبي حازم وغيرهما إذا روى أحدهم حديثاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان روايته من قبيل الإرسال وليست من قبيل التدليس، ظاهر وإلا مو بظاهر؟ يعني فرق بين أن يكون الراوي سمع من روى عنه، لقي من روى عنه، احتمال السماع أقوى من مجرد المعاصرة، احتمال السماع منه أقوى من مجرد المعاصرة، وروايته عنه بصيغة موهمة وقد سمع منه أحاديث أو لقيه روايته عنه بصيغة موهمة ما لم يسمعه منه أخفى من معاصر لم يثبت لقاؤه له، فهذا يسمى تدليس وذاك إرسال خفي.
الخلاصة: أن للراوي مع من يروي عنه أربع حالات: الأولى: أن يثبت سماعه منه، الثانية: أن يثبت لقاؤه له دون السماع، الثالثة: أن تثبت المعاصرة له دون اللقاء، الرابعة: ألا تثبت المعاصرة، ومن باب أولى اللقاء والسماع، ويروي عنه بصيغة موهمة للسماع كـ(عن) و(أن)، فالأولى: إذا روى عنه ما لم يسمعه منه فتدليس اتفاقاً، والثانية: إذا روى عنه بصيغة موهمة -يعني وهو من ثبت لقائه له- شملها مسمى التدليس عند الجمهور خلافاً لأبي بكر البزار وأبي الحسن بن القطان حيث جعلها من الإرسال الخفي، والثالثة: إذا روى عن المعاصر ممن لم يلقه فالجمهور على أنه ليس من التدليس كما تقدم قريباً خلافاً لابن الصلاح حيث جعلها من التدليس، والرابعة: ليس من التدليس عند جماهير المحدثين خلافاً لجماعة من أهل الحديث فيما نقله عنهم ابن عبد البر في التمهيد لمجرد احتمال الصيغة، لمجرد احتمال الصيغة، تدليس الإسناد يسميه بعضهم تدليس الإسقاط، تدليس الإسقاط، لكن تسميته بتدليس الإسناد والتدليس كله في الإسناد، لكنهم تتابعوا على تسميته بتدليس الإسناد للتفريق بينه وبين أنواع التدليس الأخرى.
تدليس الإسقاط:
تدليس الإسقاط: التدليس جله فيه إسقاط، التدليس جله فيه إسقاط، مثال تدليس الإسناد: ما رواه أبو عوانة عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((فلان في النار ينادي: يا حنان يا منان)) قال أبو عوانة: قلت للأعمش: سمعت هذا من إبراهيم؟ قال: لا، حدثني به حكيم بن جبير عنه، هنا الأعمش دلس الحديث، الأعمش سليمان بن مهران دلس الحديث فقال: "روى أبو عوانة عن الأعمش عن إبراهيم" الآن الأعمش لقي إبراهيم وإلا ما لقيه؟ لقيه، وروى عنه بصيغة موهمة وهي العنعنة، روى عنه ما لم يروه عنه إلا بواسطة، ما رواه عنه مباشرة بل رواه بواسطة حكيم بن جبير، فقد دلس الأعمش الحديث عن إبراهيم، فلما استفسر بين الواسطة بينه وبينه، والأعمش معروف بالتدليس مع أنه ثقة، سليمان بن مهران ثقة لكنه مدلس، في رواة الصحيحين من المدلسين أمثلة منها: الأعمش، وهشيم، ولذا يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:
وفي الصحيح عدة كالأعمشِ |
| وكهشيم بعده وفتشِ |
الأعمش لما استفسر قيل له: هل سمعت الحديث من إبراهيم؟ قال: لا، حدثني به حكيم بن جبير عنه، لكن لو قال: سمعته من إبراهيم؟ يقبل لأنه ثقة، لأنه ثقة يقبل قوله بأنه سمعه من إبراهيم، فلما استفسر بين الواسطة بينه وبينه.
حكم تدليس الإسناد:
حكم تدليس الإسناد: مكروه جداً، ذمه أكثر العلماء، وكان شعبة بن الحجاج من أشد العلماء ذماً له، فقد قال فيه أقوال شديدة منها: "التدليس أخو الكذب"، وقال: "لأن أزني أحب إلي من أن أدلس" ولا شك أن هذا من شعبة مبالغة وإفراط، مبالغة في الزجر، مبالغة في الزجر عن هذا النوع من التدليس، قال النووي: "وظاهر كلام شعبة أنه حرام وتحريمه ظاهر فإنه يوهم الاحتجاج بما لا يجوز الاحتجاج به، ويتسبب أيضاً إلى إسقاط العمل بروايات نفسه مع ما فيه من الغرر".
تدليس التسوية:
الثاني: تدليس التسوية: تدليس التسوية: وهو شر أنواع التدليس، تدليس التسوية: أن يروي المدلس حديثاً عن ضعيف بين ثقتين لقي أحدهما الآخر، فيسقط الضعيف الذي في السند ويجعل السند عن شيخه الثقة، عن الثاني الثقة، بلفظ محتمل فيستوي الإسناد كله ثقات بحسب الظاهر لمن لم يخبر هذا الشأن، شخص مدلس تدليس تسوية يروي الحديث عن زيد وزيد هذا ثقة، زيد يروي الحديث عن عمرو وعمرو ضعيف، عمرو يروي الحديث عن بكر وهو ثقة، وزيد لقي بكراً ثبت لقاء زيد لبكر، فإذا حذف عمرو الضعيف لا يحس بأن في الإسناد سقط؛ لأن زيد لقي بكر، فيكون الإسناد زيد عن بكر وأسقط الضعيف بين هذين الثقتين اللذين لقيا أحدهما الآخر هذا يسمى تدليس تسوية، سوى الإسناد فجعله كلهم ثقات، سماه بعض القدماء تجويد، فقالوا: جوده فلان، يريدون أنه ذكر من فيه من الأجواد وحذف الأدنياء، ومثاله: ما روى ابن أبي حاتم في العلل عن بقية بن الوليد قال: حدثني أبو وهب الأسدي عن نافع عن ابن عمر قال: "لا تحمدوا إسلام امرئ حتى تعرفوا عقدة رأيه"، قال أبو حاتم: "هذا الحديث له علة قل من يفهمها"، روى هذا الحديث عبيد الله بن عمرو عن إسحاق بن أبي فروة عن نافع عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعبيد الله بن عمرو كنيته أبو وهب وهو أسدي فكأن بقية بن الوليد كنى عبيد الله بن عمرو ونسبه إلى بني أسد لكيلا يفطن به حتى إذا ترك إسحاق بن أبي فروة من الوسط لا يهتدى إليه، وكان بقية من أفعل الناس لهذا النوع من التدليس الذي هو شر أنواع التدليس، يعني من السهل أن لو سمى عبيد الله بن عمرو ليبحث في ترجمته وينظر لكنه كناه فقال: عن أبي وهب الأسدي كي لا يفطن به، لكي يظن أنه غيره، فلا يهتدى إلى المطلوب، وبقية ابن الوليد من أفعل الناس لهذا النوع من التدليس، وهذا التدليس كما قلنا: شر أقسام التدليس؛ لأن الثقة الأول ربما لا يكون معروفاً بالتدليس، ويجده الواقف على سند بعد التسوية قد رواه عن ثقة آخر فيحكم له بالصحة، وفي هذا غرر شديد.
