شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (022)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم: انتهينا مع الإخوة المستمعين الكرام من الكتاب الأول في هذا الكتاب الذي تتفضلون بشرحه، نحن الآن بصدد كتاب الإيمان، وهو الكتاب الثاني، كما جاء في ترقيم التجريد.

"ثانيًا: كتاب الإيمان، قال: بابٌ دعاؤكم إيمانكم.

ثم ساق الحديث:

عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان»".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقدم: اللهم صل وسلم...

أولاً: القول بأن كتاب الإيمان هو الكتاب الثاني، ليس بصحيح، وإن وُضِع على بَدْء الوحي: كتاب بدء الوحي، ورُقِّم برقم واحد، وعُدَّ في كتب البخاري، لكنه ليس بكتاب، وإنما افتتح المؤلف -رحمه الله تعالى- كتابه ببدء الوحي ليكون كالتوطئة والتَّقْدِمَة لما سَيَعْرِض له من الإيمان والعلم والعبادات والمعاملات وغيرها، فبَدْء الوحي كالمقدمة للكتاب، ولذا لم يستفتحه البخاري -رحمه الله تعالى- بكتاب على ما سبق ذكره، والكتاب يُعرَّف باعتباره يمر لأول مرة، مصدر كتَب يكتُب، كِتَابًا وكتابةً وكَتْبًا، ومادة الكَتْب تدل على الجمع والضم، ومنها الكتيبة لجماعة الخيل، وتَكَتَّب بنو فلان إذا اجتمعوا، ومنه قول الحريري في مقاماته:

وكاتبين وما خطت أناملهم

 

 

 

حرفًا ولا قرؤوا ما خط في الكتب

 

المراد بالكاتبين هنا الخرازون، يقال كتب السقاء والمزادة إذا خرزهما، والمراد به هنا، المراد بالكتاب هنا المكتوب، فهو مصدر يراد به اسم المفعول: المكتوب الجامع لمسائل الإيمان، وفي كتاب الصلاة: المكتوب الجامع لمسائل الصلاة، في كتاب البيع: المكتوب الجامع لمسائل البيع وهكذا، ولم يقل فيما تقدَّم كتاب بدء الوحي لأنه جعله كالمقدمة للكتاب ومن ثَم بدأ به.

واختلفت الرواة في تقديم البسملة.

المقدم: عفوًا فضيلة الدكتور، إذًا الكتاب الذي بين أيدينا قد أخطأ فيه؟

الكتاب الأول.

المقدم: يعني أخطأ فيه صاحب التجريد أو الناشر نفسه؟ عندما قال: كتاب الوحي؛ لأن الطبعة المعتمدة والذي تفضلتم بإقرارها للمستمعين: كتاب بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

نُسَخ البخاري كلها ليس فيها كتاب.

إنما بدء الوحي والخلاف في الباب، هل فيه باب بدء الوحي؟ أو بدون، بدء الوحي عنوان فقط؟ ثم بعد ذلك كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

اختلفت الروايات في تقديم البسملة على الترجمة، في الصحيح، في صحيح البخاري: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب الإيمان، وفي بعض الروايات: كتاب الإيمان، بسم الله الرحمن الرحيم، والتقديم ظاهر، إذا قلنا بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب الإيمان، هذا ظاهر؛ أن البداءة بالبسملة من أجل البركة ظاهر، وجاء في الحديث وإن كان ضعيفًا: «كل أمر ذي بال لا يُبْدَأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر» أمثل منه البداءة بالحمدلة: «كل أمر ذي بال لا يُبْدَأ فيه بحمد الله فهو أبتر» أي أقطع.

