شرح نخبة الفكر (05)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سم.
مختلف الحديث:
ثم المقبول: إن سلم من المعارضة فهو المحكم، وإن عورض بمثله فإن أمكن الجمع فمختلف الحديث، أو لا، وثبت المتأخر فهو الناسخ، والآخر المنسوخ، وإلا فالترجيح، ثم التوقف".
يقول -رحمه الله تعالى-: "ثم المقبول إن سلم من المعارضة فهو المحكم"، وهذا تقسيم ثان للمقبول هو تقسيمه إلى معمول به وغير معمول به، قد يكون الحديث صحيح وقد يكون حسناً يعني في حيز القبول لكنه لا يعمل به، لماذا؟ لمعارض راجح، هذا تقسيم ثانٍ للمقبول وهو أن المقبول منه ما يعمل به ومنه ما لا يعمل به؛ لأنه إن سلم الحديث المقبول من المعارضة فلم يأتي خبر يضاده فهو المحكم، فالمحكم لغة مأخوذ من الإحكام وهو الإتقان، فالمحكم المتقن وإحكام الكلام إتقانه.
وفي الاصطلاح: هو الحديث المقبول السالم من المعارضة، الحديث المقبول السالم من المعارضة، وأمثلته كثيرة جداً، أكثر الأحاديث محكمة لا معارض لها، فأمثلته لا يمكن حصرها، وعلى سبيل المثال حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) حديث محكم لأنه لم يرد في السنة ما يعارضه ويبطل العلم به.
يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: "وإن عورض بمثله -يعني بما يساويه في القوة- فإن أمكن الجمع فمختلف الحديث"، يعني الخبر المقبول إن عروض بخبر مثله مقبول صحيح أو حسن؛ لأن معارضة الضعيف لا عبرة بها، معارضة الخبر الضعيف لا عبرة بها، فإذا عورض الخبر المقبول بمثله في القبول صحيح أو حسن فإن أمكن الجمع بين الخبرين المتعارضين المقبولين فمختلف الحديث إن أمكن الجمع، وإن كان الحديث المعارض مردوداً فإنه حينئذ لا أثر له؛ لأن القوي لا تؤثر فيه مخالفة الضعيف وسبق في المنكر، فمختلف الحديث هو: أن يأتي حديث مضاد لحديث آخر في الظاهر ويمكن التوفيق بينهما.
يقول: "وإن عورض بمثله فإن أمكن الجمع فمختلف الحديث"، إذا تمكنا من التوفيق والجمع بين النصين هذا مختلف الحديث وهو من أهم أنواع علوم الحديث؛ لأن العلماء في الحديث والفقه والأصول وغيرهم مضطرون إلى معرفته، مضطرون إلى معرفة التوفيق بين النصوص، هذا أمر في غاية الأهمية، التوفيق بين النصوص والتأليف بينها هذا أمر في غاية الأهمية، يعني إذا جاءك حديثان متعارضان متضادان في الظاهر كيف تصنع؟ قلنا: إنه من أهم أنواع علوم الحديث؛ لأن العلماء في الحديث والفقه وغيرها مضطرون إلى معرفته، ولا يتقن مثل هذا النوع إلا العلماء الجامعون بين الفقه والحديث والأصول ممن أوتوا فهماً ثاقباً وقدرة على الغوص على المعاني الدقيقة، ومن هؤلاء الأئمة إمام الأئمة محمد بن إسحاق ابن خزيمة الذي قال عنه تلميذه ابن حبان: "ما رأيت على أديم الأرض من كان يحسن صناعة السنن، ويحفظ الصحاح بألفاظها، ويقوم برد كل لفظة تزاد في الخبر حتى كأن السنن كلها نصب عينيه إلا محمد بن إسحاق بن خزيمة" ابن حبان ماذا يقول عن ابن خزيمة؟ يقول: "ما رأيت على أديم الأرض من كان يحسن صناعة السنن، ويحفظ الصحاح بألفاظها، ويقوم برد كل لفظة تزاد في الخبر حتى كأن السنن كلها نصب عينيه إلا محمد بن إسحاق بن خزيمة"، يطلق عليه العلماء إمام الأئمة، حتى شيخ الإسلام يقول هذا، يقول ابن خزيمة: "لا أعرف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثين صحيحين متضادين، فمن كان عنده فليأتني لأؤلف بينهما" من كان حديثين متعارضين يأتي بهما، من كان عنده أحاديث متضادة يأتي بها لأؤلف بينها، مثال ذلك: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)) الحديث متفق عليه معارض بحديث: ((لا يورد ممرض
على مصح)) أخرجه البخاري معلقاً، وحديث: ((فر من المجذوم فرارك من الأسد)) هذه أحاديث متضادة في الظاهر، حديث: ((لا عدوى ولا طيرة)) هذا ينفي العدوى، حديث: ((فر من المجذوم فرارك من الأسد)) قد يفهم منه أن مخالطة الصحيح للمريض تؤثر في السليم وهذه هي العدوى التي يثبتها الأطباء، ((فر من المجذوم فرارك من الأسد)) ((لا يورد ممرض على مصح)) لماذا لا يورد ممرض على مصح؟ إلا لوجود شيء من العدوى، والحديث الأول: ((لا عدوى ولا طيرة))، العلماء لهم مسالك في الجمع بين هذه الأحاديث من هذه المسالك: أن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها ولا تسري بذاتها، ((لا عدوى)) يعني أن المرض لا ينتقل من مريض إلى آخر بذاته بطبعه، لكن الله -سبحانه وتعالى- جعل مخالطة المريض للصحيح سبباً لأعدائه مرضه، سبب للانتقال، وقد يتخلف ذلك عن سببه كما في غيره من الأسباب، وهذا مسلك ابن الصلاح، ابن الصلاح يثبت العدوى وأن المخالطة سبب للانتقال، والعدوى المنفية في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا عدوى)) إنما هي كون المرض يسري بنفسه ويتعدى بذاته، والمثبت في مثل قوله: ((فر من المجذوم)) ((ولا يورد ممرض على مصح)) أن المخالطة من قبل الصحيح للمريض تكون سبب لانتقال المرض والمسبب هو الله -سبحانه وتعالى-، وقد يوجد المسبب عند حصول السبب وقد لا يوجد؛ لأن الناس من الأصحاء يخالطون المرضى فمنهم من يمرض ومنهم من لا يمرض؛ لأن هذا سبب، كمن لا يتقي البرد في الشتاء مثلاً يخرج بثياب رقيقة هذا سبب للمرض، قد يمرض وقد لا يمرض؛ لأن السبب قد يتخلف لوجود مانع يقاومه.
على كل حال هذا مسلك ابن الصلاح وفيه إثبات العدوى، فيه إثبات العدوى، لكن المنفي كون المرض يسري بنفسه، من غير كون الله -سبحانه وتعالى- هو الذي ينقله من مريض إلى آخر.
الثاني: أن نفي العدوى باق على عمومه، يعني مخالطة المريض من قبل الصحيح لا أثر لها البتة، يعني تخالط صحيح أو مريض، تعاشر صحيح أو مريض لا أثر له البتة، لعموم حديث: ((لا عدوى)) فنفي العدوى باقٍ على عمومه إذاً كيف يؤمر بالفرار من المجذوم؟ يقول: "الأمر بالفرار من المجذوم من باب سد الذرائع"، يقول: تخالط مريض أو تخالط سليم لا فرق البتة، لكن كيف قيل: ((فر من المجذوم فرارك من الأسد))؟ يقول: "هذا من باب سد الذرائع" كيف؟ يقول: "قد تصاب بالمرض من غير عدوى" يعني كما أصيب الأول فينقدح في ذهنك أن هذه الإصابة سببها مخالطة المريض فتقع في المحذور فتثبت العدوى، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قد نفاها، "والأمر بالفرار من باب سد الذرائع لئلا يتفق للذي يخالط المريض شيء من ذلك بتقدير الله تعالى ابتداءً لا بالعدوى المنفية فيظن أن ذلك بسبب مخالطته فيعتقد صحة العدوى فيقع في الحرج" الحرج مخالفة النص "فأمر بتجنبه حسماً للمادة"، وهذا ما يراه الحافظ ابن حجر.
