تعليق على تفسير سورة الأعراف من أضواء البيان (01)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي –رحمه الله تعالى-: "سُورَةُ الْأَعْرَافِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف:2] الْآيَةَ.

قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: {حَرَجٌ} [الأعراف:2] أَيْ: شَكٌّ، أَيْ لَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ شَكٌّ فِي كَوْنِ هَذَا الْقُرْآنِ حَقًّا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْآيَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة:147]، وَقَوْلِهِ: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:60]، وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس:94].

وَالْمُمْتَرِي: هُوَ الشَّاكُّ؛ لِأَنَّهُ مُفْتَعِلٌ مِنَ الْمِرْيَةِ، وَهِيَ الشَّكُّ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْخِطَابُ لِلنَّبِيّ-ِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وَالْمُرَادُ نَهْيُ غَيْرِهِ عَنِ الشَّكِّ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِ الرَّاجِزِ: إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ.

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24]، وَقَوْلِهِ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، وَقَوْلِهِ: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} [البقرة:120] الْآيَةَ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُخَاطِبُهُ؛ لِيُوَجِّهَ الْخِطَابَ إِلَى غَيْرِهِ فِي ضِمْنِ خِطَابِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَرَجِ فِي الْآيَةِ الضِّيقُ، أَيْ: لَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ ضِيقٌ عَنْ تَبْلِيغِ مَا أُمِرْتَ بِهِ لِشِدَّةِ تَكْذِيبِهِمْ لَكَ؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَ عَدَاوَةِ الْكُفَّارِ، وَالتَّعَرُّضَ لِبَطْشِهِمْ مِمَّا يَضِيقُ بِهِ الصَّدْرُ، وَكَذَلِكَ تَكْذِيبُهُمْ لَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ وُضُوحِ صِدْقِهِ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ مِمَّا يَضِيقُ بِهِ الصَّدْرُ، وَقَدْ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالثَّلْغُ: الشَّدْخُ، وَقِيلَ: ضَرْبُ الرَّطْبِ بِالْيَابِسِ حَتَّى يَنْشَدِخَ، وَهَذَا الْبَطْشُ مِمَّا يَضِيقُ بِهِ الصَّدْرُ.

وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ الْأَخِيرِ فِي الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود:12]، وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر:97]، وَقَوْلُهُ: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، وَقَوْلُهُ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3].

وَيُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَخِيرَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْحَرَجَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الضِّيقُ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [النور:61]، وَقَوْلُهُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وَقَوْلُهُ: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125]، أَيْ: شَدِيدَ الضِّيقِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، أَوْ جَمِيلٍ:

فَخَرَجْتُ خَوْفَ يَمِينِهَا فَتَبَسَّمَتْ

 

فَعَلِمْتُ أَنَّ يَمِينَهَا لَمْ تُحْرَجِ

وَقَوْلُ الْعَرْجِيِّ:

عُوجِي عَلَيْنَا رَبَّةَ الْهَوْدَجِ

 

إِنَّكِ إِلَّا تَفْعَلِي تَحْرُجِي

وَالْمُرَادُ بِالْإِحْرَاجِ فِي الْبَيْتَيْنِ: الْإِدْخَالُ فِي الْحَرَجِ، بِمَعْنَى الضِّيقِ كَمَا ذَكَرْنَا".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

القول الأول الذي نسبه لمجاهد، وقتادة، والسُّدي وهو: أن الحرج: الشك، لا شك أن وجود الشك في قلب الإنسان يُوقعه في الحرج، فمآله حينئذٍ إلى الحرج، وكذلك كل شيء -الذي هو الضيق ضيق الصدر- وكذلك كل شيءٍ يتردد فيه الإنسان ولا يصل فيه إلى نتيجة يجد صدره ضيقًا حرجًا بسبب ذلك، ولكن القول الظاهر في هذه المسألة هو قول الجمهور وهو: أن الحرج هنا هو الضيق {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف:2] ألا يكون في صدرك ضيق، ولا يكن في صدرك ضيق من عدم استجابة قومك لك {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الشعراء:3] كل هذا؛ لأن النتائج بيد الله –جلَّ وعلا- وأنت ما عليك إلا البلاغ، استجابوا بها ونِعمت، وإن لم يستجيبوا فقد أديت ما عليك.

