شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (046)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم.
المقدم: لا زال الحديث حول باب من قال إن الإيمان هو العمل، وفيه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل: أي العمل أفضل؟
أشرتم إلى شيء من معاني هذا الحديث، لعلنا نستكمل ما تبقى فيه -أحسن الله إليكم-.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد مضى الحديث عن أكثر مطالب الحديث، والآن نتمم ما بقي.
فهذا الحديث صريح في أن أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله -سبحانه وتعالى- الجهاد، وبعد الجهاد الحج المبرور، وفي حديث أبي ذر لم يُذكَر الحج وذُكِر العتق، وفي حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد، وفي حديث سابق ذَكَر السلامة من اليد واللسان، وكلها في الصحيح.
وللعلماء مسالك في الأجوبة عن هذه الاختلافات، سؤال واحد: أي العمل أفضل؟ ثم تأتي الأجوبة مختلفة، يقول النووي -رحمه الله تعالى-: قال العلماء: اختلاف الأجوبة في هذه الأحاديث لاختلاف أحوال الناس، فأعلَمَ كل قوم بما بهم الحاجة إليه دون ما لم تدع حاجتهم إليه، أو ذكر ما لم يعلم السائل وأهل المجلس، وترك ما علموه، ولهذا أَسقط ذكر الصلاة والزكاة والصيام في حديث الباب، وأَثبت فيه الجهاد والحج، ولا شك أن الصلاة والزكاة والصوم مقدَّمات على الحج والجهاد، مفاده أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يجيب السائلين بحسب اختلاف أحوالهم، وهذا لا شك أنه عين الحكمة وعين الصواب؛ لأن العالِم إذا سئل أو سأله شخص عن أفضل الأعمال إنما يَقصِد بالنسبة له، أفضل الأعمال بالنسبة له ولما يناسبه، فإذا رآه شابًّا ذكيًّا ألمعيًّا حافظًا فاهمًا وجهه إلى طلب العلم، إلى العلم، وهذا أفضل بالنسبة له؛ لأنه يتوقع منه أن ينفع الأمة بعلمه، إذا وجده ذا جِدَةٍ وثروةٍ وجهه إلى الإنفاق في سبيل الله، إذا وجده ذا قوة في بدنه وشجاعة وجهه إلى الجهاد، فمثل هذه الأعمال المتعدِّيَة أولى أن يوجه إليها مثل هؤلاء من الأعمال القاصرة، بينما لو جاءه شخص لم يتميز بشيء من هذه الأمور وجَّهه إلى مثل الصلاة والصيام، وما أشبه ذلك، هذا مفاد كلام النووي وهذا معناه، منهم من يقول: أن المراد (مِن) مقدَّرة، فيأتي الجواب أفضل الأعمال يعني مِن أفضل الأعمال كذا، كما يقال فلان أعقل الناس، والمراد من أعقلهم، فإن قال قائل: كيف قُدِّم الجهاد في هذا الحديث على الحج مع أن الحج أحد أركان الإسلام، والجهاد ليس بركن إنما هو فرض كفاية؟ فالجواب كما قال النووي -رحمه الله-: أن الجهاد وإن كان فرض كفاية فقد يتعيَّن كما في سائر فروض الكفايات، ونص أهل العلم على أن الجهاد يتعيَّن في صور إذا استنفره الإمام، وإذا دهمهم العدو وغير ذلك.
الجواب: أن الجهاد وإن كان فرض كفاية فإنه قد يتعيَّن كما في سائر فروض الكفايات وإذا لم يتعيَّن لا يقع إلا فرض كفاية، وأما الحج فالواجب منه حجة واحدة، وما زاد فهو نفل، فإن قابلْت واجب الحج بمتعيِّن الجهاد، إن قابلت واجب الحج الذي هو الركن من أركان الإسلام بالنسبة للمسلم بمتعيِّن الجهاد، يعني لو دهمه عَدُوّ دهم بلده عدو وعليه حجة الإسلام ماذا يقدم؟ نقول: حج واترك البلد؟! لا.