قد يقول قائل: كيف نعرف هذا النوع من التدليس؟ هناك شخص مدلس تدليس تسوية يروي عن شيخ بصيغة التحديث قال: حدثني فلان ثم يسقط شيخ هذا الثقة ويذكر شيخ شيخه الثقة، الذي بينهما ضعيف يسقطه، ويكون الشيخ قد لقي شيخه الذي نسب إليه ويسقط الضعيف، وأنت تبحث في الإسناد تجده كلهم ثقات لقي بعضهم بعضاً، والمدلس بقية بن الوليد صرح بالتحديث ممن فوقه، والتسوية في طبقة فوق طبقة شيخ المدلس، فعلى هذا في مثل هذا النوع يشترط أن يصرح بالتحديث في كل الطبقات، ما يكفي أن يصرح المدلس نفسه؛ لأنه ما من ثقتين إلا ويحتمل أن يكون هذا المدلس -تدليس تسوية- أسقط بينهما ضعيفاً، فإذا صرح بالتحديث في الإسناد كله أمنا من هذا التدليس.
ليس من هذا النوع إذا روى الثقة عن اثنين أحدهما ضعيف والآخر ثقة فيحذف الضعيف ويبقى الثقة، ليس من هذا النوع أن يروي الثقة عن اثنين: ثقة وضعيف، يقتصر على الثقة ويحذف الضعيف، نفترض في مثالنا الأول: زيد عن عمرو زيد ثقة عن عمرو وهو ضعيف وخالد وهو ثقة عن بكر وهو ثقة، يأتي فيحذف عمرو هل نحن بحاجة إلى عمرو؟ سند متصل بدونه، يقتصر على خالد لكونه ثقة، يعني إذا روى عن اثنين واحد ضعيف واحد ثقة، حذف الضعيف في إشكال؟ يعني أنت إذا جاءك من يقول: قدم زيد، واحد من أوثق الناس عندك، ثم جاءك شخص آخر جربت عليه كذب فقال: قدم زيد، هل يلزم أن تقول: قدم زيد أخبرني بذلك فلان وفلان، أو تقتصر على الثقة دون الضعيف؟ تقتصر على الثقة دون الضعيف.
مثال ذلك: ما رواه الإمام البخاري حيث حذف عبد الله بن عمر العمري واقتصر على الإمام مالك، الحديث جاء من طريقين من طريق عبد الله بن عمر العمري المكبر وهو ضعيف، وجاء من طريق مالك حذف العمري واقتصر على مالك، مثل مثالنا الذي ذكرناه، في حديث: ((إذا جاء أحدكم إلى فراشه فلينفضه بصنفة ثوبه ثلاث مرات)).. الحديث، هذا مخرج في الصحيح في البخاري، وكون البخاري حذف العمري ما هو بحاجة إليه، ليس بحاجة إليه، اقتصر على مالك ومالك فيه الكفاية.
تدليس القطع:
الثالث: تدليس القطع وهو أن يسقط الراوي اسم الشيخ الذي سمع منه الحديث مباشرة مقتصراً على ذكر أداة الرواية، فيقول: حدثنا أو سمعت ثم يسكت، حدثنا ويسكت، ثم يقول: فلان وفلان، يوهم أنه سمع منهما ذلك الحديث وليس كذلك، هذا المدلس الذي يدلس هذا النوع من التدليس تدليس القطع يقول: حدثني ويسكت، ثم يقول: فلان وفلان، ويذكر بقية الإسناد، يقطع الكلام بين الصيغة -صيغة الأداء- وبين الراوي.
ذكر ابن سعد في الطبقات عن عمر بن علي المقدمي أنه كان يقول: سمعت وحدثنا، ثم يقول: هشام بن عروة والأعمش، عمر بن علي المقدمي يفعل تدليس القطع، وهو لم يسمعه ولم يحدثه به هشام بن عروة ولا الأعمش، وجعل بعضهم من هذا النوع إسقاط أداة الرواية والاقتصار على اسم الشيخ الذي لم يسمع منه الحديث مباشرة، ومثل له بما قاله علي بن خشرم قال: كنا عند ابن عيينة فقال -ابن عيينة قال-: الزهري، فقيل له: حدثك؟ فسكت، ثم قال: الزهري، فقيل له: سمعته منه؟ قال: لم أسمعه منه ولا ممن سمعه منه، حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري كذا في علوم الحديث، يعني إذا قال: الزهري وحذف صيغة الأداء ما فيها لا تحديث ولا..، هناك في صيغة تحديث لكن في سكوت بين صيغة التحديث واسم الراوي، حدثني ويسكت، هشام بن عروة والأعمش، وما سمعه لا من هشام ولا من الأعمش، فإذا سكت ظُن أن فاعل التحديث من ذكر بعد السكوت، وفي الحقيقة ليس كذلك، ما ألحق بهذا النوع تحذف الصيغة أصلاً، كقول ابن عيينة: "الزهري" قيل له: "حدثك الزهري؟" قال: "الزهري" طيب صرح بالصيغة، سمعته من الزهري؟ قال: لا ما سمعته من الزهري، حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، يعني حذف اثنين، كذا في علوم الحديث لابن الصلاح.
الإمام النسائي -رحمه الله تعالى- وهو معروف بشدة التحري والاحتياط، وهو من أبعد الناس عن التدليس، أحياناً يحذف الصيغة ويقتصر على اسم الشيخ، فيقول: "الحارث ابن مسكين" من دون ما يقول: أخبرنا ولا حدثنا، يقول: "الحارث بن مسكين فيما قرئ عليه وأنا أسمع"، ليس من هذا النوع أبداً، لماذا لم يذكر الإمام النسائي الصيغة فيقول: أخبرنا؟ بالمناسبة سنن النسائي المطبوع كلها فيها: "أخبرنا الحارث بن مسكين" وهذا خطأ، النسائي يروي عن الحارث بن مسكين بدون صيغة، والسبب في ذلك أن الحارث ابن مسكين كان ممن يأخذ أجرة على التحديث، والنسائي -رحمه الله تعالى- كان ممن يعتني بمظهره، فلما دخل النسائي على الحارث طلب منه أجره، وكأنه رفع عليه الأجرة ظناً منه أنه غني، فرفض النسائي -رحمه الله تعالى- رفض يعطيه الأجرة فطرده الحارث بن مسكين من حلقة الدرس، فصار خلف سارية يسمع والحارث بن مسكين ثقة لكنه بشر، هو ثقة والإمام النسائي -رحمة الله عليه- شديد الورع والتحري، فلكون الحارث بن مسكين ثقة روى عنه النسائي، ولكون الحارث بن مسكين لم يقصد النسائي بالتحديث، ما قال: حدثني ولا أخبرني، ما قصده بالتحديث، بل العكس طرده من الدرس، وهذا من تمام ورع النسائي، فتجده يقول: "الحارث بن مسكين فيما قرئ عليه وأنا أسمع" وهذا ليس من هذا النوع، ليس من تدليس القطع.
تدليس العطف:
رابعاً: تدليس العطف، تدليس العطف: هو أن يروي المحدث عن شيخين من شيوخه ما سمعاه من شيخ اشتركا فيه ويكون قد سمع من أحدهما دون الأخر فيصرح عن الأول ويعطف الثاني عليه، فيوهم أنه حدث عنه بالسماع أيضاً وإنما حدث بالسماع عن الأول ونوى القطع، فقال: وفلان، أي وحدث فلان.
