التعليق على تفسير القرطبي - سورة النور (02)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

"قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [(4-5) سورة النور].

فيه ست وعشرون مسألة:

الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْقَاذِفِينَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ سَبَبُهَا مَا قِيلَ فِي عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رضي الله عنها- وَقِيلَ: بَلْ نَزَلَتْ بِسَبَبِ الْقَذَفَةِ عَامًّا لَا فِي تِلْكَ النَّازِلَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَمْ نَجِدْ فِي أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَبَرًا يَدُلُّ عَلَى تَصْرِيحِ الْقَذْفِ، وَظَاهِرُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَغْنًى بِهِ دَالًّا عَلَى الْقَذْفِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ مُجْمِعُونَ"

سواء نزلت الآية في قصة الإفك وقذف عائشة -رضي الله عنها– أو في قصة هلال بن أمية أو في غيرها من القصص، فالعبرة بعمومها لا بخصوص السبب.

"الثانية: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} يُرِيدُ يَسُبُّونَ، وَاسْتُعِيرَ لَهُ اسم الرمي؛ لأنه إذاية بِالْقَوْلِ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:

وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ

وَقَالَ آخَرُ:

رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي

ويسمى قذفًا، ومنه الحديث: إن ابن أمية قذف امرأته بشريك بن السحماء: أي رماها."

والقذف والرمي بمعنىً واحد، والأصل فيه قذف رمي المحسوسات، فإذا أطلق في المعنويات، في المعاني، في النصوص الشرعية فهو حقيقة أيضًا، ولا يقال: إنه مجاز القذف والرمي، الرمى بالكلام أو بنحوه من المعنويات والمعاني فهذه حقيقة؛ لأنها جاءت في معناها في النصوص الشرعية، فهي استعمال اللفظ في حقيقته، فيما وضع له.

"الثالثة: ذكر الله تعالى في الآية النساء من حيث هن أَهَمُّ، وَرَمْيُهُنَّ بِالْفَاحِشَةِ أَشْنَعُ وَأَنْكَى لِلنُّفُوسِ. وَقَذْفُ الرِّجَالِ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْآيَةِ بِالْمَعْنَى."

نعم، يعني ذكر النساء والتصريح بشناعة قذف النساء، ووجوب الحد في قذف النساء، لا يعني أن الرجال يختلفون عنهن في الأحكام، فقذف الرجل كقذف المرأة، لكن قذف المرأة أشد، والعار اللاحق بأهلها وذويها أعظم، ولذلك صرح بالنساء.

"وَقَذْفُ الرِّجَالِ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْآيَةِ بِالْمَعْنَى، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا نَحْوُ نَصِّهِ عَلَى تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَخَلَ شَحْمُهُ وَغَضَارِيفُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ بِالْمَعْنَى وَالْإِجْمَاعِ".

يعني جميع ما حواه جلده يحرم، وإن كان التصريح بلحمه؛ لأن غالب ما يؤكل هو اللحم، ولذلك صرح به، وفي حكمه جميع ما حواه الجلد، وهل يقاس عليه جميع ما حواه جلد الجزور الإبل في نقض الوضوء أو يختص ذلك باللحم المنصوص عليه في الحديث؟ فالظاهر أنه مثل الخنزير جميع ما حواه جلده.

"وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ أَنَّ الْمَعْنَى: وَالْأَنْفُسُ الْمُحْصَنَاتُ، فَهِيَ بِلَفْظِهَا تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذلك قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء} [(24) سورة النساء]، وقال قوم: أراد بالمحصنات الفروج كما قال تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [(91) سورة الأنبياء، فَيَدْخُلُ فِيهِ فُرُوجُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَ الْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ إِذَا قُذِفَتْ لِيَعْطِفَ عَلَيْهَا قَذْفَ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: {المحصَنات} بِفَتْحِ الصَّادِ، وَكَسَرَهَا يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ. وَالْمُحْصَنَاتُ الْعَفَائِفُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ مَضَى فِي" النِّسَاءِ" ذِكْرُ الْإِحْصَانِ ومراتبه، والحمد لله."

وأنه يطلق على المسلمات وعلى العفيفات وعلى المتزوجات.

"الرَّابِعَةُ: لِلْقَذْفِ شُرُوطٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ تِسْعَةٌ: شَرْطَانِ فِي الْقَاذِفِ، وَهُمَا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ؛ لِأَنَّهُمَا أَصْلَا التَّكْلِيفِ؛ إِذِ التَّكْلِيفُ سَاقِطٌ دُونَهُمَا."

 فلو أن مجنونًا قذف محصنًا أو محصنة لا يقام عليه الحد، وكذا لو قذف صبي صغير لا يقام عليه الحد؛ لأن مناط التكليف البلوغ والعقل، وهما مفقودان حينئذٍ، أما بالنسبة للمجنون فلا يلحقه شيء، لا حد ولا تعزير، وأما الصبي الصغير فلو عزر لقذفه كان متجهًا.

"وَشَرْطَانِ فِي الشيء المقذوف به، وهو أن يقذف بوطئ يلزمه فيه الحد، وهو الزنى وَاللِّوَاطُ أَوْ بِنَفْيِهِ مِنْ أَبِيهِ دُونَ سَائِرِ المعاصي. وخمسة في الْمَقْذُوفِ، وَهِيَ الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعِفَّةُ عَنِ الْفَاحِشَةِ الَّتِي رُمِيَ بِهَا، كَانَ عَفِيفًا مِنْ غَيْرِهَا أَمْ لَا ؟"

يعني ولو تلبس بذنوبٍ أخرى، لكنه عفيف بالنسبة لما يوجب الحد من القذف بالزنا أو في اللواط هو عفيف عن هاتين المعصيتين والفاحشتين العظيمتين، وإن تلبس بغيرهما من سرقةٍ أو شربٍ أو نحوه.

"وَإِنَّمَا شَرَطْنَا فِي المقذوف العقل والبلوغ كما شرطناهما فِي الْقَاذِفِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ مَعَانِي الْإِحْصَانِ لِأَجْلِ أَنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وُضِعَ لِلزَّجْرِ عَنِ الْإِذَايَةِ بِالْمَضَرَّةِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمَقْذُوفِ، وَلَا مَضَرَّةَ عَلَى مَنْ عَدِمَ الْعَقْلَ وَالْبُلُوغَ؛ إِذْ لَا يُوصَفُ اللِّوَاطُ فِيهِمَا وَلَا مِنْهُمَا بِأَنَّهُ زِنًى."

المضرة حاصلة على من عَدم العقل؛ لأن القذف لا يختص بالمقذوف؛ لأنه يتعدى إلى أهله وذويه ومعارفه، ومثل ذا الصبي، لو أن إنسانًا قذف صبيًّا أثم بلا شك، لكن هل يلزمه الحد الكامل؟ هذا محل الكلام هنا، لا يلزمه الحد الكامل؛ لأنه في الأصل غير مكلف، ولا يكتب عليه شيء، لكنه يلحقه العار كما يلحق أقاربه وأهله وذويه.

