كتاب البيوع من المحرر في الحديث - 05

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فمازال الحديث والكلام على حديث ابن عمر: "كنتُ أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير" إلى آخر الحديث، إلى آخر الحديث، وشرح الحديث انتهى وبقي الحكم عليه.

 قال: "رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه، والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه".

 وذكرنا ما في كلام الحاكم من كون الحديث على شرط مسلم بالإطلاق أن مسلمًا يروي بهذه السلسلة التي خرج بها هؤلاء الأئمة هذا الحديث، لكن خفي على الحاكم أن علة هذا الحديث تفرُّد سماك بن حرب، وهو ممن لا يُقبَل تفرُّده، ولا يُحتمَل تفرده، لاسيما مع معارضة من هو أوثق وأكثر، وتفرَّد بروايته عن ابن عمر مرفوعًا وخالفه في ذلك نافع عن ابن عمر وسالم عن ابن عمر وسعيد بن المسيب عن ابن عمر، كلهم أوقفوه على ابن عمر، وقلنا في درس الأمس: إن مثل هذه الصيغة ومثل هذا الحوار يعني لو كان مجردًا، قوله مجردًا قال ابن عمر: قال الرسول- عليه الصلاة والسلام- كذا، مقالة واحدة تسلم ليس فيها حوار على هذه الطريقة، يمكن أن يقال: إن هذا موقوف على ابن عمر، لكن التركيب بهذه الصيغة وبهذه الدبلجة على ما قالوا: الحوار مرتب، سؤال وجواب، يرتب بعضه على بعض، ثم يقول: موقوف على ابن عمر، هذا التركيب الموجود إما أن يكون بالفعل من كلام ابن عمر ثابتًا عنه، وأنه سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- فأجابه بذلك، وإما أن يكون ترتيبًا ممن دون ابن عمر من رواته، وحينئذ لا يكفي أن يقال: ضعيف، مثل هذا التركيب إذا وجد من بعض الرواة مما لا يمكن إثباته مرفوعًا عن ابن عمر.

 طيب احتمال أن يكون السائل لابن عمر قال له: رويدك يا ابن عمر، أسألك، إني كنت أبيع، فالبائع هنا ابن عمر أم من دون ابن عمر؟

واضح أنه ابن عمر في السؤال، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، يعني إذا قبلنا القول بالوقف وهو قول الأكثر وقول الأحفظ، وهذا مقتضى صنيع الأئمة في الترجيح يكون القائل كنت أبيع الإبل بالبقيع من دون ابن عمر، ويكون المسؤول رويدك أسألك إني أبيع الإبل المسؤول هو ابن عمر، فيكون موقوفًا عليه من كلامه، أما أن يكون ابن عمر هو الذي يبيع الإبل بالبقيع، وحصل سؤال وجواب لمن؟ من ابن عمر لمن؟

 للنبي -عليه الصلاة والسلام-، فإما أن يكون مركبًا على لسان ابن عمر، ويكون حينئذ موضوعًا، وإما أن يكون بالفعل نسبته إلى ابن عمر، وأنه سأل النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأن الراوي الموصوف بشيء من سوء الحفظ قد يضبط، قد يضبط، ليست كل أحاديث من رمي بسوء الحفظ غير محفوظة ولا متقنة؛ لأنه قد يروي ويضبط ويكرر هذا الحديث، ويتعاهد هذا الحديث، ويضبط".

 وأما بقية من رواه عن ابن عمر موقوفًا لا شك أنه أكثر وأحفظ من سماك، وسماك فيه كلام لأهل العلم، نُسب إلى شيء من الخطأ، لكن الخطأ ما يكون بهذه الطريقة، ما يكون بهذه الطريقة، إلا أن يكون مركبًا من أوله إلى آخره منسوبًا لابن عمر، وليس من قوله.

 على كل حال قال: "وقال الترمذي: لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث سماك"، وعرفنا أنه خالفه ووقفه على ابن عمر ثلاثة من الآخذين عن ابن عمر، وهم من الحفاظ، سماك لا يعادل مد أحدهم ولا نصيفه، نافع عن ابن عمر، سالم مولى ابن، سالم مولى، سالم بن عبد الله بن عمر، ونافع مولى ابن عمر، ومن أخص الناس بعبد الله بن عمر مثل هذين سعيد بن المسيب سيد التابعين وأعلمهم عند الإمام أحمد على الإطلاق.