الواحد يعرف أن زيد وعمرو قد سمعا خبراً من بكر، زيد وعمرو مجتمعا -أو مجتمعين حال كونهما مجتمعين- يرويان عن بكر فيأتي خالد فيسمع من زيد ولا يسمع من عمرو، وهو يعرف أن عمرو سمع الخبر لكنه لا يرويه عنه، فيقول: حدثني زيد وعمرو أنهما سمعا بكراً، هو بالفعل سمع من زيد لكنه لم يسمع من عمرو، فيعطف عمرو وهو غير مسموع له على زيد، نعم هما سمعا الخبر من بكر، لكن عمراً لم يحدث خالداً، فيقول: حدثني زيد وعمرو يعطفه على زيد، فالسامع يظن أنه محدث له؛ لأن العطف على نية تكرار العامل، كأنه قال: حدثني زيد وحدثني عمرو، لكنه لا يقصد ذلك، فيضمر في نفسه فيقول: حدثني زيد وعمرو غير مسموع لي مثلاً، هذا تدليس العطف، ومثلوا له بما ذكره الحاكم في المعرفة أن جماعة من أصحاب هشيم وهو معروف بالتدليس وهو من رجال الصحيح اجتمعوا يوماً على ألا يأخذوا منه تدليس، قالوا: نبي ننتبه، ترى التدليس خفي، يمكن يمشي علينا أشياء، لكن لا بد أن ننتبه، انتبهوا، أن جماعة من أصحاب هشيم اجتمعوا يوماً على أن لا يأخذوا منه التدليس ففطن لذلك، فكان يقول في كل حديث يذكره: "حدثني حصين ومغيرة، حدثني حصين ومغيرة عن إبراهيم" ذكر أحاديث بهذه الصيغة، فلما فرغ قال لهم: هل دلست لكم اليوم؟ فقالوا: لا، خلاص هو صرح بالسماع ما في إشكال، صرح بالتحديث، إذا صرح المدلس بالتحديث أمنا التدليس، فقالوا: لا، فقال: لم أسمع من مغيرة حرفاً واحداًً، ما سمعت ولا حديث من الذي ذكرت لكم، لما كان يقول: حدثني حصين ومغيرة، نعم هو سمع من حصين لكنه لم يسمع من مغيرة، "وإنما قلت: حدثني حصين ومغيرة غير مسموع لي"، فأضمر في الكلام محذوفاً فسره بما ذكر.
تدليس الشيوخ:
الخامس: تدليس الشيوخ، تدليس الشيوخ: وهو أن يروي المحدث عن شيخ حديثاً سمعه منه فيسميه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف، يعني لو قلت: حدثني أبو عبد الله النجدي، أو سمعت أبو عبد الله النجدي، نعم كما تقول: حدثني أو هذا الكتاب لأبي عبد الله التميمي، يعني مثلاً كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب من أجل أن يروج في غير هذه البلاد ويستفاد منه، والكتاب في غاية النفع، لكن لوجود الدعاية ضد هذه الدعوة السلفية المحمدية لا يقرئ في كتب الشيخ، في كثير من أقطار العالم الإسلامي لا يستفيدون من كتب الشيخ لوجود هذه الدعايات، فأنت من حسن ظنك أو تتصرف لكي يستفاد من هذا الكتاب فتقول: كتاب التوحيد لأبي عبد الله محمد بن سليمان التميمي، فتحذف عبد الوهاب لئلا يعرف الشيخ فيستفاد من كتابه، أنت هدفك طيب، وتؤجر على مثل هذا التدليس؛ لأنه أحياناً يكون هناك غرض حامل صحيح للتدليس، أحياناً يحذف الاسم بالكلية فلا ينسب إلى المؤلف من أجل إيش؟ أن يروج الكتاب؛ لأنه لو ذكر مؤلفه ما راج الكتاب، كثير من نسخ شرح الطحاوية لابن أبي العز بدون اسم، وكثير من النقول التي في هذا الشرح غير مضافة إلى أصحابها، يعني لو كان في النقول يقول: قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال ابن القيم وقال غيره من الأئمة المعروفين من أئمة أهل السنة يمكن يهجر الكتاب، يترك؛ لأنه جاء وقت ساد في الأمة الإسلامية المذاهب المبتدعة، وضيق على أرباب المنهج الصحيح السليم، فأحياناً تروج الكتب بمثل هذه الطريقة وهذا فعل خير، الحامل لهذا الأمر ما في شك الباعث عليه بذل الخير، فلو أن ابن أبي العز -شارح الطحاوية- قال: قال شيخ الإسلام، قال ابن القيم، وهي منقولة بالحروف من كتبهم، لكن من أجل أن يروج مثل هذا الكلام الصحيح الصواب الموافق للكتاب والسنة حذف القائل، وهذا هدف طيب.
ابن عروة المشرقي حينما ألف كتابه: (الكواكب الدراري في ترتيب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري) ماذا صنع؟ كتب شيخ الإسلام في وقته تحرق، أي كتاب يوجد يحرق ويتلف، وكتب ابن القيم، صار يأتي إلى أي مناسبة فيها كتاب مؤلف لشيخ الإسلام ينقله بحروفه ليحفظ كتب شيخ الإسلام بهذا الكتاب الذي عنوانه: (الكواكب الدراري في ترتيب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري) فحفظ لنا كتب كثيرة من كتب شيخ الإسلام في هذا الكتاب، وأنتم تجدون من كتب شيخ الإسلام التي طبعت وهذا مأخوذ من (الكواكب الدراري) لابن عروة، هذه طريقة جيدة لحفظ العلم وإن كان فيها نوع تدليس.
أحياناً يكون ترويج العلم بالعكس، بمدارة بعض الناس، الآن لما تقرءوا في نيل الأوطار وسبل السلام وهما من أهل السنة بلا شك، تجد مثل هذين الكتابين مشحونة بأقوال طوائف المبتدعة، الهادوية والزيدية والناصر، والهادي إلى آخره، هؤلاء مبتدعة لا يعتد بقولهم، لا يعتد بقولهم عند أهل العلم، لماذا؟ لأن غالب سكان اليمن في ذلك الوقت من الهادوية، ولو أهملت أقوالهم ما راج الكتاب، والهدف إذا كان صحيح يغتفر فيه المفسدة اليسيرة تحصيلاً للمصلحة العظيمة، فلننتبه لهذا، لكن إذا كانت المفسدة كبيرة جداً، هل نقول: إن مثل هذا الترويج سائغ؟ لا، إذا كانت المفسدة كبيرة، الفيروز آبادي صاحب القاموس لما شرح البخاري وكانت مقالة ابن عربي في وحدة الوجود شائعة في بلاد اليمن، وهو في بلاد اليمن، نقل من الفصوص ومن الفتوحات المكية لابن عربي النقول الكثيرة من أجل إيش؟ أن يروج الكتاب، لكن ويش نقل؟ نقل القول بوحدة الوجود نسأل الله العافية، ونقل كلام ابن عربي الذي هو كفر صريح في هذا الكتاب من أجل أن يروج، هل هذا هدف مبرر لنقل مثل هذه الكفريات؟ لا، لا يبرر له ذلك، لا تؤلف إن كان أنت ما أنت مؤلف ولا أنت بنافع الناس إلا من خلال مفسدة عظمى، لا، لا تؤلف يا أخي، الناس ليسوا بحاجة إلى مثل هذا التأليف، لكن -والحمد لله تعالى- أن الأرضة أكلت الكتاب من أول مجلد إلى آخره، ما بقي منه ولا حرف واحد، هي نسخة المؤلف واحدة فأكلتها الأرضة من أولها إلى آخرها، والحمد لله على ذلك، ما بقي منه ولا حرف، فلننتبه إلى مثل هذا النوع من التدليس، التدليس حسب الغرض والهدف الحامل عليه، لا شك أن التدليس فيه غرر، لكن قد يكون هذا الغرر مغتفر يسير بالنسبة إلى تحصيل المصلحة العظمى، أما إذا كان الغرر كبير بالنسبة لتحصيل مصلحة ولو كانت كبيرة لا يجوز مهما كان المبرر له إذا كانت المفسدة كبيرة؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، أظن هذا ظاهر، أقول: كثير من كتب الشيخ -رحمة الله عليه- التوحيد وكشف الشبهات وثلاثة الأصول، وغيرها من الكتب التي هي أنفع من كل كتاب بعد الكتاب والسنة طبعت في خارج المملكة باسم محمد بن سليمان التميمي حذف عبد الوهاب لئلا يتعطل الكتاب وينتفع به الناس، هذا جيد.