"الْخَامِسَةُ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا صرح بالزنى كَانَ قَذْفًا وَرَمْيًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ، فَإِنْ عَرَّضَ وَلَمْ يُصَرِّحْ فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ قَذْفٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَكُونُ قَذْفًا حَتَّى يَقُولَ أَرَدْتُ بِهِ الْقَذْفَ. وَالدَّلِيلُ لِمَا قَالَهُ مَالِكٌ هُوَ أَنَّ مَوْضُوعَ الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ إِنَّمَا هُوَ لِإِزَالَةِ الْمَعَرَّةِ الَّتِي أَوْقَعَهَا الْقَاذِفُ بالمقذوف، فإذا حصلت المعرة بالتعريض وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا كَالتَّصْرِيحِ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَى الْفَهْمِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ شُعَيْبٍ: {إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [(87) سورة هود] أي السفيه الضال."

لا شك أن التعريض قد يقرب من التصريح، وقد يبعد عنه، قد يكون بلفظ قريب من التصريح، وقد يكون بلفظٍ بعيد عن التصريح بحيث لا يفهمه كل أحد، وعلى كل حال إذا قرب من التصريح أخذ حكمه، وإذا بعد بحيث لا يفهمه إلا النوادر من الناس، فمثل هذا لا يأخذ حكمه في إقامة الحد الكامل.

"فَعَرَّضُوا لَهُ بِالسَّبِّ بِكَلَامٍ ظاهر الْمَدْحُ فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي هُودٍ  وَقَالَ تَعَالَى فِي أَبِي جَهْلٍ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [(49) سورة الدخان]، وقال حكايةً عن مريم: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [(28) سورة مريم]، فمدحوا أباها ونفوا عن أمها البغاء أي الزنا، وعرضوا لمريم بذلك، ولذلك قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [(156) سورة النساء] وَكُفْرُهُمْ مَعْرُوفٌ، وَالْبُهْتَانُ الْعَظِيمُ هُوَ التَّعْرِيضُ لَهَا، أَيْ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ، وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، أَيْ أَنْتَ بِخِلَافِهِمَا وَقَدْ أَتَيْتِ بِهَذَا الْوَلَدِ."

 يعني: لو أن شخصًا قال لآخر: يا فلان أبوك ليس من أهل الفواحش، أبوك لم يقترف زنا ولا لواطًا ولا شيئًا، هل يفهم من هذا أنك قد اقترفت ذلك، أو أن السياق والقرائن يستدل بها على المراد؟

طالب:.........

قد يكون أبوه ممن عرف بالأسفار والذهاب إلى بلادٍ يتساهل فيها بالمنكرات والفواحش وكذا، فيريد أن يبرئ والده؛ لأنه صحبه في هذه الأسفار وما عرف بذلك، فقرائن الأحوال يستدل بها على المراد، لكن لو كان أبوه ما عرف بالأسفار، وعرف أنه من أهل المسجد، وليس من أهل تلك الأعمال، عُرف أنه يريد الابن، فالقرائن لها أحكام.

"وقال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [(24) سورة سبأ] فَهَذَا اللَّفْظُ قَدْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ الْكُفَّارَ عَلَى غَيْرِ هُدًى، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ عَلَى الْهُدَى، فَفُهِمَ مِنْ هَذَا التَّعْرِيضِ مَا يُفْهَمُ مِنْ صَرِيحِهِ. وَقَدْ حَبَسَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الْحُطَيْئَةَ لَمَّا قال:

دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلُ لِبُغْيَتِهَا ... وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي

لِأَنَّهُ شَبَّهَهُ بِالنِّسَاءِ فِي أَنَّهُنَّ يُطْعَمْنَ وَيُسْقَيْنَ وَيُكْسَوْنَ. وَلَمَّا سَمِعَ قَوْلَ النَّجَاشِيِّ:

قَبِيلَتُهُ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ ... وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ

قَالَ: لَيْتَ الْخِطَابَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الشَّاعِرُ ضَعْفَ الْقَبِيلَةِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ.

السَّادِسَةُ: الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوِ امْرَأَةً مِنْهُمْ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ."

لأنهم تلبسوا بما هو أعظم من ذلك، تلبسوا بالكفر، وما بعد الكفر ذنب.

"وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى: عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم".

نعم، صيانةً لعرض المسلم.

"وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا قَذَفَ النَّصْرَانِيَّةَ تَحْتَ الْمُسْلِمِ جُلِدَ الْحَدَّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَجُلُّ الْعُلَمَاءِ مُجْمِعُونَ وَقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ أُدْرِكْ أَحَدًا وَلَا لَقِيتُهُ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا قَذَفَ النَّصْرَانِيُّ الْمُسْلِمَ الْحُرَّ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، لَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا.

السابعة: والجمهور من العلماء على أن العبد إذا قذف حرًّا."

لا شك أن الكلام في الكافر بالكفر فما دونه لا إشكال فيه من جهة هذا الكافر، لكن إذا كانت تتضرر بذلك، أهله وأقاربه وذووه ومن له به صلة من المسلمين فقد جاء النهي عن ذلك، اذكروا محاسن موتاكم ولا تؤذوا الأحياء، يعني ولو كان أهلًّا لأن يتكلم فيه بشيء ما دام يؤذي أقاربه من الأحياء فإنه لا يذكر، فالعبرة بالأذى المتعدي، فإذا كان الأذى يتعدى إلى مسلم مُنع.

"السَّابِعَةُ: وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَذَفَ حُرًّا يُجْلَدُ أَرْبَعِينَ؛ لأنه حد يتشطر بالرق كحد الزنى. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ يُجْلَدُ ثَمَانِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَبْدًا قَذَفَ حُرًّا ثَمَانِينَ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ. واحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [(25) سورة النساء]".

فإذا كان هذا في الزنا، ينصّف الحد في الزنا وهو أعظم من القذف، والقذف هو رمي بالزنا، وكلام به، واتهام به، وصيانة لعرض المسلم من الوسيلة، فإذا نصّف في الغاية التي هي الزنا، فله أن ينصّف في الوسيلة من باب أولى، وحتى قول الجمهور وغيرهم لهم حجتهم.

"وقال الآخرون: فهمنا هناك أن حد الزنى لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ أَخَفَّ فِيمَنْ قَلَّتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَفْحَشَ فِيمَنْ عَظُمَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَحَقٌّ لِلْآدَمِيِّ وَجَبَ لِلْجِنَايَةِ عَلَى عِرْضِ الْمَقْذُوفِ، وَالْجِنَايَةُ لَا تَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ. وَرُبَّمَا قَالُوا: لَوْ كان يختلف لذكر كما ذكر من الزنى. قال ابن المنذر: والذي عليه عوامّ علماء الأمصار القول الأول، وبه أقول."

الثَّامِنَةُ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُجْلَدُ لِلْعَبْدِ إِذَا افْتَرَى عَلَيْهِ؛ لِتَبَايُنِ مَرْتَبَتِهِمَا، وَلِقَوْلِهِ -عليه السلام-: «من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما يقول»".

ولو لزمه الحد في الدنيا لبرئ به، ولما احتيج إلى حد الآخرة.