المقصود أن تقديم البسملة على الترجمة أمره ظاهر، والتأخير مناسبته، أو وجهه كأنه جعل الترجمة قائمة مقام تسمية السورة، كتاب الإيمان، بسم الله الرحمن الرحيم بابٌ... إلى آخره، فجعل الترجمة قائمة مقام تسمية السورة، والإيمان في اللغة، كما في تهذيب الأزهري مصدر آمن يؤمن إيمانًا، فهو مؤمن. يقول الأزهري: اتفق أهل العلم، من اللغويين وغيرهم، أن الإيمان معناه التصديق، وسيأتي في كلام شيخ الإسلام مناقشة هذا الاتفاق، اتفق أهل العلم، من اللغويين وغيرهم، أن الإيمان معناه التصديق، قال الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِنْ قُولُواْ أَسْلَمْنَا} [سورة الحجرات 14] ثم قال وقال الله تعالى حكايةً عن إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [سورة يوسف 17] لم يختلف أهل التفسير أن معناه وما أنت بمصدقٍ لنا. يقول الأزهري: والأصل في الإيمان الدخول في صدق الأمانة التي ائتمنه الله عليها، فإذا اعتقد التصديق بقلبه كما صدَّق بلسانه فقد أدى الأمانة، وهو مؤمن، ومن لم يعتقد التصديق بقلبه فهو غير مؤدٍّ للأمانة التي ائتمنه الله عليها، بل هو منافق. وفي مقاييس اللغة لابن فارس، والصحاح واللسان وغيرها، هو مأخوذ من مادة أمِنَ التي تدل على معنيين، هما: التصديق الذي هو ضد التكذيب، والأمان وهو ضد الخوف، أما الإيمان، فضده الكفر، وقد زعم ابن منظور أن إجماع أهل اللغة على ذلك.

لكن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- منع الترادف بين كلمتي الإيمان والتصديق من كل وجه وفي كل نص، من وجوه؛ أحدها: أنه يقال للمخبِر، أو للمخبَر إذا صدَّق، صدَقه، أو صدَّقه، ولا يقال آمَنه أو آمَن به، بل يقال آمَن له، كما قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [سورة العنكبوت 26] {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِن قَوْمِهِ} [سورة يونس 83].

الثاني: أنه ليس مرادفًا للفظ التصديق في المعنى، فإن كل مخبِر عن مشاهدة أو غيب، يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت، وأما لفظ الإيمان، فما يستعمل إلا في الخبِر عن غائب؛ لأن الإيمان مشتق من الأمن، وإنما يستعمل في خبرٍ يؤتمن عليه المخبر كالأمر الغائب.

الثالث: أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابَل بالتكذيب كلفظ التصديق، بل المعروف في مقابلة الإيمان بلفظ الكفر، يقال: مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب، فالإيمان لا يختص بالتصديق فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيبًا، ويكون مخالفةً ومعاداةً وامتناعًا بلا تكذيب، فلا بد أن يكون الإيمان تصديقًا مع موافقة ومغالاة وانقياد، لا يكفي مجرد التصديق.

الرابع: أن من الناس من يقول: الإيمان أصله في اللغة من الأمن، الذي هو ضد الخوف، فآمن أي صار داخلاً في الأمن، ومن الناس من يقول: هو بمعنى الإقرار، وعلى تسليم أن الإيمان يراد في التصديق، فالتصديق يكون بالقلب واللسان وسائر الجوارح، كما ثبت في الحديث الصحيح المتفق عليه: «والفرْج يصدِّق ذلك أو يكذِّبه» أو يقال: هو تصديق خاص مقيَّد بقيود؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- لم يأمرنا بإيمان مطلق، بل بإيمان خاص وصفة معيَّنة، أو يقال -وهذا كله لشيخ الإسلام- وإن كان هو التصديق، فالتصديق التام القائم مستلزِم لما وجب من أعمال القلب والجوارح، أو يقال: إن اللفظ باقٍ على معناه في اللغة، ولكنَّ الشارع زاد فيه أحكامًا كالصلاة والزكاة والحج وغيرها، وهذا رأي شيخ الإسلام، أن الشرع في حقائقه لا ينقل الحقائق اللغوية نقلاً تامًّا، بمعنى أنه لا يكون هناك ارتباط بين اللغة والاصطلاح، بل يكون هناك ارتباط وثيق، لكن الشرع يزيد قيودًا.

الصلاة في اللغة الدعاء.

المقدم: بينما في الشرع تختلف.