نعود إلى تدليس الشيوخ فتعريف هذا النوع من التدليس: أن يروي المحدث عن شيخ حديثاً سمعه منه ما فيه إسقاط، ليس فيه إسقاط فيسميه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف، لو قال: حدثني أبو صالح الشيباني، حدثني أبو صالح الشيباني يريد بذلك الإمام أحمد بن حنبل وهو معروف بأبي عبد الله وهو شيباني، لكن صالح أكبر من عبد الله، من أجل التدليس يكنيه وينسبه إلى كنية أو نسبة لا يعرف بها، قال بعضهم: حدثني أحمد بن هلال، ويريد بذلك الإمام أحمد.
مثال ذلك: ما رواه الخطيب البغدادي عن شيخه الحسن بن محمد الخلال، قول سعيد بن المسيب: إن كنت لأرحل الأيام والليالي في طلب الحديث سمى الخطيب شيخه الحسن بن أبي طالب، اسمه الحسن بن محمد الخلال، وقال مرة: أخبرنا أبو محمد الخلال، هذا نوع من التدليس، والخطيب في تصانيفه يكثر من هذا النوع، عن شيوخ يروي عنهم يصرح بأسمائهم، وهم ثقات عنده، لكن من باب التنويع والتفنن في العبارة، يقول: أخبرني مرة فلان، ومرة فلان ابن فلان، ومرة أبو فلان الفلاني، يتصرف من أجل أن يتفنن في العبارة لئلا يكثر من ذكر شيخ فيمله الناس.
ابن القيم يذكر عن شيخه كثيراً فيسميه أحياناً وأحياناً ينسبه، وأحياناً يكنيه، ولقد سمعت شيخنا أبا العباس مراراً، كثير ما يقول ذلك، يتفنن في سياق ما يعرف بهذا الشيخ.
الخزرجي في (الخلاصة) خلاصة تذهيب تهذيب الكمال للخزرجي قال في ترجمة الإمام محمد بن يحيى الذهلي: "روى عنه البخاري ويدلسه، روى عنه البخاري ويدلسه"، البخاري لم يقل في موضع: حدثنا محمد بن يحيى، بل قال تارة: محمد، حدثنا محمد من غير نسبة، وتارة محمد بن عبدالله، فينسبه إلى جده، وتارة محمد بن خالد، فينسبه إلى والد جده، أولاً: الذهلي ثقة، إمام من أئمة المسلمين، إمام من أئمة المسلمين، فكونه يُدَلَس لا يضيره، الأمر الثاني: الإمام البخاري يختلف مع الذهلي في مسألة اللفظ، لفظي بالقرآن مخلوق، يختلف البخاري معه في ذلك، فلكون الذهلي ثقة إمام روى عنه، ولكونه يختلف معه في هذه المسألة ما سماه باسمه الصريح الذي يعرفه به الناس، لئلا يظن أن البخاري بروايته عنه موافق له في مقالته، والخلاف بين الإمامين معروف، فيجاب عن صنيع الإمام البخاري هذا بما كان بينهما من الخلاف في مسألة اللفظ، فلثقته عنده خرج له، ولئلا تظن موافقته له في هذه المسألة لم يصرح باسمه كاملاً، وإلا ابن القيم -رحمه الله تعالى- في إغاثة اللهفان يقول: الإمام البخاري أبعد خلق الله عن التدليس، أبعد خلق الله عن التدليس".
تدليس الشيوخ مكروه إلا أنه أخف من الأنواع السابقة؛ لأن المدلس لم يسقط أحد، وإنما الكراهة بسب تضييع المروي عنه، وتوعير الطريق إلى معرفته على السامع، أما إذا كان امتحاناً للطلاب أو تفنناً في العبارة بحيث لا يخفى على أهل الفن فهو جائز، وهذا ما يفعله الخطيب البغدادي في مصنفاته.
قد يقول الشيخ: وهذا اختيار شيخنا أبي عبد الله النجدي، من أبو عبد الله النجدي؟ نعم؟
طالب:......
نعم، قد يتنبه بعض الطلاب فيقول: هو الشيخ ابن باز، وهو ما عرف بهذا، لكن من باب اختبار الطلاب وانتباههم وعدمه يفعل مثل هذا، إذا كان امتحاناً للطلاب أو تفنن في العبارة أحياناً يسمى الشخص، وأحياناً يكنى، وأحياناً ينسب من أجل ألا يمل السامع، يعني لو نقل عن شخص عشر مرات في مجلس واحد باسمه الكامل لا شك أن كثير من الناس يمل من التكرار، فمرة ينسب ومرة يكنى، ومرة يعرف به كاملاً، ومرة يلقب وهكذا.
تدليس البلدان:
يلتحق بتدليس الشيوخ تدليس البلدان، كأن يقول المصري: حدثني فلان في الأندلس وأراد موضعاً بالقرافة، أو يقول: بزقاق حلب ويريد موضعاً في القاهرة وهكذا، وظهر عندنا الآن أحياء بأسماء المدن وأسماء الأقاليم كأن يقول في الرياض مثلاً: حدثني فلان في القدس، حدثني فلان بالقدس، في حي اسمه القدس، والسامع يظن أن هذا رحل وتحمل المشاق، ذهب إلى القدس وسمع هذا الحديث منه، هذا تدليس، يسمى تدليس البلدان، هذا أمره سهل إذا كان المحدث والمحدث عنه من الثقات، لكنه إذا قصد به التشبع وكان الحامل عليه التشبع بأن يظن أن هذا رحل إلى البلدان والأقاليم وهو بين الحارات جالس في بلد واحد مثل هذا يذم، المتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور.
الأغراض الحاملة على التدليس:
الأغراض الحاملة على التدليس كثيرة منها: ضعف الشيخ المدَلس، نعم إذا كان ضعيف فيسقطه من روى عنه وهذا الذي ذمه شعبة، ومن الأغراض الحاملة: صغر الشيخ، يكون الشيخ صغير السن أصغر من التلميذ، فيأنف التلميذ أن يروي عن شخص هو أصغر منه، هذا موجود في النفوس كثير فيسقطه؛ لأنه يأنف أن يقال أنه يروي عن شخص أصغر منه، مع أنه لا ينبل الرجل ولا يكمل حتى يروي عن من هو فوقه، ومن هو دونه ومن هو مثله من أقرانه، فسمة أهل العلم التواضع، ونسبة القول إلى قائله، والرواية إلى راويها، ومن بركة العلم إضافة القول إلى قائله، بعض الناس إذا سمع فائدة من واحد من طلابه يأنف أن يقول: قال فلان هذه الفائدة وهي فائدة جيدة، يقول: قيل، أو قال بعض الفضلاء، لئلا يقال: أن هذا يستفاد من طلابه، لا، نستفيد من طلابنا والحمد لله.
من الأغراض: إيهام علو الإسناد، إيهام علو الإسناد، نعم إذا كان السند خماسي فأسقط واحد منهم صار رباعي صار عالي بالنسبة للخماسي.
كثرة الرواية عنه: يعني يكثر من الرواية عن شخص من الأشخاص فيمل من كثرة: حدثني فلان قال: حدثني فلان يسقطه.
الخوف من عدم أخذ الحديث مع الاحتياج إليه: الخوف من عدم أخذ الحديث مع الاحتياج إليه، وهذا غرض صحيح، إذا كان الشخص على المنهج السوي المستقيم، وهو ثقة عدل ضابط في دينه وحفظه، وأنت في بيئة بينهم وبين هذا الشخص شيء، فإذا حدثت عنه فإنهم لا يأخذون به، لا يوافقونك على العمل بهذا الحديث؛ لأنه مروي من طريق شخص لا يريدونه، فتسقط هذا الراوي كما ذكرنا عن ابن أبي العز في إسقاطه اسم شيخ الإسلام وابن القيم من أجل أن يؤخذ هذا العلم، وهذا مقصد صحيح، والأمور بمقاصدها من ذلكم التفنن في العبارة وهذا ما يفعله الخطيب.