إن قابلت واجب الحج بمتعين الجهاد كان الجهاد أفضل لهذا الحديث؛ ولأنه شارك الحج في الفرضية، وزاد بكونه نفعًا متعدِّيًا إلى سائر الأمة؛ ولكونه ذبًّا عن بيضة الإسلام؛ ولكونه بذلاً للنفس وللمال وغير ذلك، وإن قابلت نفل الحج بغير متعيِّن الجهاد كان الجهاد أفضل لِمَا ذكرنا؛ لأن نفعه متعدٍّ؛ لأنه ذب عن الإسلام، وبذل للنفس والمال؛ ولأنه يقع فرض كفاية وهو أفضل من النفل بلا شك، بل قال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في كتابه الغياثي: فرض الكفاية عندي أفضل من فرض العين من حيث أنه يقع فعله مسقطًا للحرج عن الأمة بأَسْرها، وبتركه يعصي المتمكنون منه كلهم، ولا شك في عظيم وقْع ما هذه صفته، والله أعلم. هذا ما قاله إمام الحرمين في تفضيل فرض الكفاية على فرض العين، الفرض حينما يكون واجبًا على مجموعة من الناس هل يكون وجوبه بمثابة ما يجب على الشخص المراد بعينه؟ المقصود بعينه؟ يعني نفترض أن هناك حاجة لأب، هذا الأب عنده عشرة أولاد.
المقدم: واحد يكفي.
واحد يكفي منهم، هل نقول: إن هذا الوجوب بالنسبة لهؤلاء العشرة مثل وجوبه لو كان الولد واحدًا؟ أو هذا الولد يتعيَّن عليه ويتأكد في حقه مع وجوبه أكثر مما يتعين عن البقية؟ وهذا قريب أقرب منه أن يُنظَّر بالعام، أيهما أقوى في الدلالة العام أو الخاص؟ العام الذي يشمل عموم الناس.
المقدم: والخاص.
الخاص الذي يخص هذا الشخص بعينه، ولذا يقولون: إن دخول الخاص في النص العام قطعي لأنه منصوص عليه، لو طَلَبْتَ لشخص مساعدة وإعانة، فأعطيت من الزكاة لهذا الشخص ولغيره، هل يليق بك أن تترك هذا الشخص الذي من أجله دفعت هذه المساعدة.
المقدم: هو الأولى.
يعني هذا الشخص محتاج إلى ألف ريـال مثلاً، وأعطيت عشرة آلاف، هل من الأجدر والأولى أن تعطي هذا الشخص أو تتركه وتعطي غيره؟ لأن دخوله في هذه الإعانة قطعي، فكون الأمر يتعيَّن على الشخص بذاته وبعينه أقوى وأشد في الوجوب من كونه يتعين عليه مع غيره، وهذا ظاهر، الجماهير كلهم يجعلون فرض العين أولى من فرض الكفاية، ولا شك أن الفروض متفاوتة، يعني إذا جئنا إلى الصلاة المفروضة من الصلوات الخمس، أيهما أولى؟ أو صلاة الجنازة مثلاً، عندك وقت لا يستوعب إلا هذه أو هذه أيها أولى؟ نقول: هذا فرض كفاية وهذا فرض عين، نقدم فرض الكفاية هذا ظاهر، لكن لو كان هناك ما وجوبه أقل من وجوب الصلوات الخمس مثلاً، أقل من وجوب فرض الصلوات الخمس التي هي ركن من أركان الإسلام، لا شك أنه بحسب قوة هذا الوجوب وعدمه يقوى على مناهضة فرض الكفاية، وعلى كل حال هذا كلام لم يقلْه غيره، لا أعرف قائلاً به غيره.
المقدم: مثل -أحسن الله إليكم- القيام بشأن الاحتساب في الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قيامه على فئة يسقط وجوبه عن الفئة الأخرى بالنسبة لعموم الأمة، وبالتالي فهو في حقهم عظيم.