المقصود أن ابن الصلاح يثبت العدوى، وابن حجر ينفي العدوى، هل نقول: إن ابن الصلاح عمل بحديث وأهمل حديثاً، أو ابن حجر عمل بحديث وأهمل الآخر؟ لا، كل له طريقته ومسلكه للتوفيق بين هذه الأحاديث،
فابن الصلاح يثبت العدوى لكن ينفي أن المرض يتعدى بنفسه، فلا عدوى للمرض بنفسه وإنما يسري بتقدير الله -سبحانه وتعالى-، فالعدوى المنفية هي كون المرض ينتقل بذاته، والعدوى المثبتة كون المخالطة سبب للانتقال، بينما ابن حجر ينفي العدوى جملة وتفصيلاً، ولا فرق بين مخالطة مريض ومخالطة سليم، المرض لا ينتقل وليس بسبب لا يتعدى بنفسه، وليست المخالطة سبب للانتقال، لكن يقول: من باب سد الذرائع؛ لئلا تصاب بنفس المرض فتثبت العدوى التي نفاها النبي -عليه الصلاة والسلام-.
هناك مسلك ثالث وهو: أن الجذام على وجه الخصوص يعدي، إن إثبات العدوى في الجذام ونحوه مخصوص من عموم نفي العدوى، فيكون معنى قوله: ((لا عدوى)) يعني إلا من الجذام، ونحو هذا مسلك القاضي أبي بكر الباقلاني.
أمثلة على مختلف الحديث:
من أمثلة هذا الباب -مختلف الحديث- حديث: ((لا يؤمنّ عبد قوماً فيخص نفسه بدعوة دونهم)) جاء التهديد لمن خص نفسه بالدعوة وهو إمام دون من خلفه، هذا الحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة، والترمذي عن ثوبان، وحسنه، مع قوله -عليه الصلاة والسلام- الثابت في الصحيحين وغيرهما في دعاء الاستفتاح: ((اللهم باعد بيني وبين خطاياي)) الرسول -عليه الصلاة والسلام- ما قال: "اللهم باعد بيننا وبين خطايانا"، فخص نفسه بالدعوة دون المأمومين، ابن خزيمة -وهو إمام في هذا الشأن- ماذا قال؟ ما بان له وجه التوفيق بين الحديثين، ولا استطاع أن يجمع ويؤلف بين الحديثين فحكم على الحديث الأول بأنه موضوع؛ لأنه معارض بالحديث الصحيح، مع أنه إذا أمكن الجمع تعين المصير إليه، وابن خزيمة وهو إمام الأئمة وإمام في هذا الشأن، وقيل عنه ما قيل في هذا الباب على وجه الخصوص عجز؛ لأنه لا يمكن أن يوجد شخص يحيط بالعلم كله، لا بد أن يحصل للإنسان ما يعرفه بقدر نفسه، ولا بد أن يحصل له شيء يجعل الأتباع يعرفون قدره على حقيقته، ولولا وجود مثل هذه الهنات لهؤلاء الأفذاذ لصار هذا سبباً في الغلو بهم، ابن خزيمة حكم على الحديث الأول بأنه موضوع لأنه معارض، لماذا؟ لأنه ما لاح له وجه للتوفيق بينهما، إذاً كيف نوفق بين الحديثين؟ شيخ الإسلام ابن تيمية يرى أن الممنوع من ذلك الدعاء الذي يؤمن عليه كدعاء القنوت، أما ما لا يؤمن عليه فلا يدخل في المنع، يعني الدعاء بين السجدتين، الدعاء في الاستفتاح المأموم يقول: آمين؟ نعم؟ إذا قال: بين السجدتين: "رب اغفر لي وارحمني وعافني.." إلى آخره، المأموم يقول: آمين؟ لا، إذا قال: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي" يقول المأموم: آمين؟، لكن إذا قال: "اللهم اهدنا فيمن هديت" قال المأموم: "آمين" فالدعاء الذي يؤمن عليه لا يجوز تخصيص نفسه بالدعاء، لا بد أن يشرك المأمومين، تتصور إمام يؤم الناس يقول: اللهم اهدني فيمن هديت والناس يقولون: آمين؟! ممكن هذا؟! يدعو لنفسه دونهم، قد يوجد في المأمومين من يقول: الله لا يهديك، قد يوجد، يخص نفسه بالدعاء دونهم!
السخاوي يقول عن حكم ابن خزيمة على الحديث بأنه موضوع يقول: "هذا خطأ لإمكان حمله -يعني الحديث المنع من تخصيص النفس بالدعوة- لإمكان حمله على ما لم يشرع للمصلي من الأدعية بخلاف ما يشترك فيه الإمام والمأموم" يعني إذا دعا الإمام بشيء ولو كان في حال السجود بدعاء لا يقوله المأموم، فإنه لا بد أن يشرك المأموم فيه، أما إذا قال الإمام دعاء يقوله المأموم، يشترك فيه الإمام والمأموم فإنه يخص نفسه بالدعوة، يخص نفسه بدعاء الاستفتاح لماذا؟ لأن المأموم سوف يستفتح، يخص نفسه بالدعاء بين السجدتين؛ لأن المأموم سوف يدعو لنفسه، أما الدعاء الذي يتوقع أن المأموم لا يقوله فإنه لا يجوز له أن يخص نفسه به، ولا شك أن كلام شيخ الإسلام أوضح، كلام شيخ الإسلام أوضح.
المصنفات في مختلف الحديث:
مختلف الحديث صنف فيه الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- على خلاف بين أهل العلم في مختلف الحديث للشافعي هل هو كتاب مستقل أو فصل من فصول الأم؟ هل هو فصل من الأم أو هو كتاب مستقل؟ والذي يلحظ الكتاب ويقرأ بالكتاب يجزم أنه مستقل، والأم فيها فصول لهذا النوع، وفي ثنايا الكتاب كثير من مباحثه، ألف فيه أيضاً ابن قتيبة كتاب (تأويل مختلف الحديث)، وفيه ما هو غث كما قال الحافظ ابن كثير، نعم ضعف ابن قتيبة في التوفيق بين بعض الأحاديث، وهو إمام من أئمة المسلمين لكنه ليس بالمعصوم.
ألف فيه أيضاً أبو جعفر الطحاوي كتابه الكبير (مشكل الحديث) أو (مشكل الآثار)، وهو أوسع كتب هذا الفن، يقول السخاوي: إنه قابل للاختصار غير مستغنٍ عن الترتيب والتهذيب، وقد اختصر، وللمختصر معتصر".
الناسخ والمنسوخ:
نعم، يقول: "أو لا" يعني إذا لم يمكن الجمع، يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: "أو لا" يعني أو لا يمكن الجمع "وثبت المتأخر فهو الناسخ" يعني المتأخر "والآخر" وهو المتقدم "المنسوخ"، يعني وإن لم يمكن الجمع بين الحديثين المتعارضين فلا يخلو: إما أن يعرف التاريخ أو لا، فإن عرف المتأخر فهو الناسخ والمتقدم المنسوخ.
النسخ لغة:
والنسخ يطلق في اللغة ويراد به: الإزالة والرفع يقال: نسخت الشمس الظل ونسخت الريح الأثر أي أزالته، يطلق ويراد به ما يشبه النقل، فيقولون: نسخ زيد الكتاب إذا نقل منه نسخة، وليس بنقل حقيقي، النسخ -نسخ الكتب- هو نقل وإلا لا؟ نعم، ليس بنقل، لماذا؟ لأنك لا تنقل الحروف الموجودة في الكتاب إلى كتاب آخر بحيث يبقى الكتاب الأول أبيض بعد انتقال الحروف، لا، لكنه يشبه بالنقل؛ لأن نقل كتابة النظير كأنك نقلت الكتاب الأول.
النسخ في الاصطلاح:
واصطلاحاً عرفه الأكثر بأنه: رفع الشارع حكماً منه متقدماً بحكم منه متأخر، الناسخ: اسم فاعل من النسخ والمنسوخ اسم مفعول ومعرفة الناسخ والمنسوخ علم في غاية الأهمية، علم في غاية الأهمية لا ينهض به إلا الفحول من المحدثين والفقهاء وهو من ضرورات الفقه والاجتهاد، مر علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على قاصٍ –شخص يعظ الناس- فقال له علي -رضي الله عنه-: "أتعرف الناسخ من المنسوخ؟" قال: لا، قال: "هلكت وأهلكت"، وقال الزهري: "أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من منسوخه".