طبقات المدلسين:
طبقات المدلسين: إذا عرفنا أن التدليس عيب وذم لا بد من معرفة طبقات المدلسين؛ لأن في التدليس..، وقع في التدليس أئمة كبار، الحافظ ابن حجر قسم المدلسين إلى خمس طبقات: من لم يوصف بذلك إلا نادراً، يعني حصل منه مرة أو مرتين كيحيى بن سعيد الأنصاري، الثانية: من احتمل الأئمة تدليسه وأخرجوا له في الصحيح لإمامته وقلة تدليسه كالثوري، أو لكونه لا يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة، الطبقة الأولى والثانية ما فيها إشكال، يروى عنهم بأي صيغة كانت؛ لأن الأئمة احتملوا تدليسهم، الكلام على الطبقة الثالثة فما دون، الطبقة الثالثة: من أكثر من التدليس مع ثقته كأبي الزبير المكي، أبو الزبير مكثر من التدليس ولذا لا يقبل من روايته إلا ما صرح فيه بالتحديث، وهذا يستثنى منه ما في الصحيح، عنعنات المدلسين في الصحيحين محمولة على الاتصال، محمولة على الاتصال، ولذا أبو الزبير عن جابر في صحيح مسلم كثيراً ما يقول: عن جابر، وقد يقول: سمعت جابراً، وأحياناً يقول: حدثني جابر، فإذا لم يصرح بالتحديث خارج الصحيح قلنا: لا بد أن يصرح، عنعنات المدلسين في الصحيحين محمولة على الاتصال؛ لأنها بحثت فوجدت كلها مصرح بها في المستخرجات وغيرها من الكتب، مع ثقتنا بالشيخين، فليس لأحد أن يضعف حديث في الصحيحين لأن راويه مدلس رواه بالعنعنة لا، يستثنى من ذلك الصحيحان اللذان تلقتهما الأمة بالقبول.
الطبقة الرابعة: من أكثر من التدليس عن الضعفاء والمجاهيل.
والخامسة: من ضعّف بأمر آخر سوى التدليس، وهؤلاء لا يقبل منهم ولو صرحوا.
الرابعة: من أكثر من التدليس عن الضعفاء والمجاهيل لا بد من التصريح، فإذا صرحوا بالرواية عن الثقات وهم ثقات يقبلون وإلا فلا، من ضعف بأمر آخر سوى التدليس هذا لا يقبل ولو صرح.
حكم رواية المدلس:
حكم رواية المدلس: عرفنا في طبقات المدلسين أن الأئمة احتملوا تدليس أصحاب الطبقتين الأولى والثانية فتقبل عنعناتهم ولو من غير تصريح بالتحديث، وأما أصحاب الطبقة الرابعة فلا خلاف في عدم قبولهم إلا مع التصريح بالسماع، وأما أصحاب الطبقة الخامسة فلا يقبل حديثهم ولو صرحوا، وقد اختلف العلماء في قبول رواية المدلس من أصحاب الطبقة الثالثة كأبي الزبير عن جابر على أقوال:
الأول من هذه الأقوال: يرى جماعة من الفقهاء وأصحاب الحديث أن خبر المدلس غير مقبول مطلقاً لما يتضمن من الإيهام لما لا أصل له، وترك تسمية من لعله غير مرضي ولا ثقة.
الثاني: يرى جمع من أهل العلم أن خبر المدلس -ونعرف أن محل الخلاف الطبقة الثالثة، الثالثة فقط- يرى جمع من أهل العلم أن خبر المدلس مقبول مطلقاً، فلم يجعلوه بمثابة الكذاب، ولم يروا التدليس ناقضاً للعدالة، وزعموا أن نهاية أمره أن يكون ضرباً من الإرسال، والمرسل عرفنا الخلاف فيه.
الثالثة: قال آخرون بالتفصيل: إن كان المدلس يروي بلفظ السماع أو التحديث فهو مقبول محتج به، وإن روى بلفظ محتمل كالعنعنة فلا يقبل، وبهذا قال الشافعي وابن الصلاح والنووي وابن حجر وغيرهم.
الرابع: فصل آخرون فقالوا: إن عرف من المدلس أنه لا يروي إلا عن ثقة فإنه يقبل بأي صيغة روى، وإن كان المدلس يروي عن الثقات وغير الثقات فلا يقبل إلا إذا صرح بالتحديث، وذكر ابن عبد البر في التمهيد عن أئمة الحديث أنهم قالوا: لا يقبل تدليس الأعمش، لا يقبل تدليس الأعمش لماذا؟ لأنه إذا وقف أحال على غير ملي، يعني يروي عن غير الثقات، يعنون على غير الثقة، وقالوا: يقبل تدليس ابن عيينة؛ لأنه إذا وقف أحال على ابن جريج ومعمر ونظائرهما من الثقات، والراجح -والله أعلم- هو القول الثالث، وهو ما اختاره المحققون من العلماء وهو قبول خبر المدلس إذا صرح بالتحديث وإلا فلا، مع استثناء ما في الصحيحين.
وقوله: "وكذا المرسل الخفي من معاصر لم يلق" تقدم تحقيق معنى المرسل الخفي والفرق بينه وبين التدليس، وعرفنا أنه إذا كان الراوي قد لقي وسمع من روى عنه وروى عنه ما لم يسمعه منه هذا يسمى تدليس، إذا كانت بينهما المعاصرة فقط ولم يثبت اللقاء ولا السماع وروى عنه بصيغة موهمة فإنه يسمى المرسل الخفي، وهذا هو الفرق بين المرسل الخفي والتدليس، نعم.
أسباب الطعن في الراوي:
قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: "ثم الطعن: إما إن يكون لكذب الراوي، أو تهمته بذلك أو فحش غلطه، أو غفلته، أو فسقه، أو وهمه، أو مخالفته، أو جهالته، أو بدعته، أو سوء حفظه".
الطعن في الراوي كيف يتسرب الطعن في الراوي؟
أولاً: كيف ينفذ الضعف إلى الحديث؟ عرفنا أن الحديث إنما يضعف بسبب السقط من الإسناد أو ضعف في راويه، بسبب السقط من الإسناد وهذا كله تقدم بأنواعه الستة الظاهرة والخفية، وأما الطعن في الراوي وهو المسلك الثاني من مسالك الضعف إلى الخبر، وينقسم هذا إلى قسمين رئيسين، وتحت كل قسم خمسة أنواع:
القسم الأول: ما كان سببه الخلل في العدالة، والثاني: ما كان سببه اختلال الحفظ، القسم الأول: ما كان سببه الخلل في العدالة وينشأ عنه خمسة طعون من الطعون العشرة المذكورة الآن، والثاني: الخلل في الحفظ والضبط ويدخل فيه خمسة من الطعون المذكورة العشرة.
فما يتعلق بالعدالة من العشرة التي بين أيديكم الآن التي قرأها: الكذب يرجع إلى العدالة، التهمة بالكذب إلى العدالة، الفسق إلى العدالة، الجهالة إلى العدالة، والبدعة ترجع إلى العدالة، هذه الخمسة ترجع إلى العدالة، الخمسة الباقية: فحش الغلط، والغفلة، والوهم، ومخالفة الثقات، وسوء الحفظ، كلها ترجع إلى الخلل في الحفظ
الحافظ ما ميز وفصل هذا عن هذا، لماذا؟ ها؟ الحافظ بدأ بالطعون العشرة غير مميز لها وفاصل لما يتعلق بالعدالة وما يتعلق بالضبط، بادئاً بالأشد ثم الذي يليه على سبيل التدلي، أعظم ما يرمى به الراوي من الطعون الكذب، ثم الذي يليه التهمة بالكذب، ثم يليه فحش الغلط، ثم الغفلة، ثم الفسق، ثم الوهم، ثم مخالفة الثقات، ثم الجهالة، ثم البدعة، ثم سوء الحفظ، فرتبها ترتيباً متدلياً من الأعلى إلى الأدنى.
