شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (258)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.
مع مطلع هذه الحلقة نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ.
حياكم الله، وبارك فيكم وفي الأخوة المستمعين.
المقدم: قال -رحمه الله-: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَجُلاً قَامَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُهِلَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّأمِ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ«، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَيَزْعُمُونَ أَنَّ النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ.« وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: ولَمْ أَفْقَهْ هَذِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،
فراوي الحديث الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- أبو عبد الرحمن أحد المكثرين من الصحابة وأشد الناس اتباعًا للأثر، مات سنة ثلاثة وسبعين في آخرها أو أول التي تليها، مر ذكره مرارًا.
وهذا الحديث ترجم عليه الإمام البخاري بقوله: "باب ذكر العلم والفُتيا في المسجد" قام في المسجد، أن رجلًا قام في المسجد.... الخبر، قال ابن حجر: باب ذكر العلم أي إلقاء العلم، يعني التدريس في المساجد والتعليم في المساجد، باب ذكر العلم أي إلقاء العلم والفُتيا في المسجد، وأشار بهذه الترجمة إلى الرد على من توقف فيه؛ لما يقع في المباحثة من رفع الأصوات، فنبه على الجواز؛ لأن الأخذ والأطامة مع المعلم بين الطالب وشيخه أحيانًا يقتضي رفع الصوت لاسيما إذا كان الطالب بعيدًا عن الشيخ يقتضي في الصوت مع وجود أيضًا هذه المكبرات يزداد الأمر، لكن هل مثل رفع الصوت المحتاج إليه في تبليغ العلم والدين مما يُمنع منه في المساجد أو لا؟ النبي-عليه الصلاة والسلام- إذا خطب..
المقدم: ارتفع صوته.
ارتفع صوته، علا صوته، وهل هذا مما يُمنع؟ ممن تقدم من بعض السلف منع؛ صيانة للمسجد من رفع الصوت، والنبي عليه-الصلاة والسلام-، رجل قام في المسجد فقال: يا رسول الله، فأجابه النبي -عليه الصلاة والسلام- وهذا هو العلم، إن لم يكن العلم قول النبي -عليه الصلاة والسلام- فما العلم؟!! وعلى كل حال المساجد هي أماكن التعليم في الصدر الأول، هي محل العلم في عهده -عليه الصلاة والسلام- وفي عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من سلف هذه الأمة وأئمتها، بل هي محل كل ما يهم الأمة من شؤونها العامة هي المساجد، فمن المساجد يُلقى فيها العلم، ويقضى فيها بين الناس، وتجيش فيها الجيوش، وكثير من أمور المسلمين العامة إنما تُعقد في المساجد، فهي أماكنهم، فيمن تأخر جعلوا المدارس والربط وغيرها، وُجد فيما بعد.
وعلى كل حال الأصل في العلم أنه في المساجد وبين يدي أهل العلم في مساجدهم، هذا الأصل، ولذا بعضهم يتردد في إلقاء العلم في غير المساجد والمدارس، يعني المدارس خصصت لهذا الأمر، فهي أماكن العلم، والمساجد هي الأصل في التعليم، لكن بعض أهل العلم من أهل التحري كأنه يتردد في إلقاء العلم في الأماكن الأخرى مثل..
المقدم: المدارس مثلًا.
المدارس هي أماكن العلم التي خُصصت لها من بعد عهد السلف عهد الصدر الأول من الإسلام، مكان العلم المسجد، ثم أُسست المدارس لهذا الشأن، حتى قال بعضهم: إن بناء المدارس والربط وغيرها هذه جعلوها مثالًا للبدع المستحبة، لكنها ليست من البدع؛ لأن العلم حثَّ عليه الشرع، وجاءت النصوص الكثيرة الوافرة المتضافرة على طلب العلم من نصوص الكتاب والسنة، فما يعين على هذا الهدف مطلوب شرعًا؛ لأن ما لا يتم الواجب عند أهل العلم إلا به فهو واجب، وما لا يتم المستحب إلا به فهو..
المقدم: مستحب.
مستحب، فهذه ليست من البدع، وإن مثَل بها بعض البدع المستحبة ممن يرى تقسيم البدع، بعضهم يقسم البدع إلى بدع مستحبة، وبدع محمودة، وبدع مذمومة، وبدع واجبة، وبدع مباحة ... إلى آخره، كل هذا التقسيم مخترع لا دليل عليه من الكتاب والسنة، بل البدع كلها مذمومة.
