شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (054)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.
مع مطلع حلقتنا نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، قسم السنة وعلومها، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم.
المقدم: لا زلنا في حديث أبي ذر -رضي الله تعالى- عنه عندما قال: "ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يا أبا ذر أعيرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم»".
أسلفتم في حلقة ماضية -أحسن الله إليكم- الحديث عن بعض ألفاظ الحديث، لعلنا نستكمل ما تبقى.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
انتهينا إلى قوله -عليه الصلاة والسلام-: «فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس» أي مِن الذي يأكله، ومِن الذي يلبسه، و(مِن) للتبعيض.
يقول القسطلاني: فإذا أطعم عبده مما يقتاته كان قد أطعمه مما يأكل، ولا يلزمه أن يطعمه من كل مأكوله على العموم من الأدم وطيبات العيش، لكن يستحب له ذلك، يعني كما تقدم أن المطلوب المواساة لا المساواة، وعرفنا أن أبا ذر أخذ بالعزيمة، ولذا ألبسه حُلَّة كما لبس الحُلَّة هو.
يقول الكرماني: «فليُطعمْه» بضم الياء وكذا «ليُلبِسْه»، وأما يَلبَس فهو بالفتح، بفتح ماذا؟ بفتح الباء؛ لماذا؟ لأن كسرها يغيِّر المعنى، يَلبَس الثوب ونحوه، ويِلْبِس يخلط {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [سورة الأنعام 82] يعني يخلطوا.
فإن قلت: فما الفائدة في العدول عن المطابقة حيث لم يقل: مما يطعم، فليطعمه مما يطعم، ماذا قال؟
المقدم: يأكل.
«فليطعمه مما يأكل» كما قال: «وليلبسه مما يلبس» قلت -والكلام للكرماني-: الطعم جاء بمعنى الذوق، قال الجوهري: يقال: طعم يطعم طعمًا إذا ذاق، أو أكل، قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [سورة البقرة 249] أي من لم يذقه، فلو قال: مما يطعم لتُوُهِّم أنه يجب الإذاقة مما يذوق وذلك غير واجب؛ لأن الإطعام أعم من مجرد الإذاقة.
فإن قلت: هذه الأوامر الثلاثة هل هي للوجوب أم لا؟ وكذا النهي هل هو للتحريم أم لا؟ الآن عندنا من الأوامر: «فليُطعمْه» لأن من صيغ الأمر المضارع المقترِن بلام الأمر، «فليطعمه». الثاني: «وليلبسه» الثالث من الأوامر: «أعينوهم» ثلاثة أوامر، فإن قلت: هذه الأوامر الثلاثة هل هي للوجوب أم لا؟ وكذا النهي هل هو للتحريم أم لا؟ يعني «ولا تكلفوهم» النهي، الأصل في الأمر أنه للوجوب، هذا الأصل في الأمر، من أوضح الأدلة على اقتضاء الأمر الوجوب قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [سورة النــور 63] فالوعيد على مخالفة الأمر تدل على أنه رُتِّب عليه عقاب، وهذا هو الوجوب، وفي قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك» أمر الاستحباب قائم، لكن المنفي لوجود المشقة هو أمر الوجوب، فدل على أن الأمر مع الإطلاق من غير صارف إنما هو للوجوب، إذا وجد ما يصرف هذا الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب عُمِل به.
يقول الكرماني: قلت: اختلف العلماء في الأوامر والظاهر الوجوب، لكن الأكثر على أنه للاستحباب، وأما النهي فهو للتحريم اتفاقًا، النهي أين النهي؟ «ولا تكلفوهم ما يغلبهم» هذا للتحريم، فلا يجوز أن يكلف الرقيق ما لا يطيق، يقول: وأما النهي فهو للتحريم اتفاقًا.
ما الصارف لهذه الأوامر الثلاثة عن الوجوب؟ ما دام قلنا: إن الأصل الوجوب وهي أوامر صريحة؛ لأنها جاءت بصيغة الأمر: «أعينوهم» وجاءت بالمضارع المقترن بلام الأمر، وهي في حكم الأمر بلفظ الأمر.
المقدم: الصارف الفعل، الأفعال المنقولة عن بعضهم مثلاً، عن بعض الصحابة.
الآن هل هناك خلاف في أنه لا يجب -يعني كأنه محل اتفاق أنه لا يجب- أن تطعم ولدك وأمك وأباك من نفس الطعام الذي تطعمه؟
المقدم: لا خلاف في هذا.