"خرجه البخاري ومسلم، وفي بعض طرقه: «من قذف عبده بزنىً ثم لم يثبت أقيم عليه يوم القيامة الحد ثمانون» ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ؛ لِارْتِفَاعِ الْمِلْكِ وَاسْتِوَاءِ الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فَضْلٌ إِلَّا بِالتَّقْوَى، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ تَكَافَأَ النَّاسُ فِي الْحُدُودِ وَالْحُرْمَةِ، وَاقْتُصَّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْمَظْلُومُ عَنِ الظَّالِمِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَتَكَافَئُوا فِي الدُّنْيَا؛ لِئَلَّا تَدْخُلَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمَالِكِينَ مِنْ مُكَافَأَتِهِمْ لَهُمْ، فَلَا تَصِحُّ لَهُمْ حُرْمَةٌ وَلَا فَضْلٌ فِي مَنْزِلَةٍ، وَتَبْطُلُ فَائِدَةُ التَّسْخِيرِ، حِكْمَةٌ مِنَ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.

التَّاسِعَةُ- قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: مَنْ قَذَفَ مَنْ يَحْسَبُهُ عَبْدًا فَإِذَا هُوَ حُرٌّ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. قَالَ مَالِكٌ"..

لأن العبرة بحقيقة الحال والواقع.

"ومَنْ قَذَفَ أُمَّ الْوَلَدِ حُدَّ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ."

على الخلاف في العبرة بالحال أو المآل، إن نظرنا إلى الحال حكمنا عليها بأنها أمة، وإن نظرنا إلى المآل حكمنا عليها بأنها حرة، وقد أعتقها ولدها، والخلاف تبعًا لذلك، والجمهور على أن العبرة بالحال.

"الْعَاشِرَةُ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا مَنْ وطِئَ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا حَدَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ إِلَى فِعْلٍ لَا يُعَدُّ زِنًى إِجْمَاعًا.

الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إِذَا رَمَى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كَانَ قَذْفًا عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ."

تقدم أن البلوغ شرط، شرط في القاذف والمقذوف، وهنا يقول: إذا رمى صبيةً يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنا كان قذفًا عند مالك. والقول الثاني: هو الجاري على ما قرره سابقًا.

"وقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَيْسَ بِقَذْفٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بزنى إِذْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا، وَيُعَزَّرُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمِلَةٌ مُشْكِلَةٌ، لَكِنْ مَالِكٌ طَلَبَ  حِمَايَةَ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ، وَغَيْرُهُ رَاعَى حِمَايَةَ ظَهْرِ الْقَاذِفِ، وَحِمَايَةُ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ أَوْلَى".

لأنه مظلوم، فحماية عرضه أولى، والتعزير متجه.

"لأَنَّ الْقَاذِفَ كَشَفَ سِتْرَهُ بِطَرَفِ لِسَانِهِ فَلَزِمَهُ الْحَدُّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الْجَارِيَةِ بِنْتِ تِسْعٍ: يُجْلَدُ قَاذِفُهَا، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ."

 لأنها امرأة على ما قالت عائشة -رضي الله عنها-: إذا بلغت البنت تسعًا فهي امرأة.

"وكذلك الصبي إذا بلغ عشرًا ضرب قاذفه"..

لأن مثله يطأ.

"قَالَ إِسْحَاقُ: إِذَا قَذَفَ غُلَامًا يَطَأُ مِثْلُهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَالْجَارِيَةُ إِذَا جَاوَزَتْ تِسْعًا مِثْلُ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يُحَدُّ مَنْ قَذَفَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ، وَيُعَزَّرُ عَلَى الْأَذَى."

لكن وقوع الفاحشة من مثل هؤلاء متصورة، وليس بكذب؛ لأنه يتكلم عن واقع وصدق، وقد يصدق في كلامه أنه زنى أو لاط أو ليط به، المقصود أنه يحكي واقعه، فعلى هذا إذا أمكن تصديقه حدّ القذف، إذا لم يمكن تصديقه بأن قال: هذا ابن ثلاث سنين أو أربع سنين وجدته وقع على أخته، أو على بنت فلان أو ما أشبه ذلك، هذا خبر لا يمكن تصديقه؛ لأن مثل هذا لا يقع، وحينئذٍ لا يحدّ.

"قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْهُ فَذَكَرَتْ أَنَّ زَوْجَهَا يَأْتِي جَارِيَتَهَا فَقَالَ: إِنْ كُنْتِ صَادِقَةً رَجَمْنَاهُ وإن كنت جَلَدْنَاكِ. فَقَالَتْ: رُدُّونِي إِلَى أَهْلِي غَيْرَى نَغِرَةً. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ عَلَى الرَّجُلِ إِذَا وَاقَعَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ الْحَدَّ. وَفِيهِ أَيْضًا: إِذَا قَذَفَهُ بِذَلِكَ قَاذِفٌ كَانَ عَلَى قَاذِفِهِ الْحَدُّ، أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَهُ: وَإِنْ كُنْتِ كَاذِبَةً جَلَدْنَاكِ. وَوَجْهُ هَذَا كُلِّهِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْفَاعِلُ جَاهِلًا بِمَا يَأْتِي وَبِمَا يَقُولُ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا وَادَّعَى شُبْهَةً دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ."

نعم؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، لكن حقوق العباد مبنية على المشاحة، فإذا درئ الحد بالنسبة للزنا وما يشبهه فلأن يحتاط لأعراض المسلمين من باب أولى، فمثل حد القذف بقدر ما يُحتاط للقاذف في درئ الحد بالشبهة يحتاج أيضًا لعرض المقذوف، فيحتاط للطرفين.

"وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَذَفَ رَجُلًا بِحَضْرَةِ حَاكِمٍ وَلَيْسَ الْمَقْذُوفُ بِحَاضِرٍ أَنَّهُ لَا شي على القاذف حتى يجيء فَيَطْلُبَ حَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يُصَدِّقُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَلِيًّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يَعْرِضْ لَهَا."

لأنه حق له، إن طالب به أقيم، وإن لم يطالب به لم يقم.

"وَفِيهِ أَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا قُذِفَ عِنْدَهُ رَجُلٌ ثُمَّ جَاءَ الْمَقْذُوفُ فَطَلَبَ حَقَّهُ أَخَذَهُ الْحَاكِمُ بِالْحَدِّ بِسَمَاعِهِ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: وَإِنْ كُنْتِ كَاذِبَةً جَلَدْنَاكِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ. قُلْتُ: اخْتُلِفَ هَلْ هُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَسَيَأْتِي."

هل في هذا ما يدل على أن القاضي يحكم بعلمه؟ فيه أن الحاكم إذا قذف عنده رجل، ثم جاء المقذوف فطلب حقه أخذ الحاكم بالحد بسماعه، أخذه الحاكم بالحد بسماعه، يعني يكفيه مجرد السماع الأول واعتراف القاذف، ولا يحتاج أن يقال: أحضر البينة أنه قذفك أو يعترف بذلك من جديد؟ فنقول: أن هذا يُكتفى فيه بعلم القاضي ويحكم بعلمه، أو لا بد من البينة؟ كلامه واستناده على قول علي -رضي الله عنه- يدل على أنه يحكم بعلمه، وأن اعترافه الأول كافٍ.

طالب: ............

لكن مع غيبة الخصم، ما يسمى اعترافًا.

طالب: لكن حكم القاضي بعلمه يكون فيما رآه خاليًا من السماع، أو سمعه هذا في مجلس الحكم.

وهذا ما عرفنا أنه في مجلس الحكم، ما في مجلس الحكم أصلًا، ما هو موجود الخصم، الخصم غائب.