 على كل حال إذا نظرنا إلى قواعد الترجيح عند أهل العلم لا شك أن رواية هؤلاء الحفاظ هي الراجحة، وتكون هي المحفوظة، وما يقابلها يكون شاذًّا، لكن لا شك أن النظر في المتن له نصيب عند أهل العلم النظر في المتن له نصيب عند أهل العلم، ومثل ما ذكرنا القائل: كنت أبيع الإبل، واضح أن النسبة لابن عمر فيما يظهر من سياق الخبر، وأنه يسأل النبي -عليه الصلاة والسلام- فكيف يكون موقوفًا وهو بهذه الصفة، يعني مستبعد أن يكون اللهم إلا أن يكون مركبًا. يعني قد تجد في بعض كتب التاريخ أو كتب الأدب خبرًا إسناده كالشمس مالك عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم تبحث عن هذا الخبر في الدواوين المعتبرة من كتب السنة، فلا تجد، لا تجد له أثرًا.

 هل تقول: إن هذا من أصح الأسانيد، بل هذا أصح الأسانيد عند الإمام البخاري، فتقبل الخبر، لا، نقول: إن هذا الإسناد مركب على هذا الخبر، لماذا لو أن له أصلاً لخرج في كتب الأئمة، ومن علامات الوضع أن يبحث الخبر في كتب الأئمة في دواوين الإسلام فلا يوجد له أثر.

 قال: "وروى أبو داود ابن أبي هند" فيه خطأ، ماذا عندك؟

طالب: ...........

داود بن هند بدون أب.

 "وروى داود بن هند هذا عن سعيد بن جبير عن ابن عمر موقوفًا" يعني يضاف إلى الثلاثة الحفاظ سعيد بن جبير، يعني سعيد بن المسيب ونافع وسالم وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب عن ابن عمر موقوفًا.

 وعلى كل حال إذا نظرنا إلى القواعد المتبعة المعتبرة عند أهل العلم رجحنا رواية هؤلاء الأئمة على رواية سماك، لكن أنا لي نظر من حيث الصياغة، صياغة الخبر، فإما أن يكون مركَّبًا، وحينئذ لا يكفي أن يقال: ضعيف، وأما كونه موقوفًا على ابن عمر بهذه الطريقة، ويكون السائل والذي يبيع شخصًا آخر غير ابن عمر هذا يحتاج إلى إعادة نظر.

 قال -رحمه الله-: "وعن جابر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المحاقلة، نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وعن الثنيى إلا أن تُعلَم"، وبعض الشراح يضبطها الثنَيَّا كالثرَيَّا.

 "رواه أبو داود والنسائي وهذا لفظه، والترمذي وصححه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المحاقلة".

 المحاقلة من الحقل، وهو الزرع من الحقل، وهو الزرع وقالوا: إن المحاقلة هي بيع الزرع بالحب بيع الزرع السنبل بالحب، وتكون نظير المزابنة التي هي بيع الرطب بالتمر وبيع العنب بالزبيب، يعني الشيء الرطب بشيء من جنسه يابسًا أو جافًّا ناشفًا.

 "نهى عن المحاقلة والمزابنة" المزابنة من الزبن، وهو الدفع، وهي كما قالوا: بيع الرطب بالتمر الرطب بالتمر الجاف بالجاف، ومعلوم أن بيع الجنس بجنسه لا بد فيه من التساوي والتقابض، التساوي والتقابض، ولا يمكن أن يتساوى الرطب مع الجاف، لا يمكن؛ لأنه إذا جف الرطب خف وقل «أينقص الرُّطَب إذا جف؟» قالوا: نعم، قال: «فلا إذًا»، فلا يجوز بيع الرطب بالجاف، الرطب بالتمر، ولا بيع العنب بالزبيب، كما أنه لا يجوز بيع الزرع بالحب الجاف الناشف لا يجوز؛ لأن الرطب إذا جف نقص، وحينئذ لا يتصور التساوي استثني من المزابنة العرايا بشروط معروفة مستنبطة من الأحاديث الواردة فيه، يعني خمسة أوسق يحتاجها من يحتاجها من المسلمين.

 وبعضهم يقول: لا بد أن يكون من أهل الحاجة الذين هم أهل الفقر يكون عندهم تمر جاف بقي من ثمرة العام الماضي، ويحتاج إلى رطب يأكله مع الناس، فاستثنيت العرايا في خمسة أوسق فما دون.