تختلف، لكن لا من كل وجه، يعني ليس معنى الصلاة في اللغة يباين المعنى الشرعي تباينًا كليًّا، بل الصلاة مشتملة على الدعاء. الزكاة أصلها النماء، وليس معنى الزكاة في الاصطلاح أنها تباين المعنى اللغوي تباينًا تامًّا، بل الشرع يتبنى المعنى اللغوي ويضيف إليه زيادات وقيود تبعًا لحقيقته، ومثله الحج.

ثم طالب شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- بذكر من نقل الإجماع، وفي أي كتاب ذُكِر. عرفنا أن الأزهري قال: اتفق العلماء، في الصحاح قال بإجماع. شيخ الإسلام يطالب بذِكْر من نقل الإجماع وفي أي كتاب ذُكِر. هل يقال له أن ابن منظور ذَكَره؟ يسكت شيخ الإسلام إذا قيل له أن ابن منظور ذَكَر الإجماع؟ أو الأزهري ذكر الإجماع؟ يكفي نقله في كتب اللغة؟ لأن الاختلاف في المقصود بأهل اللغة. أهل الإجماع في هذه المسألة مَن هم؟

المقدم: أهل الشرع؟

هم أهل اللسان الذين تكلموا بكلمة الإيمان؟ أو هم الرواة الذين تناقلوا هذا الكلام من علماء اللغة؟

يقول: ثم مَن المقصود بأهل اللغة الذين يُعتَدّ بإجماعهم في هذه المسألة؟ هل المقصود نقلتها كأبي عمرٍو والأصمع والخليل ونحوهم أو المتكلمين بها؟ هل نقول أنه أجمع أبو عمرو والأصمع والخليل وفلان وفلان على أن المراد بالإيمان التصديق؟ أو نقول أجمع العرب المتكلمون بلغتهم أن المراد.. كلهم ما خالفوا في هذا ونقل هؤلاء إجماعهم؟

المقدم: الثاني أولى.

هذا الأصل، لكن دون نقله خرط القتاد.

مَن يَجمع العرب كلهم ليُجْمعوا على كلمة واحدة؟!

أما علماء اللغة، فهؤلاء لا ينقلون كل ما كان قبل الإسلام بإسناد، وإنما ينقلون ما سمعوه من العرب في زمانهم، أو ما سمعوه في دواوين الشعر وكلام العرب، وغير ذلك بالإسناد ولا نعلم فيما نقلوه لفظ الإيمان. يعني في دواوين العرب تفتش ما تجد لفظة الإيمان، فضلاً عن أن يكونوا أجمعوا عليه... إلى آخر كلامه -رحمه الله تعالى- وفي غاية الجودة.

إذا عُرِف هذا، فقد اختلَف أهل القبلة في حقيقة الإيمان شرعًا على أقوال.

المقدم: خصوصًا شيخ الإسلام له كتاب في هذا الموضوع فضيلة الدكتور؟

له أكثر من كتاب.

المقدم: في كتاب الإيمان أقصد.

له كتاب الإيمان، المقصود به هذا: الإيمان الكبير، طبع مستقلا مفردًا، وطبع ضمن مجموع الفتاوى في المجلد السابع، وله كتاب الإيمان الأوسط.

إذا عُرف هذا، فقد اختلف أهل القبلة في حقيقة الإيمان شرعًا على أقوالٍ، أهمها:

القول الأول: قول أهل السنة والجماعة وجماهير السلف من الصحابة والتابعين، أن الإيمان: اعتقاد وقول وعمل؛ قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، قالوا: ومرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسقٌ بكبيرته، وفي الآخرة حكمه تحت مشيئة الله -عز وجل-، إن شاء عذَّبه بقدر ذنبه وإن شاء عفا عنه برحمته، وحكى الإجماع على ذلك غير واحد، كالإمام الشافعي في الأم، وسمى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمًّا غفيرًا من علماء الإسلام، قالوا بهذا القول في مجموع الفتاوى، في كتاب الإيمان من مجموع الفتاوى.

القول الثاني -في حد الإيمان وحقيقته شرعًا-: قول الخوارج، وهو أن الإيمان قول واعتقاد وعمل.

المقدم: القول الأول نستطيع أن نقول أنه قول سلف الأمة؟

هذا قول السلف، هذا الذي اتفق عليه أهل السنة.

المقدم: ونُقِل عن الصحابة؟

من السلف من الصحابة وغيرهم.