بم يعرف النسخ؟
هناك أمور يعرف بها النسخ منها: تصريح النبي -عليه الصلاة والسلام- كحديث: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)) مخرج في الصحيح، صحيح مسلم، كما يعرف النسخ بقول الصحابي مثل حديث جابر -رضي الله عنهما- قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترك الوضوء مما مست النار"، فقول الصحابي: "كان آخر الأمرين" دل على أن هناك أمر أول وأمر آخر، وآخر الأمرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترك الوضوء مما مست النار، أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان، كما يعرف النسخ بالتاريخ مثل حديث شداد بن أوس مرفوعاً: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، مع حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- احتجم وهو صائم، أخرجه البخاري، وبين الشافعي -رحمة الله عليه- أن الثاني ناسخ للأول؛ لأن شداداً كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- زمان الفتح سنة ثمان، فرأى رجلاً يحتجم في رمضان فقال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) وابن عباس مع النبي -عليه الصلاة والسلام- في حجة الوداع سنة عشر، حجة الوداع متأخرة عن الفتح، كما يعرف النسخ بدلالة الإجماع، كقتل شارب الخمر في الرابعة، أخرجه الإمام أحمد وغيره، يقول النووي في شرح مسلم: "دل الإجماع على نسخه، دل الإجماع على نسخه، وإن كان ابن حزم خالف في ذلك، فخلاف الظاهرية لا يقدح بالإجماع"، معلوم أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ، لماذا؟ لأن النسخ من خصائص النصوص، خاص بالنصوص بالأدلة، فالإجماع لا ينسخ ولا ينسخ، وإنما الإجماع يدل على وجود ناسخ، الإجماع يدل على وجود ناسخ، حديث قتل الشارب في الرابعة حديث معاوية في المسند وغيره، ((إذا شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب الثالثة فاجلدوه، ثم إذا شرب الرابعة فاقتلوه)) يقول النووي: "دل الإجماع على وجود ناسخ لهذا الحديث"، والترمذي في علل الجامع يقول: "لا يوجد في كتابي –يعني سننه، جامعه- حديثٌ اتفق العلماء على ترك العمل به إلا هذا الحديث –حديث قتل الشارب- وحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جمع في المدينة من غير خوف ولا مطر"، وفي رواية: "ولا سفر"، هنا هذا الحديث عمل به الظاهرية، يقول النووي في شرح مسلم: "دل الإجماع على نسخه، وإن كان ابن حزم خالف في ذلك، فخلاف الظاهرية لا يقدح بالإجماع، خلاف الظاهرية لا يقدح بالإجماع"، ويقول النووي أيضاً: "ولا يعتد بقول داود؛ لأنه لا يقول بالقياس الذي هو أحد أركان الاجتهاد".
إذاً خلاف الظاهرية غير معتد به عند النووي، ومن أهل العلم من يرى أن الظاهرية من أولى من يحتج به ويعتد بقولهم لعنايتهم بالنصوص، عناية الظاهرية بالنصوص الشرعية معروفة، اهتمامهم بظواهر النصوص معروف، طرح الأقيسة والآراء مع النصوص معروف عند الظاهرية، لكن إن كانت المسألة عمدتها نص فالظاهرية من أولى من يعتد به، وإن كانت المسألة عمدتها اجتهاد وأقيسة فلا عبرة بقولهم، هنا هذا الحديث يعمل به الظاهرية على أساس أنه حد، شيخ الإسلام وابن القيم يرون أنه يعمل بهذا الحديث، لكنه على سبيل التعزير، يعني إذا كثر شرب الخمر في الناس ولم يردعهم الحد –الجلد- فلا مانع من قتل المدمن الذي يشرب الرابعة والخامسة هذا لا مانع من قتله لهذا الحديث، وليس بحد بمعنى أنه يقتل كل أحد، لا، إذا كثر الشرب في الناس فلا مانع أن يعزر الشارب المدمن هذا من باب التعزير بحيث يراه الإمام هو المصلحة، ولا يردع الناس إلا هذا، يقول شيخ الإسلام وابن القيم: "إن هذا تعزير"، إذا رأى الإمام المصلحة في قتل المدمن يقتله، تعزيراً.
الحكمة من النسخ:
ما الفائدة وما الحكمة من النسخ؟ ما الحكمة من كون الشرع يقر حكم ثم ينسخه؟ النسخ له فوائد كثيرة جداً لكن من أهمها: رعاية الأصلح للمكلفين، رعاية الأصلح للمكلفين تفضلاً من الله تعالى لا وجوباً عليه كما تقول المعتزلة، فمصالح الناس مقصد من مقاصد التشريع في الإسلام، وهذه المقاصد والمصالح تختلف باختلاف الأحوال والأزمان، قد يكون هذا الحكم يناسب الناس في هذا الوقت ثم يكون هذا الحكم المناسب في هذا الوقت غير مناسب في وقت آخر، فيأتي بعد ذلك ما ينسخه، وهنا حصلت رعاية الأصلح للمكلفين ومن ذلكم امتحان المكلفين أيضاً، امتحان المكلفين بامتثالهم الأوامر واجتنابهم النواهي، وتكرار الاختبار خصوصاً بأمرهم بما كانوا منهيين عنه ونهيهم عما كانوا مأمورين به، يعني أمروا بشيء حتى إذا عملوه وألفوه نهوا عنه، امتثالهم لهذا النهي بعد ذلك الأمر وبعد ذلك الإلف امتحان، امتحان لهم واختبار لينظر من ينقاد، وكذلكم إذا نهوا عن شيء ثم رؤيا امتثالهم لهذا النهي ثم أمروا به ونسخ النهي الأول أيضاً هذا من تمام الامتحان، حصل الابتلاء والامتحان في نسخ القبلة وتغييرها {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا} [(142) سورة البقرة].
الانقياد في حالة التغيير أدل على الإذعان والطاعة بلا شك، يعني كون الإنسان يؤمر بأمر ويستمر عليه هذا ما فيه إشكال، امتثل مرة واحدة هذا الأمر واستمر عليه، لكن كونه يؤمر به فيتمثل ثم ينهى عنه فيمتثل لا شك أن هذا يدل على تمام الانقياد.
الفرق بين النسخ والتخصيص: النسخ رفع كلي للحكم، والتخصيص رفع جزئي، رفع جزئي لحكم، فهو قصر للحكم على بعض أفراده دون بعض، وجاء في تعبير السلف إطلاق النسخ على التخصيص كما أطلقوه على التقييد، فالنسخ عندهم أوسع من النسخ عند المتأخرين، فالمتأخرون يخصون النسخ بالرفع الكلي للحكم، والمتقدمون يطلقونه ويتوسعون في إطلاقه على التخصيص.
المؤلفات في الناسخ والمنسوخ:
من أهم المؤلفات في الناسخ والمنسوخ: (الناسخ والمنسوخ) لابن شاهين، و(الاعتبار في معرفة الناسخ والمنسوخ من الآثار) للحازمي، وهذا كتابه في غاية الجودة، كتاب الحازمي لا يستغني عنه طالب علم، (رسوخ الأحبار) لبرهان الدين الجعبري أيضاً كتاب جيد في الباب.
يقول الحافظ: "وإلا فالترجيح ثم التوقف"، يعني إن لم يمكن الجمع بين النصوص المتعارضة ولم يعرف التاريخ فلا يخلو إما أن يمكن ترجيح أحدهما على الآخر بوجه من وجوه الترجيح الكثيرة، وجوه الترجيح بين النصوص كثيرة جداً، إذا لم نستطع الجمع وهو أولى ما يبدأ به، إذا أمكن الجمع تعين بين النصوص، إن لم يمكن وعرفنا التاريخ عرفنا المتقدم من المتأخر حكمنا بالنسخ، إن لم يمكن الجمع ولم نعرف التاريخ نلجأ إلى الترجيح، نلجأ إلى الترجيح بين هذه النصوص، ووجوه الترجيح كثيرة جداً، ذكر الحازمي في (الاعتبار) الذي ذكرناه آنفاً خمسين وجهاً للترجيح بين النصوص، الحافظ العراقي في نكته على ابن الصلاح ذكر أكثر من مائة وجه للترجيح بين النصوص، السيوطي حصر هذه الوجوه الكثيرة، وجوه الترجيح الكثيرة في سبعة أقسام، يعني بدلاً من أن تقرأ مائة وجه أو خمسين وجه عند الحازمي السيوطي جعلها سبعة أقسام، الترجيح بحال الراوي، كالحفظ والفقه وملازمة الشيوخ والسلامة من القوادح، الترجيح بطريق التحمل كالسماع والعرض والإجازة وغيرها، الترجيح بكيفية الرواية كالمروي باللفظ، وما ذكر سببه، وكونه متفقاً على رفعه ووصله، الترجيح بوقت الورود فيقدم المدني على المكي، الترجيح بوقت الورود فيقدم المدني على المكي، والمتضمن للتخفيف على المتضمن للتشديد، وقيل عكسه، قال الرازي: "الترجيح بهذا غير قوي"، الترجيح بهذا غير قوي، يعني إذا وجدنا نص متضمن للتخفيف وآخر متضمن للتشديد، نرجح المخفف وإلا المشدد؟ منهم من يقول: يقدم المتضمن للتخفيف؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- ما جعل علينا في الدين من حرج، على المتضمن للتشديد، قوم آخرون يقولون: لا، العكس يقدم المتضمن للتشديد لماذا؟ لأنه أحوط؛ ولأن الدين عبارة عن مجموعة تكاليف، والتكليف: إلزام ما فيه كلفة، وهو أحوط، وهو العزيمة، على كل حال الترجيح بمثل هذا غير قوي، لا ننظر إلى التشديد والتخفيف بقدر ما ننظر إلى إمكان الجمع إن أمكن، أو القول بالنسخ.