«كل بدعة ضلالة» كما في الحديث الصحيح، كل بدعة ضلالة، فكيف يقول: كل بدعة ضلالة، ومن أهل العلم من يقول: هناك بدع محمودة؟ نعم قد يتشبثون بقول عمر: نعمت البدعة، وأجبنا عن هذا مرارًا أنه من باب المشاكلة والمجانسة، لا من باب إطلاق الحقيقة اللغوية ولا الشرعية، المقصود أن بعضهم يتأثم فمثلًا إذا دُعي إلى إلقاء محاضرة في نادٍ مثلًا أو في مركز أو في مخيم بعضهم يتردد في مثل هذا، ويقول: الأصل في العلم في المساجد، نقول: نعم الأصل في العلم في المساجد، لكن إذا كان الناس بحاجة إلى علم ممن انشغل بأمور أخرى، العلم ممكن أن يُبذل في السوق إذا احتيج إليه، إذا سُئل العالِم عن مسألة ولا يجيب قال هذا سوق؟!! يفتي وهو يمشي، وتقدم لذلك نظائر.
المقصود أن إلقاء العلم عند الحاجة إليه عند أهله مطلوب، ولكن المساجد هي الأصل في هذا.
«قَامَ رَجُل فِي الْمَسْجِدِ»، ووجد من توقف في إلقاء العلم في السجد؛ لما يترتب على ذلك من رفع الأصوات، والبخاري -رحمه الله- أراد الرد على من توقَّف.
المقدم: لكن يا شيخ، ألا يمكن أن يقال لهؤلاء: إن هذا الرأي أيضًا بدعة؟ هل يقولون: ما يلقى العلم إلا في المسجد، يعني هم.. إذا مثل هؤلاء على فضلهم وجلالتهم يقولون ببدعية بعض الأمور، لماذا نحن نتوقف أن نقول: قولهم هذا بدعة أيضًا، النصوص المتكاثرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذهب وعلَّم الجن، وجلس معهم، وسئل عن الروح وهو يمشي، وغشى الناس.. فكيف يأتون بهذا..؟
وغشى الناس في مجتمعاتهم، وحتى المشركين في مجتمعاتهم.
المقدم: إذًا هذا القول بدعة.
لكن شف الآن لا شك أن هناك من الأماكن ما يُصان عنه العلم مما يزاول فيه محرم مثلًا، يأتي هنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن إلقاء العلم الشرعي بقال الله وقال رسوله في أماكن تُزاول فيها المحرمات، يعني يصان عنها المساجد.. يصان عنها العلم الشرعي.
قد يكون هذا المكان الذي يجتمع فيه الناس شيئًا طارئًا على بلد من البلدان على مجتمع مثلًا، وجيء به من أناس قد يكون عندهم شيء من البدعة أو شيء مثلًا من التساهل في أمر الاحتياط للدين والنصوص وما أشبه ذلك، فمشابهتهم من هذه الحيثية، بعضهم يتوقف في الدعوة في مثل هذه الأماكن، وفي إلقاء العلم وما أشبه ذلك.
وعلى كل حال المسألة اجتهادية، فمن توقف فلا يُلام، له حظ من النظر، ومن غشى هذه الأماكن حرصًا على الدعوة، وحرصًا على تبليغ العلم، نسأل الله -جل وعلا- ألا يحرمه أجر ما أراد. فالله المستعان.
وشيخنا الشيخ عبد العزيز ابن باز-رحمه الله تعالى- يغشى هذه الأماكن، يغشى النوادي، ويلقى فيها محاضرات، وما من مكان يُدعى إليه إلا يستجيب -رحمه الله رحمة واسعة-، وهناك من شيوخنا من أهل التحري من لا يغشى هذه الأماكن، وكلٌّ له اجتهاده، وكون الأمة يوجد فيها أمثال هؤلاء وأمثال هؤلاء أنا أعتبرهم من نعم الله -جل وعلا-، يوجد أناس أهل تحرٍّ وتثبّت، ولا يستجيبون لكل ما يُدعون إليه بحجة الاحتياط والحفاظ على السنة، هذا خير ولله الحمد، ويوجد من يبلغ هذا الدين على أعلى مستوى أيضًا تقوم به الحجة أيضًا هذا خير.