لا خلاف في هذا، فالرقيق من باب أولى، فالأمة متفقة على أنه لا يلزم أن يُطعَم الرقيق من نفس الطعام الذي يأكله، إنما يُطعَم ما يقيم صلبه، وما يدفع عنه حاجته إلى الطعام.
قوله: «ولا تكلفوهم» التكليف تحميل الشخص شيئًا معه كُلْفة، وقيل: هو الأمر بما يشق، ولذا سمية الأوامر والنواهي الشرعية تكاليف؛ لأن فيها ما يشق على النفس.
«ما يغلبهم» أي: ما يجعل قدرتهم فيه مغلوبة، أي ما يعجزون عه لصعوبته فلا يكلفون ما لا يطاق، أو ما يقرب منه.
«فإن كلفتموهم ما يغلبهم» أي تعجز قدرتهم عنه «فأعينوهم» أي ساعدوهم، ويُلحَق بالعبد الأجير، والخادم والضعيف والدابة، كل هؤلاء لا يجوز أن يكلفوا ما لا يطيقون؛ لأن هذا ظلم لهم.
جاء في عمدة القاري: كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يأتي الحوائط، فمن رآه من العبيد كُلِّف ما لا يطيق وضع عنه، ومن قل رزقه زاده يعني إذا وجد الأجرة أقل من العمل يزيده -رضي الله عنه وأرضاه-.
قال مالك: وكذلك يُفعَل فيمن يَفعَل من الأجراء ولا يطيقه. هذا كلام مالك، يعني أن الأجير إذا ظُلِم، وكُلِّف من العمل ما لا يطيق يُخفَّف عنه، إذا ظلم من جهة أخرى وبُخِس من أجرته فإنه يزاد.
وهذا -مع الأسف الشديد- يقع كثير من أصحاب الأعمال والشركات وأصحاب التجارات ممن يستأجرون الناس لمساعدتهم على أعمالهم، يقع منهم الظلم كثيرًا، يقع منهم ببخس الأجرة، يقع منهم بزيادة العمل على ما اتُّفق عليه، وكل هذا بضغوط يساعدهم على ذلك ضعف ذلك الأجير، وشدة حاجته، وكل هذا حرام لا يجوز، ويزداد الأمر سوءًا إذا كان مع تكلفته أكثر مما اشتُرِط عليه، ومع قلة أجرته تأخير هذه الأجرة إلى أشهر، بل إلى سنين، كل هذا -نسأل الله العافية- ظلم لهؤلاء الأجراء، فليتق الله -سبحانه وتعالى- من يظلم هؤلاء لضعفهم، ألا يتصور أنه في يوم من الأيام تضطره الظروف أن يذهب إلى بلادهم؛ ليكون أجيرًا عند بعضهم؟! وكذلك ربَّات البيوت حينما يظلمن هؤلاء الخادمات، ويكلفنهن من العمل ما لا يطقنه، ويترفعن عليهن، وغير ذلك من التصرفات التي لا تليق بالمسلم، فلا شك أن المؤمنين إخوة، فيجعل الإنسان الأوامر والنواهي نصب عينيه، وأن هناك حساب، وأنه إذا أمن العقوبة في الدنيا، والغالب أن عقوبة الظلم تقدم، ولا تؤجَّل إلى الآخرة غالبًا، وأكثر هؤلاء الظلمة وقعوا في أمور حتى صار هؤلاء الذين ظُلموا يرْثون لهم، ويعطفون عليهم، كثير من هؤلاء وقع في ذلك.
فالظلم -نسأل الله العافية- كبيرة من كبائر الذنوب، فلا يستغل الإنسان قوة موقفه، وضعف الطرف الآخر في الضغط عليه في أن يظلمه، وقل مثل هذا في مدير الدائرة بالنسبة لمن تحت يده، والزوج بالنسبة لزوجته وأولاده وهكذا، فالظلم ممنوع على كافة المستويات، ولذا قال الله: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [سورة الأنعام 82] وإن جاء تفسيره بالشرك؛ لكن قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث القدسي عن ربه -عز وجل-: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تَظالَموا».
