كتاب الرجعة من سبل السلام (6)

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

قال- رحمه الله تعالى- في كتاب الرجعة، باب اللعان في الحديث الثاني:

"وَعَنْ ابن عمرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: «حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالِي. فَقَالَ: «إنْ كُنْت صَدَقْت عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْت مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْت كَذَبْت عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَك مِنْهَا». متفقٌ عليه.

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: «حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ» بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: «أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ»، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا فَاَللَّهُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِجَزَائِهِ، «لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا» هُوَ إبَانَةٌ لِلْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا كَمَا سَلَفَ."

حرمة مؤبدة بعد تمام اللعان، تتم الحرمة المؤبدة بينهما على خلاف بين أهل العلم إذا أكذب نفسه، وحُدَّ حد القذف، هل يكون رجعيًّا أم يستمر التأبيد؟ مسألة خلافية، لكن المرجح أنَّها لا تعود إليها أبدًا، ولا سبيل له عليها.

"قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالِي" يُرِيدُ بِهِ الصَّدَاقَ الَّذِي سَلَّمَهُ إلَيْهَا، قَالَ: «إنْ كُنْت صَدَقْت عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْت مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْت كَاذِبًا عَلَيْهَا فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَك مِنْهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الْحَدِيثُ أَفَادَ مَا سَلَفَ مِنْ الْفِرَاقِ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ".

لأنَّ دعواهما متناقضتان، فلا يُمكن أن يكونا صادقين، لا يُمكن أن يكون، لابد أن يكون أحدهما كاذبًا.

"وَأَنْه لَا يَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِمَّا سَلَّمَهُ مِنْ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ صَادِقًا فِي الْقَذْفِ، فَقَدْ اسْتَحَقَّتْ الْمَالَ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا، فَقَدْ اسْتَحَقَّتْهُ أَيْضًا بِذَلِكَ، وَرُجُوعُهُ إلَيْهِ أَبْعَدُ؛ لِأَنَّهُ هَضَمَهَا بِالْكَذِبِ عَلَيْهَا، فَكَيْفَ يَرْتَجِعُ مَا أَعْطَاهَا؟

الحديث الثالث: وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبِطًا، فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا، فَهُوَ لِلَّذِي رَمَاهَا بِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبِطًا» بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا طَاءٌ مُهْمَلَةٌ، وَهُوَ الْكَامِلُ الْخَلْقُ مِنْ الرِّجَالِ، «فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ، وَهُوَ الَّذِي مَنَابِتُ أَجْفَانِهِ سُودٌ كَأَنَّ فِيهَا كُحْلًا وَهِيَ خِلْقَةٌ، «جَعْدًا» بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ فَدَالٍ مُهْمَلَةٍ، وَهُوَ مِنْ الرِّجَالِ الْقَصِيرُ، «فَهُوَ لِلَّذِي رَمَاهَا بِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَهُمَا فِي أُخْرَى فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ.

وَفِي الْأَحَادِيثِ ثَبَتَتْ لَهُ عِدَّةُ صِفَاتٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا وَلِلنَّسَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ سَرْدِ صِفَاتِ مَا فِي بَطْنِهَا: «اللَّهُمَّ بَيِّنْ»، فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِاَلَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ اللِّعَانُ لِلْمَرْأَةِ الْحَامِلِ، وَلَا يُؤَخَّرُ إلَى أَنْ تَضَعَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ؛ لِهَذَا الْحَدِيثِ".

وإنَّما الذي يؤخر الحد، حتى تضع وتفطم ولدها.

"وَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ: أنَّه لَا لِعَانَ لِنَفْيِ الْحَمْلِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رِيحًا، فَلَا يَكُونُ لِلِّعَانِ حِينَئِذٍ مَعْنًى.

