شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (063)

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم: توقفنا عند قول المصنف -رحمه الله-: "وعنه -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «انتدب الله -عز وجل- لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي، وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أُقتَل في سبيل الله ثم أُحيا، ثم أُقتَل، ثم أُحيا ثم أُقتَل»."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

راوي الحديث أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي على أرجح الأقوال راوية الإسلام، سبقت ترجمته، والحديث ترجم عليه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بقوله: بابٌ: الجهاد من الإيمان.

قال الحافظ ابن حجر: أورد -يعني البخاري- هذا الباب بين قيام ليلة القدر وبين قيام رمضان وصيامه، فأما مناسبة إيراده معها في الجملة فواضح لاشتراكها في كونها من خصال الإيمان، إيراده مع هذه الأبواب، إيراد باب الجهاد مع القيام والصيام قيام ليلة القدر واضح لاشتراك الجميع في كونها من خصال الإيمان، وأما إيراده بين هذين البابين مع أن تعلُّق أحدهما بالآخر ظاهر، إيراده بين باب قيام ليلة القدر من الإيمان، وبين باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، أورد بين هذين البابين باب الجهاد من الإيمان، يقول: وأما إيراده بين هذين البابين مع أن تعلُّق أحدهما بالآخر ظاهر، فلنكتة لم أرَ من تعرَّض لها، بل قال الكرماني: صنيعه هذا دالٌّ على أن النظر مقطوع عن غير هذه المناسبة، يعني اشتراكهما في كونها من خصال الإيمان.

يعني ما نظر إلى ما وراء ذلك، يعني هذه الخصال قيام ليلة القدر وقيام رمضان وصيام رمضان والجهاد تشترك في شيء واحد، قاسمها المشترك كونها من خصال الإيمان، والبخاري لم ينظر إلى ما وراء ذلك، ولو نظر لرَتَّب على رأي الكرماني.

يقول ابن حجر: وأقول: بل قيام ليلة القدر وإن كان ظاهر المناسبة لقيام رمضان، لكن للحديث الذي أورده في باب الجهاد، و لكن للحديث الذي أورده في باب الجهاد مناسبة، يعني مع قيام ليلة القدر، المناسبة بين الجهاد وبين قيام ليلة القدر يقول فيه مناسبة، وهي وإن كانت خفية إلا أنها..، يقول: المناسبة بالتماس ليلة القدر حسنة جدًّا، يعني المناسبة بين البابين حسنة جدًّا، نعم في غاية الدقة لكنها حسنة.

يقول: لأن التماس ليلة القدر يستدعي محافظة زائدة، ومجاهدة تامة، ومع ذلك فقد يوافقها أو لا، وكذلك المجاهِد يلتمس الشهادة، ويقصد إعلاء كلمة الله -عز وجل-، وقد يحصل له ذلك أو لا، فتناسبا في أن في كل منهما مجاهدة، وفي أن كلا منهما قد يحصِّل المقصود الأصلي لصاحبه أو لا، فالقائم لالتماس ليلة القدر مأجور، فإن وافقها كان أعظم أجرًا، والمجاهد لالتماس الشهادة مأجور، فإن وافقها كان أعظم أجرًا، ويشير إلى ذلك تمنِّيه -صلى الله عليه وسلم- الشهادة بقوله: «ولوددت أني أُقتَل في سبيل الله» فذكر المؤلف فضل الجهاد لذلك استطرادًا، يعني لشبهه بالتماس ليلة القدر، التماس الشهادة شبيه جدًّا بالتماس ليلة القدر، يعني كلاًّ منهما يحتاج إلى مجاهدة، وكلاًّ منهما قد يحصل وقد لا يحصل، فذكر المؤلف فضل الجهاد لذلك استطرادًا، ثم عاد إلى ذكر قيام رمضان، وهو بالنسبة لقيام ليلة القدر عام بعد خاص، ثم ذكر بعده باب الصيام؛ لأن الصيام من التروك فأخره عن القيام؛ لأنه من الأفعال؛ ولأن الليل قبل النهار، ولعله أشار إلى أن القيام مشروع في أول ليلة من الشهر خلافًا لبعضهم.