المقدم: الله المستعان، لكن أحسن الله إليك: التكليف فوق طاقتهم ألا يخضع هذا أحيانًا للعرف، قد يكون هناك بعض الأنظمة تقرر أن العامل لا يعمل إلا ثمان ساعات مثلاً، هذا بناءً على الأنظمة المعمول بها، لكن أحيانًا العرف يقتضي أن يكون العمل أكثر من ثمان ساعات إذا كان العمل بسيط كالخدَم مثلاً في المنازل؟
على كل حال الأعراف لها اعتبارها في الشرع، فإذا كان العمل يسيرًا وزيد عليه صار العمل أيسر من المتفق عليه، أيسر من المتفق عليه في النوع، وزيد عليه في مقابله في الزمن، أو اتُّفق على حط شيء من الأجرة، واتفقوا على ذلك بطيب نفس من الطرفين فالأمر لا يعدوهم.
كذلك الدواب لا يجوز ظلمها، فلا تُحمَّل فوق طاقتها، طيب بعض الآلات والمراكب، قد تُحمَّل فوق طاقتها، لكن هي لا تحس بهذا الظلم، لكن يترتب على ذلك فسادها، وفي فسادها إتلاف للمال، أيضًا يترتب على ذلك إتلاف الطرق، ولذا جاء المنع من تحميل أو زيادة الحمولة في هذه الشاحنات على القدر المحدد.
يقول النووي -رحمه الله تعالى-: في هذا الحديث أنواع من العلم: ففيه ما تُرجِم له أن المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بمجرد فعلها.
يقول: وقوله: بارتكابها احترازًا من اعتقادها؛ لأنه لو اعتقد بعض المحرمات المعلومة من دين الإسلام ضرورة كالخمر والزنا وشبهها كفر بلا خلاف، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم، بحيث يجوز أن يخفى عليه تحريم ذلك، فإنه حينئذٍ لا يُكفَّر، لكن يُعرَّف تحريم ذلك، ثم إن اعتقد حله بعد ذلك صار كافرًا، وهو الذي ذكرناه من كونه لا يكفر بارتكاب المعاصي من الكبائر هذا مذهب أهل السنة بأجمعهم، خلافًا للخوارج فإنهم كفروه، والمعتزلة حكموا بتخليده في النار من غير تكفير.
وقال أهل الحق: لا يُخلَّد في النار من مات موحدًا وإن ارتكب من الكبائر غير الشرك ما ارتكب، كما جاءت الأحاديث الصحيحة: «وإن زنى وإن سرق» واحتج البخاري بقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [سورة النساء 48] وهذه الآية صريحة في الدلالة لأهل الحق؛ لأن المراد من مات على الذنوب بلا توبة، ولو كان المراد من تاب لما كان فرق بين الشرك وغيره، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك، وإجماع السلف عليه، وفيه النهي عن سب العبيد وتعييرهم بوالديهم، والحث على الإحسان إليهم، ويُلحَق بهم من في معناهم من أجير وخادم وضعيف، وكذا الدواب ينبغي أن يحسن إليها، ولا تكلف من العمل ما لا تطيق الدوام عليه.
وفيه النهي عن الترفع على المسلم، وإن كان عبدًا ونحوه من الضعفة؛ لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات 13] وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة على الأمر باللطف بالضعفة، وخفض الجناح لهم، وعلى النهي عن احتقارهم والترفع عليهم، وفيه أنه يستحب للسيد أن يطعم عبده مما يأكل، ويلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق الدوام عليه. وفيه المحافظة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه غير ذلك.
والحديث أخرجه المصنف -رحمه الله تعالى- في ثلاثة مواضع:
الأول: هنا في كتاب الإيمان، سبق بيان ترجمته ومناسبته، يقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا شعبة عن واصل الأحدب عن المعرور قال: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حُلَّة وعلى غلامه حُلَّة، فسألته عن ذلك فقال... الحديث.
الموضع الثاني: في كتاب العتق: باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «العبيد إخوانكم، فأطعموهم مما تأكلون» حدثنا آدم بن أبي إياس قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا واصل الأحدب قال: سمعت المعرور بن سويد قال: رأيت أبا ذر الغفاري -رضي الله عنه- وعليه حُلَّة وعلى غلامه حُلَّة... الحديث.
ومناسبة الحديث للباب ظاهرة، كتاب العتق، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «العبيد إخوانكم» فيه: «إخوانكم خولكم» والخَوَل هم العبيد، فإذا كان الخول إخوان فالعبيد إخوان، فالمناسبة ظاهرة، ومناسبة الباب باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «العبيد إخوانكم» للكتاب كتاب العتق ظاهرة أيضًا من حيث أن العتق لا يكون إلا للعبيد، فالعبيد هم محل العتق، يعني المناسبة بين العبيد والعتق ظاهرة.