"قُلْتُ: اخْتُلِفَ هَلْ هُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَسَيَأْتِي. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَأَلَنِي شُعْبَةُ عن قوله:" غَيْرَى نَغِرَةً" فَقُلْتُ لَهُ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ نَغَرِ الْقِدْرِ، وَهُوَ غَلَيَانُهَا وَفَوْرُهَا، يُقَالُ مِنْهُ: نَغِرَتْ تَنْغَرُ، وَنَغَرَتْ تَنْغِرُ إِذَا غَلَتْ. فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنَّ جَوْفَهَا يَغْلِي مِنَ الْغَيْظِ وَالْغَيْرَةِ لَمَّا لَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ مَا تُرِيدُ. قَالَ: وَيُقَالُ مِنْهُ رَأَيْتُ فُلَانًا يَتَنَغَّرُ عَلَى فُلَانٍ أَيْ يَغْلِي جَوْفُهُ عَلَيْهِ غَيْظًا."

لا شك أن الزوجة إذا رأت من زوجها شيئًا من ذلك، ولو لم يكن الوطء الكامل، ولو مجرد كلام أو مجرد مقدمات لا شك أنها من غيرتها ونغرتها، ولا شك أنها ترميه بما هو أعظم، ومثل هذا قد يتسامح فيه ويتجاوز عنه.

ولذلكم تجدون المرأة تعيش مع زوجها عشر سنين، أو عشرين سنة، وعنده معاصٍ، عنده موبقات، غير ما يتعلق بالجنس، وقد يكون الشخص متساهلًا بالصلاة أو لا يصلي، فإذا أراد أن يتزوج عليها بحثت عن جميع هذه المعاصي ودونتها، وسألت عنها هل يجوز البقاء معه أو لا؟ وإذا فسخنا هل يستحق شيئًا أو لا يستحق؟ المقصود أنهن في هذا الباب يبحثن عن أمور ما كانت تخطر لهن على بال، قد يكون الشخص في باب الصلاة ليس بالحريص عليها، قد يتخلف عنها، وقد يتركها أحيانًا، ثم بعد ذلك المرأة ساكتة معه، فإذا أراد أن يتزوج أخرى، سألت هل يجوز البقاء معه وهو لا يصلي أو يتساهل بالصلاة؟ كل هذا من أجل أنها تحركت فيها الحمية والغيرة، وإلا لو كان القصد الدين، وما يتعلق بالدين فالله غفور رحيم. والله المستعان.

" الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: مَنْ قَذَفَ زَوْجَةً مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حُدَّ حَدَّيْنِ، قَالَهُ مسروق. قال ابن العربي: والصحيح أنه حد واحد؛ لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [(4) سورة النــور] الآية، وَلَا يَقْتَضِي شَرَفُهُنَّ زِيَادَةً فِي حَدِّ مَنْ قَذَفَهُنَّ؛ لِأَنَّ شَرَفَ الْمَنْزِلَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُدُودِ، وَلَا نَقْصُهَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَدِّ بِتَنْقِيصٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيمَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، هَلْ يُقْتَلُ أَمْ لَا؟"

يعني هل يقتل بعد نزول براءتها؟ وأما قبل ذلك فحدهم النبي -عليه الصلاة والسلام-، جلدهم الحد، جلد أربعة، جلد رجلين وامرأتين.

طالب: مضاعفة العذاب لهن ما يحتمل؟

هذا بالنسبة لأمهات المؤمنين، من يأتِ منكن بفاحشة يضاعف لها العذاب ضعفين، وذلكم بمضاعفة الأجور، نؤتها أجرها مرتين، والغنم مع الغرم، ما دام يضاعف لها الأجر يضاعف عليها العذاب، وهكذا كلما ارتفعت منزلة الإنسان وزادت أجوره، وزاد ثوابه، وزاد علمه بالله تعالى يزاد عليه في مخالفاته.

والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يوعك كما يوعك الرجلان منكم، كما جاء في حديث ابن مسعود، قال: ذلك أن لك أجرين؟ قال: أجل، فأجره على قدر نصبه.

طالب: ............. مضاعفة العذاب ما يحتمل.

يعني بعد نزول براءة عائشة.

طالب: ما فيه قول أنه يقتل يا شيخ..........

بلا شك، لا سيما وأن الله -جل وعلا- يقول: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [(26) سورة النــور] ويقول أيضًا: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [(26) سورة النــور]، فإثبات الخبث لأمهات المؤمنين تعريض للنبي -عليه الصلاة والسلام-.

طالب: لو كان خصمك ........... أمهات المؤمنين..............

على كل حال أصل القذف تبع لما يلحق الإنسان من العار، فكلما كان الإنسان عن العار أبعد كان الأمر أشد، وإذا قربت عن العار ودارت حوله التهم فقذف، لا شك أن عرضه مصون، ولا بد من الإتيان بالشهود الأربعة وإلا لو اقتصر على ثلاثة لقذفوا، لكن مثل قذف هذا أسهل بكثير من قذف المحصن العفيف البريء، والله المستعان، من حيث الإثم، لذا جاء في الحديث وهو ضعيف: «قذف محصنة يحبط عبادة ستين سنة» –نسأل الله العافية– فالأمر شديد ليس بالسهل، وأعراض المسلمين حفرة من حفر النار، هذا في غير القذف فكيف به؟

"الثالثة عشرة: قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} [(4) سورة النــور] الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَى أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ دُونَ سائر الحقوق هو الزنى؛ رَحْمَةً بِعِبَادِهِ وَسَتْرًا لَهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سورة النساء.

الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: مِنْ شَرْطِ أَدَاءِ الشُّهُودِ الشَّهَادَةَ عِنْدَ مَالِكٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنِ افْتَرَقَتْ لَمْ تَكُنْ شَهَادَةً. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مُجْتَمِعِينَ وَمُفْتَرِقِينَ. فَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ تَعَبُّدٌ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَسَنِ. وَرَأَى عَبْدُ الْمَلِكِ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ وَاجْتِمَاعُهَا وَقَدْ حَصَلَ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء}، وقوله: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء} [(13) سورة النــور] ولم يذكر مفترقين ولا مجتمعين."

فإذا جاء بالأربعة مجتمعين صدق أنه جاء بأربعة شهداء، وإذا جاء بهم مفترقين صدق أنه جاء بأربعة شهداء، فالآية تحتمل هذا وهذا.

الخامسة عشرة: فإن تمت الشهادة إلا أنهم لم يعدلوا فكان الحسن البصري والشعبي يريان أن لا حد على الشهود ولا على المشهود."

لا على الشهود؛ لأنهم جاؤوا بما طلب منهم، ووفوا بما طلب منهم، ولا حد على المشهود باعتبار أن هؤلاء الشهود لم يعدلوا، والشهادة لا تقوم إلا بالثقات.

"وبه قال أحمد والنعمان ومحمد بن الحسن."

النعمان هو أبو حنيفة، محمد بن الحسن صاحبه.

"وَقَالَ مالك: إذا شهد عليه أربعة بالزنى، فإن كان أحدهم مسخوطًا عَلَيْهِ أَوْ عَبْدًا يُجْلَدُونَ جَمِيعًا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ فِي أَرْبَعَةِ عُمْيَانٍ يَشْهَدُونَ على امرأة بالزنى: يضربون."

لأن مرد هذه الشهادة إلى النظر، إلى الرؤية، إلى البصر، وليسوا من أهلها، اللهم إلا إن شهدوا على اعترافها، شهدوا أنها اعترفت بالزنا، فهذا شيء آخر.