أيضًا تبليغ العلم خلال القنوات مثلًا أو الإذاعات التي فيها خليط من الحلال والحرام، والقنوات التي فيها مزيج مما يجوز وما لا يجوز، هذه أيضًا تتجاذبها وجهات النظر، فبعض أهل التحرّي يقول: أبدًا ما عند الله لا يُنال بسخطه، أنا أبحث عما عند الله -جل وعلا- من ثوابه وأجره من أجل تبليغ العلم، وإفادة الناس، وأبلغ من خلال هذه القنوات التي فيها ما فيها، وبعضهم يقول: لا، أنا أبلغ هذا العلم لأناس لا يأتون إلى المساجد، ولا يسمعون إلى وسائل التبليغ المباحة، ولا يحضرون الدروس، ولا يدرسون العلم الشرعي، فأنا أبلغهم من هذه الطريقة!! وهذه أيضًا وجهة نظر، وإن كنت أنا مع وجهة النظر الأولى، أنا لا أغشى هذه الأماكن، ولا أبلّغ في غير ما كان عليه سلف هذه الأمة، ويوجد أيضًا من يجتهد اجتهادًا آخر، والله -جل وعلا- يأجرهم على قدر نياتهم، والأمور بمقاصدها.
يقول العيني: وجه المناسبة بين البابين هذا والذي قبله "باب من استحيا فأمر غيره بالسؤال" من حيث اشتمال كل منهما على السؤال، أما في الأول؛ فلأنه فيه سؤال المقداد عن حكم المذي، وفي هذا الباب سؤال ذلك الرجل في المسجد عن حكم الإهلال للحج، وكل منهما سؤال عن أمر ديني، ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، وهو أنه مشتمل على ذكر العلم، أعني علم الإهلال في الحج في المسجد؛ لأنه في الحديث «أن رَجُلاً قَامَ فِي الْمَسْجِدِ» واستفتاء ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفتواه -عليه الصلاة والسلام- وكل ذلك في المسجد.
«أن رجلًا» قال ابن حجر: لم أقف على اسمه، «قام في المسجد» المراد بالمسجد مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-. ويستفاد منه أن السؤال عن مواقيت الحج كان قبل السفر من المدينة، ما الذي يدل على ذلك؟
المقدم: حرصهم على تلقي العلم.
وأيضًا هنا يقول: من أين تأمرنا أن نهل؟ لأنه لو كان بعد سفرهم لعرفوا من أين يهلون؛ لأنه ما فيه مسافة بين المدينة والميقات، وبعد ذلك في المسجد هل المقصود به مسجد..
المقدم: قباء مثلًا.
أو مسجد النبي -عليه الصلاة والسلام- أو مسجد الميقات الذي أهل منه النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ فهذا دليل على أن السؤال كان..
المقدم: قبل الإهلال.
قبل السفر من المدينة، «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُهِلَّ» قال الكرماني: نُهِل بضم النون وكسر الهاء مشتق من الإهلال، وهو رفع الصوت بالتلبية، والمقصود منه السؤال عن موضع الإحرام أي الميقات المكاني، وقال العيني: الإهلال رفع الصوت بالتلبية، ومنه قيل للصبي إذا فارق أمه: أهلَّ واستهل؛ لرفعه صوته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يهل أي يحرم أهل المدينة النبوية وهم ساكنوها ومن مر بها من غيرهم، فحكمهم حكمهم.
«من ذي الحليفة» بضم المهملة وفتح اللام تصغير الحَلفة باللام المفتوحة كالقَصبة، وهو شيء ينبت في الماء وجمعها حلفاء، وهو موضع على عشر مراحل من مكة، وعلى ست أميال من المدينة، انتهى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في منسكه المستقل المطبوع ضمن الفتاوى ومطبوع مستقل أيضًا.
المقدم: وهو محقق في رسالة؟
هو مطبوع مرارًا.
المقدم: لكن ما حُقّق علميًّا؟
لا، الذي حُقق المناسك من شرح العمدة في مجلدين، هذه رسالة دكتوراة في مجلدين، أما المنسك المستقل فطبع وحُقِّق مرارًا.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في منسكه: ذو الحليفة هي أبعد المواقيت بينها وبين مكة عشر مراحل أو أقل أو أكثر بحسب اختلاف الطرق، فإن منها إلى مكة عدة طرق، ما كانت الطرق واحدة، ما كانت معبدة مسهلة لا يحيد الناس عنها يمينًا ولا شمالًا، بل كلٌّ له اجتهاده، لاسيما الأدلاء، فإن منها إلى مكة عدة طرق، وتسمى وادي العقيق، ومسجدها يسمى مسجد الشجرة، وفيها بئر يسميها جهال العامة بئر علي، وفي المناسك يقولون: أبيار علي، فلعله حُفر فيه أكثر من بئر فسميت أبيار، وفيها بئر يسميها جهال العامة بئر علي؛ لظنهم أن عليًّا قاتل الجن بها، وهذا كذب، فإن الجن لم يقاتلهم أحد من الصحابة، وعلي أرفع قدرًا أن يثبت الجن لقتاله، ولا فضيلة لهذ البئر ولا مذمة، يعني بئر عادية كسائر الآبار، ولا مذمة، ولا يستحب أن يرمي بها حجرًا ولا غيره، تبعًا للخرافة التي قيل فيها: إن عليًّا قاتل الجن في هذه البئر، مَن جاء رمى حجرًا؛ ليقاتل الجن؛ اقتداءً بعلي -رضي الله عنه-.