المقدم: لكن هناك في كتاب العتق جاء بهذا اللفظ قوله: «العبيد إخوانكم» ليس بهذا اللفظ: «إخوانكم خولكم» في كتاب العتق.
تقصد لفظ الحديث؟
المقدم: لفظ الحديث؛ لأن البخاري قال: باب قوله: «العبيد إخوانكم» في كتاب العتق.
البخاري -رحمة الله عليه- قد يترجم بلفظ لا يوجد عنده، مما ليس على شرطه -رحمه الله-.
الموضع الثالث: في كتاب الأدب، باب ما ينهى عن السباب واللعن، قال -رحمه الله تعالى-: حدثني عمر بن حفص قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الأعمش عن المعرور هو ابن سويد عن أبي ذر قال: "رأيت عليه بردًا وعلى غلامه بردًا" ومناسبة الحديث للباب في قوله: سابَبْت فلانًا للنهي عن السباب واللعن ظاهرة، مناسبة الحديث سابَبْت لباب ما ينهى عن السباب واللعن، هذه ظاهرة، والسباب والشتم واللعن منافٍ للأدب التي هي الترجمة الكبرى كتاب الأدب.
والحديث مخرَّج أيضًا في صحيح مسلم في الأيمان والنذور، فالحديث متفق عليه، وأخرجه أيضًا أبو داود في الأدب، والترمذي في البر وابن ماجه في الأدب وغيرهم.
المقدم: الخوارج -أحسن الله إليك- هل يحملون مثل هذه الأحاديث على أحاديث الوعيد وبالتالي يؤولونها؟
«فيك جاهلية»؟
المقدم: نعم، مثل قوله: «فيك جاهلية».
هذا قد يستدل به الخوارج، قد يستدل به الخوارج؛ لأن الجاهلية، أهل الجاهلية كفار.
المقدم: لكن نجمع معهم على أن أبا ذر ليس كافرًا بالإجماع؟
بلا شك أنهم لا يقولون بكفر أبي ذر، لكن قد يستدلون بمثل هذا أن من قال مثل هذا القول أنه يكفر، لكن لا يمنع أن أبا ذر بعد أن قيل له هذا الكلام تاب من وجهة نظرهم.
المقدم: أحسن الله إليكم يا شيخ إذا اختار أحد العمال أو الأجراء صفة تشق عليه، بدل أن يأتي بشخص آخر يتعاون معه على إنجاز هذا العمل يختار إنجازه لوحده، مقابل أن يظفر بالمال كله، فهل هذا سائغ؟
إن كان هذا العمل مما يطيقه بحيث لا يتضرر به بحال فلا بأس، بدلاً من أن يعمل ساعتين يعمل أربع ساعات، أو بدلاً من أن يحمل كيسًا واحدًا يحمل على ظهره أكثر من ذلك وهو يطيق لا بأس، لكن إذا كان يضره، فعلى من يراه أو من يتعامل معه ألا يمكنه من ذلك؛ لأن كونه يعمل عملاً يضر به هذه معصية؛ لأن نفسه وبدنه ليس ملكًا له، فعمله هذا معصية، وحينئذٍ لا يُمكَّن من ارتكاب هذه المعصية.
المقدم: ظهور -أحسن الله إليك- بعض الأخبار في المجتمعات العربية وبالذات في المجتمعات الخليجية من تعدي بعض الخدم على مكفوليهم أو العكس حتى صرنا نسمع مع الأسف بقضايا القتل المنتشرة في مثل هذه الحالة، لا شك أن هذا يرجع إلى سوء التعامل، وقد أشرتم إلى شيء من هذا، وهذه التعاليم الشرعية التي ظهرت جلية في مثل هذا الحديث وغيره، التنبيه على هذه القضية مهمة؛ لأن المسألة لا تقف عند مجرد ظلمهم، بل ربما وصلت إلى الدماء أحيانًا.