هو يبقى في حق الباقين سنة، يعني لا تلتغي المشروعية، لكن يبقى في حق الباقين سنة، لكن لو افترضنا أنه منكر واحد، وقام به شخص وأزاله، هل نقول: سنة في حق الباقين وقد انتهى؟ ليس بسنة. ففروض الكفايات لا شك أن أمرها عظيم، وأن الأمة تأثم بتركها، وعلى الأقل يأثم من يَعْلَم بتركها، وهذا أيضًا مما يرجح فرض العين؛ لأن فرض العين يأثم كل شخص بعينه، وفرض الكفاية لا يأثم إلا من عَلِم به، إذا لم يقم به من يكفي.
في إرشاد الساري إنما قُدِّم الجهاد على الحج للاحتياج إليه في أول الإسلام، لكن هل الحديث في أول الإسلام أو بعد فرض الحج؟
المقدم: لا شك بعد فرض الحج.
والحج إنما فُرِض سنة تسع على القول الصحيح.
والحديث خرَّجه الإمام البخاري في موضعين: الأول هنا في كتاب الإيمان في باب من قال: إن الإيمان هو العمل، قال الإمام -رحمه الله تعالى-: حدثنا أحمد بن يونس وموسى بن إسماعيل قالا: حدثنا إبراهيم بن سعد، قال: حدثنا ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل فذكره، وسبق ذكره مع مناسبته.
الموضع الثاني: في كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور، قال الإمام -رحمه الله تعالى-: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سئل النبي -عليه الصلاة والسلام- فذكره، والمناسبة ظاهرة، باب فضل الحج المبرور للنص على الحج المبرور.
ورواه مسلم أيضًا في كتاب الإيمان، وأخرجه أيضًا النسائي والترمذي مع اختلاف في ألفاظهم، وأخرج البخاري في كتاب العتق، بابٌ: أي الرقاب أفضل؟ حدثنا عبيد الله بن موسى عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي مُراوِح عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: سألت النبي -عليه الصلاة والسلام- أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله وجهاد في سبيله» الحديث بطوله.
المقدم: أحسن الله إليكم لعلنا أيضًا نستمع إلى بعض الأسئلة من الإخوة الحضور.
السائل: فضيلة الشيخ -أحسن الله إليك- ما يتعلق بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» ما أدري ما رأيكم سلمكم الله في التعبير النبوي بقوله: «المبرور» أليس هذا مشعرًا بأن المراد بالبر هنا ما يبلغ درجة الكمال لا الوجوب؟ بمعنى أنه هو الحج الموافق للسنة، فيكون في درجة أعلى من درجة الذي لم يخالطه إثم مثلاً، كما ذهب إليه بعض أهل العلم، فيكون بذلك ترْك بعض الناس لكثير من السنن في الحج منقصًا من هذا الأجر العظيم الذي وعَد به النبي -عليه الصلاة والسلام-؟
سبق الكلام في المراد بالحج المبرور، وما ذكره أهل العلم في معناه وأن أقوالهم متقاربة المعنى، وهي أنه الحج الذي وُفِّيَت أحكامه، من واجبات، وشروط، وسنن، وأركان، فوقع موافقًا لمن طُلِب من المكلَّف على الوجه الأكمل، هذا هو الحج المبرور وما نقص نقص بقدره، والحج المبرور هل يراد به الحج المُجزِئ المُسقِط للطلب؟ ليس المراد به ذلك، الحج المُجزِئ المُسقِط للطلب المشتمل على الأركان فقط قد يفعل صاحبه بعض المحظورات، وقد يترك بعض الواجبات فيكون حجه مجزئًا إذا جُبِر، ومُسقِطًا للطلب، لكنه ليس بمبرور من خلال كلام أهل العلم في معنى الحج المبرور.