دقائق، أقول: ثم بعد ذلك تبقى المفاضلة بين إدراك ليلة القدر وإدراك الشهادة؛ لتتم المفاضلة بين الأبواب الأربعة، يعني قد يقول قائل: ما لاحظه ابن حجر وَجِيْه، لكن لماذا لم يقدِّمه...؟ باب الجهاد من الإيمان لماذا لم يقدِّمه على باب قيام ليلة القدر من الإيمان لتتوالى الأبواب الثلاثة ولا يورَد الإيراد الذي أورده بعضهم كالكرماني؟

المقدم: هل معنى ذلك أن هذا الترتيب مراد من البخاري وبالتالي يُفضَّل هذا وذاك؟

أقول جاء كلامي الآن، أقول: ثم بعد ذلك تبقى المفاضلة بين إدراك ليلة القدر وإدراك الشهادة؛ لتتم المفاضلة بين الأبواب الأربعة؛ لأن إدراك ليلة القدر الذي هو خير من عبادة ألف شهر، وأثره في زيادة إيمان العبد أمر لا يخفى، وإدراك الشهادة في سبيل الله المكفِّر لجميع الذنوب سوى الدَّين على ما جاء في النصوص، ولذا تمناها الرسول -صلى الله عليه وسلم- مرارًا كما في حديث الباب، وكأن البخاري ­-رحمه الله تعالى- لَحَظَ الأنفع لقلب العبد، الأنفع لقلب العبد، النفع الذي يؤثِّر الإيمان، يعني قيام ليلة القدر أيها ألصق بالإيمان الذي هو عمل قلبي بالجهاد؟ أقول: كأن البخاري لَحَظَ الأنفع لقلب العبد وهو مثوله بين يدي ربه خاشعًا مخبتًا منيبًا في أفضل الأوقات على الإطلاق فقدمه على الجهاد؛ لأن الكتاب كتاب الإيمان، فكون الشخص يمثل بين يدي ربه خاشعًا مخبتًا منيبًا في هذه الليلة التي تعدل في عبادة ألف شهر أنفع لقلب العبد من الجهاد الذي قد يغفل فيه الإنسان مع المصارعة والسرعة والإتيان والمجيء وغير ذلك، ثم قدَّم الجهاد وارتباطه بالإيمان على قيام ليالي رمضان والمفاضلة واضحة، لا أحد يقول: إن قيام رمضان أفضل من الجهاد، لكن قيام ليلة القدر وأثرها في إيمان العبد لا شك أنه أظهر من نفع الجهاد من هذه الحيثية، وإن كان الجهاد أمره في الإسلام عظيم، فهو ذرة سنام الإسلام.

ثم قدَّم الجهاد وارتباطه بالإيمان على قيام ليالي رمضان، والمفاضلة واضحة؛ لأن نفع الجهاد متعدٍّ، ونفع القيام قاصر على الشخص نفسه، وقدَّم القيام على الصيام لأنه قدر زائد على مجرد الإتيان بالفريضة، فريضة الصيام، يعني لو قال قائل: لماذا قدَّم التطوع على الركن؟ ركن من أركان الإسلام، لماذا لم يقدِّم الصيام على القيام؟

نقول: المسألة مفترضة في شخص يصوم ويقوم، في مقابل شخص يصوم فقط، لا شك أن الذي يصوم ويقوم أفضل من الذي يصوم فقط.

وقدَّم القيام على الصيام لأنه قدر زائد على مجرد الإتيان بالفريضة فريضة الصيام، ونظير ذلك ما جاء في حديث سَمُرة -رضي الله عنه- قال: قال سول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» قد يقول قائل: الوضوء شرط لصحة الصلاة، والغسل أقصى ما قيل فيه إنه واجب، والجماهير على أنه مستحب، كيف يقال: فالغسل أفضل؟ والحديث حسن، رواه الخمسة.

فقد قيل: كيف يفضَّل الغسل وهو سنة على الوضوء وهو فريضة، والفريضة أفضل إجماعًا؟ والجواب: أنه ليس التفضيل على الوضوء نفسه، بل على الوضوء الذي لا غسل معه، كأنه قال: من توضأ واغتسل فهو أفضل ممن توضأ فقط، وكذا هنا ليست المفاضلة بين الصيام فقط والقيام فقط، فالركن لا يقابَل بمسنون بانفراده، وهنا يظهر وجه تقديم القيام على الصيام، وبهذا تظهر دقة الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- وشفوفه -رحمة الله عليه-.