ولا شك أنه مع هذا النفي للضيق والحسرة التي تنتاب النبي أو الداعي أو أتباع الأنبياء من هذا الضيق الذي يجدونه من عدم استجابة من يدعونهم إلى الله لا شك أنه بسبب الحُرقة والحرص على الدين واتباع الدين، والحرص على هداية الناس إلى الصراط المستقيم، لكن لا يصل ذلك إلى أن يبخع نفسه وأن يقتل نفسه بسبب ذلك، وإلا فلا شك أن الإنسان إذا استُجيب له إذا أدى ما عليه ودعا وبذل جهده واستطاعته، ثم استُجيب له لا شك أن أجره عظيم، ومن دل على هدى فله مثل أجر من تبعه، فالإنسان يُريد مثل هذا الوعد، بخلاف ما إذا دعاهم ولم يستجيبوا أجر الدعوة ثابت والحمد لله على ذلك، والإنسان مأمور ببذل الأسباب بقدر استطاعته، وما عدا ذلك من زوال المنكر أو استجابة المدعو ليست إليه {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] يقوله الله –جلَّ وعلا- لنبيه -عليه الصلاة والسلام-.

فوجود نوع من الحرج؛ لفوات المصلحة العظمى، أن استجابة المدعو ليكون لي مثل أجره، هذا لا شك أن فوات مثل هذه المصلحة يكون فيها نوع، لكن لا يصل إلى حد ما ذكر الله –جلَّ وعلا- عن نبيه، وأنه يُريد أن يبخع نفسه ويقتل نفسه إن لم يستجيبوا.

وجمهور العلماء على أن المراد بالحرج: الضيق، وقوله في آخر الأمر: "وَالْمُرَادُ بِالْإِحْرَاجِ فِي الْبَيْتَيْنِ: الْإِدْخَالُ فِي الْحَرَجِ، بِمَعْنَى الضِّيقِ كَمَا ذَكَرْنَا" فيُقال: أحرجه، أحرج فلانٌ فلانًا إذا أدخله في الحرج، مثل ما يُقال: أظلم، يعني دخل الظلام، وأتهم أي: دخل في تهامة، وأنجد إذا دخل في نجد، وهكذا.

طالب: ..........

ماذا فيه؟

طالب: ..........

لا شك أن الشك والتردد والتذبذب في حال الإنسان يُوقعه في الحرج بخلاف ما إذا جزم بالشيء وتيقنه؛ ولذلك تجدون الراحة والطمأنينة في قلب المؤمن الراضي بربه وبأقداره، تجدون الراحة عند العالم الراسخ بخلاف المتردد المتذبذب الذي كل يوم له قول، تجد هذا مضطربًا، وهذا الاضطراب يُوقعه في حرج، فالمسألة ما هي متباعدة، يمكن رجوع هذا إلى هذا.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:2] لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْمَفْعُولَ بِهِ لِقَوْلِهِ: {لِتُنْذِرَ} [الأعراف:2]َ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، وَقَوْلِهِ: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس:6]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا أَنَّهُ بَيَّنَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِلْإِنْذَارِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:2] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل:14]، وَقَوْلِهِ: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} [النبأ:40] الْآيَةَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَدْ جَمَعَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَيْنَ الْإِنْذَارِ وَالذِّكْرَى فِي قَوْلِهِ: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:2] فَالْإِنْذَارُ لِلْكُفَّارِ، وَالذِّكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، وَقَوْلُهُ: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، وَقَوْلُهُ: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45]".

هو مأمورٌ بتبليغ ما أوحي إليه لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، فيُبلِّغ ما أوحي إليه فالمؤمن يزداد إيمانًا، والكافر إن كانت الهداية مكتوبة له يهتدي، وإلا تقوم عليه الحجة، فالرسول –عليه الصلاة والسلام- بشير، وهو أيضًا في الوقت نفسه نذير.

"وَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا -مِنْ أَنَّ الْإِنْذَارَ لِلْكُفَّارِ، وَالذِّكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ- أَنَّهُ قَصَرَ الْإِنْذَارَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ".