طالب: معنى مسخوطًا عليه؟

مسخوطًا عليه، يعني ليس بمرضي، شاهد غير مرضي.

السادسة عشرة: فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُ الشُّهُودِ وَقَدْ رُجِمَ الْمَشْهُودُ عليه في الزنى، فقالت طائفة: يغرم ربع الدية ولا شي عَلَى الْآخَرِينَ. وَكَذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ وَحَمَّادٌ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو هَاشِمٍ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشافعي: إن قال: تعمدتُ لِيُقْتَلَ، فَالْأَوْلِيَاءُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءؤوا قَتَلُوا، وَإِنْ شَاءؤوا عَفَوْا وَأَخَذُوا رُبْعَ الدِّيَةِ."

لأن القتل لا يتبعض، وإنما قتل المقتول بشهادته التي الدافع له عليها أن يقتل، فمثل هذا يستحق القتل، وإن عفوا عن القتل وقبلوا الدية فإنما قتل بربع -بالنسبة له- بربع البينة، فعليه حينئذٍ ربع الدية، والدية تتبعض.

"وَإِنْ شَاءؤوا عَفَوْا وَأَخَذُوا رُبْعَ الدِّيَةِ، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُقْتَلُ، وَعَلَى الْآخَرِينَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِذَا قَالَ: أَخْطَأْتُ وَأَرَدْتُ غَيْرَهُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَإِنْ قال: تعمدتُ قُتِل، وبه قال ابن شبرمة.

السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ هَلْ هُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ فِيهِ شَائِبَةٌ مِنْهُمَا، الْأَوَّلُ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِي: قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّالِثُ: قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ حَقًّا له تَعَالَى وَبَلَغَ الْإِمَامَ أَقَامَهُ وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ الْمَقْذُوفُ، وَنَفَعَتِ الْقَاذِفَ التَّوْبَةُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَتَشَطَّرُ فِيهِ الْحَدُّ بِالرِّقِّ كالزنى. وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ فَلَا يُقِيمُهُ الْإِمَامُ إِلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ، وَيَسْقُطُ بِعَفْوِهِ، وَلَمْ تَنْفَعِ القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف."

نعم؛ لأن الأمر لا يعدوه حق له.

"الثامنة عشرة: قوله تعالى: {لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ} [(4) سورة النــور] قراءة الجمهور على إضافة الأربعة إلى الشهداء، وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وأبو زرعة بن عمرو بن جرير: {بأربعةٍ} بالتنوين {شهداء} وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: يَكُونُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى النَّعْتِ لِأَرْبَعَةٍ، أَوْ بَدَلًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ نَكِرَةٍ أَوْ تَمْيِيزًا، وَفِي الْحَالِ وَالتَّمْيِيزِ نَظَرٌ؛ إِذِ الْحَالُ مِنْ نَكِرَةٍ، وَالتَّمْيِيزُ مَجْمُوعٌ. وَسِيبَوَيْهِ يَرَى أَنَّهُ تَنْوِينُ الْعَدَدِ، وَتَرْكُ إِضَافَتِهِ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ. وقد حسن أبو الفتح عثمان بن جِنِّي هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَحَبَّبَ على قراءة الجمهور، قال النحاس: ويجوز أن يكون {شهداء} في موضع نصب، بمعنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء.

التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: حُكْمُ شَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ أَنْ تَكُونَ عَلَى مُعَايَنَةٍ يَرَوْنَ ذَلِكَ كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي" النِّسَاءِ" فِي نَصِّ الْحَدِيثِ. وَأَنْ تَكُونَ فِي مَوْطِنٍ وَاحِدٍ، عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ. وَإِنِ اضْطَرَبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ جُلِدَ الثَّلَاثَةُ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ فِي أَمْرِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ شَهِدَ عَلَيْهِ بالزنى أَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ وَأَخُوهُ نَافِعٌ، وَقَالَ الزَّهْرَاوِيُّ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، وَزِيَادٌ أَخُوهُمَا لِأُمٍّ وَهُوَ مُسْتَلْحَقُ مُعَاوِيَةَ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ الْبَجَلِيُّ، فَلَمَّا جَاؤوا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَتَوَقَّفَ زِيَادٌ وَلَمْ يُؤَدِّهَا، جَلَدَ عُمَرُ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورِينَ.

الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ} [(4) سورة النــور]".

إذا لم يتم النصاب الأربعة جلد الشهود، وإن كانوا صادقين في حقيقة الأمر، وإن كان الثلاثة قد رأوه يزني زنىً تامًّا حقيقيًّا بالشرط المعروف كما يُرى الميل في المكحلة، يجلدون؛ صيانةً لأعراض المسلمين، لا بد من تمام الأربعة، ولو على غلب على الظن صدقهم، ولو دلت القرائن على صدقهم.

"قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ} الْجَلْدُ الضَّرْبُ. والمجالدة والمضاربة فِي الْجُلُودِ أَوْ بِالْجُلُودِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ الْجَلْدُ لَغِيَرِ ذَلِكَ مِنْ سَيْفٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ:

أُجَالِدُهُمْ يَوْمَ الْحَدِيقَةِ حَاسِرًا ... كَأَنَّ يَدِي بِالسَّيْفِ مِحْرَاقُ لَاعِبِ

{ثَمَانِينَ} على المصدر، {جَلْدَةً} تمييز، {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} هذا يقتضي مدة أعمارهم، ثم حكم عليهم بأنهم فاسقون، أي خارجون عن طاعة الله -عز وجل-".

فالقاذف يحكم عليه بثلاثة أحكام، الجلد ثمانين جلدة، ورد الشهادة ردًّا مؤبدًا مع الفسق، هذه الثلاثة، ويستثنى من ذلك إلا الذين تابوا.

طالب: لو شهد ثلاثة وشهادة الرابع عبارة عن تصوير؟

ما يكفي، ما يكفي، لا بد من أربعة.

طالب: ما يكونوا الثلاثة قرينة، قرينة قوية؟

ولو كانت القرينة قوية ما تكفي، لا بد من أربعة، والتصوير يعتريه ما يعتريه، قد لا يحكي الواقع.

الحادية والعشرين: قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [(5) سورة النــور] فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى الْبَدَلِ. الْمَعْنَى وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا مِنْ بَعْدِ الْقَذْفِ (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). فتضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف: جَلْدُهُ، وَرَدُّ شَهَادَتِهِ أَبَدًا، وَفِسْقُهُ. فَالِاسْتِثْنَاءُ غَيْرُ عَامِلٍ فِي جَلْدِهِ بِإِجْمَاعٍ، إِلَّا مَا رَوَى عن الشَّعْبِيُّ عَلَى مَا يَأْتِي. وَعَامِلٌ فِي فِسْقِهِ بِإِجْمَاعٍ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي عَمَلِهِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ."

وهكذا الشأن في كل استثناء يتعقب جملًا، هل يعود إلى الجميع أو إلى الأخيرة فقط؟ محل خلافٍ بين أهل العلم، أما عوده على الجملة الأخيرة فمحل اتفاق، وما عداها بحسب ما تدل عليه الأدلة الخارجية.

" وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي عَمَلِهِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ فَقَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَعْمَلُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِ، وَإِنَّمَا يَزُولُ فِسْقُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى."