فبعد أن أنهى الحافظ -رحمه الله تعالى- المسلك الأول من مسالك الضعف إلى الحديث وهو السقط من الإسناد بأنواعه الظاهرة والخفية شرع -رحمه الله تعالى- ببيان المسلك الثاني وهو الطعن في الراوي.
والطعن مصدر طعن يطعن طعناً وطعناناً ثلب بالقول السيئ، وفلان طعان: أي وقاع في أعراض الناس بالذم والغيبة ونحوهما، ومنه الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي بلفظ: ((ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان، ولا الفاحش البذيء)) والمراد بالطعن هنا: جرح الراوي باللسان، والتكلم فيه من ناحية عدالته ودينه، ومن ناحية ضبطه وحفظه وتيقظه، هذا المراد بالطعن هنا، هل المراد بالطعن هنا الطعن بالسهام؟ نعم، لا، إنما الطعن هنا المراد به جرح الراوي باللسان لا بالسهام والسنان، وإن كانت حقيقة الطعن هي ما كان في جسده بالسنان، لكن المراد بالطعن هنا جرح الراوي باللسان والتكلم فيه من ناحية عدالته ودينه، ومن ناحية ضبطه وحفظه وتيقظه، والكلام في الرواة تجريح الرواة وتضعيفهم ليس من الغيبة المحرمة، بل هو أمر جائز بإجماع أهل العلم، فيما نقله النووي في رياض الصالحين وغيره قد أوجبه بعضهم، أوجبه بعض العلماء للحاجة إليه، ولا شك أنه مما لا يتم الواجب إلا به إذاً هو واجب، إذ به يعرف صحيح الحديث من ضعيفه، وإذا فتح الباب في هذا المجال من أجل حفظ السنة، فإن هذا لا يعني إطلاق عنان اللسان بجرح الرجال من غير حاجة، فإنما ذلك إنما جوز للضرورة الشرعية، ولهذا حكم العلماء بأنه لا يجوز الجرح بما فوق الحاجة، يقول السخاوي: "لا يجوز التجريح بشيئين إذا حصل المقصود بواحد"، إذا عرف ذلك فليس لكل شخص أن يجرح ويعدل، بل لا بد من توافر شروط اشترطها العلماء في الناقد للرجال والمتكلم فيهم، كالعلم والتقوى والورع والصدق، والتجنب عن التعصب، ومعرفة أسباب الجرح والتزكية، وسيأتي الكلام بالتفصيل عن هذه المسألة عند ذكر الحافظ -رحمه الله تعالى- لمبحث الجرح والتعديل.
على كل حال الجرح إنما أبيح للحاجة، والضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، قد لوحظ على كثير من طلاب العلم أنهم صار مهنتهم الجرح والتعديل، الشيخ الفلاني قال، والشيخ الفلاني، والعلاني فيه ما لا فيه؟ وأخذوا يقعون في أعراض الناس ولم يسلم منهم حتى أهل العلم، نقول: هل من حاجة وضرورة داعية إلى مثل هذا الكلام؟ نعم، إذا وجد شخص ممن يتصدى لإفادة الناس ويخشى منه الضرر يحذر منه بقدر الحاجة، لكن تجعل نفسك حكم بين العباد وتجرح وتعدل من غير ما حاجة، لا شك أن أعراض المسلمين حفرة من حفر النار كما قال ابن دقيق العيد، والغيبة أمرها عظيم، والوقوع في أعراض الناس أمره شديد، وهذه حقوق العباد المبنية على المشاحة، والمفلس الحقيقي لما سألهم عنه النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((ما تعدون المفلس فيكم؟)) أو ((من المفلس؟)) قالوا: من لا درهم له ولا متاع، قال: ((لا، المفلس من يأتي بأعمال من صيام وصدقة وصلاة وصلة يأتي قد شتم هذا وضرب هذا، وأخذ مال هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، ولهذا من حسناته)).. إلى آخر الحديث، الإنسان قد يحرص على العمل، تطويد العمل وإتقانه ثم يأتي ويوزع الآثار المرتبة على هذا العمل، يكسب الحسنات ثم يوزعها على الناس، ألزم ما على الإنسان نفسه، ينبغي أن يحتاط لنفسه، ويحفظ ما تعب عليه من الحسنات، إذا تقرر هذا فالطعن في الراوي من ناحيتين:
الأولى: من حيث عدم العدالة.
والثانية: من حيث عدم الضبط.
وقد تقدم تعريف العدالة والضبط عند الكلام على الحديث الصحيح، وأوجه الطعن المتعلقة بانتفاء العدالة خمسة هي: الكذب، التهمة بالكذب، الفسق، البدعة، الجهالة، وأوجه الطعن المتعلقة بانتفاء الضبط خمسة: فحش الغلط، والغفلة، ومخالفة الثقات، الوهم، سوء الحفظ، لكن الحافظ -رحمه الله تعالى- لم يعتنِ بتمييز أحد القسمين على الآخر لمصلحة اقتضت ذلك وهي ترتيبها على الأشد فالأشد، في موجب الرد على سبيل التدلي من الأعلى إلى الأدنى فيها.
الكذب:
فالوجه الأول من أوجه الطعن في الراوي: الكذب: والكذب نقيض الصدق، يقال: كذب يكذب كَذِباً وكِذْباً، وكِذبة، وكَذبة، وكذاباً وكِذابا.
وفي الاصطلاح: هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو في الواقع عمداً كان أو سهواً، يعني إذا قلت كلام لا يطابق الواقع، إذا قلت: جاء زيد وهو لم يحضر فقد كذبت، سواءً قصدت الكذب أو لم تقصد الكذب، ولا واسطة بين الصدق والكذب عند أهل السنة خلافاً للمعتزلة، فلا يشترط لتسمية الكلام كذباً كونه صدر من قائله عمداً، بل مجرد الإخبار على خلاف الواقع يسمى كذاباً، بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) ووجه الاستدلال من الحديث حيث قيد الكذب بالتعمد، فدل على أن هناك كذباً آخر إلا أنه لا وعيد فيه، وهو السهو والغلط، يسمى كذب لكنه لا يستحق هذه العقوبة، خلافاً للمعتزلة الذين يرون اشتراط العمدية لتسمية الكلام كذباً، ولذا يثبتون واسطة بين الصدق والكذب وهي كلام ليس بصدق ولا كذب، وأجمع من يعتد به من المسلمين على تحريم الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والحكم بأنه من كبائر الذنوب لما تواتر عنه -صلى الله عليه وسلم- من قوله: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) هذا متواتر لفظه ومعناه كما تقدم، وهذا الوعيد الشديد يدل على أن الكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- كبيرة من الكبائر، موبقة من الموبقات، بل نقل أبو المعالي الجويني عن أبيه تكفير من يضع الحديث، يقول: "الذي يكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- متعمد يكفر" هذا قاله والد إمام الحرمين، لكن أبا المعالي ضعف هذا القول، وقال: إنه لم يره لأحد من الأصحاب، وأنه هفوة عظيمة.