لأنهم هم المنتفعون بالدرجة الأولى، وهم الذين يغلب على الظن أنهم يستفيدون من هذا الإنذار، وإلا فكم أسلم من كافر واستفاد من الدعوة والإنذار؟ خلائق لا يُحصون، لكن أصل الانتفاع للمسلم للمؤمن الذي يمتثل ما يسمع.

"أَنَّهُ قَصَرَ الْإِنْذَارَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11]؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِالْإِنْذَارِ مَقْصُورًا عَلَيْهِمْ، صَارَ الْإِنْذَارُ كَأَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ فَهُوَ كَالْعَدَمِ.

وَمِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: التَّعْبِيرُ عَنْ قَلِيلِ النَّفْعِ بِأَنَّهُ لَا شَيْءَ.

وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ الْمَقَامِ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ: أَنَّ الْإِنْذَارَ يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ، كَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر:1-2] وَقَوْلِهِ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1].

وَهَذَا الْإِنْذَارُ الْعَامُّ هُوَ الَّذِي قُصِرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قَصْرًا إِضَافِيًّا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس:11] الْآيَةَ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ".

فالقصر في هذه الآية إضافي، وليس بقصرٍ حقيقي، بدليل أنك تُنذر المؤمن والكافر {مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس:11] هل هو من اتبع في الماضي أو من كتب الله له الاتباع في المستقبل؟ {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ} [يس:11] إذا كان المراد من اتبع في الماضي فهم المؤمنون مثل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].

وإن كان {مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس:11] من كتب الله له الاتباع والهداية، فيكون حينئذٍ القصر حقيقيًّا؛ لأنه يشمل، لكن يبقى أن التقييد بالوصف وهو الاتباع المذكور في الآية تقل فائدته إذا قلنا: إن المراد {مَنِ اتَّبَعَ} [يس:11] من كُتِب له الاتباع، والله –جلَّ وعلا- يُريد أن يُبين أن المسلم المؤمن هو المنتفع دون من سواه ممن مازال متلبسًا بالوصف الذي هو عدم الاستجابة، ثم إذا كتب الله له الهداية واستجاب صار من الصنف الآخر.

"وَالثَّانِي: إِنْذَارٌ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْوَاقِعُونَ فِيمَا أُنْذِرُوا بِهِ مِنَ النَّكَالِ وَالْعَذَابِ، وَهُوَ الَّذِي يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ مُبَيَّنًا أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، كَقَوْلِهِ: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، وَقَوْلِهِ هُنَا: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:2] انتهى.

وَالْإِنْذَارُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: الْإِعْلَامُ الْمُقْتَرِنُ بِتَهْدِيدٍ، فَكُلُّ إِنْذَارٍ إِعْلَامٌ، وَلَيْسَ كُلُّ إِعْلَامٍ إِنْذَارًا".  

طالب: ..........

انتهى ممن نُقِل منه، ممن نُقِل عنه، ما فيه أحد؟

طالب: ..........

ما نسبه لأحد.

طالب: ..........

ما نسبه لأحد؛ ليقول: انتهى.

طالب: ..........

انتهى التقسيم المراد؟

طالب: ..........

ممكن، مادام ما وجدنا إلا هذا فهو متعين.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف:4] خَوَّفَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْكُفَّارَ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَنَّهُ أَهْلَكَ كَثِيرًا مِنَ الْقُرَى بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَهْلَكَهَا بَيَاتًا، أَيْ: لَيْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَهْلَكَهَا وَهُمْ قَائِلُونَ، أَيْ: فِي حَالِ قَيْلُولَتِهِمْ، وَالْقَيْلُولَةُ: الِاسْتِرَاحَةُ في وَسَطَ النَّهَارِ، يَعْنِي: فَاحْذَرُوا تَكْذِيبَ رَسُولِي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لِئَلَّا أُنْزِلَ بِكُمْ مِثْلَ مَا أَنْزَلْتُ بِهِمْ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:10]، وَقَوْلِهِ: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45] ، وَقَوْلِهِ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58]، وَقَوْلِهِ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [محمد:10].

 ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ يُرِيدُ تَهْدِيدَهُمْ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَدْ هَدَّدَ تَعَالَى أَهْلَ الْقُرَى بِأَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُهُ لَيْلًا فِي حَالَةِ النَّوْمِ، أَوْ ضُحًى فِي حَالَةِ اللَّعِبِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:97-98]. وَهَدَّدَ أَمْثَالَهُمْ مِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:45-47].

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:5].

بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ تِلْكَ الْقُرَى الْكَثِيرَةَ الَّتِي أَهْلَكَهَا فِي حَالِ الْبَيَاتِ، أَوْ فِي حَالِ الْقَيْلُولَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنَ الدَّعْوَى إِلَّا اعْتِرَافُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ.

وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:11-15].

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا هَلَكَ قَوْمٌ حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ» حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ الزَّرَّادِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا هَلَكَ قَوْمٌ حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ»، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:5]".

الله –جلَّ وعلا- يغار، يغار الله –جلَّ وعلا- من عباده إذا فعلوا ما يُغضبه، يزني عبده، تزني أمته، ويتتابع كثيرٌ من الناس على ذلك، ويقتنع الناس أنهم مستحقون للعذاب بظهور أفعالهم القبيحة والشنيعة؛ لأنه يُعذِّب إذا انتشرت وعمَّت وقَل إنكارها، وإذا كانت خفية فالعقاب إنما يخص صاحبها، وإذا انتشرت واشتهرت، وعرف الناس أنهم قد استحقوا العقاب «مَا هَلَكَ قَوْمٌ حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ» لا يكون لهم أدنى عُذر، وبعضهم يشهد على بعض في أمورٍ ظاهرة وواضحة حينئذٍ لا يكون لهم عذر، ما يقول أحد: والله أنا ما دريت أن المعاصي منتشرة، قد يقولها قائل من أهل العبادة والزهد والخفاء، لكن هؤلاء إذا عمَّتهم العقوبة مع العصاة يُبعثون كما جاء في الحديث «عَلَى نِيَّاتِهِمْ»، مثل القوم الذين يخرجون للغزو بعضهم مُكره فيُصيبه ما يُصيب القوم الذين يُخسف بهم، ثم يُبعثون على نياتهم كما جاء في الحديث.

لكن الإشكال أن يرى الناس ويشتهر ويستفيض عندهم أن المعاصي موجودة في المكان الفلاني في الحي الفلاني في البلدة الفلانية، ومشهور ومُنتشر، والناس لا يُحركون ساكنًا، ولا تتمعر قلوبهم بسبب ذلك؛ حينئذٍ تحق عليهم العقوبة، والله –جلَّ وعلا- عنده سُنن إلهية لا تتغير ولا تتبدل، فالأمم السابقة بمَ أهلِكوا؟

أُهلِكت الأمم السابقة بمخالفتهم لأوامر الله –جلَّ وعلا-، وليس بين الله وبين أحدٍ نسب أو سبب يستثنيهم إلا ما جاء عن قوم يونس، والكلام في الآية معروفٌ عند أهل العلم في هذا الاستثناء، لكن غيرهم إذا حق العذاب فلا بُد أن يقع {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، ولا انحراف عن مسارها ما تتحول ولا تتبدل.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6].

لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الشَّيْءَ الْمَسْئُولَ عَنْهُ الْمُرْسَلُونَ، وَلَا الشَّيْءَ الْمَسْئُولَ عَنْهُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ.

ثُمَّ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ يَسْأَلُ الْمُرْسَلِينَ عَمَّا أَجَابَتْهُمْ بِهِ أُمَمُهُمْ، وَيَسْأَلُ الْأُمَمَ عَمَّا أَجَابُوا بِهِ رُسُلَهُمْ.

قَالَ فِي الْأَوَّلِ: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109].

وَقَالَ فِي الثَّانِي: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65].

ثُمَّ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ يَسْأَلُ جَمِيعَ الْخَلْقِ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92-93].

وَهُنَا إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ هُنَا: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، وَقَالَ أَيْضًا: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92-93]، وَقَالَ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]".