 "والمزابنة والمخابرة" المخابرة هي المزارعة، والمزارعة التي المخابرة.. المزارعة التي نُهِيَ عنها إجارة الأرض على أن يزرعها الخبير بالزراعة، على أن يزرعها، ومن هذا نأخذ المزارعة الخبير بالزراعة ومنها نأخذ المخابرة يأخذها يستأجرها من صاحبها بجزء مما تنتجه هذه الأرض، وجاء فيها أحاديث كثيرة في النهي عنها، وجاء في الصحيحين وغيرهما ما يدل على جوازها، ولا شك أن أحاديث النهي محمولة على نوع، وأحاديث الجواز محمولة على نوع، فإذا كانت المزارعة بجزء مشاع مما يخرج من هذه الأرض بحيث يشترك المزارِع وصاحب الأرض في المغنم والمغرم أنتجت هذه الأرض ما قيمته مائة ألف، والمزارِع له نسبة خمسون بالمائة، أربعون بالمائة، ثلاثون بالمائة، أكثر، أقل، ما يقال: والله إن خسارة المزارع أكثر من خسارة صاحب الأرض، أو خسارة صاحب الأرض أكثر.

 لكن الصورة الممنوعة من المزارعة والمخابرة، الصورة الممنوعة أن يقال: ازرع هذه الأرض ولك ما يخرجه جزؤها الشمالي وأنا لي جزؤها الجنوبي؛ لأنه قد ينتج هذا، ولا ينتج هذا، فيحصل الضرر على واحد منهما دون الآخر، أما إذا حصل الضرر على الجميع والمغنم والربح للجميع فهذه هي الصورة الجائزة، لا يمكن أن يعمل المزارع سنة كاملة يكد ويكدح في أرض لزيد من الناس، ثم يكون المغنم كله لصاحب الأرض، والمزارع ليس له شيء، وكذا العكس، وكانوا يزارعون ويخابرون على أن يستثني صاحب الأرض ما على الجداول والأنهار؛ لأنها تكون غلتها أكثر، فجاء النهي عن المزارعة وعن المخابرة؛ لأنه ينتفع أكثر بنسبة أكبر من نسبة صاحب الأرض، أما أن يشتركا في المغنم والمغرم فلا مانع منه، كالمضاربة، يشتركان في المغنم والمغرم.

"والمخابرة وعن الثنيا أو الثنَيَّا إلا أن تُعلَم" الثنيى ما يستثنى من المبيع أيًّا كان سواء كان من مزروع أو مصنوع أو مأكول أو مشروب أو ملبوس أو غير ذلك، أبيعك هذا القطيع إلا بعضه هذا استثناء، لكن هل هو معلوم؟ تجوز مثل هذه الصورة؟ لا تجوز أبيعك هذا البستان إلا نخلات منه، حتى ولو قال: عشر نخلات لا بد أن يعينها ويقول: تُعلم ولذا قال: "نهى عن الثنيا إلا أن تعلم رواه أبو داود والنسائي وهذا لفظه والترمذي وصححاه".

 هذا واحد من الإخوان كتب يقول:

حديث جابر -رضي الله عنه- نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الثنيا إلا أن تعلم، أعله البخاري في العلل الكبير والترمذي؛ لأنه لا يعرف سماع ابن يونس بن عبيد عن عطاء بن أبي رباح كما عده النسائي وابن حجر -رحمهما الله- من المدلسين فهل العلة التي ذكرها البخاري مؤثرة في الحديث؟

كون إمام من الأئمة في الحديث يعل خبرًا بما بان له من ذلك لا شك أن له اجتهاده لو أعله في صحيحه ما قدَّمنا عليه أحدًا؛ لأن الأمة تلقت الصحيح بالقبول، لكن أعله في خارج الصحيح أو صحح حديثًا خارج الصحيح فهو كغيره من الأئمة يُنظَر في قوله، ومن قوله ما يقبل، ومنه ما يُرد، وضربنا مثالًا في مناسبات قلنا: إن الإمام أحمد -رحمه الله- حكم على حديث عبد الله بن عمر أن النبي -عليه الصلاة والسلام- حديث عبد الله بن عمر في رفع اليدين بعد الركعتين فقال: موقوف على ابن عمر من فعله- رضي الله عنه وأرضاه -، وخرجه الإمام البخاري في صحيحه مرفوعًا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، الآن هل نرجح بين ما قاله الإمام أحمد وما ثبت في صحيح البخاري؟