الترجيح بلفظ الخبر فيرجح الخاص على العام والمنطوق على المفهوم، ومفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة وهكذا، الترجيح بالحكم فيقدم الناقل على البراءة الأصلية على المقرر لها، والمؤسس على المؤكد، الترجيح بأمر خارجي فيقدم ما يوافق ظاهر القرآن أو سنة أخرى، وغير ذلك من المرجحات التي لا تكاد تنحصر.
وإذا لم يمكن الترجيح بوجه من الوجوه لزم التوقف عن العمل بأحد الحديثين، لماذا؟ لأن عملك بحديث معارَض بمثله ليس بأولى من عملك بالمعارِض فاختيارك أحد الأمرين من غير مرجح تحكم، ظاهر وإلا مو بظاهر؟ يعني عندك حديثان متساويان من كل وجه، ولم تستطع الجمع ولا عرفت التاريخ تتوقف؛ لأن عملك بأحد الحديثين يحتاج إلى مرجح، عملك بأحد الحديثين تحكم، فيلزمك التوقف، وهذا في النصوص ظاهر، شيخ الإسلام وهو يرد على طوائف المبتدعة الذين يقولون بقدم المحدثات، وأنهم يقولون: أنها كلها قديمة بقدم الله -عز وجل-؛ لأننا إذا قلنا: أنه عمل هذا قبل هذا ولا مرجح لأحدهما على الآخر تطاولوا على الخالق، تطاولوا على الخالق -عز وجل- الذي لا يسأل عما يفعل، يقول: "الإنسان قد يعمل أعمال فيقدم أحد المتساويين من غير مرجح كالبداءة بأحد الرغيفين" أمامك رغيفين تبدأ بأحدهما تحتاج إلى مرجح؟ نعم، "وسلوك أحد الطريقين" عندك طريق يؤدي إلى الغرض وثاني يؤدي إلى الغرض بنفس المدة وبنفس السهولة، كونك تذهب مع الطريق هذا أو مع ذاك تحتاج إلى مرجح؟ ما يحتاج إلى مرجح، أو تحتاط تجلس حتى تجد مرجح تتوقف ما تأكل أحد الرغيفين حتى تجد مرجح؟ نعم، عندك رغيفان هل تحتاج في مثل هذا إلى مرجح؟ ما تحتاج إلى مرجح، والمخلوقات بالنسبة إلى الخالق كالأرغفة بالنسبة للمخلوق، هو يحتاج إلى أن يوجد مرجح فيرجح ليبدأ بأحد المخلوقات قبل بعض؟ لا، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [(23) سورة الأنبياء] إنما الذي يسأل المخلوق الضعيف، وهناك أمور أطلقت له وأبيحت بحيث لا يسأل عنها، فالأمور المباحة يبدأ بأحدها قبل الآخر إيش اللي يمنع؟ ما الذي يمنع أن تذهب لزيارة زيد قبل زيارة عمرو أو العكس؟ تبدأ بالرغيف هذا أو بذاك من غير مرجح؟ تسلك الطريق هذا أو ذاك من غير مرجح؟ إيش المانع؟ أنت تختار هذه أمور في حيز الإباحة.
يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: "التعبير بالتوقف أولى من التعبير بالتساقط" لأن من أهل العلم من يقول: أنها تعارضت فتساقطت، لماذا؟ "لأن خفاء ترجيح أحدهما على الآخر إنما هو بالنسبة للمعتبر بالحالة الراهنة، مع احتمال أن يظهر لغيره ما خفي عليه، والله أعلم".
من أهل العلم من منع الترجيح بين الأدلة، فمنع بعض العلماء الترجيح بين الأدلة قياساً على البينات، وقالوا: إذا تعارضت البينات لزم التوقف، هم عندهم العبارة إذا تعارضت البينات تساقطت، نعم؟
طالب:......
تعارضت، ما تتساقط؟ تتساقط، وهذه النصوص بمنزلة البينات إذا تعارضت لزم التوقف، وبعضهم يقول: تساقطت.
الثاني: التعارض بين الأخبار إنما هو بالنسبة إلى ظن المجتهد وما يظهر له وإلا ففي نفس الأمر لا تعارض، يعني هل يوجد حديثان صدرا من شخص واحد معصوم يوجد فيهما تناقض حقيقي، إذا كان النقل لا يعارض العقل فكيف يعارض بعضه بعضاً؟ هل يوجد تعارض حقيقي بين العقل السليم وبين النص الصحيح الصريح؟ لا يمكن أن يوجد، شيخ الإسلام -رحمة الله عليه- له كتاب كبير في الباب: (درء تعارض العقل والنقل) النقل الصحيح لا يمكن أن يعارض العقل الصريح السليم، فالتعارض الموجود بين النصوص إنما هو بالنسبة لظن المجتهد وإلا ففي الحقيقة لا تعارض، نعم.
المردود:
"ثم المردود: إما أن يكون لسقط أو طعن، والسقط: إما أن يكون من مبادئ السند من مصنف أو من آخره بعد التابعي أو غير ذلك، فالأول: المعلق، والثاني: هو المرسل، والثالث: إن كان باثنين فصاعداً مع التوالي فهو المعضل، وإلا فالمنقطع، ثم قد يكون واضحاً أو خفياً، فالأول: يدرك بعدم التلاقي ومن ثم احتيج إلى التأريخ، والثاني: المدلس ويرد بصيغة تحتمل اللقي: كـ(عن) و(قال)، وكذا المرسل الخفي من معاصر لم يلق".
يقول -رحمه الله تعالى- بعد أن أنهى الكلام على المقبول بنوعيه الصحيح والحسن: "ثم المردود إما أن يكون لسقط أو طعن" فمسالك الضعف إلى الخبر اثنان: السقط في السند أو الطعن في الراوي، فالسقط إما أن يكون من مبادئ السند من قبل المصنف أو من آخره بعد التابعي أو غير ذلك فالأول المعلق، يعني بذلك أن الحديث المرود وهو الضعيف لا يخلو من سببين: إما أن يكون بسبب سقط في إسناده، أو طعن وجرح في أحد رواته.
"والسقط إما أن يكون من مبادئ السند" من تصرف مصنف بحذف شيخه أو هو مع شيخه، وهذا ما يسمى في اصطلاح المحدثين بالمعلق، يعني أن المصنف إذا جاء إلى الحديث فأسقط شيخه سميناه معلق، إذا أسقط الشيخ وشيخ الشيخ سميناه معلق، إذا أسقط الشيخ وشيخه وشيخه أيضاً معلق، ولو حذف إلى آخر السند نسميه معلق.
المعلق في اللغة:
المعلق في اللغة: اسم مفعول من التعليق، تقول: علق الشيء بالشيء، ومنه وعليه بمعنى أناطه به.