يقول: ولا يُستحب أن يرمي بها حجرًا ولا غيره. انتهى كلام شيخ الإسلام.
قال: «وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ» وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ، الجُحفة بضم الجيم وسكون الحاء المهملة موضع بين مكة والمدينة من الجانب الشامي يحاذي ذا الحليفة، وكان اسمها مهيعة بفتح الميم وسكون الهاء وفتح الياء آخر الحروف، فأجحف السيل بأهلها، أي أذهب، فسُميت الجحفة، قال النووي: على ثلاث مراحل منها -يعني من مكة- وهي قريبة من البحر، وكانت قرية كبيرة، وقال أبو عبيد: هي قرية جامعة بينها وبين البحر ستة أميال، وهي ميقات المتوجهين من الشام ومصر والمغرب، وهي على ثلاث مراحل من مكة أو أكثر وعلى ثماني مراحل من المدينة، الجحفة هذه لما هاجر النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى المدينة كانت المدينة موبوءة مُحِمة فدعا النبي -عليه الصلاة والسلام- أن ينقل الحمى من المدينة إلى الجحفة، والجحفة كانت عامرة، فكيف يُدعى بانتقال المرض إلى بلد عامر؟!
المقدم: فيؤذى فيه الناس.
نعم، قالوا: لأن سكانها من اليهود.
يقول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في منسكه: وأما الجحفة فبينها وبين مكة نحو ثلاث مراحل، وهي قرية كانت قديمًا معمورة، وكانت تُسمى مهيعة، وهي اليوم خراب، ولهذا صار الناس يحرمون قبلها من المكان الذي يُسمى رابغ، وهو ميقات لمن حج من ناحية المغرب كأهل الشام ومصر وسائر المغرب. لكن إذا اجتازوا بالمدينة النبوية كما يفعلونه في هذه الأوقات، يعني أهل الشام يأتون عن طريق المدينة، إذا اجتازوا بالمدينة كما يفعلون في هذه الأوقات أحرموا من ميقات أهل المدينة، فإن هذا هو المستحب لهم بالاتفاق، فإن أخروا الإحرام إلى الجحفة ففيه نزاع، يعني الشامي إذا جاء عن طريق المدينة، هل يُقال له: انتظر حتى تصل إلى ميقاتك؟! لأن النبي-عليه الصلاة والسلام- لما حدد المواقيت قال: «هن لهن» لا انتظر، هل يقول: يلزمك أن تنتظر إلى أن تأتي إلى ميقاتك؟ أو تُحرم من ميقات المدينة؛ عملًا بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «ولمن مر بهن من غير أهلهن»، «ولمن أتى عليهن من غير أهلهن»؟
جمهور أهل العلم أنه إذا مر بذي الحليفة ولم يحرم منه وتجاوزه إلى ميقاته الأصلي أو إلى غيره من المواقيت أنه يلزمه دم؛ لأنه تجاوز الميقات من غير إحرام، والإمام مالك يقول: إذا تجاوزه إلى ميقاته لا يلزمه شيء؛ لأنه في الحديث يقول: هن لهن، يعني إذا ترك العمل بجملة فقد عمل بجملة أخرى من الحديث، وعلى هذا لو جاء النجدي عن طريق المدينة، ومر بذي الحليفة، ولم يحرم منها، وأحرم من السيل على رأي الجمهور عليه دم، وعلى رأي الإمام مالك لا يلزمه شيء.