هنا هذه الآيات أثبتت السؤال، وسيأتي في آياتٍ أخرى نفي السؤال، ولا شك أن هذا محل إشكال، إثبات الشيء ونفيه محل إشكال، ولكن الإثبات محمولٌ على حال، والنفي محمولٌ على حال كما سيأتي.

"وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إِثْبَاتِ سُؤَالِ الْجَمِيعِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَعَ أَنَّهُ قَالَ: {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]، وَقَالَ: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن:39].

وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِنَا (دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) وَسَنَزِيدُهُ إِيضَاحًا هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ السُّؤَالَ الْمَنْفِيَّ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَات، أَخَصُّ مِنَ السُّؤَالِ الْمُثْبَتِ فِيهَا؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ الْمَنْفِيَّ فِيهَا مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ سُؤَالًا عَنْ ذُنُوبٍ خَاصَّةٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78] فَخَصَّهُ بِكَوْنِهِ عَنِ الذُّنُوبِ، وَقَالَ: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن:39] فَخَصَّهُ بِذَلِكَ أَيْضًا، فَيَتَّضِحُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ سُؤَالَ الرُّسُلِ وَالْمَوْءُودَةِ مَثَلًا لَيْسَ عَنْ ذَنْبٍ فَعَلُوهُ فَلَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ خُصُوصُ السُّؤَالِ عَنْ الذَّنْب، وَيَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ سُؤَالِهِ لِعِيسَى الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] الْآيَةَ، {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119] الْآيَةَ.

وَالسُّؤَالُ عَنِ الذُّنُوبِ الْمَنْفِيُّ فِي الْآيَاتِ: الْمُرَادُ بِهِ سُؤَالُ الِاسْتِخْبَارِ وَالِاسْتِعْلَامِ".

الله –جلَّ وعلا- عالم بما فعلوا فلا يحتاج أن يسألهم عمَّا فعلوا، ولكنه سؤال توبيخ وتقريع وتقرير لهم فلا تنافي.

"لِأَنَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُنَافِي نَفْيُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ السُّؤَالِ ثُبُوتَ نَوْعٍ آخَرَ مِنْهُ هُوَ سُؤَالُ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا أَنَّ سُؤَالَ اللَّهِ لِلْكُفَّارِ فِي الْقُرْآنِ كُلُّهُ تَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ كَقَوْلِهِ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:24-25]، وَقَوْلِهِ: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَبَاقِي أَوْجُهِ الْجَمْعِ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِنَا الْمَذْكُورِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى".

الكتاب موجود (دفع إيهام الاضطراب)، وهذا الكتاب للشيخ نفسه.

اقرأه يا شيخ.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6] الآية هذه الآية الكريمة تدل على أن الله يسأل جميع الناس يوم القيامة ونظيرها قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92-93]، وقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]، وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65]، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:39]، وكقوله: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78].

والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:

الأول: وهو أوجهها لدلالة القرآن عليه هو أن السؤال قسمان:

سؤال توبيخ وتقريع، وأداته غالبًا لِمَ.

وسؤال استخبارٍ واستعلام، وأداته غالبًا هل.

فالمثبت هو سؤال التوبيخ والتقريع، والمنفي هو سؤال الاستخبار والاستعلام، وجه دلالة القرآن على هذا أن سؤاله لهم المنصوص في القرآن كله توبيخٌ وتقريع كقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:24-25] وَقَوْلِهِ: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} [الطور:15]، وكقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130]، وكقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8] إلى غير ذلك من الآيات، وسؤال الله للرسل {مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109] لتوبيخ الذين كذبوهم كسؤال الموءودة {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:9] لتوبيخ قاتلها.

الوجه الثاني: أن في القيامة مواقف متعددة، ففي بعضها يُسألون، وفي بعضها لا يُسألون".

كما جاء في جواب ابن عباس لما سُئل عن إثبات السؤال ونفيه، قال: هي مواقف.

"الوجه الثالث: هو ما ذكره الحَليمي من أن إثبات السؤال محمولٌ على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل، وعدم السؤال محمولٌ على ما يستلزمه الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه، ويدل لهذا قوله تعالى فيقول: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] والعلم عند الله تعالى".