الثاني: قول الخوارج: الإيمان قول واعتقاد وعمل، يعني يشابه قول أهل السنة، لكنهم يختلفون عنهم في كون الإيمان كلٌّ لا يتبعَّض، فلا يزيد ولا ينقص، وأن الطاعات كلها إيمان، فحكموا على مرتكب الكبيرة بأنه ليس معه شيء من الإيمان، فهو كافر حلال الدم والمال. إذًا الفرق بين قول أهل السنة وقول الخوارج في إدخال الأعمال وأنها لا تتبعَّض وأنها جزء من الإيمان كتلة واحدة، لا يتبعَّض، وأنه لا يزيد ولا ينقص. الإيمان إما أن يوجد جملة أو يفقد، إما أن يوجد بجميع فروعه، بجميع واجباته واجتناب جميع ما منع فيه، وإلا فلا إيمان، وعلى هذا حكموا على مرتكب الكبيرة بأنه ليس معه شيء من الإيمان، لا يزول بعضه ويبقى بعضه عندهم..

المقدم: زال جزء، ما دام ارتكب كبيرة...

زال كله، وعلى هذا هو كافر حلال الدم والمال.

المقدم: هذا في الارتكاب ومثله في الترك عندهم يا شيخ؟

مثله نعم.

المقدم: ترك الواجب.

مثله، من ارتكب محرم كذلك، لأنها كبيرة، الارتكاب فعلاً أو تركًا، فعلاً للمحرمات أو تركًا للواجبات.

القول الثالث: قول المعتزلة: الإيمان قول واعتقاد وعمل، يعني يوافق القولين السابقين نظريًّا، لكن من حيث التطبيق يختلف. وافقوا الخوارج في زعمهم أنه كلٌّ لا يتجزأ ولا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص، وقالوا في مرتكب الكبيرة إنه بالمنزلة بين منزلتين، ليس بمؤمن ولا كافر، فليس مباح الدم، هذا حكمه في الدنيا، وأما حكمه في الآخرة، فاتفقوا مع الخوارج على أنه مخلد في النار. إذًا يتفقون مع أهل السنة في إدخال العمل، ويختلفون مع أهل السنة ويتفقون مع الخوارج في كون الإيمان كل لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص، يختلفون مع الخوارج في مرتكب الكبيرة في حكمه في الدنيا، ويتفقون معهم في الآخرة على أنه مخلَّد في النار.

المقدم: هؤلاء هم الذين يسمونهم أهل السنة بالوعيدية يا شيخ؟

نعم هم الوعيدية، الذين أعملوا نصوص الوعيد وأهملوا نصوص الوعد.

المقدم: نعم، الخوارج والمعتزلة.

نعم، يقابلهم المرجئة، وهو القول الرابع: الإيمان قول واعتقاد، وأما الأعمال، فغير داخلة في مسمى الإيمان، ومرتكب الكبيرة عندهم كامل الإيمان؛ لأنهم يخرجون العمل كما أشرنا عن مسمى الإيمان، فعلى هذا يوجد الإيمان كامل، إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل، لا فرق في الإيمان بين أفسق الناس وأزهد الناس وأتقاهم لله؛ لأن الإيمان شيء مستقل استقلالا تامًّا عن العمل.

القول الخامس: قول الجهمية، قالوا: الإيمان المعرفة فقط، وأما تصديق القلب وإقراره وقول اللسان وعمل الجوارح، فكل هذا غير داخل في مسمى الإيمان، هذا قول الجهم ومن وافقه. ويلزم على هذا القول أن إبليس وفرعون، ومن أشبههم في العناد مؤمن كامل الإيمان؛ لأنهم يعرفون الله، إبليس أقسم بعزة الله، وفرعون يعرف الله {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاْسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُم} [سورة النمل 14] نسأل الله العافية، وأن من سب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وقتل الأنبياء وهدم المساجد، لكنه يعرف الله، هذا مؤمن كامل الإيمان.

يقول الآجري في الشريعة: مَن قال هذا فقد أعظم على الله الفِرْيَة، وأتى بضد الحق وبما ينكره جميع العلماء. قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اْجْتَرَحُوا اْلسَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [سورة الجاثية 21] وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالفُجَّارِ} [سورة ص 28].