قُلْت: وَهَذَا رَأْيٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَكَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَا لِعَانَ بِمُجَرَّدِ ظَنِّ الْحَمْلِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ لَا لِوِجْدَانِهِ مَعَهَا الَّذِي هُوَ صُورَةُ النَّصِّ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّهُ يَنْتَفِي الْوَلَدُ بِاللِّعَانِ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ النَّفْيُ فِي الْيَمِينِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصِحُّ اللِّعَانُ عَلَى الْحَمْلِ إلَّا بِشَرْطِ ذِكْرِ الزَّوْجِ.."

لا يصح، لا يصح إلا بشرط.

"وَعِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصِحُّ اللِّعَانُ عَلَى الْحَمْلِ إلَّا بِشَرْطِ ذِكْرِ الزَّوْجِ.."

يعني لابد أن يُنص على الولد، يعني في اللعان لابد أن يُنص على الولد عند هؤلاء، لكن إذا لاعن، فمعروف أنَّه ما جاء ليلاعن إلا لينتفي الولد، فإن لم يخطر على باله فلابد أن ينص عليه، يعني ما جاء لنفي الولد، وإنَّما جاء لإسقاط الحد مثلًا، فلابد أن يُنص عليه أنه احتمال لا يكون منه.

"إلَّا بِشَرْطِ ذِكْرِ الزَّوْجِ لِنَفْيِ الْوَلَدِ دُونَ الْمَرْأَةِ، وَأَنَّهُ يَصِحُّ نَفْيُ الْوَلَدِ، وَهُوَ حَمْلٌ، وَيُؤَخَّرُ اللِّعَانُ إلَى بَعْدَ الْوَضْعِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِمَا، بَل الْحَقُّ قَوْلُ الظَّاهِرِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي اللِّعَانِ عِنْدَهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَفْيُ الْوَلَدِ، وَلَمْ نَرَهُ فِي حَدِيثِ هِلَالٍ، وَلَا عُوَيْمِرٍ، وَلَمْ يَكُنِ اللِّعَانُ إلَّا مِنْهُمَا فِي عَصْرِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وَأَمَّا لِعَانُ الْحَامِلِ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَاعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ، وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهِ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَأُلْحِقَ الْوَلَدُ بِالْمَرْأَةِ.

وَفِي حَدِيثِ سَهْلٍ: وَكَانَتْ حَامِلًا فَأَنْكَرَ حَمْلَهَا، وَذَكَر أَنَّهُ انْتَفَى مِنْ وَلَدِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ نَفْيِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ الرَّجُلُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ نَفْيُ الْحَمْلِ وَاللِّعَانُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَاعَنَهَا حَامِلًا ثُمَّ أَتَتْ بِالْوَلَدِ لَزِمَهُ، وإن لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ نَفْيِهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَهَذِهِ قَدْ بَانَتْ بِلِعَانِهِمَا فِي حَالِ حَمْلِهَا. وَيُجَابُ بِأَنَّ هَذَا رَأْيٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ الثَّابِتِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا".

كأنَّ أبا حنيفة رأى أنَّ انتفاء الولد إنَّما هو بعد تمام اللعان، وبعد حول الفرقة، لكن إذا قلنا: إنَّه من نتيجة اللعان كما أنَّ الفرقة المؤبدة من نتيجته ما حصل الإشكال الذي أوردوه.

"وَإِنْ كَانَ الْبُخَارِيُّ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ فِيهِ: وَكَانَتْ حَامِلًا، مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ، لَكِنَّ حَدِيثَ الْبَابِ صَحِيحٌ صَرِيحٌ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَافَةِ، وَكَانَ مُقْتَضَاهَا إلْحَاقُ الْوَلَدِ بِالزَّوْجِ إنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لِلْفِرَاشِ، لَكِنَّهُ بَيَّنَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَانِعَ عَنْ الْحُكْمِ بِالْقِيَافَةِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا بِقَوْلِهِ: «لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ»."

«لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ»، الأيمان هذه لا، هذا الاستدراك الذي ذُكر لولا لا علاقة له بالولد، الولد جاءت به على الوصف المطلوب، ولا يُمكن أن يُلحق بأبيه؛ لأنَّه لاعن، ولو لم يلاعن لألحق به، ولو جاء بالوصف المكروه. المسألة شرعية، الولد للفراش، ولا فراش، لكن لمَّا لاعن انتفى الولد عنه، «لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» يعني لرجمتها؛ لتبين صدقه، لكنها لاعنت، وهذا الحكم تدرئ عنها الحد باللعان، ويحصل عليها الأثار المترتبة به.