السؤال عن أمرٍ إجمالي والنفي عن الأمور التفصيلية، عن السؤال عن الأمور التفصيلية.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7].

بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَقُصُّ عَلَى عِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَمْ يَكُنْ غَائِبًا عَمَّا فَعَلُوهُ أَيَّامَ فِعْلِهِمْ لَهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، بَلْ هُوَ الرَّقِيبُ الشَّهِيدُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، الْمُحِيطُ عِلْمُهُ بِكُلِّ مَا فَعَلُوهُ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَجَلِيلٍ وَحَقِيرٍ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]، وَقَوْلِهِ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، وَقَوْلِهِ: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61]".

إذا كان علم الله –جلَّ وعلا- محيطٌ بما كان وما لم يكن، وما لم يكن بحيث إذا كان كيف يكون، فالله –جلَّ وعلا- أخبر عن أهل النار أنهم يدخلون النار ويذوقون عذابها، وأخبر عنهم أنهم لو رُدوا لعادوا لما نُهوا عنه؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابعه يُقلِّبها كيف يشاء، ويعلم ذلك كله ما كان وما لم يكن لو كان كيف يكون، يعني لو رُدوا لعادوا كيف تكون عودتهم على طريقتهم السابقة أو على طريقةٍ أخرى؟ فعلمه محيطٌ بكل شيء.

لكن يبقى مسألة الخلاف بين المتكلمين هل المعدوم شيء أو ليس بشيء؟ وهل يدخل تحت الإحاطة أو لا يدخل؟ مسائل تفصيلية، لكن الآية في قوله –جلَّ وعلا-: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام:28] يدل على أنه يعلم أنهم لو استُجيب لهم وأُخرِجوا إلى دار الدنيا أنهم سيفعلون ما نهوا عنه، والله المستعان.

"تَنْبِيهٌ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الرَّدُّ الصَّرِيحُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ النَّافِينَ صِفَاتِ الْمَعَانِي، الْقَائِلِينَ: إِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِذَاتِهِ، لَا بِصِفَةٍ قَامَتْ بِذَاتِهِ، هِيَ الْعِلْمُ، وَهَكَذَا فِي قَوْلِهِمْ: قَادِرٌ مُرِيدٌ، حَيٌّ سَمِيعٌ، بَصِيرٌ مُتَكَلِّمٌ، فَإِنَّهُ هُنَا أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ صِفَةَ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} [الأعراف:7]، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166] الْآيَةَ، وَهِيَ أَدِلَّةٌ قُرْآنِيَّةٌ صَرِيحَةٌ فِي بُطْلَانِ مَذْهَبِهِمُ الَّذِي لَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي بُطْلَانِهِ وَتَنَاقُضِهِ".

نفي العلم عند أهل العلم عند أهل السُّنَّة والجماعة سلف الأمة وأئمتها كُفر، الذي ينفي العلم عن الله –جلَّ وعلا- والتوقف في تكفير أمثال هؤلاء أنهم أنكروا بتأويل ما أنكروا مُعاندة ومُحادة ومُضادة، يعني مآل قولهم إلى الإنكار، وإلا لو أنكروه كما قال الشافعي وغيره: ناظروهم بالعلم، ناظروا القدرية بالعلم، هم والمعتزلة ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خُصِموا، وإن أنكروه كفروا.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف:8] بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ وَزْنَهُ لِلْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَقٌّ أَيْ: لَا جَوْرَ فِيهِ، وَلَا ظُلْمَ، فَلَا يُزَادُ فِي سَيِّئَاتِ مُسِيءٍ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِ مُحْسِنٍ".

طالب: ..........

أين؟

طالب: ..........

التوقف؟

هو في أول الأمر ونشوء البدعة، والقول بخلق القرآن أطلق كثيرٌ من السلف، بل منهم خمسمائة عالم كفرهم، يقول:

ولقد تقلَّدَ كفرَهُمْ خمسون في

 

عشرٍ من العلماءِ في البلدانِ

خمسمائة عالم، لكن لما تتابع الناس على هذه البدعة، ولاكتها أنفسهم، ودرسوها، ودرسوا أدلتها، وتلوثت فِطرهم بهذه الشُّبه، واقتنع بها كثيرٌ ممن بعدهم، هل يستطيع أن يقول شخص: إن الزمخشري كافر؟

لا، هو ما يهمه نتيجته، أنا ما أقول المسألة، المسألة على هؤلاء المعتزلة هم أنكروا العلم، لكن بطريقةٍ غير صريحة، فالمؤدى واحد هو مذهب هؤلاء القوم، هذا وهذا كل مذهبهم، يعني الذي يبحث في خلق القرآن يعزب عليه أن مسألة العلم من قولهم؟

طالب: ..........