أقوال المرجئة في الإيمان والجهمية من غلاتهم بلغت -أو فرقهم- بلغت اثنتي عشرة فرقة، ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء السابع من (543) إلى (548)، لكن نذكر الأصل ونترك الفروع.

المقدم: الجزء السابع هو المخصص للإيمان يا شيخ؟

للإيمان نعم، وفيه الإيمان الكبير والأوسط.

القول السادس: قول الكَرَّامية: الإيمان قول باللسان فقط، فالمنافقون عندهم مؤمنون، هذا في الدنيا، أما في الآخرة، فمن لم يوافق قوله ما في قلبه من الاعتقاد الصحيح فهو مخلَّد في النار كالمنافق. المنافق مخلَّد في النار، في الدرك الأسفل من النار، لكنه في الدنيا مؤمن. الإيمان قول باللسان فقط، وعلى هذا عندهم المنافقون مؤمنون، يقولون هذا في الدنيا، أما في الآخر فمن لم يوافق قوله ما في قلبه من الاعتقاد صحيح فهو مخلَّد في النار كالمنافق، وهذا تناقض، لأن الله أثبت لأهل الإيمان الجنة، فكيف يُثبَت لهم الوصف المقتضي لدخول الجنة، ومع ذلك يحكم عليهم بدخول النار.

القول السابع: قول الكُلاَّبية: الإيمان هو الإقرار بالله -عز وجل- وبكتبه وبرسله إذا كان ذلك عن معرفة وتصديق بالقلب، فإن خلا الإقرار عن المعرفة بصحته لم يكن إيمانًا.

قال شيخ الإسلام: وقول ابن كَرَّام فيه مخالفة في الاسم دون الحكم، فإنه وإن سمَّى المنافقين مؤمنين يقول إنهم مخلَّدون في النار، فيخالف الجماعة في الاسم دون الحكم.

القول الثامن: قول الأشعرية، ولهم في الإيمان قولان. الإمام الأشعري أبو الحسن، إمام المذهب، له في الإيمان قولان، أحدهما: القول بأنه قول واعتقاد وعمل، وهذا ذكره أبو الحسن في المقالات ضمن مقالة أصحاب الحديث وأهل السنة، وقال: إنه بكل ما قالوه يقول؛ هذا قوله الأول. وقوله الثاني؛ وهو الذي نصره في كتابه الموجَز، أن الإيمان ليس إلا مجرَّد التصديق الذي في القلب والمعرفة، فهو يقرب من قول جهم.

قال شيخ الإسلام: وهو أشهر قولي أبي الحسن الأشعري، وعليه أصحابه كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وأمثالهما، ولذا عدَّهم أهل المقالات من المرجئة، أما مذهبهم في مرتكب الكبيرة فهو موافق لمذهب أهل السنة.

المقدم: لكن المقالات ليست آخر كتبه يا شيخ، وبالتالي يؤخذ بقوله فيها؟

لكن الذي اشتهر، دعنا من الإمام نفسه، لكن الكلام على المذهب، المذهب الأشعري الذي تبناه الأشاعرة هو القول الثاني والذي نصره في كتابه الموجَز، وهو أيضًا في الصفات مثلاً نصر قول أهل الحديث في آخر حياته، لكن أتباعه نصروا قوله الأوَّل.

القول التاسع: قول الماتريدية أن الإيمان هو التصديق، وأما قول اللسان فهو دليل عليه، وليس داخلاً فيه، وأما العمل فغير داخل في الإيمان وليس من مسماه.

يقول ابن حجر في فتح الباري: الإيمان لغة التصديق، وشرعًا تصديق الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما جاء به عن ربه، وهذا القَدر متفق عليه، ثم وقع الاختلاف، هل يشترط مع ذلك مزيد أمرٍ من جهة إبداء هذا التصديق باللسان عما في القلب إذ التصديق من أفعال القلوب، أو من جهة العمل، يعني هل يشترط -على القَدْر المتفق عليه مجرد التصديق- هل يشترط مع هذا التصديق نطق وعمل؟ يقول ابن حجر: هل يشترط مع ذلك مزيد أمرٍ من جهة إبداء هذا التصديق باللسان المعبِّر عما في القلب؟ إذِ التصديق من أفعال القلوب، هذا الأصل، هذا من وجهة نظره، أو من جهة العمل بما صدق به من ذلك، كفعل المأمورات وترك المنهيات؟ والإيمان فيما قيل مشتق من الأمن، وفيه نظر -يقوله ابن حجر- لتباين مدلولي الأمن والتصديق إلا إن لوحظ فيه معنًى مجازي، فيقال: إذا أمنه، فيقال: أمنه إذا صدَّقه أي أمنه التكذيب. انتهى كلام الحافظ.