لا، لكن لو أن الإمام البخاري- رحمه الله- حكم عليه بالرفع خارج الصحيح وازنا بين أقوال الأئمة؛ لأن للصحيحين منزلة لا ينالها أحد؛ لأن الأمة تلقتهما بالقبول، فكون الإمام البخاري يعل هذا الخبر خارج الصحيح لا شك أنه قول إمام معتبَر يُنظَر، وتحفظ مكانة الإمام ويُنظَر أيضًا في قول من خالفه ومنزلة هذا المخالف؛ لأن من وجوه الترجيح عند أهل العلم ترجيح الأقوال بأدلتها هذا هو هذه هي المرتبة الأولى ترجيح الأقوال باعتبار أدلتها قد تكون الأقوال باعتبار الأدلة متساوية فينظرون إلى وجوه ترجيح أخرى ولو باعتبار القائلين، ولو باعتبار القائلين هذا وجه عند أهل العلم ومعروف، فالقائل هنا الإمام البخاري، لكن في مقابل مَن؟ لأنه في منزلة البخاري في التعديل والتجريح والتعليل أئمة كثيرون حاشا ما سطره الإمام البخاري في صحيحه وتلقته الأمة بالقبول، لكن إذا وازنا بين قول الإمام البخاري وقول الإمام أحمد هذا خارج الصحيح، وقول الإمام محفوظ عنه مروي بالسند الثابت إليه، هذا إمام، وهذا إمام، فنحتاج إلى مرجِّح.

 على كل حال إعلال البخاري لهذا الحديث نهى عن الثنيا إلا أن تعلم هذا رأيه -رحمه الله- ويبقى تصحيح غيره له وزنه وله شأنه؛ لأنه يقول: لا يُعرض سماع ليونس بن عبيد عن عطاء بن أبي رباح طيب غيره من أهل العلم عرف له سماع، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وكثيرًا ما يذكر في كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم يقول: سألت أبي عن فلان فقال: مجهول لا أعرفه، ويعرفه غيره، فهل نقدح بهذا الراوي، وبكون أبي حاتم لا يعرفه وقد عرفه غيره؟ لا نقدح فيه لاسيما وأن أبا حاتم توسع في هذا الاصطلاح، حتى إنه شمل بعض الصحابة وقال في بعضهم: مجهول، وقال في واحد من الصحابة قال: من المهاجرين الأولين مجهول، ومعنى مجهول أنه لا يعرفه، أو أنه مقل في الرواية كما هو شأن بعض الصحابة، وقال في بعض رواة الصحيحين: مجهول، ولا يضرهم عدم معرفة أبي حاتم مادام عرفهم غيره.

 "وعن الثنيا إلا أن تعلم رواه أبو داود والنسائي وهذا لفظه، والترمذي وصححه" وعلى كل حال الحديث صحيح مخرج في السنن وغيرها.

 قال -رحمه الله-: "وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المحاقلة، نهى عن المحاقلة والمخاضرة".

 المحاقلة في الحديث السابق بيع الزرع بالحب، ومثله في هذا الحديث المخابرة بيع الثمر وهو مازال أخضر لم يبد صلاحه، بيع الثمرة قبل بدوِّ صلاحها قبل أن تحمار أو تصفار.

 "وعن المخاضرة والملامسة والمنابذة والمزابنة" الملامسة من اللمس، وهي بيع السلعة بمجرد لمسها، أي فرد من أفراد هذه المجموعة من الثياب أو من الغنم أو من أي متاع من الأمتعة هي عدد أي شيء تلمسه فهو عليك بكذا، فيبيعها عليه بمجرد اللمس من غير أن يتبين ما فيه من عيب وغيره، قد يكون الثوب مطويًّا، ويضع يده عليه، فإذا نشره وجد فيه عيوبًا، وقد تكون الرؤية غير ممكنة بأن يكون في ظلام يقول: ادخل المحل، ادخل المكتبة أي كتاب يطفي عليه الكهرباء يقول: أي كتاب تضع يدك عليه فهو عليك بكذا ملامسة، وقد يكون الكتاب من النفائس، وقد يكون من الكتب الموجودة المبذولة بكثرة، فتنزل قيمته.

 وعلى كل حال هذا فيه غرر كبير.