بدليل أنه قال: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [(4) سورة النــور] هذا التأبيد له تأثيره.

" وَأَمَّا شَهَادَةُ الْقَاذِفِ فَلَا تُقْبَلُ الْبَتَّةَ وَلَوْ تَابَ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ وَلَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الِاسْتِثْنَاءُ عَامِلٌ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ، فَإِذَا تَابَ الْقَاذِفُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ."

لأن رد الشهادة سببه الفسق، الفسق الناشئ عن هذا القذف، فإذا ارتفع الوصف الذي هو الفسق وهو سبب رد الشهادة ارتفع ما رُتِّب عليه وهو رد الشهادة.

"فَإِذَا تَابَ الْقَاذِفُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ رَدُّهَا لِعِلَّةِ الْفِسْقِ، فَإِذَا زَالَ بِالتَّوْبَةِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ مُطْلَقًا قَبْلَ الْحَدِّ وَبَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي صُورَةِ تَوْبَتِهِ، فَمَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّ تَوْبَتَهُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِأَنْ يُكْذِبَ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ الْقَذْفِ الَّذِي حُدَّ فِيهِ. وَهَكَذَا فَعَلَ عُمَرُ، فَإِنَّهُ قَالَ لِلَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ: مَنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ أَجَزْتُ شَهَادَتَهُ فِيمَا اسْتُقْبِلَ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ أُجِزْ شَهَادَتَهُ، فَأَكْذَبَ الشِّبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ وَنَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ أَنْفُسَهُمَا وَتَابَا، وَأَبَى أَبُو بَكْرَةَ أَنْ يَفْعَلَ گ فَكَانَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ. وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ النَّحَّاسُ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ."

قد يقول قائل: كيف يكذب نفسه وقد رأى الأمر حقيقةً بعين رأسه؟ هو فيما بينه وبين ربه صادق، رأى الفعل حقيقة، فكيف يشترط في قبول توبته إكذاب نفسه وهو صادق في حقيقة الأمر؟ وإذا أردنا من إنسان أن يكذّب نفسه في أمرٍ قد صدق فيه، أمر صدقه فيه قطعي بالنسبة له، كلفناه بمحال، يعني لو قلنا: لشخص يرى هذا المصباح، يقول: إني رأيت هذا المصباح أو هذه الشمعة مضاءة، ورأيت الشمس طالعة في النهار، ثم ألزمناه أن يكذب نفسه لأمرٍ من الأمور، هل يستطيع أن يكذب نفسه؟

تصور في هذا القاذف من الثلاثة أنه رأى، بل الثلاثة كلهم رأوا، المسألة مسألة حكم شرعي، فكونهم يحدون فهذا حكم شرعي، ولو كانوا صادقين؛ لأن النصاب ما تمّ، النصاب الذي يرفع عنهم الحد ما تم، إذًا يلزمهم الحد، وكوننا نطالبهم بأن يكذبوا أنفسهم هل هذا مرده أن الأمر لم يقع، وأنهم تراجعوا عن شهادتهم، وهم يجزمون بأن الأمر قد وقع؟ فكيف يلزم الإنسان بما يخالف الواقع؟ أو نقول: أيضًا التكذيب حكم شرعي فائدته صيانة عرض المسلم، فيكذب نفسه فيما بينه وبين الناس، وإن كان في حقيقة الأمر والواقع أنه صادق؟ يعني يكذب نفسه من أجل المصلحة الراجحة، وإلا فإذا قال: ليس بصحيح، أنا ما رأيته يزني، وقد رأى هذا كذب، مخالف للواقع، مثل هذا إنما هو مجرد حكم شرعي لا يُلتفت فيه إلى الواقع، وإنما يُلتفت فيه إلى ما شرعه الله -جل وعلا- من صيانة عرض المسلم حتى يتم النصاب.

"وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهَا مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- وَغَيْرُهُ: تَوْبَتُهُ أَنْ يُصْلِحَ وَيَحْسُنَ حَالُهُ وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ قَوْلِهِ بِتَكْذِيبٍ، وَحَسْبُهُ النَّدَمُ عَلَى قَذْفِهِ وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ وَتَرْكُ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِهِ."

وجاء في الحديث: «الندم توبة»، فإذا ندم على ذلك صحّت توبته.

"وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَيُرْوَى عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ، إِذَا تَابَ وَظَهَرَتْ تَوْبَتُهُ لَمْ يُحَدَّ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَزَالَ عَنْهُ التَّفْسِيقُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مِمَّنْ يُرْضَى مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ -عز وجل-: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} [(82) سورة طـه] الآية."

إكذابه نفسه وتوبته، هل توبته مما يوجب الحد عليه أو مما يوجب الحد على غيره؟ هل توبته المطالب بها مما يوجب الحد عليه أو مما يوجب الحد على غيره؟ هو حُدّ وجُلِد، فهل قبول التوبة وعلامة التوبة أن يكذب نفسه مما حدّ بسببه، وأنه شهد شهادةً ناقصة بحيث لم يتم نصابها، أو لأنه قذف شخصًا محصنًا؟

طالب: فيه خلاف.

نعم، نعود إلى المسألة السابقة، وهو أنه إن كان مجرد قذف لا يستند إلى واقع، وأنه تعجل في القذف ولم يتحقق من حقيقة ما يوجب الحد هذا لا بد أن يكذب نفسه، وأما إذا كان قد رأى ذلك حقيقةً فهو يتوب مما حُدّ بسببه، وهو عدم تمام النصاب.

"الثانية والعشرون: اختلف علماؤنا -رحمهم الله تعالى- مَتَى تَسْقُطُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ، فَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: بِنَفْسِ قَذْفِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ: لَا تَسْقُطُ حَتَّى يُجْلَدَ، فَإِنْ مَنَعَ مِنْ جَلْدِهِ مَانِعُ عَفْوٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ: شَهَادَتُهُ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ مَوْقُوفَةٌ، وَرُجِّحَ الْقَوْلُ بِأَنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِالتَّكْذِيبِ فِي الْقَذْفِ، وَإِلَّا فَأَيُّ رُجُوعٍ لِعَدْلٍ إِنْ قَذَفَ وَحُدَّ وبقي على عدالته.

 

الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ شهادته بعد التوبة في أي شي تَجُوزُ، فَقَالَ مَالِكٌ- رحمه الله تعالى-: تجوز في كل شيء مطلقًا، وكذلك كل من حدّ في شيء من الأشياء."

يعني ما لم يمنع مانع آخر، ما لم يمنع من قبول شهادته مانع آخر.

"رَوَاهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ كِنَانَةَ. وَذَكَرَ الْوَقَارُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيمَا حُدَّ فِيهِ خَاصَّةً، وَتُقْبَلُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ. وَرَوَى الْعُتْبِيُّ عَنْ أَصْبَغَ وَسَحْنُونٍ مِثْلَهُ. قَالَ سَحْنُونٌ: من حد في شي مِنَ الْأَشْيَاءِ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِي مِثْلِ مَا حُدَّ فِيهِ. وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: من حد في قذف أو زنى فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنى، وَلَا فِي قَذْفٍ وَلَا لِعَانٍ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا، وَرَوَيَاهُ عَنْ مَالِكٍ. وَاتَّفَقُوا عَلَى وَلَدِ الزنى أن شهادته لا تجوز في الزنى."