"الحديث الرابع: وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ عَلَى فِيهِ، وَقَالَ: «إنَّهَا المُوجِبَةٌ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ مِنْ الْحَاكِمِ الْمُبَالَغَةُ فِي مَنْعِ الْحَلِفِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا، فَإِنَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنَعَ بِالْقَوْلِ بِالتَّذْكِيرِ وَالْوَعْظِ كَمَا سَلَفَ، ثُمَّ مَنَعَ هَاهُنَا بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ أَمَرَ بِوَضْعِ يَدِ أَحَدٍ عَلَى فَمِ الْمَرْأَةِ، وَإِنْ أَوْهَمَهُ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ.

وَقَوْلُهُ: «إنَّهَا المُوجِبَةٌ» أَيْ لِلْفُرْقَةِ، وَلِعَذَابِ الْكَاذِبِ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّعْنَةَ الْخَامِسَةَ وَاجِبَةٌ.

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّحْلِيفِ فَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاس ٍفِي تَحْلِيفِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «احْلِفْ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ إنِّي لَصَادِقٌ» يَقُولُ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ.. الْحَدِيثُ بِطُولِهِ، قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.

الحديث الخامس: وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ- قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلَاعُنِهِمَا، قَالَ: كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا. فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، متفقٌ عليه.

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ قَالَ:- أَيْ الرَّجُلُ- فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلَاعُنِهِمَا، قال: كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَحْقِيقِ الْمَقَامِ."

وهل الفرقة تقع بمجرد اللعان، أو لابد من الطلاق؟ والجمهور على أنَّها تقع بمجرد اللعان، وهي من مقتضياته، وكونه لاعن من غير أن يأمره النبي- عليه الصلاة والسلام-، فهذا قدر زائد عن المحتاج.

"الحديث السادس: وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ. قَالَ: «غَرِّبْهَا»، قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَتْبَعَهَا نَفْسِي. قَالَ: «فَاسْتَمْتِعْ بِهَا». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَزَّارُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ قَالَ: «طَلِّقْهَا»، قَالَ: لَا أَصْبِرُ عَنْهَا. قَالَ: «فَأَمْسِكْهَا».

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، قَالَ: «غَرِّبْهَا» بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ وَبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ أَبْعِدْهَا يُرِيدُ الطَّلَاقَ، قَالَ: أخشى أَنْ تَتْبَعَهَا نَفْسِي، قَالَ: «اسْتَمْتِعْ بِهَا». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد والبزار، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ".

عندك الترمذي؟

طالب: .......

ما عندك الترمذي؟

رواه الترمذي؟

طالب: لا يا شيخ.

فيه الترمذي، أبو داود والترمذي والبزار.

طالب: ..........

ما فيه الترمذي، ولا عزي للترمذي عندك تحت؟

طالب: .........

عندنا: رواه أبو داود والترمذي والبزار، ورجاله ثقات.

طالب: .........

إذا ما عزاه، فالمسألة مقابلة، احتمال أن يَهِم المؤلف في عزوه للترمذي.

"وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ الصِّحَّةَ، لَكِنَّهُ نَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَثْبُتُ عَنْ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، فَتَمَسَّكَ بِهَذَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَعَدَّهُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، مَعَ أَنَّهُ أَوْرَدَهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ قال: «طَلِّقْهَا»، قَالَ: لَا أَصْبِرُ عَنْهَا، قَالَ: «فَأَمْسِكْهَا».

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: "لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ" عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَاهُ الْفُجُورُ، وَأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ مَنْ يُرِيدُ مِنْهَا الْفَاحِشَةَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَالْخَلَّالُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَالْخَطَّابِيُّ".

لكن هذا يرده قوله: «فَأَمْسِكْهَا»، إن صح الخبر؛ لأنَّه لا يجوز إمساك الزانية؛ لأنَّ الخبيثات للخبيثين، إلا إذا تابت فإنَّه لا يؤمر بالطلاق، إذا ندمت وتابت فإنَّه لا يؤمر بطلاقها.

"وَاسْتَدَلَّ بِهِ الرَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَطْلِيقُ مَنْ فَسَقَتْ بِالزِّنَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُفَارَقَتِهَا.

وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُبَذِّرُ بِمَالِ زَوْجِهَا، وَلَا تَمْنَعُ أَحَدًا طَلَبَ مِنْهَا شَيْئًا مِنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ وَالْأَصْمَعِيِّ وَنَقَلَهُ عَنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى مَنْ ذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ، وَهُوَ أَشْبَهَ بِالْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ يَشْكُلُ عَلَى ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [سورة النور:3]، وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ.

قُلْت: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فِي غَايَةٍ مِنْ الْبُعْدِ، بَلْ لَا يَصِحُّ لِلْآيَةِ؛ وَلِأَنَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَأْمُرُ الرَّجُلَ أَنْ يَكُونَ دَيُّوثًا، فَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ، وَالثَّانِي بَعِيدٌ".

لا سيما وأنَّها قد ربت على هذا، ونشأت عليه، لا يُقال: إنَّها حصلت منها هفوة ولا ذلة، وتابت وأنابت، هذا طبعها لا ترد يد لامس، كل من دعاها أجابت على هذا الاحتمال، فمثل هذه لا يجوز إمساكها، بل من يمسكها ديوث- نسأل الله السلامة والعافية-، بخلاف من وقعت منها هفوة، أو ذلة، أو استدرجت، أغواها الشيطان ثم بعد ذلك تابت وأنابت، مثل هذه لا يجوز فراقها إذا تابت، وإن فارقها فالأمر إليه لا يعدوه، وإن كانت غيرة المسلم تقتضي ذلك، لكنه لا يُلزم حكمًا بفراقها. أمَّا التي لا ترد يد لامس، تذهب مع كل من دعاها، فهذه لا يجوز البقاء معها أبدًا.

"والثاني بعيد؛ لِأَنَّ التَّبْذِيرَ إنْ كَانَ بِمَالِهَا فَمَنْعُهَا مُمْكِنٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ فَكَذَلِكَ، وَلَا يُوجِبُ أَمْرُهُ بِطَلَاقِهَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُتَعَارَفْ فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ لَا يَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ كِنَايَةً عَنْ الْجُودِ، فَالْأَقْرَبُ الْمُرَادُ أَنَّهَا سَهْلَةُ الْأَخْلَاقِ لَيْسَ فِيهَا نُفُورٌ وَحِشْمَةٌ عَنْ الْأَجَانِبِ، لَا أَنَّهَا تَأْتِي الْفَاحِشَةَ، وَكَثِيرٌ مِنْ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مَعَ الْبُعْدِ عن الْفَاحِشَةِ، كما قال أبو الطيب: بيضاء يطمع فيها كف حلتها         وعز ذلك مطلوب إذا طلب

 وَلَوْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ نَفْسَهَا عَنْ الْوِقَاعِ مِنْ الْأَجَانِبِ لَكَانَ قَاذِفًا لَهَا."

طالب: .........

نفس الحديث، حديث هذا الباب؟

طالب: .......

إذًا كلامه الأول صحيح، رواه أبو داود والترمذي.

طالب: ..........

نعم. ماذا فيه؟

طالب: ..........

نعم.

طالب: .........

فهو من مائه حقيقة لا حكمًا. أمَّا حكمًا فينتفي.

"الحديث السابع: وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَلَن يُدْخِلْهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ- وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ- احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ».

أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ» أَيْ يَعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدُهُ".