المعلق في الاصطلاح:
وفي الاصطلاح: ما حذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثر ولو إلى آخر الإسناد، وقيده ابن الصلاح وتبعه النووي والعراقي بكونه مجزوماً به، قيدوا التعليق بكونه مجزوماً به، قال الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:
وإن يكن أوّل الإسناد حذف |
| مع صيغة الجزم فتعليقاً عرف |
لا بد أن تكون الصيغة صيغة جزم، قال فلان، ذكر فلان، لكن الذي يراه كثير من المحققين أن غير المجزوم به داخل في مسمى المعلق في مسمى المعلق، ولذا تقسم معلقات البخاري إلى معلقات جاءت بصيغة الجزم، ومعلقات جاءت بصيغة التمريض، ممن جزم بذلك أبو الحجاج المزي -رحمه الله تعالى- حيث أورد في تحفة الأشراف ما في البخاري من ذلك معلماً عليه علامة التعليق (خ ت) وإن كانت الصيغة غير مجزوم بها، بل إن النووي نفسه أورد في رياض الصالحين حديث عائشة: "أمرنا أن ننزل الناس منازلهم" وقال: ذكره مسلم في صحيحه تعليقاً، فقال: "ذكر عن عائشة" فسماه معلقاً مع كونه جاء بصيغة التمريض لا بصيغة الجزم، مع أنه في التقريب -مختصر ابن الصلاح- النووي نفسه قال: إن المعلق ما جاء بصيغة الجزم تبعاً لابن الصلاح، وسمي هذا النوع من الحديث معلقاً؛ لأنه بحذف أوله صار كالشيء المقطوع عن الأرض، الموصول من الأعلى بالسقف مثلاً، يعني لو ربطت شيء بالسقف ولا يصل إلى الأرض تكون علقته بالسقف، كالشيء المقطوع عن الأرض الموصول من الأعلى بالسقف مثلاً.
قال ابن الصلاح: "كأنه مأخوذ من تعليق الجدار، كأنه مأخوذ من تعليق الجدار، وتعليق الطلاق ونحوه لما يشترك الجميع فيه من قطع الاتصال"، تعقبه البلقيني قائلاً: "إن أخذه من تعليق الجدار ظاهر، أما من تعليق الطلاق ونحوه فليس التعليق هناك لأجل قطع الاتصال بل لتعليق أمر على أمر"، ابن الصلاح يرى أن المأخذ لهذه الكلمة من تعليق الجدار وتعليق الطلاق، يوافقه السراج البلقيني في تعليق الجدار، ويخالفه في تعليق الطلاق، استبعد الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- أخذه من تعليق الجدار الذي اقره عليه البلقيني.
أقول: لعل مراد ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- تعليق المرأة، تعليق الطلاق، لا يقصد تعليق الطلاق إنما يقصد تعليق المرأة، لا تعليق الطلاق، ومنه قوله تعالى: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [(129) سورة النساء] أي ليست بمطلقة ولا ذات زوج، فهي معلقة، يقول القرطبي: "هذا تشبيه بالشيء المعلق من شيء، لأنه لا على الأرض استقر ولا على ما علق عليه انحمل".
هذه المرأة لم تستقر فتستقل بنفسها وتتهيأ للخطاب، ولا ما علقت عليه من زوج هي في عصمته إن حملت فهي مسكينة معلقة ليست بذات زوج ولا مطلقة، تقول المرأة في حديث أم زرع: ((زوجي العشنق إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق)) نعم، حديث أم زرع، حديث مطول في الصحيح، نعم، فيه من الألفاظ الغريبة ما فيه.
على كل حال التعليق عرفنا تعريفه وهو: الحذف من مبادئ السند، ولو إلى آخره، وله صور كثيرة تتعدد بتعدد رواته، هذه الصور تتعدد بعدد رواة الحديث، إذا افترضنا أن بين الشيخ المصنف وبين النبي -عليه الصلاة والسلام- خمسة رواة، يكون لهذا الحديث خمس صور، كل راوي له صورة، إذا حذفت واحد صورة، حذفت الثاني صورة، حذفت الثالث صورة، إلى آخره.
صور المعلق:
المقصود أن للمعلق صور كثيرة منها: أن يحذف جميع السند مع إضافة القول إلى قائله، هذه صورة من صور المعلق، "كانت أم الدرداء تجلس في الصلاة جلسة الرجل، وكانت فقيهة" هذا معلق لكنه مضاف إلى أم الدرداء.
الثاني: أن يحذف جميع السند مع عدم إضافة القول إلى قائل، هذا موجود في البخاري لا يضاف القول إلى قائله، أن يحذف جميع السند إلا الصحابي، قال ابن عباس، قال ابن عمر، قال أنس، أن يحذف جميع السند إلا الصحابي والتابعي، أن يحذف من حدثه، يعني شيخه ويضيفه إلى من فوقه، والأمثلة على هذه الصور موجودة في الصحيح، وليس من صور المعلق ما عزاه المصنف لشيخه بصيغة قال، يقول الحافظ العراقي فيما ذكرنا آنفاً:
........................أما الذي |
| لشيخه عزا بـ(قال) فكذي |
فليس من صور المعلق ما يقوله المصنف كالبخاري مثلاً قال هشام بن عمار: حدثنا صدقة.. إلى آخر الإسناد، هشام بن عمار من شيوخ البخاري، فكون البخاري يقول: قال هشام بن عمار من أهل العلم من يرى أنه معلق، لكن الصواب أنه ليس بمعلق، فليس من صور المعلق ما عزاه المصنف لشيخه بصيغة قال بل حكمها حكم المعنعن، فكذي عنعنةٍ، وعلى هذا يشترط للحكم باتصالها شيئان: سلامة الراوي من التدليس؛ لأن حكمها حكم العنعنة، والمدلس لا تقبل عنعنته حتى يصرح بالتحديث، لا سيما إذا كان ممن لم يحتمل الأئمة تدليسه، والشرط الثاني: لقاء الراوي لمن روى عنه على الخلاف في اشتراط اللقاء والمعاصرة، يقول الحافظ ابن حجر: ظهر بالاستقراء من صنيع البخاري أنه لا يعدل عن صيغة التحديث الصريحة إلى مثل هذه الصيغة قال لنا، أو قال فلان، نعم إلا لنكتة، إلا لنكتةٍ تكون في شيء يسير في إسناده، لا بد أن يوجد شيء يسير ولو لم يكن قادحاً في إسناده، فمثلاً حديث المعازف، حديث هشام بن عمار، النكتة في ذلك كونه لم يجزم بالصحابي حدثني أبو مالك أو أبو عامر الأشعري، هذه نكتة يسيرة لا تؤثر في الخبر؛ لأن كونه لا يجزم بهذا الصحابي أو بذاك لا يؤثر، فعدل الإمام -رحمة الله عليه- من الجزم بصيغة التحديث –وإن كان قد روى عن هشام بن عمار أحاديث خمسة أو ستة بصيغة التحديث- لكنه عدل عنها للتردد في الصحابي.
منهم من يقول: إن البخاري لا يقول: قال فلان إلا في حال المذاكرة، يعني إذا كان الحديث مروي في حال المذاكرة لا لقصد التحديث، وحال المذاكرة يتوسع فيها ما لا يتوسع إذا قصد التحديث، وعلى كلٍ الحديث المعلق ضعيف، هذا الأصل فيه، لماذا؟ لأنه فقد شرطاً من شروط القبول وهو اتصال السند بحذف راوٍ أو أكثر من أول إسناده مع عدم علمنا بحال بذلك المحذوف، وهذا الحكم خاص بما إذا كان الحديث المعلق في كتاب لم يشترط مؤلفه الصحة، أو اشترطها لكن لم يفِ بشرطه، أما إذا وجد الحديث المعلق في كتاب التزمت صحته فهذا له حكم خاص، إذا وجد الحديث المعلق في الصحيحين في أحدهما، هذا لا شك أن له حكم خاص ما يقال: إنه ضعيف بإطلاق؛ لأن هذا الكتاب التزمت صحته، وتلقته الأمة بالقبول، فلا يقال: إنه ضعيف؛ لأنه سقط من إسناده راوٍ أو أكثر.
معلقات الصحيحين:
معلقات الصحيحين: بالنسبة لمعلقات مسلم وعدتها أربعة عشر حديثاً معلقاً، وكلها موصولة في صحيح مسلم إلا واحد، هذا الواحد موصول في صحيح البخاري، هل نحتاج إلى البحث في معلقات مسلم؟ نعم نحتاج إلى البحث؟ لا نحتاج، لماذا؟ لأنها كلها موصولة في صحيح مسلم، وواحد منها موصول في صحيح البخاري، إذاً انتهينا من معلقات مسلم.
معلقات البخاري: لا تخلو من حالين: الحالة الأولى: ما كان معلقاً وجاء موصولاً في الكتاب نفسه، وهذا هو الكثير الغالب على معلقات الصحيحين، يعني إذا كان عدة المعلقات في صحيح البخاري ألف وثلاثمائة وأربعين كلها موصولة إلا مائة وستين، أو مائة وتسعة وخمسين، هذا الموصول في الصحيح نفسه يبحث فيه وإلا ما يبحث؟ لا يحتاج إلى بحث، هل نحتاج إلى بحث في حديث معلق وهو موصول في الصحيح نفسه؟ لا نحتاج إلى بحثه.