ما ينكرونه مصارحة هذا مؤداه، مؤداه إنكار العلم، ولو أنكروه صراحةً وناقضوا القرآن حتى هم يُكفِّرون أنفسهم، ما أحد يُدخلهم في الإسلام أصلًا.

"وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:40] الْآيَةَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:8-9].

بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُمْ أَفْلَحُوا".

يعني بزيادة الحسنات على السيئات، برجحان كِفة الحسنات على كِفة السيئات، وفضل الله واسع، ولا ترجح كفة السيئات مع المضاعفة للحسنات عشر أمثالها إلى أقل، وهذا أقل تقدير إلى سبعمائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة -وفي المسند: إلى ألفي ألف ضعف- مع السيئات التي هي مجرد وحدان سيئة واحدة لا تُضاعف قد تُعظَّم؛ لِعظم المكان أو الزمان، لكن المضاعفات ما فيه مضاعفة، والسيئة إذا تاب صاحبها أُبدِلت حسنة؛ ولذا يقول كثيرٌ من السلف: قد خاب وخسر من فاقت آحاده على عشراته، يعني في أمور الدنيا الآن إذا كان صاحب أموال طائلة وأنفق منها بقدر وأشياء يسيرة بقدر الحاجة في الغالب أنها تبقى بخلاف من يُبذِّر، وهذا الخاسر من يُبذِّر ويزيد في الإنفاق على وجوه الشر لا في وجوه الخير؛ ولذا قيل للشاعر: سَلم الخاسر، سَلمٌ الخاسر، قالوا: إنه ورث مصحفًا من أبيه فباعه واشترى به طنبورًا، يُسمونه سَلم الخاسر. 

"بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُمْ أَفْلَحُوا، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُمْ خَسِرُوا بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، وَلَمْ يُفَصِّلِ الْفَلَاحَ وَالْخُسْرَانَ هُنَا.

وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَلَاحِ هُنَا كَوْنُهُ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخُسْرَانِ هُنَا كَوْنُهُ فِي الْهَاوِيَةِ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:6-11].

وَبَيَّنَ أَيْضًا خُسْرَانَ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ، بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:103-104] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} [الأعراف:10] لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الْمَعَايِشِ الَّتِي جَعَلَ لَنَا فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:24-32]".

معايش جمعٌ لمعيشة؛ ولذلك جاءت بالياء ليست معائش، وإنما هي معايش جمع معيشة، وأجلب أهل العلم في الرد على ابن الأثير في كتابه (المثل السائر) قالها بالهمز، وردوا عليه من كل صوب، كثُرت الردود عليه في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل له هفوات، ولكن من أبرزها هذه المسألة.

"وَقَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة:27]، وَقَوْلِهِ: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} [طه:53-54].

وَذَكَرَ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ كَقَوْلِهِ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل:5] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ".

قف على هذا.

في قوله –جلَّ وعلا-: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} [السجدة:27] الأرض الجرز التي لا نبت فيها، فيُساق إليها الماء فتُنبت، ومن ذلك قول الشاعر:

طوى النحزُ والأجْرَازُ مَا فِي عُرُوضها

البيت معروف؟

من شواهد ابن عقيل.

وما بقيت إلا الضلوع الجراشع

"النحزُ والأجْرَازُ" يعني: السير على هذه الأراضي التي لا نبت فيها، والنحز لعل المراد به: ما يكون بالعصا حينما تُنحز من أطرافها؛ لتُجد في السير، مع أنها ما تأكل ما في الأرض شيء، وما بقي منها إلا الضلوع ما بقي من اللحم شيء.

اللهم صلِّ على محمد.

"