يعني يكثر السؤال عن مثل هذه الصورة، امرأة قارفت ما قارفت، وهي ذات زوج، ثم حبلت من الزنا وسكتت، ولم تخبر الزوج، وولدت، وربته، وأرضعته، وربته، وعاش بين أهله وأعمامه وأخواله من غير نكير، وبعد مدة طويلة عشر سنين، عشرين سنة تابت، هل تقول؟ هل تخبر به الزوج أو لا تخبر؟

لأنَّها الآن أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، وبإخبارها ينتفي هذا الحكم، لكن هل يُقال: لابد من تمام التوبة أن تخبره وتنفي الولد عن هذا الرجل؟

على كل حال هو ولد على فراشه، وله حكمًا، من ناحية الحكم هو له؛ لأنَّه ولد على فراشه، وبالنسبة لمحارمه محارم له باعتبار أنَّها أرضعته، فماذا يبقى من المحظور هنا؟

لا شك أنَّها أدخلت على القوم من ليس منهم. نعم يبقى الإرث، ويبقى بقية الأمور من البر والصلة والعقوق؛ لأنَّه لا يُطلب من الولد من الرضاع مثل ما يُطلب من ولد الصلب، فالمسألة خطيرة جدًّا؛ لأنَّهم يتساهلون في أول الأمر، ومن بعد ذلك يصعب الحل، كيف إذا جاءت باثنين، وثلاثة، وأربعة، واحدة تسأل عن الستة- نسأل الله السلامة والعافية-.

طالب: .........

والله يُنظر إلى الآثار والأسباب، والآثار المترتبة على ذلك؛ لأنَّ بعض الآباء إذا وجد له ولد بعد عمر طويل مثلًا، وسكتت، ونسبته إليه، ثم بعد ذلك كان مبتلى بأمراض، أو شيء من هذا إذا أُخبر بمثل هذا خطر عليه يموت، لكن هل نقول: تخبر ولو حصل ما حصل؟

وهذه مصيبة لابد أن يحتملها، وله أيضًا نصيب منها؛ لأنَّ عليه رعايتها، والاهتمام بها، وعلى كل حال مثل هذه من عُضَل المسائل تحتاج إلى أنَّ الإنسان يعي الأمور «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ»، يعني امرأة تسأل عن ستة- نسأل الله السلامة والعافية-، كيف تتوب مثل هذه؟ من تاب تاب الله عليه، والتوبة من الشرك مقبولة، من الكفر مقبولة، فهذا من باب أولى، لكن كيف تُخبر؟ تُخرِج هؤلاء الشباب الذين بلغ بعضهم العشرين، والخمسة عشر، كلفوا، وهم منسوبون لهذا الشخص، وليس له منهم شيء، نسأل الله السلامة والعافية.

طالب: ..........

نعم.

طالب: ..........

أظن بالنسبة للحكم هم ولدوا على فراشه، فهم أولاده، هذا الحكم الشرعي، لكن هي كيف تخرج من هذا الوعيد؟ هل ترتكب أخف الضررين، وتقول: والله بالنسبة للكشف والمحارم أنا أرضعتهم فهم محارم، والرجل ولدوا على فراشه، ولا يعلم عنهم شيء، فهم أولاده، بينما هو بيت قائم يقومون بحوائجه بعد حاجته إليهم، ثم يكون لا ولد له ولا امرأة ولا شيء؟ يعني المسألة كارثة، كارثة، لكن الحكم الشرعي لابد منه. نسأل الله العافية. 

قال: "«احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ». أَخْرَجَهُ َالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَا يُعْرَفُ عَبْد اللَّهِ إلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَفِي تَصْحِيحِهِ نَظَرٌ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيُّ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِتَفَرُّدِ عَبْدِ اللَّهِ.

وَفِي الْبَابِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَفِيهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْخوْزِيُّ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَكِيعٍ، وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ وَكِيعٌ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ وَاضِحٌ.

الحديث الثامن: وَعَنْ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "مَنْ أَقَرَّ بِوَلَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ"، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ حَسَنٌ مَوْقُوفٌ.