كثير من الناس يسافر مثلًا ويمر بذي الحليفة، وله حاجة في جدة، يعني منتدب مثلًا إلى عمل ما يمكث أسبوعًا في جدة، ويصعب عليه أن يمكث بالإحرام لمدة أسبوع، فيتجاوز ذا الحليفة إلى جدة من غير إحرام، ثم إذا انتهى عمله يذهب إلى رابغ؛ لقربها منها، هل نقول: إن الإمام مالك يبيح مثل هذا، أو نقول: لا، إنه لا بد أن يحرم من ذي الحليفة، أو يذهب إلى السيل باعتباره ميقاته الأصلي على رأي الإمام مالك، يعني هل هذه المواقيت مقصودة لذاتها لأهلها ولمن مر عليها كما في الحديث، أو نقول: إن هذه كالمحارم للحرم يتأدى الواجب بواحد منها؟ كأن الأرفق بالناس أن نقول: اذهب إلى أيسر المواقيت بالنسبة إليك؛ لأنه ميقات محدد منه شرعًا، وكأنك مررت به فأحرمت منه، لكن إذا ذهب إلى غير ميقاته الأصلي وتجاوز الميقات الذي مر به ظاهر كلام مالك لا يتناوله، فعلى هذا الأحوط له أن يحرم من أول ميقات يمر به إن لم يحرم منه يرجع إليه إذا انتهى عمله؛ لأنه إذا رجع إليه سقط عنه الدم.
يقول: لكن إذا اجتازوا بالمدينة (يعني أهل الشام ومصر والمغرب) إذا اجتازوا بالمدينة كما يفعلون في هذه الأوقات أحرموا من ميقات أهل المدينة، فإن هذا هو المستحب لهم بالاتفاق، فإن أخروا الإحرام إلى الجحفة ففيه نزاع.
«وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ» يقول الجوهري: نجد من بلاد العرب، وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد، وهو مذكر.
يعني جاءت النصوص الشرعية في نجد، فمنها ما يراد به نجد المعروف من بلاد العرب، ومنها ما يراد به العراق وجهة المشرق حيث يطلع قرن الشيطان، فقد جاء تفسير نجد الوارد في الصحيح، حيث يطلع قرن الشيطان جاء تفسيره عند الطبراني بأنه حيث يطلع قرن الشيطان من جهة المشرق من جهة العراق، ولذا النجد المذموم هو ما كان من جهة المشرق جهة العراق وما وراءها حيث يطلع قرن الشيطان، ويقدم الدجال، ويتبعه من يهود أصبهان ما يتبعه على ما قُرر في أشراط الساعة.
في شرح العيني: النجد في اللغة ما أشرف من الأرض واستوى، ويُجمع على أنجد جمع نجد في منظومة الآداب لابن عبد القوي
............... وكن في اكتساب العلم طلاع أنجد
وأنجاد ونجود ونُجُد بضمتين، يقول القزاز: سُمِّي نجدًا؛ لعلوه، وقيل: سُمِّي بذلك؛ لصلابة أرضه وكثرة حجارته وصعوبته، من قولهم: رجلٌ نجدٌ إذا كان قويًّا شديدًا، يعني صاحب نجدة وإقدام؛ لأن الشخص الذي ليس بقوي ولا شديد لا يقوم بهذا، ليس بصاحب نجدة، من قولهم: رجلٌ نجدٌ إذا كان قويًّا شديدًا، يعني صاحب نجدة ينجد الملهوف، ويغيثه، والمستصرخ، لا شك أن من كان صفته الضعف والرخاوة، فإن هذا لا يُسمى ينجد الملهوف، قال القزاز.. القزاز من هو هذا؟ كتابه أيش؟
المقدم: "الجامع في اللغة".
نعم الجامع في اللغة.
المقدم: فيه قزاز غير اللغوي أم ما فيه؟
هنا في المباحث اللغوية نعم، من قَرْن بفتح القاف وإسكان الراء يقولون: جبل مدور أملس كأنه بيضة مطلٌّ على عرفات قالوا: وغلط الجوهري في صحاحه غلطين فقال: بفتح الراء قَرَن، وزعم أن أويسًا القرني منسوب إليه، والصواب سكون الراء، وأن أويسًا منسوب إلى قبيلة يقال لهم: بنو قَرَن، وهو على نحو مرحلتين من مكة وأقرب المواقيت إليها. انتهى من الكرماني.
المقدم: أحسن الله إليكم، بعض المواضع لعلنا نرجئها- إن شاء الله- في الحلقة القادمة، وخصوصًا الشأم، كأننا مررنا عليها، وكنت أود أن أتأكد من لفظها الشام أم الشأم؟
لعلها -إن شاء الله- تكون في الحلقة القادمة- إن شاء الله-، شكر الله لكم؛ لتذكير الإخوة والأخوات، نستكمل ما تبقى من ألفاظ هذا الحديث، نحن في الحديث مائة وثمانية في المختصر، مائة وثلاثة وثلاثين في الأصل.
بختام حلقتنا نشكر صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم ابن عبد الله الخضير، لقاؤنا بكم بإذن الله تعالى في حلقة قادمة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.