ولد الزنا لا تجوز شهادته بالزنا، وهو رجل حر مكلف، عدل ثقة صالح، وما الذي يمنع من قبول شهادته؟ قد يقول قائل: إنه معروف بهذا الوصف، وأنه ولد زنا، وأنه مشتهر بين الناس بذلك، فيريد أن يكثر من شأن الزنا فيقذف به الناس، هو معروف بهذا الوصف، وبهذا الانتساب، ويشقّ عليه أن ينظر الناس إليه من هذه الحيثية بعين النقيصة، فتجده قد يتساهل في قذف فلان وفلان، ويفرح بخبرٍ جاء عن فلان، وأن فلانًا زنا، وأن فلانة زنت، يعني ليخف الأمر بين الناس إذا كثر، يعني إذا كان جنسه كثيرًا في البلد هان عليه الأمر، بخلاف ما إذا كان واحدًا نشازًا في البلد تضيق به الدنيا بما رحبت.

وهذا شأن كل من اتصف بنقيصة، سواء كانت خلقية أو خلقية أو غير ذلك، تجد سيئ الخلق يعزّ عليه أن لا يكون في بلد إلا هو سيئ الخلق، يحب أن يكون الناس كلهم أو جلهم على هذا الوصف؛ ليخف أمره عند الناس، فهل السبب في كونه لا تقبل شهادة ابن الزنا -ولد الزنا- أنه يتساهل بها؟ يتساهل بالقذف، ويتساهل بما يتعلق بأمور الزنا؛ ليكثر من يتصف بوصفه؟ يعني كل شخص اتصف بنقيصة ما يتمنى أن يكثر من يتصف بهذا الوصف؟ بغض النظر عن كون المسألة شرعية، وأن هذا لا يجوز أن يتمنى لأحد، ولو كان أسوأ الناس حالًا لا يجوز أن يتمنى أن يوجد مثله ولا واحد؛ لكن هذا واقع الناس، وهذا ما جبل عليه الناس، يتمنى أن يكون في البلد أكثر من شخص يحمل معه هذا العبء.

يعني لو افترضنا أن بلدًا سكانه مائة ألف، ووجد واحد –مثلًا- أبرص، ألا يتمنى هذا الشخص أن يكون في البلد عشرة أو عشرون، يعني يخف عليه الأمر، بحيث إذا رآهم خف عليه الأمر؟ وإذا تكلم في المجالس فإذا يشاركه ويشاطره عدد، فهل كلامهم هذا من هذه الحيثية، من هذا الباب أو مرده شيء آخر؟ لا تجوز شهادة ولد الزنا في الزنا، العلماء يقولون: تصح إمامة ولد الزنا، تصح إمامة ولد الزنا إذا سلم دينه، وهو شخص مسلم مكلف، قد يكون ثقة، وقد يصل إلى درجة من أهل العلم، ومن أهل الفضل والخير، فما الذي يمنع من قبول شهادته؟

طالب: سهولة الطن فيه.

سهولة الطعن فيه، لكن إذا كان بريئًا مما يطعن فيه إلا ما حصل من سبب وجوده وهو الزنا، هذا ما عليه تبعته هو، يعني هل عليه ذنب إن كان ولد زنا؟ ليس عليه ذنب، وليس هذا جرمه، ما جاء في الحديث أن ولد الزنا شر الثلاثة ليس بصحيح، هذا ليس بصحيح، فلا علاقة له في هذه المسألة، ولا تبعة عليه، قد يقول قائل: إن الغالب فيمن هذا وصفه أنهم في الغالب أنهم يخرجون غير صالحين أو غير ثقاة أو شيء من هذا، لكن الكلام على كل شخص بحسبه، إذا افترضنا أن ولد زنا، صار في غاية الصلاح والتقى والورع والفضل والمبادرة إلى الخيرات والمسارعة إليها، وصار له شأن في علم أو جاهٍ أو غير ذلك، فما المانع من قبول شهادته؟ هل لأنه يتساهل في الشهادة في هذا الباب؟ أما كونه يسهل الطعن فيه إذا كان الطعن بحق قُبل؛ وإذا  كان بغير حق لم يقبل.

طالب: لكي لا يتساهل أمر الزنا بين الناس.

يعني: ينبذ ولد الزنا من أجل ألا يتتابع الناس على الزنا؟ ما مرد شهادته يا شيخ؟

الطالب: ما ترد لأجل أنه من الزنا، الأصل قبولها ما لم يقدح فيه.

ما لم يقدح فيه بما يخرم ما ترد به شهادته.

"الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: الِاسْتِثْنَاءُ إِذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا مَعْطُوفَةً عَادَ إِلَى جَمِيعِهَا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِمَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَجُلُّ أَصْحَابِهِ يُرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءَ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الْفِسْقُ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إِلَى الْفِسْقِ خَاصَّةً لَا إِلَى قَبُولِ الشَّهَادَةِ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي هَذَا الْأَصْلِ سَبَبَانِ: أَحَدُهُمَا: هَلْ هَذِهِ الْجُمَلُ فِي حُكْمِ الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ لِلْعَطْفِ الَّذِي فِيهَا، أَوْ لِكُلِّ جُمْلَةٍ حُكْمُ نَفْسِهَا فِي الِاسْتِقْلَالِ وَحروفُ الْعَطْفِ مُحَسِّنٌ لَا مُشْرِكٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، لِجَوَازِ عَطْفِ الْجُمَلِ الْمُخْتَلِفَةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنَ النَّحْوِ."

 نعم، إذا عطف جملة على جملة قد تكون هذه الجمل مختلفة، زيد راكب، وعمر قائم، وبكر يأكل، وفلان يشرب.. الخ، جمل مختلفة، ولا تقتضي أن تكون متساوية، لكن عطف الأفراد على نية تكرار العامل، فهي مشرك بينهم فيما عطفوا عليه.

السبب الثاني: يشبه الِاسْتِثْنَاءُ بِالشَّرْطِ فِي عَوْدِهِ إِلَى الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، أَوْ لَا يُشْبَّهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ فَاسِدٌ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ وَلَا ترجيح، فتعين ما قاله الْقَاضِي مِنَ الْوَقْفِ. وَيَتَأَيَّدُ الْإِشْكَالُ بِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كِلَا الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ آيَةَ الْمُحَارَبَةِ فِيهَا عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْجَمِيعِ بِاتِّفَاقٍ، وَآيَةُ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ خَطأً فِيهَا رَدُّ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْأَخِيرَةِ بِاتِّفَاقٍ، وَآيَةُ الْقَذْفِ مُحْتَمِلَةٌ لِلْوَجْهَيْنِ، فَتَعَيَّنَ الْوَقْفُ مِنْ غَيْرِ مين. قال علماؤنا: وهذا نظر كُلِّيٌّ أُصُولِيٌّ. وَيَتَرَجَّحُ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُمَا اللَّهُ- مِنْ جِهَةِ نَظَرِ الْفِقْهِ الْجُزْئِيِّ بِأَنْ يُقَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى الْفِسْقِ وَالنَّهْيِ  عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ."