 "والملامسة والمنابذة" خذ هذه الحصاة وانبذها على هذا القطيع من الغنم، فأي رأس من الغنم وقعت عليه فهو عليك بكذا أو أي ثوب أنبذه إليك فهو عليك بكذا، وكل ما يحتمله اللفظ يدخل في النهي خذ هذه الحصاة وانبذها على هذه الكتب في هذه المكتبة أي كتب وقعت عليه فهو عليك بكذا، فقد يكون النابذ حريفًا على ما يقولون، يصيب الهدف الذي يريده، فيتضرر البائع، وقد يكون بضد ذلك، فيقع الغرر الكبير على أحدهما إما أن تصيب النفيس وإما أن تصيب الرديء.

 "والمنابذة والمزابنة" وتقدمت في الحديث الماضي إلا ما استثني منها من العرايا.

 "رواه البخاري.

 قال -رحمه-: وعن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تلقوا الركبان لا تلقوا الركبان، ولا يبيع حاضر لباد»، قلت لابن عباس: ما قوله: «لا يبيع حاضر لباد»؟ قال: لا يكون له سمسارًا متفق عليه، واللفظ للبخاري".

 الحديث الأول عن أنس اقتصر على الصحابي، وهذه هي العادة الجادة في المختصرات أنهم يقتصرون على الصحابي، وقد يذكر التابعي الراوي عن الصحابي قد يذكر، لماذا؟ لأنه محتاج إليه قال: قلت لابن عباس: لو قال عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تلقوا الركبان» الحديث قلت لابن عباس، من القائل لابن عباس: لو لم يذكر ما ندري يحتاج إلى بيانه، ومادام ذكر في السند راويًا عن ابن عباس عرفنا أنه هو الذي قال لابن عباس: «لا تلقوا الركبان»، الركبان جمع راكب، وهو الذي يجلب السلع إلى البلدان، وهذا خرج مخرج الغالب، يعني بصيغة الجمع وبهيئة الركوب وإلا فلو كان واحدًا دخل تلقيه في النهي؛ لأنه يقول: «لا تلقوا الركبان»، قال: والله أنا طلعت من أجل فلان يجلب سلعة وهو واحد، ما هم ركبان، أنا ما تلقيت إلا واحدًا يجوز أم ما يجوز؟

والله تلقيت هؤلاء المجموعة، لكنهم يمشون على الأقدام، ما هم ركبان، يدخل في النهي أم ما يدخل؟

يدخل في النهي؛ لأن المعنى الذي من أجله جاء النهي موجود، العلة موجودة، علة النهي سواء كانوا واحدًا أو أكثر، وسواء كانوا ركبانًا أو مشاة «لا تلقوا الركبان»، فيأتي الرجل من البادية أو من القرية إلى البلد؛ ليبيع ما عنده من نتاجه أو من سلعته أيًّا كانت، لكن في الغالب أنه يبيع من نتاجه إما من غنمه وإما من نتاج بهيمة الأنعام من سمن وأقط وصوف وغير ذلك، يأتي ليبيعها في السوق، وكذلك غيره ممن هو في حكمه من أهل القرى لديهم حرف وأشياء يصنعونها ويردون بها إلى المدن؛ لأنهم لا يجدون من يشتريها في أماكنهم، فلا يجوز أن يتلقى هؤلاء فتشترى منهم هذه السلع بأقل مما تستحق، فيتضررون أو يقال لهم: أعطونا هذه السلع، فنبيعها لكم بالتدريج، ونتحيَّن الفرص، ونتخوَّل الأوقات المناسبة لبيعها؛ لتحصيل أكبر قدر من القيمة، فيتضرر أهل البلد، والشرع كما هو حريص على مصالح الأفراد هو أيضًا على مصالح الجماعات أحرص، وفي مثل هذا يقال: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، منهم من يقول: لا يجوز التلقي خارج البلد، ومنهم من يقول: لا يجوز التلقي قبل بلوغ السوق ولو دخلوا البلد، ولو دخلوا البلد.

 المقصود أنهم لا بد أن يدخلوا ويصلوا إلى السوق، وإذا وصلوا إلى السوق فاشتُريَ منهم ما معهم من متاع بقيمة أقل فهذا تفريط منهم، لكن لو تُلُقُّوا خارج السوق أو خارج البلد وهم لا يتمكنون من السؤال عن قيمة السلعة فهذا لا شك أن فيه ضررًا عليهم، وإذا جاءهم من ينصح لهم على حد زعمه، وأنه يبيع لهم بالتدريج؛ لتحصيل أعلى سعر فهذا لا شك أنه أضر بأهل البلد، فإذا تُلُقِّي هذا الراكب أو الركبان وباعوا على هذا المتلقي بقيمة أقل، ووصلوا إلى السوق، وعرفوا القيمة الحقيقية فلهم الخيار لهم الخيار.