قوله في الحديث: «انتدب الله» قال النووي: معناه ضَمِن وتكفَّل، وقيل: أجاب، جاء في بعض الروايات: تكفل الله على ما سيأتي، وقيل: أجاب، وقيل: سارع بثوابه وحسن جزائه، وقيل: أوجب تفضلاً، أي حقق وأحكم أن ينجز له ذلك، وفي الصحاح ندبت فلانًا لكذا فانتدب، أي أجاب إليه، قال الحافظ في فتح الباري: وقيل: معناه تكفل بالمطلوب، ويدل عليه رواية المؤلف في أواخر الجهاد لهذا الحديث من طريق الأعرج عن أبي هريرة -رضي الله عنه- بلفظ: «تكفل الله» وله في أوائل الجهاد من طريق سعيد بن المسيب عنه بلفظ: «توكل الله» ووقع في رواية الأصيلي هنا: «ائتدب» بياء تحتانية مهموزة بدل النون من المأدُبَة، وهو تصحيف، وقد وجهوه بتكلُّف، لكن إطباق الرواة على خلافه مع اتحاد المَخْرَج كافٍ في تخطئته، تخطئة هذا اللفظ.

يقول: وقع في رواية الأصيلي هنا: «ائتدب» بياء تحتانية مهموزة بدل النون من المأدبة، وهو تصحيف، يقول: وقد وجهوه بتكلف، لكن إطباق الرواة على خلافه مع اتحاد المخرج كافٍ في تخطئته.

قال العيني متعقبًا ابن حجر: قلت: لم يقل أحد من الشراح ولا من رواة الكتاب أن هذا تصحيف، ولا أطبقت الرواة على خلافه، وقد رأيت ما قالت المشايخ فيه، والدعوى بلا برهان لا تقبل.

وقبل ذلك نقل العيني ما قالت المشايخ، قال القاضي عياض: رواه القابسي: «ائتدب» بهمزة صورتها ياء من المأدبة، يقال: أَدَبَ القوم مخففًا إذا دعاهم، ومنه القرآن مأدَبة الله في الأرض، قلت: قال الصغاني: الأدب الدعاء إلى الطعام، يقال: أدَبَهم يأدِبُهم بكسر الدال، واسم الطعام عن أبي زيد: المأدَبة والمأدُبة يعني بفتح الدال وضمها، ثم قال: وأما المأدَبة بالفتح في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: «إن هذا القرآن مأدَبة الله فتعلموا من مأدَبته» مأدَبة يعني ماذا؟ مصدر أَدَب، القرآن مأدَبة يعني مصدر أدَب، وليس مأدُبة يؤكل منه، وإن كان فيه وجه شبه بينه وبين المأدُبة من بُعد.

يقول: وأما المأدَبة بالفتح في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: «إن هذا القرآن مأدَبة الله فتعلموا من مأدَبته» فليس من الطعام في شيء، وإنما هي مفعَلة من الأَدَب بالتحريك، انتهى.

«لمن خَرَج في سبيله» حال كونه «لا يُخرِجه إلا إيمان» وفي رواية: «إلا الإيمان بي، وتصديق برسلي» بالرفع فيهما فاعل، فاعل لا يُخرِجه، والاستثناء مفرغ، وإنما عدل عن (به) الذي هو الأصل، لا يخرجه إلا إيمان به، من خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان به، لتتحد الضمائر، وإنما عدل عن به الذي هو الأصل إلى بي للالتفات من الغَيبة إلى التكلم.

قال ابن مالك في شواهد التوضيح في مشكلات الجامع الصحيح، ابن مالك له كتاب لطيف في هذا الباب في مشكلات الجامع الصحيح الذي هو البخاري، في مشكلاته العربية، من الناحية العربية؛ لأن اليونيني قرأ البخاري على ابن مالك مرارًا، ويوجِّه له ما يخالف من الألفاظ الواردة في الصحيح ما يخالف فيه العربية، وألَّف هذا الكتاب اللطيف لهذا الشأن.