ونقل الذهبي عن ابن الجوزي قوله: "ولا ريب أن الكذب على الله وعلى رسوله في تحليل حرام أو تحريم حلال كفر محض، وإنما الشأن في الكذب عليه فيما سوى ذلك"، هذا حكم الكذب، والراجح فيه قول الجمهور أنه كبيرة من الكبائر لكن لا يكفر، ولا عبرة بما ذهب إليه محمد بن كرام السجستاني شيخ الكرامية من إباحة وضع الأحاديث، يجيزون وضع الأحاديث والكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- للترغيب في الطاعة والتنفير من المعصية دون ما يتعلق به حكم من أحكام الشريعة، مؤولين حديث: ((من كذب علي)) بقولهم: إنا نكذب له ولا نكذب عليه، والوعيد يقول: ((من كذب علي)) ويقولون: نحن نكذب له ما نكذب عليه، إيش معنى نكذب له؟ نروج كلامه، نروج دينه على الناس، بهذا الكذب، فنحن نكذب له ما نكذب عليه، لا شك أن هذا القول سخيف ومتهافت وهو أقل من أن يرد عليه، والبرهان القاطع على خلافه أظهر وأشهر، والدين كامل ليس بحاجة إلى ترويج، ليس بحاجة إلى ترويج، الدين لو سلم من الصد عنه ما احتاج ولا إلى دعوة، لكن المشكلة أن الصد عن دين الله موجود بين المسلمين، من المسلمين من يصد الناس عن دين الله بأفعاله وتصرفاته، وكونه قدوة سيئة يشوه الإسلام، والله المستعان.
رواية الكاذب:
رواية الكاذب: من كذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمداً في حديث واحد حكم عليه بالفسق وردت رواياته كلها، وبطل الاحتجاج بها جميعاً، وأما توبة الكاذب فمن تاب عن الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اختلف العلماء في قبول روايته على قولين:
القول الأول: ذهب الإمام أحمد وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري، وأبو بكر الصيرفي إلى أن توبته لا تؤثر في ذلك، ولا تقبل روايته أبداً، بل يحتم جرحه دائماً؛ يعني من كذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- ولو مرة واحدة فإنه خلاص يلغى من الوجود في باب الرواية، لكن إن حسنت توبته، تاب توبة نصوحاً بشروطها تقبل توبته عند الله -سبحانه وتعالى-، لكن الرواية يحتم جرحه دائماً.
القول الثاني: يرى آخرون أن توبته صحيحة وروايته مقبولة، إذا صحت توبته، وهذا القول رجحه النووي وقال: إنه الجاري على قواعد الشرع وقاسه على رواية الكافر إذا أسلم، يقول: هذا الذي كذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- أشد ما قيل فيه أنه يكفر، والكافر إذا أسلم قبلت روايته، وهذا من باب أولى، وضعف الرأي الأول، ولا شك أن الرأي الأول فيه تشديد النكير على من كذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- وفيه احتياط للسنة؛ لأن هذا الكاذب لا يؤمن أن يكذب في توبته.
التهمة بالكذب:
الوجه الثاني من أوجه الطعن في الراوي: التهمة بالكذب.
والتهمة في اللغة: الظن، أصلها الوهمة، تاؤه مبدلة من واو، كما أبدلت في تخمة، يقال: أوهمته واتهمته إذا أدخلت عليه التُهَمة كهمزة ورطبة، والسكون لغة، أصله تُهَمة كهُمزة ولُمزة، وقد تسكن فيقال تهْمة، واتهمته شككت في صدقه.
واصطلاحاً عرفه الحافظ ابن حجر في النزهة، عرف الحافظ ابن حجر في النزهة تهمة الراوي بالكذب: بألا يروى ذلك الحديث إلا من جهته، ويكون مخالفاً للقواعد المعلومة، وكذا من عرف بالكذب في كلامه العادي، وإن لم يظهر منه وقوع ذلك في الكلام النبوي.
الكذاب في علوم الحديث هو الذي يكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام-، والمتهم بالكذب هو الذي يكذب في حديثه العادي مع الناس، لكنه لا يكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- مثل هذا يتهم بالكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه جرب عليه الكذب في حديثه مع الناس، ومثله لو روى حديث لا يعرف إلا من جهته، ويكون هذا الحديث مخالف للقواعد المعلومة، ومن هذا نعرف أسباب اتهام الراوي بالكذب، ألا يروى ذلك الحديث إلا من جهته، ويكون الحديث مخالف للقواعد المعلومة حينئذٍ نتهم هذا الراوي.
أن يعرف الراوي بالكذب في كلامه العادي لكن لم يظهر منه كذب في الحديث النبوي، ومتى اتهم الراوي بالكذب ترك حديثه.
قال الإمام مالك بن أنس: "لا يؤخذ العلم عن أربعة ويؤخذ ممن سوى ذلك، لا يؤخذ من صاحب هوىً يدعو الناس إلى هواه، ولا من سفيه معلن بالسفه، ولا من رجل يكذب في أحاديث الناس، وإن كنت لا تتهمه أن يكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به".
فحش الغلط:
الوجه الثالث من أوجه الطعن في الراوي: فحش الغلط، سيأتي الحافظ على هذه الأوجه العشرة بالتفصيل وماذا يسمى حديث الكذاب؟ ماذا يسمى حديث المتهم بالكذب؟ بم يسمى حديث من فحش غلطه؟ سيأتي عليها بالترتيب المذكور هنا؛ لأنه كما ذكرنا الحافظ رتب كتابه على طريقة اللف والنشر.
الوجه الثالث من أوجه الطعن في الراوي: فحش الغلط، يقال: غط في منطقه غلطاً أخطأ وجه الصواب، وغلطته أنا قلتُ له: غلطت أو نسبته إلى الغلط، وأغلطته إغلاطاً أوقعته في الغلط، ويجمع على أغلاط، ورجل غلطان كسكران، وكتاب مغلوط قد غلط فيه، وفحش الغلط كثرته، وكل شيء جاوز حده فهو فاحش، يعني كون الإنسان يغلط الغلط والغلطتين والثالث هذا يسمى فاحش الغلط؟ لا، من يعرو من الغلط من السهو من النسيان من سبق اللسان، ما في أحد يسلم من ذلك، لكن إذا كثر في كلامه وفحش غلطه صار وجه من أوجه الطعن.
فحش الغلط كثرته، وكل شيء جاوز حده فهو فاحش، وذلك بأن يكون غلط الراوي أكثر من صوابه أو يتساويان، أما إذا كان الغلط قليلاً فإنه لا يؤثر إذ لا يخلو الإنسان من الغلط والنسيان.
روى الخطيب البغدادي بسنده عن سفيان الثوري أنه قال: "ليس يكاد يفلت من الغلط أحد، إذا كان الغالب على الرجل الحفظ فهو حافظ وإن غلط، وإن كان الغالب عليه الغلط ترك"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "وأما الغلط فلا يسلم منه أكثر الناس، بل في الصحابة من قد يغلط أحياناً وفيمن بعدهم"، وإذا كثر غلط الراوي ترك حديثه، روى الخطيب البغدادي عن عبد الرحمن بن مهدي أنه كان لا يترك حديث رجل إلا رجل متهم بالكذب أو رجلاً الغالب عليه الغلط.
الغفلة:
الوجه الرابع من أوجه الطعن في الراوي: الغفلة، يقال: غفل الرجل عن الشيء يغفل غفولاً فهو غافل، ورجل مغفل لا فطنة له، وغفلت الشيء تغفيلاً إذا كتمته وسترته، وتغفلته عن كذا تخدعته عنه على غفلة منه، وفلان غفل لم تسمه التجارب، غفل، كثير ما يقولون: أن فلان غفل، نعم، إيش معنى غفل؟ لم تسمه التجارب، يعني ما استفاد من التجارب في الحياة، يقع في هذا الأمر ثم يقع فيه ثانية ثم ثالثة، ما يستفيد من تجارب الحياة، والاسم الغفلة والغفل والغفلان، والغُفل بالضم من لا يرجى خيره ولا يخشى شره، يعني إذا قالوا: فلان غفل، هذا موجود، ما هو مستعمل عندكم؟ ما يقولون: فلان غفل؟ مغفل وغفل، نعم، معناه لا يرجى خيره ولا يخشى شره.