 "«لا تلقوا الركبان، ولا يبيع حاضر لباد، ولا يبيع حاضر لباد» قلت لابن عباس: ما قوله: «لا يبيع حاضر لباد»؟ قال: لا يكون له سمسارًا"، والسمسار متولي البيع والشراء الذي يطلق عليه إيش؟

دلال، دلال في الأسواق هو السمسار الذي يتولى البيع والشراء، بيع لفلان وشراء لفلان، سمسار بالأجرة.

 «لا يبيع» لا هذه يبيع ولا يبيعُ وفي الرواية الأخرى، «ولا يبعْ» نهي، ولا يبيع نفي يراد به النهي، وأهل العلم يقررون أنه إذا جاء النفي ويراد به النهي كان أبلغ، كان أبلغ؛ لأنه يقتضي نفي هذا الوصف عن المسلم، وأن هذا هو الأصل في المسلم، وأنه لا يحصل منه هذا ولو لم يرد فيه نهي فهذا أبلغ.

 وعلى كل حال سواء قلنا: لا يبيعُ كما في الرواية الصحيحة وفي الصحيح، أو قلنا: لا يبع بصريح النهي فالمؤدى واحد.

 «ولا يبيع حاضر لباد»، لماذا؟ «لا يكون له سمسارًا» يعني يُترَك البادي يبيع سلعته؛ لأنه متى ما أعجبته القيمة باع وهو في الغالب غير متضرر لأن ما يجلبه أهل البادية من نتاجهم أو من نتاج مواشيهم ما هو مثل أهل الحاضرة يشترون بالدراهم ويبيعون بالدراهم، لكن بعض الناس سواء كان من البادية أو من الحاضرة لا يرى أن يتولى مثل هذه الأمور بنفسه، لا يتولى مثل هذه الأمور بنفسه، ويكل هذا الأمر إلى غيره ممن يبيعه له.

 المقصود من مثل هذا المعنى، وأنه لا يتولى البيع للبادي ليستقصي له الثمن بحيث لا يستفيد أهل البلد مما جاء به البادي، ويلتقي حينئذ مع الجملة الأولى على أحد الاحتمالين اللذَين ذكرا في معنى «لا تلقوا الركبان»، وحينئذ يلاحظ الشارع مصلحة أهل البلد، وليس ذلك على حساب الطرف الآخر، وإنما المسألة يراعى فيها جانب البائع وجانب المشتري، وهذا مطرد في أحكام الشرع.

 يعني في كتاب الزكاة الشرع يلاحظ مصلحة الفقير، لكنه أيضًا لا يهدر مصلحة الغني.

 «ولا يبيع حاضر لبادٍ» طيب تلقى الركبان، وباع حاضر لبادٍ، البيع صحيح أم غير صحيح؟ مسألة خلافية بين أهل العلم، فمن رأى أن النهي يقتضي الفساد، وهذا يقول به جمع من فقهاء أهل الحديث والظاهرية ورواية مشهورة عند الحنابلة، والقول الثاني أن العقد صحيح؛ لأن صورته صحيحة الأركان، والشروط متوافرة، والنهي لأمر خارج عن ذات العقد، وخارج عن شرطه، وإذا عاد النهي إلى ذات الشيء أو إلى شرطه فلا شك أنه يقتضي الفساد، وإذا عاد إلى أمر خارج فإنه يصح مع الإثم، وهذا قول عند أكثر أهل العلم يقولون: يصح، لكن المتضرر منهما له الخيار إذا علم حقيقة الحال فله الخيار.

 "متفق عليه واللفظ للبخاري.

 وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تلقوا الجلب، لا تلقوا الجلب»" الجلب إما أن يراد به الجالِب أو المجلُوب، السلع، ويكون معناه معنى ما تقدم من النهي عن تلقي الركبان، «فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار»، الجلَب كأن المراد به هنا المجلُوب، والمراد بالسيِّد هنا الصاحب مالكه.