قال ابن مالك في شواهد التوضيح: تضمَّن هذا الحديث ضمير غَيبة مضافًا إليه سبيل، وضميري حضور أحدهما في موضع جر بالباء بي، والآخر في موضع جر بإضافة رسل، رسلي، وكان اللائق في الظاهر أن يكون بدل الياءَين هاءان فيقال: انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يُخرِجه إلا إيمان به، وتصديق برسله؛ فلو قيل هكذا لكان مستغنيًا عن تقدير وتأويل، لكن مجيئه بالياء يحوج إلى التأويل؛ لأن فيه خروجًا من غَيبة إلى حضور على تقدير اسم فاعل من القول منصوب على الحال، مَحْكِي به النافي والمنفي، وما يتعلق به، كأنه قال: انتدب الله لمن خرج في سبيله قائلاً لا يُخرِجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي؛ والاستغناء بالمقول الغائب عن القول المحذوف حالاً وغير حال كثير، يقول: والاستغناء بالمقول الغائب عن القول المحذوف حالاً وغير حال كثير، فمِن حذْفه وهو حال قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [سورة البقرة 127] أي قائلين: ربنا تقبل منا، ومثله: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [سورة الرعد 23-24] أي قائلين: سلام عليكم، وهذه أحوال، ومثله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} [سورة غافر 7] أي قائلين.

ومن حذفه وهو غير حال قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [سورة آل عمران 106] أي فيقال لهم: أكفرتم؟! معلوم أن حذف القول كثير، ومثله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر 3] أي يقولون: ما نعبدهم.

ويجوز أن تكون الهاء من سبيله عائدة على (مَن) ولسبيله نعت محذوف، كأنه قيل: انتدب الله لمَن خرج في سبيله المرضية التي نبَّه عليها بقوله: {إِلا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [سورة الفرقان 55] وبقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [سورة الإنسان 3] فإن النعت يحذف كثيرًا إذا كان مفهومًا من قوة الكلام، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [سورة القصص 85] أي إلى معاد أي معاد، أو إلى معاد تحبه، حذف الصفة كثير إذا كانت ظاهرة {مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [سورة الكهف 79] والمقصود كل سفينة صالحة، ولذلك خرقها لتكون غير صالحة فلا تؤخذ، وكقوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} [سورة الأنعام 66] أي قومك المعاندون، ثم أُضمِر بعد سبيله قول حُكِيَ به ما بعد ذلك لا موضع له في الإعراب. هذا كلام ابن مالك.

وفي التنقيح للزركشي: قال الشيخ شهاب الدين ابن المرحل: أساء -يعني ابن مالك- في قوله: كان الأليق، وإنما هو من باب الالتفات، كان الأليق، كلام مَن هذا؟ كلام النبي -عليه الصلاة والسلام-، نعم قد يُعتذَر له بأنه قد يكون من رواية بعض الرواة بالمعنى، لكن يقال: كان الأليق بعد قول المؤلف قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! فيقول أحدهم: كان الأليق؟!

يقول الشهاب ابن المرحل: أساء، يعني ابن مالك في قوله: كان الأليق، وإنما هو من باب الالتفات ولا حاجة إلى تقدير حال؛ لأن حذف الحال لا يجوز، يجوز حذف الحال أو ما يجوز؟ يقول: لأن حذف الحال لا يجوز، قلت -والقائل الزركشي-: الأليق أن يقال: عدَل عن ضمير الغَيبة إلى الحضور، وقوله: إلا إيمانٌ بي أو تصديق بالرفع فيهما؛ لأنه فاعل يُخرِجه، والاستثناء مفرغ.

وفي المصابيح ردًّا على من انتقد ابن مالك ما ذكره من عدم جواز حذف الحال ممنوع، فقد ذكره ابن مالك في شواهده هنا في قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [سورة البقرة 127] أي قائلين، حال، ثم الآيتين بعدها اللتين ذكرهما ابن مالك فيما نقلناه عنه سابقًا.

فحَذْف الحال يجوز أو ما يجوز؟

المقدم: يجوز.

يجوز، نعم.

وفي رواية مسلم والإسماعيلي: «إلا إيمانًا» بالنصب، قال النووي: هو مفعول له، يعني مفعول لأجله، وتقديره: لا يُخرِجه المُخرِج إلا الإيمان والتصديق.

قوله: «وتصديق برسلي» قال ابن حجر: ذكره الكرماني بلفظ: (أو) هنا عندنا: «وتصديق برسلي» «لا يخرجه إلا إيمانٌ بي، وتصديق برسلي» بالواو.

يقول ابن حجر: ذكره الكرماني بلفظ: «أو تصديق» ثم استشكله، وتكلَّف الجواب عنه، يعني في كلام طويل للكرماني.