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ النَّفْيُ لِلْوَلَدِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا سَكَتَ بَعْدَ العلم وَلَمْ يَنْفِهِ، فَقَالَ الْمُؤَيَّدُ: إنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ لَهُ النَّفْيَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ وَذَلِكَ كَالشَّفِيعِ إذَا أَبْطَلَ شُفْعَتَهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِاسْتِحْقَاقِهَا، وَذَهَبَ أَبُو طَالِبٍ إلَى أَنَّ لَهُ النَّفْيَ مَتَى عَلِمَ إذْ لَا يَثْبُتُ التَّخْيِيرُ مِنْ دُونِ عِلْمٍ، فَإِنْ سَكَتَ عِنْدَ الْعِلْمِ لَزِمَ وَلَمْ يُمَكَّنْ مِنْ النَّفْيِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يُعْتَبَرُ عِنْدَهُ فَوْرٌ، وَلَا تَرَاخٍ بَلْ السُّكُوتُ كَالْإِقْرَارِ، وَقَالَ الْإِمَامُ يَحْيَى وَالشَّافِعِيُّ: بَلْ يَكُونُ نَفْيُهُ عَلَى الْفَوْرِ"

يعني من بلوغه الخبر، من علمه به ينفي. أمَّا قبل العلم فلا يفيد نفيًا ولا إثباتًا قبل علمه به، كمن أبرأ شخصًا من دينه الذي لا يظنه، جاء شخص قال: أريد منك أن تبيحني إن كان في ذمتي لك شيء، وهو لا يدري أنَّ له شيئًا، ثم قال: مباح، حل، ثم جاءه قال: أنا لي عندك قرضًا أقرضته منك في يوم كذا، مبلغه كذا، وأنت أبحتني، قال: أنا ما دريت لي عندك شيء، أبحتك على البراءة الأصلية، لكن مادام عندك لي شيء هات، يتم الحل وتتم الإباحة؟ ما تتم إلا بعد العلم.

"قَالَ: وَحَدُّ الْفَوْرِ مَا لَمْ يُعَدَّ تَرَاخِيًا عُرْفًا كَمَا لَوْ اشْتَغَلَ بِإِسْرَاجِ دَابَّتِهِ، أَوْ لُبْسِ ثِيَابِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يُعَدَّ تَرَاخِيًا، وَلَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ تَقَادِيرُ لَيْسَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ إلَّا الرَّأْيُ وَفُرُوعٌ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ أَصِيلٍ.

الحديث التاسع: وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ. قَالَ: «هَلْ لَك مِنْ إبِلٍ؟»، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَمَا أَلْوَانُهَا؟» قَالَ: حُمْرٌ. قَالَ: «هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَأَنَّى لها ذَلِكَ؟» قَالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ. قَالَ: «فَلَعَلَّ ابْنَك هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَهُوَ يُعَرِّضُ بِأَنْ يَنْفِيَهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُ.

"وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا" قَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ: إنَّ اسْمَهُ ضَمْضَمُ بْنُ قَتَادَةَ".

ويُذكر من القصص الواقعة في الأيام الأخيرة أنَّ رجلًا شديد البياض تزوج امرأة أشد بياضًا منه، وكان رجل أعمال له أسفار طويلة، فحملت فجاءت بولد أسود في حال غيبته، فجاءت بولد أسود لا على الأم ولا على الأب، فاقتضى نظر الأم مع إخوانها أن يتخلصوا منه؛ لأنَّه إذا جاء أبوه يتهمها، وتتهم من جميع طبقات المجتمع، فبعد ذلك لمَّا حضر قالوا: جاء ولد ومات، ثم بعد ذلك تكررت ثانية، مسافر وفعلوا مثلما فعلوا في الأولى، ثم في المرة الثالثة قال: لابد أن أحضر الولادة، لابد أن أحضر، فحضر فجاءت بولد أسود، فقال: لا إله إلا الله، كأنَّه جدي لأمي، فندموا على ما فعلوا. نعم، الولد ينزعه العرق، يُنزع إلى جد قريب أو بعيد، أو عم، أو خال يُنزع، فهذه المسألة واقعية، يعني ما هي افتراضية، فندموا ندامة الكساعي.

"قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ. قَالَ: «هَلْ لَك مِنْ إبِلٍ؟»، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَمَا أَلْوَانُهَا؟» قَالَ: حُمْرٌ. قَالَ: «هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟» بِالرَّاءِ وَالْقَافِ بِزِنَةِ أَحْمَرَ".