الثانية: وهي ما لا يوجد في الصحيح إلا معلقاً إذ لم يوصل في موضع آخر من الكتاب وعرفنا أنها يسيرة تقرب من العُشر إذ عدتها مائة وستون حديثاً، هذه الأحاديث التي لم توصل في موضع آخر لا تخلو من صورتين:
الأولى: أن يصدر بصيغة الجزم مثل قال وروى وذكر وحكى، فهذه الصيغة يستفاد منها الصحة إلى من علق عنه، لكن يبقى النظر في من أبرز من الرجال، فمن هؤلاء الرجال من هو على شرط البخاري، يعني إذا كان التعليق بصيغة الجزم فالمحذوف نحتاج إلى بحثه؟ لا، المحذوف مضمون، ضمنه البخاري، يبقى النظر فيمن ذكر من الرواة، من ذكر من الرواة يحتاجون إلى بحث ولو كان بصيغة الجزم، كثير منهم من هو على شرطه، فمنهم من هو على شرطه، ومنهم من لا يلتحق بشرطه لكنه صحيح على شرط غيره، فمنهم ما هو موجود في صحيح مسلم لكنه ليس على شرط البخاري، وقد يكون حسناً، وقد يكون ضعيفاً لا من جهة قدح في رجاله، بل من جهة انقطاع يسير في إسناده، والأمثلة على ذلك كثيرة، موجودة في هدي الساري ومقدمة فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر.
الحالة الثانية: أن يصدر المعلق بصيغة التمريض، بصيغة التمريض، مثل روي ويروى ويذكر ويقال، فهذه الصيغة لا يستفاد منها الصحة ولا الضعف، ففيها ما هو صحيح على شرطه أيضاً، ومنها ما هو صحيح ليس على شرطه، ومنها ما هو حس، وفيها ما هو ضعيف، قال ابن الصلاح: ومع ذلك فإيراده له في أثناء الصحيح -حتى الضعيف- إيراده له في أثناء الصحيح مشعر بصحة أصله أشعاراً يؤنس به ويركن إليه، يعني وجود هذا الخبر وإن كان فيه شيء من الضعف فإيراده في كتاب التزمت صحته وتلقته الأمة بالقبول يدل على أنه أصل.
يقول ابن حجر: "الضعيف الذي لا عاضد له في الكتاب قليل جداً" قليل جداً وحيث يقع ذلك فيه يتعقبه المصنف بالتضعيف، ومثال ذلك قول البخاري: ويذكر عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "لا يتطوع الإمام في مكانه" ولم يصح.
وطريق معرفة الصحيح من غيره من هذه المعلقات هو البحث عن إسناد الحديث والحكم عليه بما يليق به، وقد تولى ذلك الحافظ ابن حجر في كتابيه فتح الباري وتغليق التعليق جزاه الله خيراً.
تعريف المرسل:
"والثاني: المرسل" والثاني: المرسل، وهو في اللغة: اسم مفعول من الإرسال وأصله من قولهم: أرسل الشيء أي أطلقه وأهمله، ومنه قوله تعالى، {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [(83) سورة مريم] يعني أطلقناهم، ويحتمل أن يكون مأخوذاً من قولهم: جاء القوم أرسالاً أي متفرقين، ويحتمل أن يكون من قولهم: ناقة مرسال، أي سريعة السير، أصله من قولهم: أرسل الشيء وأطلقه، كأن الراوي أطلق الحديث أطلقه وأرسله وتركه بدون إسناد، يحتمل أن يكون جاء من قولهم: جاء القوم أرسالاً أي متفرقين يعني هذا السند سند مفرق بين الراوي ومن روى عنه إذ حذفت الواسطة، وفرق بينهما بحذف..، ويحتمل أن يكون من قولهم: ناقة مرسال أي سريعة السير، كأن المحدث أسرع في إلقاء الحديث بدون إسناد، ويجمع على مراسل ومراسيل، كالمفاتح والمفاتيح، والمساند والمسانيد.
وفي الاصطلاح: ما رفعه التابعي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، هذا هو الذي جرى عليه الحافظ في النخبة وابن الصلاح والعراقي وغيرهم، وقيل: إن المرسل يختص بما أرسله كبار التابعين دون صغارهم، فأحاديث صغار التابعين تسمى مقاطيع، منقطعة.
والمشهور عند الفقهاء والأصوليين أن المرسل: قول غير الصحابي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
وعرفه الخطيب في الكفاية بأنه: ما انقطع إسناده بأن يكون في رواته من لم يسمعه ممن فوقه، فعلى هذا يشمل جميع أنواع الانقطاع، فيدخل فيه المنقطع والمعضل والمعلق.
مرفوع تابعٍ على المشهورِ |
| مرسل أو قيّده بالكبيرِ |
المقصود أن المرسل ما سقط من آخر إسناده، أو ما سقط صحابيه، أو ما رفعه التابعي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهذه العبارة أدق.
يقول البيقوني:
ومرسل منه الصحابي سقط |
| ................................... |
وهنا يقول:
مرفوع تابع على المشهورِ |
| ................................... |
مرفوع التابعي، وعلى هذا إذا سقط منه صحابيان، صحابي يروي عن صحابي ثم سقط الصحابيان معاً، ورفعه التابعي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- يكون مرسل، وعلى عبارة البيقوني لو وجد صحابي وحذف صحابي، الصحابي يرويه عن صحابي آخر فحذف الصحابي، كالأحاديث التي يرويها صغار الصحابة الذين لم يدركوا أول البعثة، يروون عن كبار الصحابة، وهو ما يعرف عند أهل العلم بمرسل الصحابي، على ما سيأتي، لكن المعتمد عند أهل العلم أن المرسل ما يرفعه التابعي صغيراً كان أو كبيراً إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، مثاله: ما رواه الإمام مالك عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس بين ظهراني الناس إذ جاءه رجل فساره فلم يدر ما ساره به، حتى جهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين.. الحديث.
عبيد الله بن عدي بن خيار من كبار التابعين، ورفع الخبر إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، هذا الخبر مرسل.
حكم المرسل:
حكمه: اختلف العلماء في المرسل على أقوال:
ذهب الأئمة أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية عنه إلى أن المرسل صحيح يحتج به في الدين، المرسل صحيح يحتج به في الدين، ونسبه الغزالي إلى الجماهير، بل نقل ابن عبد البر عن الطبري أن التابعين بأسرهم أجمعوا على قبول المرسل، ولم يأتِ عنهم إنكاره ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين، نقل ابن عبد البر عن الطبري أن التابعين بأسرهم –يعني نقل الاتفاق والإجماع- أجمعوا على قبول المرسل، ولم يأتِ عنهم إنكاره ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين، مروي عن سعيد بن المسيب أنه لا يحتج بالمرسل على ما سيأتي، والطبري نقل الإجماع عن التابعين وسعيد بن المسيب أفضل التابعين، فكيف ينقل الطبري الإجماع مع مخالفة سعيد؟ كيف؟ الطبري له رأي في الإجماع وهو أن الإجماع قول الأكثر، قول الأكثر إجماع عنده، ولذا تفسيره المشهور التفسير الكبير له كثيراً ما يقول: "واختلف القرأة في قراءة قوله تعالى على أقوال" ثم يذكر قول الجمهور ويذكر المخالف ثم يقول: "والصواب في ذلك عندنا كذا لإجماع القرأة على ذلك" هو ذاكر الخلاف لكن باعتبار أن الخلاف هو قول الأقل، قول الأكثر عنده إجماع، فهو يذكر الخلاف في معنى آية أو في حكم من الأحكام يذكر قول الجمهور ثم يذكر القول المخالف وهم القلة ثم يقول: والصواب في ذلك عندنا قول كذا لإجماع كذا، فالإجماع عنده قول الأكثر وليس بقول الكل.
غالى بعض القائلين بهذا القول –أعني قبول المراسيل- حتى قدموا المرسل على المسند، واحتج لهذا القول بأن سكوت الراوي مع عدالته عن ذكر من روى عنه وعلمه أن روايته يترتب عليها شرع عام يقتضي الجزم بعدالة المسكوت عنه، فسكوته كإخباره بعدالته، منهم من يرى أن المرسل أقوى من المسند؛ لأن من أسند أحالك، ومن أرسل ضمن لك ما حدث، واحتج له بأن الغالب على أهل تلك القرون الصدق والعدالة بشهادة النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)).