المقدم: أحسن الله إليكم، لعلنا نعود إلى مجموعة من الأسئلة التي وصلت إلى البرنامج وخصوصًا من المستمع الزهراني الذي سبق لنا أن ذكرنا للأخ أننا سنحاول -بإذن الله- الإجابة على بعض أسئلته، والبعض الآخر ربما ورد في ثنايا الحديث أو شرْح بعض الأحاديث.
أخونا يسأل هنا يقول: أرجو التوفيق بين حديث: «إنما الأعمال بالنيات» وبين قول أبي موسى الأشعري بعدما سمع تلاوته النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما معنى قوله أنه قال: "لو أعلم أنك تستمع إِلَيَّ لحبَّرْته لك تحبيرًا" مع أن تحسين الصوت بالقرآن عبادة، فكيف يزيد في التحسين من النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ وذكر بعد ذلك مثالاً آخرًا، وقال: وكذلك حديث صاحب الحلْقة الذي جاء لحاجة، وقال له: «إنهم القوم الذي لا يشقى بهم جليسهم» وفي قوله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [سورة النساء 114] فأثبت لهم الخيرية ثم بعد ذلك قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [سورة النساء 114] يقول: أرجو التوفيق بين هذه -أحسن الله إليكم-؟
التوفيق بين حديث: «إنما الأعمال بالنيات» وقول أبي موسى الأشعري بعدما سمع تلاوته النبي -عليه الصلاة والسلام-: "لو كنت أعلم أنك تسمع أو لو علمت أنك تسمع لحبَّرْته لك تحبيرًا" هذا لا ينافي الإخلاص لذا لم يُنكِر عليه النبي -عليه الصلاة والسلام-، التحبير الزيادة في تحسين الصوت، وقد جاء في الحديث الصحيح: «زينوا القرآن بأصواتكم» فتحسين الصوت بالقرآن لا أثر له في الإخلاص الباعث على القراءة؛ ولذا نجد التأثر بالقرآن الذي يؤديه حسن الصوت غير التأثر بالقرآن الذي يؤديه من هو أقل منه صوتًا وأقل في جمال الصوت، ولا أثر في هذا على إخلاص السامع أو القارئ، نعم الأصل في التأثير هو كلام الله، فقوله -عليه الصلاة والسلام-: «زينوا القرآن بأصواتكم» ونحن نسمع الآيات من فلان فنتأثر، ونسمعها من فلان ولا نتأثر، وهذا مردُّه أمور، أولاً: امتثال الأمر: «زينوا» ولا شك أن لهذا وقع، والتأثر بالقرآن المؤدَّى بهذا الصوت لا بهذا الصوت الذي يُسمَع، التأثر بالقرآن المؤدَّى بهذا الصوت ولذا لو هذا القارئ قرأ أو لحَّن غير القرآن ما تأثرنا هذا التأثر، إنما تأثرنا بالقرآن المؤدَّى بهذا الصوت، ولذا استشكل بعضهم يقول: إذا كان التأثر بالقرآن نفسه لماذا لا نتأثر إذا كانت القراءة أقل في جودة الأداء من القارئ الآخر الذي تأثرنا به؟ نقول: هل التأثير للقرآن ذاته؟ الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: «زينوا القرآن» والأمر بتزيين القرآن يعني تحسين الصوت فيه «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن» فدل على أن الصوت الحسن له أثر في التأثير، وإن كان الأصل في التأثير هو للقرآن المؤدَّى بهذا الصوت، ولا أثر في ذلك على الإخلاص، قد يكون هناك أثر في التأثير تابع لهذا الصوت وهو أن هذه القراءة نبعت من قلب مُخْلِص، أيضًا قولهم في حديث صاحب الحلقة الذي جاء لحاجة: «وأنهم القوم الذي لا يشقى بهم جليسهم» هذا استحيا، والذي استحيا استحيا الله منه، والحياء خلُق شرعي، والحياء من الإيمان، والذي جلس صاحب الحاجة ليس له إلا حاجته ما الذي دعاه أن يجلس؟ الأصل هذه الحاجة، لكن من فضل الله -سبحانه وتعالى- وكرمه أن شَمِلَهم بعفوه ورضوانه، شَمِل هذا مع القوم بعفوه ورضوانه، وهذا يدلنا دلالة واضحة على أهمية مجالسة الأخيار، وإن كان الشخص أقل منهم، لكن فضل الله واسع، بخلاف مجالسة الأشرار، وإن كان المجالس خيِّرًا فقد يشمله ما يشملهم من عقوبة، فقد يجرُّه مجلسهم إلى ما لا يجوز له شرعًا السكوت عليه، أو قد يشارِك في بعض المحظورات، والله المستعان.