يعني على وزنه الصرفي.

"وَهُوَ الَّذِي فِي لَوْنِهِ سَوَادٌ لَيْسَ بِحَالِكٍ، "قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَأَنَّى لها ذَلِكَ؟» قَالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ" بِالنُّونِ فَزَايٍ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ جَذَبَهُ إلَيْهِ، عِرْقٌ، قَالَ: «فَلَعَلَّ ابْنَك هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (وهُوَ) أَيْ الرَّجُلُ يُعَرِّضُ بِأَنْ يَنْفِيَهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُ".

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا الْقَوْلُ مِنْ الرَّجُلِ تَعْرِيضٌ بِالرِّيبَةِ كَأَنَّهُ يُرِيدُ نَفْيَ الْوَلَدِ، فَحَكَمَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ، وَلَمْ يُجْعَلْ خِلَافُ الشَّبَهِ وَاللَّوْنِ دَلَالَةً يَجِبُ الْحُكْمُ بِهَا وَضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِمَا يُوجَدُ مِنْ اخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ فِي الْإِبِلِ وَلِقَاحُهَا وَاحِدٌ.

وَفِي هَذَا الباب إثْبَاتُ الْقِيَاسِ وَبَيَانُ.."

وفي هذا، يعني في هذا الحديث.

طالب: الباب أم الحديث يا شيخ؟

الحديث.

"وَفِي هَذَا الباب إثْبَاتُ الْقِيَاسِ، وَبَيَانُ أَنَّ الْمُتَشَابِهَيْنِ حُكْمُهُمَا مِنْ حَيْثُ الشَّبَهِ وَاحِدٌ. ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ فِي الْمَكَانِيِّ".

جمع كناية، هذا تعريض، وليس بتصريح.

"وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي الْقَذْفِ الصَّرِيحِ، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: التَّعْرِيضُ إذَا كَانَ عَلَى جِهَةِ السُّؤَالِ لَا حَدَّ فِيهِ"

كالتصريح، إذا كان على جهة السؤال أو الاستفتاء وما أشبه ذلك لا يُقصد منه القذف، فإنَّه لا حد فيه.

"وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي التَّعْرِيضِ إذَا كَانَ عَلَى الْمُوَاجَهَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ، وَقَالَ ابْنُ المنير: يُفَرَّقُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْأَجْنَبِيِّ فِي التَّعْرِيضِ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ يَقْصِدُ الْأَذِيَّةَ الْمَحْضَةَ، وَالزَّوْجَ قَدْ يُعْذَرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى صِيَانَةِ النَّسَبِ.

 وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَفْيُ الْوَلَدِ بِاخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالسُّمْرَةِ وَالْأُدْمَةِ، وَلَا فِي الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ إذَا كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ وَلَمْ تَمْضِ مُدَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ.

 قَالَ فِي الشَّرْحِ: كَأَنَّهُ أَرَادَ فِي مَذْهَبِهِ، وَإِلَّا فَالْخِلَافُ ثَابِتٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِتَفْصِيلٍ، وَهُوَ إنْ لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ قَرِينَةُ زِنًا لَمْ يَجُزْ النَّفْيُ، وَإِنْ اتَّهَمَهَا فأتت بِوَلَدٍ عَلَى لَوْنِ الرَّجُلِ الَّذِي اتَّهَمَهَا بِهِ جَازَ النَّفْيُ عَلَى الصَّحِيحِ."

نعم؛ لأنَّ مثل هذا يورث غلبة ظن.

"وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ النَّفْيُ مَعَ الْقَرِينَةِ مُطْلَقًا، وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَالْحَدِيثُ يَحْتَمِلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ مَعَهُ قَرِينَةَ الزِّنَا، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ مُخَالَفَةِ اللَّوْنِ."

يكفي، بارك الله فيكم.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.

الباب الذي يليه عشرون حديثًا، فكوننا نقف عليه أفضل مثل الموافقات.

أحسن الله إليك، وجزاك الله خيرًا.