القضايا من هذا النوع كثيرة جدًّا، وسببها اختلاف الأعراف، واختلاف الأديان أحيانًا والمذاهب يجعل الإنسان يَحمِل على الخادم؛ لأنه يختلف معه في دينه مثلاً، أو الخادم يحمل على كفيله لأنه يختلف معه في الاعتقاد أو ما أشبه ذلك، أيضًا قضية الظلم من الكفلاء لمكفوليهم صار لها أثر كبير، فعلى سبيل المثال خادمة تكوي ثوبًا فتعرض الثوب للتلف بسبب الكي، فجاءت الكفيلة المرأة ربة البيت فوضعت المكواة على يديها فأحرقتها، فكيف كان جزاؤها؟ ماذا صنعت؟ ربة البيت لما خرجت في الصباح إلى عملها جاءت إلى طفلها فوضعته في القدر بدلاً من الأكل، قصص يعني يندى لها الجبين، وهذه قد توجد، يعني لا نقول إنها كثيرة لكنها يوجد منها شيء، وهذا كله سببه الظلم -نسأل الله العافية-، والتعدي على الآخرين، هذه مسبَّبَاته، فعلى الإنسان أن يتعامل، أيضًا مسائل السحر قد تعرضت خادمة لشيء من الظلم أو لعدم مراعاة الخاطر أو شيء من هذا، واحترامها كما ينبغي باعتبارها مسلمة، ثم بعد ذلكم السحر في بلادهم أمره ميسور وسهل، فحصل من هذا الشيء الكثير، وانتشر السحر في بيوت المسلمين بسبب هذا، والله المستعان.
المقدم: لو -أحسن الله إليكم- أصيب أحد من أفراد البيت، وهذا ربما يرد إشكال كثير، ربما يصاب بعض أفراد المنزل طفل أو غيره بمرض معين بعض الرقاة يؤكد أن هذا بسبب السحر، فتنصرف أذهان مَن في المنزل إلى الخادمة، هل يجوز لهم في مثل هذه الحالة أن يضربوها، أو أن ينالوا منها، أو أن يبلِّغوا عنها لمجرد هذا الظن؟
لا بد من التأكد؛ لأن اتهام الناس لا يجوز إلا إذا غلب على الظن، إذا غلب على الظن فإنه حينئذٍ يؤخذ بالأسباب التي بواسطتها يتوصل إلى الحقيقة، وليس غلبة الظن أيضًا حكم قطعي، لا، لا يفيد القطع، إنما يبقى غلبة ظن، وأنه يبقى أيضًا قرينة تجعل صاحب الشأن يجعل هذا الخادم أو هذه الخادمة يعترف بما اقترف بأسلوب أو بآخر كغيره من الجناة، فتبقى أن هذه قرائن، وليست دلائل قطعية.
السائل: الآن بالنسبة للخدم يا شيخ هل يجب أني أطعم الخادمة أو الخادم، وقد تكون الخادمة يعني مثال أوضح بما أنها تدخل لداخل البيوت وكذا، هل يجب عَلَيَّ أن أطعمها من نفس نوع الطعام الذي آكله، أم يجوز لي أن أطعمها أقل من نوع الطعام الذي آكله أنا؟ وإذا كان لا يجب علَي ذلك ألا يعتبر هذا نوع من أنواع الكبر أني أنا أَطعَم أو أُطعِم أولادي من أطايب الطعام، ولا أُبقي لها في كثير من الأحيان حتى من هذا الطعام، أو قد لا يوجد لها طعام أو تأكل من طعام أقل منه؟
المقدم: أو حتى الإسكان أيضًا ربما المقصود حتى الإسكان يا شيخ بعضهم يسكن الخادمات في أماكن سيئة جدًّا.
تقدمت الإشارة إلى أن المطلوب المواساة وليست المساواة، نعم المساواة أمر مرغَّب فيه شرعًا، لكنه غير واجب، فلا يلزم أن يُسكَن الخادم أو الخادمة سكن مثل سكن صاحبة البيت مثلاً، أو صاحب البيت، يكفي أن يسكن ما يليق به، ويحتمله نفسيًا وجسميًا، فلا يسكن في مكان بارد في وقت الشتاء، أو في مكان حار في وقت الصيف، إنما يسكن ما يليق به، وأما بالنسبة للطعام فالأولى أن يُطعَم من نفس الطعام الذي يأكله السيد أو الكفيل، لكن ما يلزم أن يكون كل نوع يأكله السيد يُطعِم منه المكفول، لكن عليه أن يُطعِمَه مما يليق به، بحيث تطيقه نفسه، ويقوم به صلبه.
المقدم: جزاكم الله خير وأحسن إليكم ونفع بعلمكم.
أيها الإخوة والأخوات انتهت هذه الحلقة من برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. نلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة وأنتم على خير، حتى ذلكم الحين نستودعكم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.