ولا شك أن المجالسة لها أثر كبير على المجالِس.
المقدم: فيما يتعلق بالآية -أحسن الله إليك-.
الآية قوله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [سورة النساء 114] ثم قال بعد ذلك: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [سورة النساء 114] {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} [سورة النساء 114] كثير من النجوى التي يَتناجَى بها الناس سواء كانت في السر الذي هو الأصل في النَّجْوَى، أو كانت في العلانية فيما يتحدث به الناس إلا فيما فيه فائدة شرعية من صدقة أو معروف أو إصلاح، يعني كلام معروف عُرِف من الشرع حُسْنه، أو إصلاح بين الناس تصلح بين اثنين، وهذه من أعظم الصدقات، لا خير في كثير من النجوى إلا ما كان مما يدخل تحت ما ورد الشرع به من الكلام المعروف، وهو الأمر بالصدقة، والإصلاح بين الناس {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [سورة النساء 114] هذه الأمور بذاتها عبادات، الصدقة عبادة، وأيضًا المعروف بذل المعروف، والإصلاح بين الناس كلها عبادات، فإذا أُدِّيَت ابتغاء مرضات الله رُتِّب عليها الأجر العظيم، لكن إن تجردت عن العبادات، فهي خير على كل حال، هي خير متعدٍّ {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ} [سورة النساء 114] لكن هل يترتب عليها الثواب؟ لا يترتب عليها الثواب والأجر العظيم إلا إذا فُعِلَت ابتغاء مرضاة الله، والله المستعان.
المقدم: أحسن الله إليكم أيضًا من أسئلة المستمع في قول الله تبارك وتعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [سورة الكهف 110] يقول: لماذا ذكر بعد العمل الصالح هنا: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [سورة الكهف 110] وهو الإخلاص مع أنه من شروط العمل الصالح الإخلاص؟
نعم من شروط العمل الصالح أن يكون الباعث عليه لله -سبحانه وتعالى- لوجه الله دون مراءاة أحد أو مراعاته، لكن قد يطرأ على هذا العمل الصالح في أثنائه ما يشوبه من رياء وشِبْهِه، وحينئذٍ يأتي قوله تعالى: {وَلا يُشْرِكْ} [سورة الكهف 110] هو عمل صالح في أصله، وطرأ عليه ما يُخِل به من الرياء، فإذا جاهد نفسه وطرده ولم يتمكن منه صار بالدرجة الثانية التي لم يخلط عمله بشرك مطلقًا، لا يشرك بالله.
المقدم: أيضًا -أحسن الله إليك- يقول: ذكرتم أن النية قد تكون عبادة مستقلِّة، وفي بعض الأحاديث مثل حديث: «إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا» وكذلك حديث: «إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له ما كان يعمل» وهناك أحاديث ظاهرها معارضة ذلك مثل حديث كون النساء ناقصات عقل ودين؛ لأنهن يمكثن الأيام لا يصلِّين، ولم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يُكتَب لهنَّ أجر ما كنَّ يعملْنه، أو يقمْنَ به بسبب هذا، وحديث: «ذهب أهل الدُّثُور بالأجور» وفي آخره أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» ولم يقل للبقية أنه يُكتَب لهم هذا لمجرد النية.