 النظر الكلي الأصولي يعني في القاعدة العامة، في الاستثناء المتعقب جملًا، هل يعود إلى الأخيرة أو إلى الجميع؟ النظر الجزئي الفقهي في هذه المسألة بعينها، ما الحكم؟

" بِأَنْ يُقَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى الْفِسْقِ وَالنَّهْيِ  عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ جَمِيعًا إِلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ ذَلِكَ بِخَبَرٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ. وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تَمْحُو الْكُفْرَ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا دُونَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمَلِ السابقة، قال: وليس من نسب إلى الزنى بأعظم جرمًا من مرتكب الزنى، ثُمَّ الزَّانِي إِذَا تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ (التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ).

والتوبة تهدم ما كان قبلها.

"وَإِذَا قَبِلَ اللَّهُ التَّوْبَةَ مِنَ الْعَبْدِ كَانَ الْعِبَادُ بِالْقَبُولِ أَوْلَى، مَعَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مَوْجُودٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، مِنْهَا قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ} [(33) سورة المائدة] إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ إِلَى الْجَمِيعِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَيْسَ الْقَاذِفُ بِأَشَدَّ جُرْمًا مِنَ الْكَافِرِ، فَحَقُّهُ إِذَا تَابَ وَأَصْلَحَ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ، قال: وقوله: {أَبَدًا}  أَيْ مَا دَامَ قَاذِفًا، كَمَا يُقَالُ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكَافِرِ أَبَدًا، فإن معناه ما دام كافرًا."

يعني ما دام متصفًا بالسبب الذي من أجله رُدَّت شهادته.

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لِلْمُخَالِفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهُ وَلَا تَقْبَلُونَ شَهَادَتَهُ! ثُمَّ إِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ عِنْدَ أَقْوَامٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ فَقَوْلُهُ: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [(4) سورة النــور] تَعْلِيلٌ لَا جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا، أَيْ لَا تَقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ لِفِسْقِهِمْ، فَإِذَا زَالَ الْفِسْقُ فَلَمْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؟ ثُمَّ تَوْبَةُ الْقَاذِفِ إِكْذَابُهُ نَفْسَهُ، كَمَا قَالَ عُمَرُ لِقَذَفَةِ الْمُغِيرَةِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، مَعَ إِشَاعَةِ الْقَضِيَّةِ وَشُهْرَتِهَا مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْحِجَازِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْطَارِ. وَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ مَا تَأَوَّلَهُ الْكُوفِيُّونَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَذْهَبَ عِلْمُ ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَلَقَالُوا لِعُمَرَ: لَا يَجُوزُ قَبُولُ تَوْبَةِ الْقَاذِفِ أَبَدًا، وَلَمْ يَسَعْهُمُ السُّكُوتُ عَنِ الْقَضَاءِ بِتَحْرِيفِ تَأْوِيلِ الْكِتَابِ، فَسَقَطَ قَوْلُهُمْ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ."

وأما بالنسبة للقول في هذه المسألة، فالحد لا تسقطه التوبة، وأما بالنسبة لارتفاع الوصف وهو الفسق فلا إشكال فيه، وهو محل اتفاق بين أهل العلم، والأقرب فيه ما اختلف فيه من قبول الشهادة أن الشهادة مقبولة؛ لأن السبب في التوقف في الشهادة وقبول الخبر هو الفسق، مجرد التوقف، فإذا زال هذا الوصف زال هذا التوقف، وزال الرد من باب أولى، فتقبل شهادته، ومن باب أولى روايته؛ لأن الرواية خبر، يختلف حكمها عن حكم الشهادة؛ لأن الشهادة في حقوق الآدميين مبناها على المشاحة، وأما بالنسبة للأخبار فالأمر فيها أوسع وأسهل في مثل هذا، ولذا يقبل فيها الرجل الواحد.

أقول: باب الرواية أوسع، ولذا يقبل فيها الواحد، الرواية، وتقبل فيها المرأة، تقبل رواية المرأة، ولو لم يشركها أحد، تقبل رواية العبد ولا تقبل شهادته، تقبل رواية المرأة ولا تقبل شهادتها منفردة، فباب الرواية أوسع، والصحيح قبول الشهادة أيضًا؛ لأنه تاب، وسبب رد شهادته الفسق قد ارتفع بالتوبة، ووجد من يشغب ويشوش على الناس في الأحاديث الصحيحة التي جاءت من طريق أبي بكرة، ولا يهمهم جميع ما يرويه أبو بكرة سوى حديثٍ واحد: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» لا يهمهم من أحاديث أبي بكرة إلا هذا الحديث، ويقولون: هذا مجلود بحد فلا تُقبل شهادته، ولا تُقبل روايته، ويقول هذا الكلام من لا يمت إلى العلم الشرعي من قبيل ولا دبير، ولا علاقة له به، لكن وجد هذه الفرصة يدلي بها وينصر بها حزبه وأقوامه، والله المستعان، فشهادته مقبولة، وروايته من باب أولى، ولا كلام لأحدٍ في مثل هذا.

"الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُجْلَدِ الْقَاذِفُ بِأَنْ مَاتَ الْمَقْذُوفُ قَبْلَ أَنْ يُطَالِبَ الْقَاذِفَ بِالْحَدِّ، أَوْ لَمْ يُرْفَعْ إِلَى السُّلْطَانِ، أَوْ عَفَا الْمَقْذُوفُ، فَالشَّهَادَةُ مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْخَصْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ النَّهْيَ عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجَلْدِ، قال الله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [(4) سورة النــور] وَعِنْدَ هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ شَرٌّ مِنْهُ حِينَ حُدَّ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ فَكَيْفَ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ فِي أَحْسَنِ حَالَيْهِ دُونَ أَخَسِّهِمَا.

قُلْتُ: هَكَذَا قَالَ وَلَا خِلَافَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ بِنَفْسِ الْقَذْفِ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ. وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ: تُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَإِنْ لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّهُ بِالْقَذْفِ يَفْسُقُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ حَتَّى تَصِحَّ بَرَاءَتُهُ بِإِقْرَارِ الْمَقْذُوفِ له بالزنى أو بقيام البينة عليه."

ترتيب رد الشهادة على الحد، أولًا إقامة الحد وعدمه مرجعه إلى المحدود، قد يكون عفا عنه، وقد قذفه قذفًا يستحق به العقوبة وما رُتِّب عليها، وكونه عفا عنه ولم يطالبه بذلك لا يعني أن ذنبه أخف، ولذا لو حُدَّ خفّ عليه الذنب؛ لأن الحدود كفارات، لكن إذا كان عدم المطالبة من قبل المقذوف مرجعها إلى تصديق المقذوف للقاذف كان الأمر في حقه أخف، فيكون حينئذٍ رد شهادته لا يترتب على إقامة الحد عليه، فينظر في كل مسألةٍ على حدة.

"السادسة والعشرون: قوله تعالى: {وَأَصْلَحُوا} [(5) سورة النــور] يُرِيدُ إِظْهَارَ التَّوْبَةِ. وَقِيلَ: وَأَصْلَحُوا الْعَمَلَ،{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [(5) سورة النــور] حيث تابوا وقبلت توبتهم."

اللهم صلى على محمد، يكفي إلى هنا؛ لأن الكلام طويل على آيات اللعان، طويل جدًّا.

طالب: إذا قذف أكثر من واحد؟

إذا قذف شخصًا واحدًا، أو أشخاصًا؟ كل شخص له حكم، إذا طالب أقيم عليه الحد، وإذا قذف ......

"