أقول: أما النطق باللسان والتصديق به فأمر لا بد منه، بل هو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- علَّق حقْن الدم بالقول، فثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» فلا بد من النطق حينئذ. يعني شخص وقَرَ الإيمان في قلبه، لكنَّه لم ينطق، رفض أن ينطق مثلاً، أو عاجَلَته المنيِّة قبل أن ينطق، هذا حكمًا كافر، هذا لم يدخل في الإيمان بعد؛ لأن الغاية التي عُلِّق حقن الدم فيها النطق «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا» الذي لم يقل لا إله إلا الله يقاتَل، ولذا لا بد من النطق. ومن الغرائب -لئلا تكون المسألة نظرية، يعني كيف يقر الإيمان في قلب شخص ولا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله؟!- شخص يسأل، يقول: لي صديق، أو زميل، غير مسلم -وهو إفريقي، السائل- يقول: لي صديق، لي زميل غير مسلم، حدَّثتُه عن الإسلام فوقع الإيمان في قلبه وأراد أن يعلِن إسلامه، لكنَّه حقيقة ما وُفِّق، ما وُفِّق لمن يأخذ بيده. قال هذا المسلم: نذهب إلى الشيخ الفلاني لكي يلَقِّنْك وتُسْلِم على يديه. جاؤوا إلى هذا الشيخ فقال: الآن بقي على صلاة الظهر ربع ساعة، أنا أتأهَّب للصلاة، فإذا صلينا، يحصل المقصود -إن شاء الله تعالى-، ربع ساعة، يعني يصعب عليه أن يقول: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويعلمه الوضوء ويذهبون معًا إلى الصلاة؟! لكن الحرمان، «لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم» يعني لو مكَّنه من الدخول في الإسلام ونطق بالشهادة، وصلَّوا جميعًا، لكن هذه إرادة الله -سبحانه وتعالى-، فيقول: خرجنا من عند الشيخ، وهو يتأهب للصلاة، فكان فيه تبادل إطلاق نار في الشارع فقُتِل الرجل، فماذا نصنع به؟ قلت: الرجل كافر، ما أسلم، لأنه لم ينطق، لم ينطق بالشهادة، وأما في الآخرة فأمره إلى الله -سبحانه وتعالى-، والله لطيف بعباده، لكن هذا الشيخ الذي حُرِم هذا الفضل العظيم، وحَرَم هذا الرجل بأن يدفن، يغسل ويصلى عليه، يكفن ويصلى عليه ويدخل في مقابر المسلمين، ويكون له حكم المسلمين، يدعى له، يستغفر له، يُتصدَّق عنه، كل هذا لا يمكن ما دام ما نطق بالشهادة، فالله المستعان.

المقدم: الله المستعان. جزاكم الله خيرًا وأحسن إليكم ونفع بعلمكم.

إذًا يا مستمعيَّ الكرام، نتوقف عند هذا الحد ونعدكم -بإذن الله تعالى- أن نستكمل ما تبقى من الحديث حول ترجمة هذا الكتاب في حلقة الأسبوع القادم وأنتم على خير.

في ختام هذه الحلقة أتوجه بالشكر الجزيل -بعد شكر الله سبحانه وتعالى- إلى صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. أستقبل أسئلتكم واستفساراتكم على العنوان المعروف: المملكة العربية السعودية، وزارة الإعلام، إذاعة القرآن الكريم، صندوق بريد 60059، الرياض 11545، برنامج: شرح كتاب التجريد أو على الفاكس المعروف: 4425544.

شكرًا لكم مستمعيَّ الكرام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.