بالنسبة للحائض والنفساء وأنها ممنوعة شرعًا من العمل، من أهل العلم من يرى أنه يُكتَب لها ما كانت تعمله قبل وجود المانع؛ لأن المنع شرعي، ومنهم من يقول: لا، لا يُكتَب لها ما كانت تعمله، ولذا سماه النبي -عليه الصلاة والسلام- نقص، لو كان يُكتَب لها ما كانت تعمله قبل وجود المانع لما سُمِّيَ نقص، النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين» وبيَّن المراد بنقص الدين أنها تمكث الأيام لا تصوم ولا تصلِّي، فلا يُكتَب لها من هذه الحيثية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا يُسأل عمَّا يَفْعَل.
المقدم: أيضًا كأن للمستمع أسئلة كثيرة حول التفريق –الحقيقة- بين ذات النية وبين «تلك عاجل بشرى المؤمن» إذا حلَّ للمؤمن ثناء من الناس، هو يريد ضابط وفرق لهذه المسألة -أحسن الله إليك-.
نعم، الثناء المؤثِّر هو ما يوجَد قبل العمل وفي إثنائه بحيث يكون له أثر في تجويد العمل وتحسينه، أما إذا أُثني على المرء بعد فراغه من العمل الخالص لوجه الله -سبحانه وتعالى- فإنها عاجل البشرى، عاجل البشرى إذا انتهى من العمل الخالص لوجه الله -سبحانه وتعالى-، أُثنيَ عليه بسببه، ونشر الله -سبحانه وتعالى- هذه الفضيلة التي جَدَّ واجتهد في إخفائها عن الناس، ومُدِح بسببها، فإنه لا أثر لها في نيَّته، إنما الأثر في النية أن يكون الباعث له على العمل إما مراءاة الناس، أو يطرأ له ذلك أثناء العمل، هذا الذي يعارِض النية والإخلاص.
المقدم: أيضًا الحقيقة أسئلة الأخ كثيرة حول هذا الموضوع، وبالذات موضوع النية، لكن سبق الإشارة إلى جزء كبير منها أثناء الدرس أو حتى أثناء المداخلات التي تمت، لكن هناك بعض الجزئيات المهمة.
أشرتم -أحسن الله إليكم- إلى ضعف حديث: «نية المؤمن أبلغ من عمله» يقول: إنكم أشرتم إلى ضعفه في أثناء الدرس، لكن هل يدل بالمفهوم بأنه كما كان في عمل الخير نية المؤمن أبلغ من عمله فكذلك في الشر، فمثلاً يكون الكفر في الاعتقاد أعظم من الكفر بعمل الجوارح؟
لا شك أن كفر الاعتقاد أبلغ من كفر الجوارح؛ لأن كفر الاعتقاد لا يدخله الإكراه، بخلاف كفر الجوارح الذي يدخله الإكراه، فهو من هذه الحيثية أبلغ، وإن كان كفر الاعتقاد الذي لا داعي له وكفر الجوارح الذي لا مُكْرِه ولا مُلْجِئ إليه مُحْبِط للعمل، مُوْجِب للخلود في النار، نسأل الله العافية والسلامة.
المقدم: أحسن الله إليكم وجزاكم الله عنا خيرًا.
إذًا يا مستمعيَّ الكرام، كانت هذه الحلقة التي تحدَّثْنا في جزء منها عن أسئلة الإخوة المستمعين وسوف نخصص -بإذن الله- حلقات لما يَرِد من الإخوة والأخوات حول مواضيع هذا الكتاب، مع أنني أشرت في غير ما حلقة إلى أن الأسئلة التي تَرِد ربما يتعرض لها الشيخ أثناء شرحه لجملة من الأحاديث أو يتحدَّث عنها الذين يحضرون معنا هذا الدرس.
شكرًا لكم مستمعيَّ الكرام، شكرًا لصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. لنا بكم لقاء -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة وأنتم على خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.