القول الثاني: ذهب أكثر المحدثين وكثير من الفقهاء وأصحاب الأصول إلى أن المرسل ضعيف لا يحتج به، وحكاه الحاكم عن سعيد بن المسيب والزهري ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل ومن بعدهم من فقهاء المدينة، وهو ما قرره الإمام مسلم في صدر صحيحه، ونسبه ابن عبد البر إلى سائر الفقهاء وجميع المحدثين.
العلة في ذلك في رد المرسل:
والعلة في ذلك في رد المرسل هو الجهل بحال الراوي الساقط، احتمال أن يكون الساقط صحابي، هذا احتمال، احتمال أن يكون الساقط تابعي آخر وصحابي، سقوط الصحابي ما يضر، لكن الإشكال فيما إذا سقط تابعي، أو تابعي ثالث، قد يسقط أكثر من راوي إذا رفع التابعي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- يحتمل أن يكون التابعي هذا رواه عن تابعي والتابعي عن تابعي، والتابعي عن تابعي، وأسقط اثنين من التابعين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة؛ لأنه وجد رواية ستة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، ستة من التابعين يروي بعضهم عن بضع، فيكون حينئذ سقط من الإسناد خمسة أشخاص، وكل واحد من هؤلاء التابعين الذين أسقطهم هذا التابعي نعم قابلون للجرح والتعديل، قد يكون فيهم المجروح، فيهم غير الثقة، إذاً الخبر يضعف حتى تعرف الواسطة.
العلة في رد المرسل هو الجهل بحال الراوي الساقط؛ لأنه يحتمل أن يكون الساقط من السند غير صحابي وإذا كان كذلك فيحتمل أن يكون ضعيفاً، يقول الحافظ العراقي:
واحتج مالك كذا النعمانُ |
| وتابعوهما به ودانوا |
"المرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة" هذا كلام مسلم في صدر الصحيح، هناك قول ثالث وهو الإمام الشافعي حيث قبل المراسيل لكن بشروط، في القول الأول قبلت من غير شرط، والثاني ردت من غير شرط، والثالث: فيه توسط، توسط الإمام الشافعي فقبل المراسيل بشروط أربعة: ثلاثة منها في الراوي المرسِل، والرابع في الحديث المرسَل، وتفصيل هذه الشروط في رسالته الشهيرة، الإمام الشافعي يشترط في المرسل أن يكون من كبار التابعين، وأن يكون إذا سمى أحداً ممن يروي عنه لا يسمي مرغوباً في الرواية عنه، يعني أنه لا يروي إلا عن ثقة، وإذا شرك أحداً من الرواة لم يخالفه، هذه شروط في الراوي المرسِل، والشرط الرابع شرط في الحديث: أن يكون له شاهد يقويه بمرسل آخر يرويه غير رجال الأول أو حديث مسند أو يشهد له فتوى عوام أهل العلم أو قول صحابي أو ما أشبه ذلك، المقصود أن له شاهد يقويه، وشروط الإمام الشافعي مبسوطة في رسالته -رحمه الله تعالى-.
مرسل الصحابي:
مرسل الصحابي، مرسل الصحابي وهو ما أخبر به الصحابي عن قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو فعله مما لم يسمعه أو يشاهده، إما لصغر سنه أو لتأخر إسلامه أو غيابه، الصحابي الصغير يروي عن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما لم يشهده، عائشة تروي حديث: بدء الوحي، بدء الوحي قبل أن تولد، ابن عباس يروي أحاديث قبل أن يولد، حدث بها النبي -عليه الصلاة والسلام- قبل أن يولد، فعائشة يحتمل أنها روتها عن النبي -عليه الصلاة والسلام- يعني أعاد لها الحديث، وابن عباس كذلك، ويحتمل أن عائشة وابن عباس رويا الأخبار عن صحابي آخر وأسقطوا الصحابي، مرسل الصحابي: ما أخبر به الصحابي عن قول النبي -عليه الصلاة والسلام- أو فعله مما لم يسمعه أو يشاهد إما لصغر سنه كعائشة وابن عباس وابن الزبير وغيرهم من صغار الصحابة، أو تأخر إسلامه كأبي هريرة أو غيابه عن حضور هذه القصة، ومثاله: ما رواه الشيخان عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة.." الحديث.
ومعلوم أن عائشة -رضي الله عنها- لم تدرك هذه القصة، لكن في ثنايا القصة ما يدل على أن النبي -عليه الصلاة والسلام- حدثها بهذا الخبر، ضمني، أطلقني هكذا، يعني يدل على أن الرسول حدثها.
حكمه: مرسل الصحابي مقبول عند جماهير الأمة، بل نقل الأسنوي والنسفي الإجماع على ذلك، على قبول مراسيل الصحابة، وشذ قوم منهم أبو إسحاق الإسفرائيني فقالوا: مرسل الصحابي لا يقبل إلا إذا عرف بصريح خبره أو بعادته أنه لا يروي إلا عن صاحبي، يقول الحافظ العراقي:
أما الذي أرسله الصحابي |
| فحكمه الوصل على الصوابِ |
المعضل والمنقطع:
يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: "والثالث إن كان باثنين فصاعداً مع التوالي فهو المعضل وإلا فالمنقطع".
الثالث من أنواع السقط: ما كان السقط في إسناده لا في أوله ولا في آخره، عرفنا أنه إن كان السقط في أوله من قبل المصنف فهو المعلق، وإن كان من آخره إسقاط الصحابي فهو المرسل، يبقى الثالث إذا كان في أثنائه، إذا كان السقط في الأثناء لا في أوله ولا في آخر، فإن كان بواحد فهو المنقطع، وإن كان باثنين فصاعداً مع التوالي فهو المعضل، فإن كان السقط باثنين فصاعداً على التوالي فهو الحديث المعضل، وإن كان بواحد أو بأكثر من واحد من أكثر من موضع فالمنقطع.
تعريف المعضل:
فالمعضل لغة: مأخوذ من الإعضال، يقال: عضل بي الأمر وأعضل بي إذا صعب، وكل مستصعب فقد عضل، تسمعون كثيراً من يقول: هذه من عضل المسائل يعني من صعابها ليست من المسائل السهلة، إذا قيل: هذه من عضل المسائل يعني من المسائل الصعبة، كل مستصعب فقد عضل، وكذلك كل شيء ضاق به موضعه فقد عضل فهو معضِل، والمحدثون يقولون: معضَل بفتح الضاد، وهو من حيث الاشتقاق مشكل، لكن ابن الصلاح بحث فوجد له قولهم: أمر عضيل، أي مستغلق شديد، معضَل، اسم مفعول، هذا الحديث معضَل يعني أن الراوي أعضله، أعضله فجعله مستغلقاً شديداً على من يبحث فيه؛ لأنه إذا كان السقط واحد سهل، لكن إذا كان السقط باثنين فصاعداً صعب الأمر.
اصطلاحاً: هو ما سقط من أثناء إسناده اثنين فصاعداً على التوالي، سمي هذا النوع معضلاً لأن الراوي له بإسقاطه رجلين فأكثر قد ضيق المجال على من يريد معرفة حاله من القوة والضعف، وحال بينه وبين معرفة رواته بالجرح أو التعديل، أو لأن المحدث أعضله وأعياه فلم ينتفع به من يرويه عنه، ومثاله: ما رواه الإمام مالك أنه بلغه أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((للملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق)) فهذا الحديث معضل؛ لأنه سقط منه راويان متواليان بين مالك وأبي هريرة هما: محمد بن عجلان وأبوه.
وهناك نوع آخر من المعضل ذكره الحاكم وهو: أن يعضله الراوي من أتباع التابعين فيقفه على التابعي، فيحذف النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهو في الأصل حديث مرفوع، فإذا جاء تابع التابعي وذكره عن التابعي فوقفه عليه، حذف الصحابي والنبي -عليه الصلاة والسلام- صار لاستحقاق اسم الإعضال أولى كما يقول ابن الصلاح.
الحاكم ذكر هذا النوع وهو أن يعضله الراوي من أتباع التابعين فيقفه على التابعي، فيحذف النبي -عليه الصلاة والسلام- والصحابي، يقول ابن الصلاح: إنه حسن، فالانقطاع بواحد مع الوقف صدق عليه انقطاع باثنين، الرسول -عليه الصلاة والسلام- والصحابي، وهو باستحقاق اسم الإعضال أولى، ولذا يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:
والمعضل الساقط منه اثنانِ |
| فصاعداً ومنه قسم ثانِ |
زاد البرهان الحلبي:
والشرط في ساقطه التوالي |
| والانفراد ليس بالإعضالِ |
يعني إذا سقط اثنان متواليان.