 يقول: «لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه» تلقى هذا الجلب أي المجلوب السلعة فاشتراها من صاحبها، فإذا أتى سيده صاحبه، صاحب هذا الجلب والمجلوب السوق فهو بالخيار، بالخيار إذا كان الثمن ثمن المثل أو دون، نعم دون ثمن المثل، وهذا الحديث يدل على صحة العقد، العقد صحيح، لكن لصاحب السلعة الخيار إذا وصل إلى السوق ووجد القيمة أقل مما تستحقه هذه السلعة فالخيار له، النظر في خير الأمرين بالنسبة له من إمضاء البيع أو رده.

 "رواه مسلم.

 وعنه -رضي الله عنه- قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبيع حاضر لباد"، وعنه يعني عن أبي هريرة راوي الحديث السابق -رضي الله عنه-. "قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبيع حاضر لبادٍ" والأصل في النهي التحريم، وقول الصحابي: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع التصريح بالناهي لا شك أنه مرفوع قطعًا إليه -عليه الصلاة والسلام-، ولا يرد فيه الخلاف في نهينا أو أمرنا، مع أن المرجَّح في قول الصحابي: نهينا أنه مرفوع؛ لأن الناهي والآمر هو الرسول -عليه الصلاة والسلام-، نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عامة أهل العلم على أن قول الصحابي: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو بمنزلة لا تفعلوا كذا.

 «لا يبع حاضر لبادٍ»، وقد ورد التصريح به بصيغة النهي، وبصيغة النفي التي يراد بها النهي، أما من يقول: إن قول الصحابي: نهى رسول الله، أو أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس له حكم الأمر ولا النهي؛ لاحتمال أن يكون الصحابي سمع كلامًا ظنه أمرًا أو نهيًا وهو في الحقيقة ليس بأمر، فهذا كلام ساقط لا يلتفت إليه، ولا يعوَّل عليه.

 "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبيع حاضر لبادٍ" وهذا تقدم.

 "ولا تناجشوا" النجْش والنجَش أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، يزيد في السلعة وهو من نجْش الطير، وهو إثارته، وهنا الناجش يثير الرغبة في نفوس الحاضرين لشراء هذه السلعة، فهو يزيد في ثمنها وهو لا يريد شراءها، إما نفعًا للبائع، أو إضرارًا بالمشتري، نفعًا للبائع أو إضرارًا للمشتري، لكن إذا كان هذا النجش لرفع الضرر عن البائع، لرفع الضرر عن البائع، والمشتري ليس بمتضرر، كما يحصل في بعض الأسواق تُجلَب السلعة، فيتفق أهل السوق على الإضرار بهذا البائع، ويتواطؤون على إعطائه قيمة قليلة جدًّا بالنسبة لما تستحقه السلعة، فيأتي هذا لرفع الضرر عن البائع سلعة تستحق ألفًا، فيدخل صاحبها السوق فيقال: مائة، والحاضرون كلهم متفقون على ألا يزيد بعضهم على بعض، فيريد هذا رفع الضرر عن هذا المسكين الذي تواطؤوا عليه، وهو لا يريد شراءها، لكن بعشر القيمة، فهذا لا شك أنه متضرر فيقول: مائتين، ثم يزيدون عليه إلى أن يصل إلى حد لا ضرر ولا ضرار، هل يدخل في الحديث أم ما يدخل؟

المعنى الذي نهي عن النجش بسببه هو الضرر، وهذا لرفع الضرر، مع أنه لو أخبر صاحب السلعة من باب النصيحة أن سلعتك تستحق كذا من غير أن يدخل في لفظ الحديث..

 على كل حال نجش؛ لأنه يزيد في السلعة، ولا يريد شراءها، لكن من أهل العلم من ينظر إلى الألفاظ فيمنع جميع الصور التي يتناولها اللفظ، ومنهم من ينظر إلى المعاني، والعبرة عنده بالمعاني لا بالألفاظ، فلا تدخل هذه الصورة في النجش المنهي عنه.

 «ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه»، تشتري سيارة بخمسين ألفًا، فيأتيك من يقول: عندي سيارة أفضل منها بأربعين ألفًا، وهذا في زمن الخيار لا يبيع على بيعه، وقد يتناول اللفظ ما بعد زمن الخيار، قد يقول قائل: إنه ثبت البيع خلاص انتهى، فإذا أراد أن يردها إليه رفض البائع، تروح تقول له: والله لقيت سيارة بأربعين أحسن، يقول: ما علي منك، تبايعنا وانتهينا، البيع إيجاب وقبول، وتفرقنا، وانتهى الإشكال.