يقول: والصواب أسهل من ذلك؛ لأنه لم يثبت في شيء من الروايات بلفظ (أو) هذا كلام ابن حجر، يعني يأتي بشيء لم يثبت ويتكلَّف اعتباره وجوابه، هذا مقتضى كلام ابن حجر.

قال القسطلاني: نعم وجدته في أصل فرع اليونينية كهي أو بالألف قبل الواو على الألف، يقول القسطلاني: نعم وجدته في أصل فرع اليونينية كهي أو بالألف قبل الواو، وعلى الألف: (لا) رمز، لام ألف، (س)، علامة سقوط الألف عند من رُقِم له بالسين، وهو ابن عساكر، ومعنا الآن الطبعة السلطانية: «إلا إيمان بي، وتصديق برسلي» أصل الطبعة ما فيها رمز، والأصل أن يوجد هنا؛ لأنه موجود في فرع اليونينة الرمز، لكن ذكروا رقم ونقلوا ما في القسطلاني، هذا دليل على أن القسطلاني لا يمكن أن يستغني عنه طالب علم، ففيه من الفروق ما ليس في السلطانية، على عناية مَن طبع السلطانية برموزها، وفروق الروايات.

يقول: على الألف (لا) يعني لام ألف (س)، علامة سقوط الألف عند من رُقِم له بالسين، وهو ابن عساكر الدمشقي.

يعني إذا سقطت الهمزة من أو عند ابن عساكر مفهومه؟ مفهومه ماذا؟ أنها ثابتة عن غيره، ومقتضاه ثبوتها عند غيره فليُتأمل مع كلام ابن حجر، وفَوق الواو جَزْمة سوداء، ونَصْبَة حمراء، كيف؟ وفوق الواو جزمة سوداء، ونَصْبَة بالحمرة، كيف؟ يعني هل هي (أو)؟ جزمة سوداء في الواو إذا قلنا: أو، فالواو ساكنة.

وإن قلنا: واو فهي منصوبة، نصبة بالحمرة، وهذا في فرع اليونينية، والله المستعان.

يقول القسطلاني: وكذا وجدته أيضًا بالألف في متن البخاري من النسخة التي وَقَفْت عليها من تنقيح الزركشي، وكذا في نسخةِ كريمة.

«أن أُرجعه» بفتح الهمزة من رجع، وأن مصدرية، والأصل بأن أرجعه، أي برجْعه إلى بلده، وفي عمدة القاري: أرجَعَه بفتح الهمزة من رجع، وقد جاء متعديًا ولازمًا، فمصدر الأول المتعدي الرجْع، ومصدر الثاني اللازم الرجوع، وهاهنا متعدٍّ، نحو قوله تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ} [سورة التوبة 83].

وفي العباب: رجع بنفسه يرجع رجوعًا ومرجعًا ورُجْعَى، قال الله تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ} [سورة الأنعام 164] {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [سورة العلق 8] ورَجَعْته عن الشيء أو إلى الشيء رَجْعًا رددته، قال تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [سورة الطارق 8] أي على إعادته حيًّا بعد موته وبلاه؛ لأنه المبدئ المعيد.

«بما نال» أي بما أصاب من النيل وهو العطاء، وجاء على لفظ الماضي لتحقق وعد الله تعالى.

يقول: «بما نال» «أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة» بما نال، أي بما أصاب من النَّيل وهو العطاء، وجاء على لفظ الماضي نال، ما قال: بما ينال، على لفظ الماضي لتَحقُّق وعْد الله تعالى من أجر فقط، إن لم يغنم، أو أجر مع غنيمة إن غنم، وقيل: (أو) بمعنى الواو كما رواه أبو داود من حديث أبي أمامة الباهلي، قال الكرماني: فإن قلت: (أو) في قوله: أو غنيمة يدل على أن للسالم إما الأجر وإما الغنيمة لا كليهما، قلت: اللفظ لا ينفي اجتماعهما، بل يُثبِت أحدهما مع جواز ثبوت الآخر فقد يجتمعان.

المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.

لعلنا نستكمل -بإذن الله تعالى- ما تبقى من ألفاظ هذا الحديث في حلقة قادمة.

مستمعيَّ الكرام كنا وإياكم في هذه الحلقة مع صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. شكرًا له، شكر الله أيضًا لكم وللإخوة الحضور معنا. نلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة وأنتم على خير.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.