والشرط في ساقطه التوالي |
| والانفراد ليس بالإعضالِ |
أنه حذف راوي ثم ذكر شيخه ثم حذف شيخ الشيخ ما يسمى إعضال، لكن إذا حذف الشيخ وشيخه صار إعضال، والمعضل ضعيف لا يحتج به؛ لأنه أسوأ حالاً من المرسل لتعدد الساقط من إسناده، وهو أيضاً أسوأ من المعلق والمنقطع.
تعريف المنقطع:
والمنقطع: اسم فاعل من الانقطاع، يقال: قطعه واقتطعه فانقطع وتقطع، والقطع: إبانة بعض أجزاء الجرم من بعضه فصلاً، والانقطاع ضد الاتصال.
اصطلاحاً: عرف بأنه ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان انقطاعه أي سواءً كان هذا الانقطاع في أول السند أو في آخره، واعتبر النووي هذا التعريف هو الصحيح، يعني إذا قلنا: الأصل في الانقطاع أنه ضد الاتصال، فكل ما لم يتصل إسناده منقطع، كل ما لم يتصل إسناده منقطع، يدخل في ذلك المعلق والمرسل والمعضل، كلها تدخل في الانقطاع، نعم هي داخلة من حيث الإطلاق العام في الانقطاع لكن في الإطلاق الخاص الذي مشى عليه عندنا في النخبة، مشى على أنه ما سقط من أثناء إسناده راوٍ فقط، لأنه إن سقط من أثناء إسناده راويان على التوالي فهو معضل، إن سقط من أوله معلق، إن سقط من آخره مرسل، يبقى صورة واحدة هي ما سقط من أثناء إسناده راو واحد ويلتحق بها ما سقط من أثناء إسناده أكثر من راوٍ في أكثر من موضع لا على التوالي، ما سقط من أثناء إسناده راوٍ أو أكثر من راوٍ في أكثر من موضع مثاله: ما رواه الترمذي عن الحجاج بن أرطأة عن عبد الجبار بن وائل بن حجر عن أبيه قال: "استكرهت امرأة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدرأ عنها الحد" -عليه الصلاة والسلام-، قال أبو عيسى: "هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل، وعبد الجبار لم يسمع من أبيه لأنه ولد بعد أبيه بستة أشهر"، فهناك واسطة بين عبد الجبار وأبيه ساقطة، والحديث منقطع ضعيف لا يحتج به لتخلف شرط من شروط القبول وهو الاتصال.
ثم قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: "ثم قد يكون واضحاً أو خفياً، فالأول يدرك بعدم التلاقي ومن ثم احتيج إلى التاريخ"، يعني -رحمه الله تعالى- أن السقط من الإسناد قد يكون واضحاً جلياً يدركه من له أدنى عناية بالحديث وعلومه ورجاله وهو ما تقدم من الإرسال والتعليق والانقطاع والإعضال، ويعرف هذا النوع بعدم التلاقي بين الراوي وشيخه لكونه لم يدرك عصره، يعرف السقط الظاهر بعدم التلاقي بين الراوي ومن روى عنه، ويعرف هذا بالتاريخ، إذا عرفنا أن الشيخ مات سنة مائة والراوي عنه ولد سنة مائة وعشر أو مائة وخمس نجزم بأن هذا الراوي لم يلق من روى عنه؛ لأنه ولد بعد وفاته، قول الحافظ في الشرح في النزهة: "فالأول وهو الواضح يدرك بعدم التلاقي بين الراوي وشيخه بكونه لم يدرك عصره أو أدركه لكنهما لم يجتمعا وليست له منه إجازة ولا وجادة" أدركه يعني هما متعاصران لكنهما لم يجتمعا، لا شك أن أهل الحديث يحكمون بالانقطاع إذا تباعدت الأمصار، كأن يوجد شخص في الهند مثلاً وآخر في الأندلس يروي هذا عن هذا، ولا عرف أنهما حجا في سنة واحدة يحكم بالانقطاع في هذه الصورة، المتقدمون يحكمون بمثل هذا بالانقطاع كما نص على ذلك الحافظ ابن رجب في شرح البخاري، لكن هذا القول من الحافظ: "أو أدركه لكنهما لم يجتمعا" فيه نظر؛ لأن هذا من السقط الخفي على ما سيأتي تقريره في المرسل الخفي؛ لأنه وجدت المعاصرة فإذا وجدت المعاصرة ولم يلق الراوي من روى عنه هذا هو المرسل الخفي على ما سيأتي تقريره، فليس من الواضح.
قول الحافظ -رحمه الله تعالى-: "ومن ثم احتيج إلى التاريخ" لتضمنه معرفة المواليد الرواة ووفياتهم ورحلاتهم واختلاطهم وغير ذلك، ذكر السخاوي في حقيقة التاريخ أنه الوقت الذي تضبط به الأحوال من المواليد والوفيات، ويلتحق به ما يتفق من الحوادث التي ينشأ عنها معانٍ حسنة من تعديل وتجريح ونحو ذلك.
قال الحافظ: "وقد افتضح أقوام ادعوا الرواية عن شيوخ ظهر بالتاريخ كذب دعواهم"، ظهر بالتاريخ كذب دعواهم، قد يقول القائل: كيف يدعي شخص أنه روى عن شخص وهو لم يلقه أو لم يعاصره؟ يدعي، باب التشبع والتزيد مما تحبه النفوس وتهواه، فيزعم أنه لقي الشيخ فلان وروى عنه، ثم إذا سئل عن تاريخ مولده وجد أنه لم يولد في ذلك الوقت، يوجد في هذا العصر من يتشبع ويزعم أنه قرأ على فلان وفلان وفلان، فإذا تحقق من الأمر وجد الأمر ليس كذلك، بل وجد في هذا العصر من يكتب إهداءات لنفسه من بعض المؤلفين الذين لم يدركهم هذا تشبع، والمتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور، نسأل الله العافية.
ولا شك أن هذا شعور بالنقص وإحساس بالمهانة والضعف يريد أن يرفع ويجبر هذا النقص بهذا التشبع، ولا يدري المسكين أن هذا هو سبب من أسباب ضعفه ومهانته وضعته، التواضع هو الذي يرتفع به الإنسان، الصدق في المعاملة مع الله ومع خلقه هو الذي يرتفع به الإنسان، أما شخص يتشبع بما لم يعطَ ويزعم أنه قرأ وقرأ وفعل وترك وأدرك فلان كل هذا لا يجدي شيء.
يقول الحاكم: "لما قدم علينا أبو جعفر الكشي وحدث عن عبد بن حميد سألته عن مولده فذكر أنه سنة ستين ومائتين، سنة ستين ومائتين، فقلت لأصحابنا: هذا الشيخ سمع من عبد بن حميد بعد موته بثلاثة عشر سنة" افتضح المسكين لما ذكر التاريخ.
سبب وضع التاريخ:
سبب وضع التاريخ في أول الإسلام، التاريخ في غاية الأهمية، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [(189) سورة البقرة] يؤرخون بها، يعرفون بها أوقات عباداتهم ومعاملاتهم.
سبب وضع التاريخ في أول الإسلام أن عمر -رضي الله عنه- أتي بصك فيه دين لشخص على آخر مكتوب إلى شعبان وقت حلول الأجل شعبان، فقال: أهو شعبان الماضي أو شعبان القابل؟ بس شعبان وانتهى، لكن ما يدرى هو شعبان الماضي أو شعبان القادم؛ لأنه ما في تاريخ، ما في سنة كذا، ثم أمر -رضي الله عنه وأرضاه- بوضع التاريخ.
واتفق الصحابة على ابتداء التاريخ من هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وجعلوا أول السنة المحرم، هذا محل اتفاق بين الصحابة -رضوان الله عليهم-، والعدول عن هذا التاريخ الذي اتفق عليه الصحابة إلى غيره لا شك أنه سلوك لغير سبيل المؤمنين، فمن قلد الكفار في تواريخهم أو غير في التاريخ ولو كان من الهجرة سواءً عمل بالتاريخ الشمسي ولو كان من الهجرة، أو عمل بخلاف ما اتفق عليه الصحابة من جعلهم أول السنة المحرم، منهم من يقول: أول السنة ربيع الأول؛ لأن أول الهجرة في ربيع الأول، نقول: لا، الصحابة اتفقوا على جعل المحرم أول السنة، شهر الله المحرم، فالعمل بغير هذا التاريخ الذي اتفق عليه الصحابة سلوك لغير سبيل المؤمنين، وحيد عن جادة المسلمين التي اتفقوا عليها منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا، والله المستعان، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
"