 المالكية يحملون هذا على السوم لا على البيع؛ لأن البيع يثبت عندهم بمجرد الإيجاب والقبول، ما فيه خيار مجلس صح أم لا؟ فيضطرون أن يقولوا: إن البيع المراد به هنا السوم، وجاء أيضًا كما سيأتي لمسلم: «لا يسم المسلم على سوم أخيه»، "ولا يبع الرجل على بيع أخيه" يأتي إلى المشتري ويقول: أنا عندي لك أفضل من هذه السلعة بسعر أقل، أو يأتي إلى البائع فيقول: أنا أعطيك ثمنًا أعلى، فيحصل الخلاف بين البائع والمشتري، والضرر عليهما، ولا شك أن مثل هذا مما يوغر الصدور، صدور المسلمين على بعض، ولذلك استثار النبي -عليه الصلاة والسلام- حمية المسلم على أخيه الحمية الدينية قال على أخيه: «على بيع أخيه». ينبغي أن يستحضر في كل مناسبة أن هذا أخوك، ولذلك قال بعضهم: إنه لو كان البائع غير مسلم أو المشتري غير مسلم يجوز أن يبيع على بيعه أو يسوم على سومه؟ مقتضى اللفظ لا.

 "ولا يخطب على خطبة أخيه" كذلك يعني في زمن المراجعة قبل أن يُرَد صريحًا لا يتقدم إلى امرأة خطبت من قبل مسلم، فيتقدم لخطبتها، ويعرف أنه يقبل إذا تقدم، ويُرَد الأول، أو يتردد في ذلك، ولا يعرف.

 المقصود أنه إذا لم يتم الرد فإنه لا يجوز له أن يخطب على خطبة أخيه، ويستحضر في أخيه ما قلناه في الجملة السابقة أنه لو كان الخاطب كافرًا، وهذا يتصور فيما إذا كانت المخطوبة كتابية فإنه لا مانع من خطبة على خطبته.

 «ولا تسأل المرأة طلاق أختها، ولا تسأل المرأة طلاق أختها»، وفي بعض: الروايات «طلاق ضرتها»، وهذا له عدة صور: الضَّرَّة الزوجة من زوجات المعدِّد الذي عنده أكثر من زوجة، فالزوجات ضرات، فتأتي الأخيرة منهما فتقول لزوجها: طلق فلانة، أنا لا يمكن أن أبقى مع فلانة داخلة في النهي، «لا تسأل المرأة طلاق أختها»، أو يأتي رجل متزوج فيخطب امرأة فتقول: طلق امرأتك وأقبلك، «ولا تسأل المرأة طلاق أختها؛ لتكفأ ما في إنائها» وما يبذله الزوج لزوجته من النفقة وغيرها والكسوة، كأنه شيء موضوع في إناء هذه المرأة، يعني حازته هذه المرأة من زوجها ووضعته في إنائها، كما يوضع الطعام، فتأتي هذه المرأة التي طلبت الطلاق فتكفأ ما في هذا الإناء وتتلفه على أختها.

 "متفق عليه، واللفظ للبخاري.

 ولمسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يَسُم»" يَسُم أم يَسِم؟ يسُم من السَّوم، ويسِم من الوَسْم، يسِم إبل الصدقة، رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسِم إبل الصدقة من الوسم وهو الكي بالنار، توضع العلامة التي تعرف بها، ويسم من السوم.

 «ولا يسُم المسلم على سوم أخيه»، إذا وكل إليه واقتنع صاحب السلعة بالقيمة التي دفعها هذا الأخ وإن لم يبرم العقد، وإن لم يتم الإيجاب والقبول فإن مثل هذا لا شك أنه يضر بالشخص الذي بذل هذه القيمة وهذا السوم، ويوغر صدره على هذا الذي زاد عليه، أما مادامت السلعة في باب المراجعة والمراودة وفي باب من يزيد فإنه لا مانع، لا مانع أن يزيد، وقد باع النبي -عليه الصلاة والسلام- متاعًا فيمن يزيد قال: من يزيد، لما سامه ما سامه فالزيادة السوم على السوم قبل الركون إلى هذا السائم الذي بذل من الثمن ما أعجب صاحب السلعة فهذا لا بأس به، ولا مانع منه.

ونقف على حديث أبي أيوب، والله أعلم.

 وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.