واصطلاحاً: غيبة الشيء عن بال الإنسان، غيبة الشيء عن بال الإنسان وعدم تذكره له، كذا في المصباح، وعرفه الفيروز آبادي في البصائر: بأنه سهو يتعري عن قلة التحفظ والتيقظ، ولا بد من تقييد الغفلة بالكثرة، لأن مجرد الغفلة ليست سبباً للطعن لقلة من يعافيه الله منها، غالب الناس فيهم غفلة، لكن إذا كثرت هذه الغفلة لا بد أنها تجرح الراوي، وإن لم يؤاخذ عليها، لا يعني أنه راوٍ مجروح بمعنى أنه آثم، لا.
ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- للسهو والغفلة سبعة أسباب هي:
الاشتغال عن هذا الشأن بغيره، ككثير من أهل الزهد والعبادة، كثير من الناس ينصرف عن طلب الحديث فإذا روى حديثاً أخطأ فيه، الخلو عن معرفة هذا الشأن من الأصل ما يعرف الحديث، تكون بضاعة في الحديث مزجاة، الأول هو في الأصل من أهل الحديث لكنه انشغل عنه، الثاني في الأصل ليس من أهل الحديث، الخلو عن معرفة هذا الشأن، ولذا تجدون الأخطاء الكثيرة في الأحاديث التي يسوقها الغزالي في الإحياء لماذا؟ لأنه ليس من أهل هذا الشأن، بل بضاعته كما قال عن نفسه في الحديث مزجاة، التحديث من الحفظ، الذي يعتمد على الحفظ وحافظته أقل لا شك أن الحفظ يخونه، وليس كل أحد يضبط ما حفظ.
الرابع: أن يُدخَل في حديثه ما ليس منه ويزوَّر عليه، يبتلى بعض الناس بولد سيء يزور عليه بعض الأحاديث ويلحق في كتابه ما ليس منه، أن يركن إلى الطلبة، يركن الشيخ إلى الطلبة، فيحدث بما يظن أنه من حديثه، يقبل كلام الطلبة يقولون: روينا عنك هذا الحديث الفلاني فيصدقهم فيحدث به، وهذا لا شك أنه غفلة.
السادس: الإرسال، وربما كان الراوي له غير مرضي.
السابع: التحديث من كتاب لإمكان اختلافه، قال: فلهذه الأسباب وغيرها اشترط أن يكون الراوي حافظاً ضابطاً، معه من الشرائط ما يُؤمَن معه كذبُه من حيث لا يشعر، وذكر الخطيب عن الحميدي ضابطاً للغفلة التي يرد بها حديث العدل، فقال: أن يكون في كتابه غلط فيقال له في ذلك فيترك ما في كتابه، يحدث من كتابه فيقال له: الذي في كتابك غلط، ثم يترك هذا الغلط ويحدث من غيره، يحدث ما يصوب له، هذه غفلة، أن يكون في كتابه غلط فيقال له في ذلك فيترك ما في كتابه، ويحدث بما قالوا، أو يغير يأتي بالقلم ويصحح على كلام الناس، في كتابه بقولهم، لا يعقل فرق ما بين ذلك، يعني ما يتأكد ولا يتثبت.
وحديث المغفل مردود روى الخطيب البغدادي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "لا يكتب عن الشيخ المغفل"، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يقول: نريد توجيهاً لدعاة تجديد علم الحديث وأصول الفقه، يقول: حتى قال قائل منهم: إذا كان لراوي الحديث -أي الصحابي- مصلحة من رواية الحديث فالحديث ضعيف عندهم؟
لعل من أبرز ما يمثل به في هذا الكلام حديث أبي هريرة في الترخيص في اقتناء الكلب للحاجة، ((إلا كلب صيد)) قال أبو هريرة: "أو زرع" قال ابن عمر: "وكان صاحب زرع" يعني أبا هريرة، وهل معنى هذا أن ابن عمر يتهم أبا هريرة في هذه اللفظة؛ لأنه صاحب زرع ومحتاج إلى مثل هذا الكلب؟ نقول: لا، ابن عمر يشيد بأبي هريرة، ويذكر أنه ضبط الحديث وأتقنه؛ لأن له به حاجة، ومن كانت له حاجة بأمر من الأمور فإنه يضبطه ويتقنه أكثر من غيره، وليس معنى هذا أنه يتهم أبا هريرة بأنه يزيد في الخبر من أجل مصلحته حاشا وكلا.
لكنه يريد أني بين أن أبا هريرة محتاج لهذه الزيادة فضبطها وأتقنها، وهذا شيء يحس به كل أحد، إن من كان بحاجة إلى شيء فإنه يضبط، الإنسان يعيش عمره لا يعرف حديث الاستخارة، لكن إذا أراد أن يتزوج أو أراد أمراً مهماً وحصل عنده شيء من التردد، ووجه إلى الاستخارة ضبط حديث الاستخارة؛ لأنه صار له به حاجة، هذا أمثلته كثيرة، من أهل العلم الذين لهم ارتباط وصلة بالمصارف المالية، من يميل إلى تجويز بعض الصور التي يمنعها غيره، فأنت تقول: إذا سمعت منه الحكم أنت تقول: يجيزها فلان وهو يعمل في المصرف، لا شك وأنت في مقالتك هذه كلامك يحتمل أمرين:
الأمر الأول: أنك تريد أن تبين للسامع أن هذا الشيخ الذي يعمل في هذا المصرف إنما أجازها عن بينة، عن تبين، وفهم دقيق لهذه المسألة؛ لأن الذي يشتغل بالشيء يتقن مسائله، الشخص الذي يتعامل مع هذه المصارف لا شك أنه أعرف بعقودها من غيره، فهذه العقود تعرض عليه فيدرسها قبل أن يقدم المصرف على التعامل بها، هذا احتمال، واحتمال آخر أنك تريد أن تبين للسامع أن لهذا الشيخ مصلحة من إفتائه بالجواز والميل إليه؛ لأنه يأخذ مقابل على هذا العمل، فلو منع مثل هذه الصورة يمكن يستغني عنه المصرف، فالمسألة تحتمل أمرين، وإذا كان هذا الاحتمال موجود فيمن يمكن أن تميله الدنيا فيميل إلى قول يسهل أمر هذه المسألة فإن مثل هذا لا يمكن أن يظن بالصحابة -رضوان الله عليهم-، الذين هم كلهم عدول بتعديل الله -سبحانه وتعالى- لهم، واضح وإلا ما هو بواضح؟ نعم؟
يقول: تيسير دراسة الأسانيد للمبتدئين تأليف: مصطفى عبد المنعم؟
والله ما أعرفه.
"لا شك أن أهل العلم قد يطوون البيان الدقيق فإذا كان هذا الرجل متقدم الإسلام فإذا قالوا: أسلم في السنة الثانية في السنة الثالثة في السنة الخامسة يعني من الهجرة، وهذا لفظ مجمل يحتاج إلى بيان من مصادر أخرى، وإذا كان من متأخري الإسلام فالمراد به بعد الهجرة.
ننتبه إلى ما يفعله العلماء في تواريخ الرواة فتجدهم إذا ذكروا الطبقة لا يذكرون المائة، ولا المائتين، ما يذكرون المئات، فإذا قالوا: من الثانية، مات بعد السبعين، يعني ومائة، من الثانية بدون مائة، لكن لو قالوا: من السابعة، من السابعة مات بعد الخمسين يعني ومائة، فهم لا يذكرون هذه المئات.
عطية العوفي ضعيف بلا شك، ضعفه جماهير أهل العلم، لكن قد يصحح الألباني بطرق وإن لم تكن ممن يصلح للاعتبار، يعني شديدة الضعف.
المقصود إن كانت هناك الحافظة قوية فحفظ الألفية مهم، إذا لم تكن الحافظة ممن تسعف فيكتفي بالنخبة، وكتاب الحافظ ابن كثير مع تعليقات الشيخ أحمد شاكر، ويطالع الألفية وشروحها، يطالعها مطالعة ويحاول أن يفهم ما يقرأ ويطبق، يخرج ويدرس؛ لأن التطبيق العملي هو الثمرة، والله المستعان.